المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابعفي الخوف منها، وإثم الجور والظلم - إيضاح طرق الإستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة

[ابن المبرد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌الباب الأوّلفي مسميات الحكام والولاة وما يتعلق بذلك

- ‌أول مُسَمَّيات كبير الحكام: الملك:

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثّانيفي شروط الولاة والحكم، ومَنْ يَصْلُح للولاية

- ‌شروط عامة:

- ‌فروع تتعلق بذلك:

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فروع

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌ فصل

- ‌ فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثّالثفي فضل الولاية وثوابها لمن عَدَلَ وبَرَّ

- ‌يشترط للعدل عشرون شرطًا:

- ‌الباب الرّابعفي الخوف منها، وإثم الجَور والظُّلم

- ‌[الباب السَّادسفيما لكل واحد من الحق والطاعة، ومن لا تجب طاعته]

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب السَّابعفي أئمة جور أخبرنا عنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وما ذكر من ظهور الجور

- ‌الباب الثّامنفي أموال المسلمين وبلادهم وما يباح للإمام والحكام من ذلك وما يمنع منه

- ‌الأموال التي تؤخذ منها الزكاة

- ‌فصل

- ‌الباب التّاسعفيمن تمنى ذلك، ومن كرهه، وفرّ منه

- ‌فصل

- ‌الباب العاشرفي ذكر جماعة من الخلفاء والملوك ومُدَدهم وأخبارهم

- ‌ حكام الإسلام

- ‌فصلفي دولة بني العباس

الفصل: ‌الباب الرابعفي الخوف منها، وإثم الجور والظلم

‌الباب الرّابع

في الخوف منها، وإثم الجَور والظُّلم

لم يَزَلْ أهلُ الدين والخير من الولاة وغيرِهم علي الخوفِ الكبير من ذلك.

أخبرنا جَدّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الباقي، ثنا حما، ثنا أحمدُ بنُ عبدِ الله، ثنا محمّدُ بنُ معمرٍ، ثنا أبو سعيدٍ الحرانيُّ، ثنا يحيى بنُ عبدِ الله البابلتي، ثنا الأوزاعيُّ، حدّثني داودُ بنُ عليٍّ، قال: قال عمرُ: لو كانت شاةٌ علي شاطئ الفراتِ ضائعةً، لظننتُ أَنَّ الله يسألُني عنها يومَ القيامة (1).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الرّحمنِ بنُ محمّدٍ القزازُ، ثنا أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ حمدويه، ثنا أحمدُ بنُ محمد، ثنا أبو خيرٍ محمّدُ بنُ الأَدَمِيِّ، ثنا أحمدُ بنُ عبيدِ بنِ ناصحٍ، ثنا القاسمُ بنُ الحكمِ، ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، قال: سمعتُ أبي يذكرُ عن مجاهدٍ، عن عبيد الله ابنِ عمرَ، قال: كان عمرُ بنُ الخطاب يقول: لو ماتَ جَدْي بِظَهْرِ

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 53).

ص: 151

الفراتِ، لخشيتُ أن يحاسبَ اللهُ به عمرَ (1).

قال: وبلغني عن أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب: أنه قال: رأيتُ عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه علي قَتَبٍ يغدو، فقلت: يا أمير المؤمنين! أين تذهب؟ فقال: بعير ندَّ من إبلِ الصدقةِ أطلُبُه، فقلتُ: لقد أَذللْتَ الخلفاءَ بعدَك، فقال: لا تلمني يا أبا الحسنِ؟! فو الذي بعثَ محمّدًا بالنبوة! لو أنّ عَناقًا ذهبتْ بشاطئ الفرات، لأُخِذَ بها عمرُ يومَ القيامة (2).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا يحيى بنُ عليِّ بنِ الطراحِ، أنا المباركُ بنُ الحسنِ، أنا أبو الحسين بنُ بشرانَ، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا يحعى بنُ عمرانَ، ثنا حصينُ بنُ عمرَ الأحمسيُّ، عن مخارقٍ، عن طارقٍ، قال: قلنا لابن عباس: أيَّ رجلٍ كان عمر؟ قال: كان كالطيرِ الحَذِرِ الذي كأنَّ له بكلِّ طريقٍ شَرَكًا (3).

