الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنما نحن مصلحون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي قالوا إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. رواه ابن جرير وذكر تعالى أيضا عن الإسرائيلي أنه قال لموسى. (وما تريد أن تكون من المصلحين) وفي هاتين الآيتين رد لقول المصنف أن كلمة مصلح لم تتداول ولم يعرف ذكرها مطلقا إلا عند ظهور النشء الفاسد المارق.
وأما قوله إنه لم ينقل عنهم أنهم كانوا يقولون إنهم مصلحون ولا نقل عن واحد منهم كلمة مصلح. فجوابه أن يقال قد ذكر الله ذلك عنهم في كتابه - ومن أصدق من الله حديثا ومن أصدق من الله قيلا؟ - وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين إنها نزلت في المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم فلو أن المصنف اكتفى بما أخبر الله به في كتابه عن المنافقين، وبما قاله حبر الأمة وغيره من أكابر التابعين في ذلك لكان خيراً له من الاعتماد على مجرد رأيه.
الوجه السابع:
أن الله تعالى ذكر الإفساد عن المنافقين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر أنهم يخادعون الله والذين آمنوا. وهذا يرد ما نفاه المصنف عنهم من الإفساد والخداع.
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: «وخداع المنافق ربه والمؤمنين: إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب، ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم
يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار، من القتل والسباء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله».
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟
قيل: لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطي بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه مخادعاً لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية، فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله - وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها، ويسقيها كأس سرورها. وهو موردها به حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعته لنفسه ظناً منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون). إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون.
ثم قال حدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال سألت عبد الرحمن بن زيد عن قول الله جل ذكره (يخادعون
الله والذين آمنوا). إلى آخر الآية. قال «هؤلاء المنافقون يخادعون الله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروا» .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله تعالى (يخادعون الله) قال يظهرون لا إله إلا الله، يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك.
وأما إفسادهم في الأرض فقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) قال: هم المنافقون. أما (لا تفسدوا في الأرض) فإن الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية. ورواه ابن جرير من طريق السدي.
وقال ابن جريج عن مجاهد: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون. رواه ابن جرير: وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) قال: يعني لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
قال ابن كثير: وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة.
وروى ابن جرير وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه
قال في هذه الآية (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) قال: ما جاء هؤلاء بعد.
قال ابن جرير: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال إنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنياً بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة.
وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية ما جاء هؤلاء بعد أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً منه عمن هو جاء منهم بعدهم ولما يجيء بعد لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد.
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، وأن هذه الآيات فيهم نزلت.
والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير (1).
والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، فذلك جملة الإفساد.
- إلى أن قال - فكذلك صفة أهل النفاق، مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم
(1) لعله نظر.
غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها».
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض: اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
قلت: ومن إفساد المنافقين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بناؤهم لمسجد الضرار الذي قال الله تعالى فيه (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
فالمنافقون بنوا مسجدهم ضرارا لمسجد قباء، وكفرا بالله ورسوله، وتفريقا بين المؤمنين، وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل. وهو أبو عامر الفاسق الذي كان يقال له الراهب، وكان قد كتب إلى المنافقين يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم من عند ملك الروم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده الأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك. وهذا من أعظم الإفساد في الأرض، قال الله تعالى (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
وقولهم ههنا إن أردنا إلا الحسنى: هو كقولهم (إنما نحن مصلحون).
قال الله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
ومن إفساد المنافقين أيضا: همهم بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك. قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة ابن الزبير قال لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة همّ جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم فأمر الناس بالمسير من الوادي وصعد هو العقبة وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون «سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبصر حذيفة غضبه فرجع إليهم ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر ما أضمروه من الأمر العظيم فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ووقفوا ينتظرون الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟» قال ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم. ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟» قالا: لا، فأخبرهما بما كانوا تمالؤوا عليه، وسماهم لهما واستكتمهما ذلك، فقالا يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال:«أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» وهكذا ذكره ابن كثير في تاريخه.
قال: وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده وهذا هو الأشبه. ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة -.
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من أمرهم وما تمالؤوا عليه - ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم، قال - وفيهم أنزل الله عز وجل (وهموا بما لم ينالوا).
وقد روى البيهقي من حديث أبي البختري عن حذيفة رضي الله عنه نحو ما تقدم.
وزاد في آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللهم ارمهم بالدبيلة، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة» «قال: هي شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك» .
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه نحو ما تقدم، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ومن إفساد المنافقين أيضا: رجوع عبد الله بن أبي بثلث الجيش يوم أحد وتخذيله الناس عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الله تعالى (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم
بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين).
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انحاز عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس فقال: أطاعهم وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن إفساد المنافقين أيضا: ما ذكره الله عنهم في قوله تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين. لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين).
وقال تعالى (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا - إلى قوله - قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) الآية.
ومن إفساد المنافقين أيضا: أذيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول السيء، واستهزاؤهم به وأصحابه، كما ذكر الله ذلك عنهم في سورة براءة، وسورة المنافقين.
وكقول عبد الله بن أبي: والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمِّن كلبك يأكلك.
وكقول بعضهم: ما رأينا مثل قراءنا هؤلاء ارغب بطونا ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومن إفساد المنافقين أيضاً: أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، كما ذكره الله عنهم في سورة براءة.
وكل هذا من الفساد المتعدي شره وضرره إلى الغير.
وإذا كان الأمر في المنافقين كما ذكرنا، مع أنه أعظم مما ذكرنا بكثير، فكيف يستجيز المصنف أن يقول إنه لم يصدر منهم فساد أصلا إلا ما كان في نفوسهم من الكفر القاصر عليهم!
ولو قال قائل إن الإفساد الذي صدر من المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مما صدر من ملاحدة العصريين وزنادقتهم لكان