الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التباهي والكبر على عباد الله، يقول الزبيدي:" الكبر والتكبر والاستكبار متقاربة، فالكبر: حالة يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسه أكبر من غيره"(1)، فمثل هذا الكبر مذموم؛ لأن البشر متساوون، فتعظم يعضهم واستكبارهم على بعضهم غير مستحق، فلحق صاحبه الذم.
كما أن من كِبر العباد ما هو ممدوح؛ كاستكبارهم واستعلائهم عن الذنوب والدنايا والخسائس، فالعاقل يتكبر ويترفع على مواقعتها، وتكبره عليها غير مذموم.
ومن الكبر غير المذموم ما يقع طبيعة؛ كاستكبار الإنسان على غيره من الحيوانات، فيرى أنه أفضل منها وأعلى، وأنه أحق بالحياة منها، وأن حياة كثير منها رهن مصلحته وحاجته، وأنه الأحق بمنافع الكون المسخر له، فاستكباره عليها وتكبره بذبحها وإهدار مصالحها ليس بمذموم؛ لأنه حقه، فإذا كان كذلك؛ فتكبر الله المنعم على عباده أولى.
سادساً: هل الله لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها
؟
قالوا: القرآن ينسب إلى الله أنه لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها، واستدلوا بآيات، منها قوله:{الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} (الأنفال: 66)، وقوله:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} (البقرة: 143).
والجواب: أن القرآن نسب إلى الله العلم المطلق بكل شيء، فهو الذي يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، والآيات القرآنية في هذا الصدد لا تكاد تحصى لكثرتها، منها قوله:{وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231)، وقوله:{إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 119)، وقوله:{إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (النساء: 32).
(1) تاج العروس، الزبيدي (3/ 514).
وعلمُ الله أزلي، وقد كتب الله ما سيعمله العباد قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، يقول صلى الله عليه وسلم:«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» (1) وفي حديث آخر: «وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض» (2) فهذا النوع الأول من علم الله، وثبوته كاف في دفع الشبهة.
والنوع الثاني من العلم الإلهي هو علمه بوجود ما علمه أزلاً، أي عِلمه بحدوث أفعالنا التي كان يعلم أنها ستكون، فالله يعلم ذنب المذنب وطاعة المطيع قبل أن يخلق الخلق، ثم إذا أذنب العبد أو أطاع؛ علم الله تحقق الفعل ووجوده، فأثابه عليه بموجب فعله، فهذا نوع آخر من العلم، يتصف به الله العليم الذي كان وما يزال عليماً.
وهو ما يفهمه المتأمل في آيات القرآن الكريم، ففي آيات سورة المائدة يخبر الله أنه يبتلي عباده بما حرم عليهم من الصيد ليعلم من يخافه بالغيب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (المائدة: 94)، فهذا علم الوجود للفعل وتحققه، وهو العلم الذي يحاسب الله الخلائق به، ولا يمنع هذا ولا يتعارض مع علم الله المطلق الذي أثبته السياق نفسه:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المائدة: 97).
ومثله في حديث الله عن المنافقين، فقد أخبر الله أنه يعلم ما في صدورهم، وأنه سيعلم أفعالهم التي تخبر بما في قلوبهم حين يفعلونها {أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} (العنكبوت: 10 - 11).
(1) أخرجه مسلم ح (2653).
(2)
أخرجه البخاري ح (3192).
ومثله قول الله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 154)، فهو عليم بضمائرهم، واختباره لهم ليس لزيادة علمه تبارك وتعالى، بل ليتحقق ما علمه بفعل العباد، فيجازيهم بموجب هذا العلم، أي بموجب علمِه بما عملوا.
وقد سمى العلماء هذا العلم "علم المشاهدة"، أي مشاهدة أو رؤية ما علمه الله أزلاً، ثم تحقق فرآه، ومن المعلوم أن الرؤية والعلم يترادفان في بعض الإطلاقات، كما في قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (المجادلة: 7)، ومعناه: ألم تعلم، لذا قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:{لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} (الجن: 28): "المعنى: ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيباً"(1).
وفي شرح قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ} (محمد: 31) يقول ابن الجوزي: "العلم الذي هو علم وجود، وبه يقع الجزاء"(2).
وقال ابن تيمية: "عِلم الرب تبارك وتعالى لا يجوز أن يكون مستفاداً من شيء من الموجودات، فإن علمه من لوازم ذاته؛ فعلمُ العبد يفتقر إلى سبب يحدثه وإلى المعلوم الذي هو الرب تعالى أو بعض مخلوقاته، وعلم الرب لازم له من جهة أن نفسه مستلزمة للعلم والمعلوم: إما نفسه المقدسة وإما معلوماته التي علمها قبل خلقها
…
".
ثم ذكر بعضاً من الآيات من جنس ما أورده الطاعنون في القرآن اليوم، وعقب بالقول: "هذا مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن الله عالم بما سيكون
(1) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (19/ 31).
(2)
زاد المسير، ابن الجوزي (7/ 411).