وبه إلي ابن الجوزي، أخبرنا عبدُ الوهابِ الأنماطيُّ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أحمدُ بنُ عليٍّ القوريُّ، ثنا عمرُ بنُ ثابت، أنا عليُّ بنُ أحمدَ، ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا عليُّ بنُ الجَعْدِ، أنا قيسُ بنُ الربيعِ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، عن أبي سلامة، قال: انتهيتُ إلي عمر وهو يضرب رجالًا ونساءً في الحَرَم علي حوضٍ يتوضؤون فيه

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 160 - 161)، وذكره في "صفة الصفوة"(1/ 285).

(2)

"مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 161).

(3)

ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 312).

ص: 152

حتى فرَّق بينهم، ثم قال: يا فلان! قال: لبيك، قال: لا لبيك، ألم آمرْكَ أن تتخذ حياضًا للرجال، وحياضًا للنساء؟ قال: ثم اندفع، فلقيَهُ عليٌّ رضي الله عنه، فقال: أخاف أن أكون هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: ضربتُ رجالًا ونساء في حرم الله عز وجل، قال: يا أمير المؤمنين! أنت راعٍ من الرعاة، فإن كنتَ ضربتَهم علي نُصح وإصلاح، فلن يُعاقبك الله، وإن كنتَ ضربتَهم علي غِشٍّ، فأنت الظالمُ المجرمُ (1).

وقال الحسن البصريُّ: بينما عمر يجول في سِكَك المدينة، إذ عرضت له هذه الآية:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58]، فحدَّث نفسَه، فقال: لعلّي أُوذي المؤمنين والمؤمنات، فانطلق إلي أُبيِّ بنِ كعبٍ، فدخل عليه بيتَه وهو جالس علي وسادة، فنزعها من تحته، وقال: دونَكَها يا أمير المؤمنين، قال: لا، ونبذَها برِجْله، وجلسَ، فقرأ عليه هذه الآية، وقال: أخشى أن أكونَ صاحبَ هذه الآية أُوذي المؤمنين والمؤمنات، فقال أُبي: لا، إن شاء الله، قال: ولكنك رجلٌ مؤدِّبٌ لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى، فقال عمر: قد قلتُ (2)، والله أعلم.

وبه إلي أبي الجوزي، أنا محمّدُ بنُ أبي منصور، أنا أبو الحسين بنُ عبدِ الجبار، أنا أحمدُ بنُ عبدِ الله الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ أحمدُ بنُ الحسين المروزيُّ، أنا أحمدُ بنُ الحارثِ، ثنا جَدِّي

(1)"مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 161 - 162).

(2)

رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(1/ 361 - 362).

ص: 153

محمّدُ بنُ عبدِ الكريمِ، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، ثنا أسامةُ بنُ زيدٍ الليثي، ثنا القاسم بنُ محمّدٍ، قال: بعث سعدُ بنُ أبي وقاص -أيامَ القادسية- إلي عمر بقباءِ كسرى وسيفِه ومِنْطَقَته وسراويلِه وقميصِه، وتاجهِ وخُفَّيْه، قال: فنظر عمرُ في وجوه القوم، فكان أحسنَهم وأمدَّهم قامةً سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ المُدْلِجِيُّ، فقال: يا سُرَاقُ! قم فالْبَسْ، قال سُراقة: فطمعت فيه، فقمتُ فلبستُ، فقال: أَدْبِرْ، فأدبرتُ، فقال: أَقْبِلْ، فأقبلْتُ، ثم قال: بَخِ بَخٍ أُعَيْرابِيُّ من بني مدلجٍ عليه قباءُ كسرى وسراويلُه، وسيفُه ومنطقته، وتاجه وخُفاه، رُبَّ يومٍ يا سُراقَ بنَ مالكٍ لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى، وآل كسرى، كان شرفًا لك ولقومك، انزعْ، فنزعتُ، فقال: اللهمَّ إنك منعتَ هذا رسولَكَ ونبيَّكَ، وكان أحبَّ إليك مني، وأكرمَ عليكَ مني، ومنعْتَه أبا بكرٍ، وكانَ أحبَّ إليك، وأكرمَ عليكَ مِنِّي، ثم أَعْطَيتنيه، فأعوذُ بكَ أن تكونَ أَعطيتنيه لتمكرَ بي، ثمَّ بكئ حتى رَحِمَه مَنْ كان عنده، وقال لعبد الرحمن: أقسمتُ عليك لما بعته، ثمَّ قَسَمته قبل أن تمسي (1).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا عبدُ الوهابِ الحافظُ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أحمدُ ابنُ عليٍّ النوريُّ، أنا عمرُ بنُ ثابتٍ، أنا عليُّ بنُ أحمدَ، أنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ صالحٍ، ثنا أبو بكرٍ بنُ عَيَّاشٍ، قال: جيء بتاج كسرى إلي عمرَ، فقال: إن قومًا أَدَّوْا هذا، لأُمَنَاءُ، فقال له عليٌّ: إنَّ القومَ رأوكَ عَفَفْتَ، فَعَمُّوا ولو رَتَعْتَ، لَرَتَعُوا.

(1) وانظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 68).

ص: 154

وبه إلي ابن الجوزي، أنا إسماعيلُ بنُ أحمد، أنا محمّدُ بنُ هبةِ الله، أنا محمّدُ بنُ الحسين، أنا عبدُ الله بنُ جعفرٍ، حدثني الحميديُّ وابنُ أبي عمرَ، قالا: ثنا سفيان، ثنا عاصمُ بنُ كليبٍ، أخبرني أبي: أنه سمع ابنَ عباسٍ يقول: كان عمرُ بنُ الخطاب إذا صلّي صلاةً، جلس للناس، فمن كانت له حاجةٌ، كلّمه، وإن لم يكن لأحد حاجة، قام فدخل فصلي صلواتٍ لا يجلس للناس فيهنَّ، فحضرت البابَ، فقلت: يا يرفأُ! أبأمير المؤمنين شَكاة؟ قال: ما بأمير المؤمنين شكاة، فجلستُ، فجاء عثمانُ فجلسَ، فخرج يرفأُ، فقال: قم يا بنَ عفانَ، قم يا بنَ عباسٍ، فدخلنا علي عمر، فإذا بين يديه صبر من مال، علي كل صبرة منها كتفٌ، فقال: إني نظرتُ في أهل المدينة، فوجدْتُكما من أكثرِ أهلِها عشيرةً، فخذا هذا المال فاقسماه، فما كان من فضلٍ، فردَّاه، ثمَّ قال: أما كان هذا عندَ الله، ومحمّدٌ وأصحابُه يأكلونَ القِدَّ؟ فقلت: بلي والله! لقد كان عند الله، ومحمّدٌ حَيٌّ، ولو عليه فتح، لصنع فيه غيرَ الذي تصنع، فغضب، وقال: إذًا أصنعُ ماذا؟ قال: قلت: إذًا كُلْ وأطعِمْنا! فنشجَ عمرُ حتى اختلفتْ أضلاعُه، ثم قال: وَدِدْتُ أني خرجتُ منها كفافًا، لا عَلَيَّ ولا لي (1).

فانظر مع هذا العدل الزائدِ كيف يخاف علي نفسه من الإثم وعدمِ الأجر، وغيرُه من ظَلَمَةِ زماننا مع الظلم الذي ليس معه عدلٌ يحقق لنفسِه الأجرَ وعدم الإثم، ويدَّعي لنفسه العدلَ، ويُحَسِّن لهُ ذلك بعضُ

(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 288)، والحميدي في "مسنده"(30)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 358).

ص: 155

الفَسَقة، ومع هذا يدّعي بعضُهم أنه أعدلُ من عمر، كما وقع لي مع بعضهم، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابن المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدين، أنا ابنُ الجوزيِّ أنا المباركُ بنُ عليٍّ، أنا عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ الصّرديُّ، أنا أبو الحسنِ هبةُ الله بنُ عبدِ الله، أنا أبو الحسن بن بشرانَ، أنا دعلجُ بنُ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ عليٍّ، ثنا سعيدُ بنُ منصورٍ، ثنا يونسُ بنُ أبي يعقوبَ، عن أبيه، قال: قال عبدُ الله بنُ عمرَ: اشتريتُ إِبلًا، وارتجعْتُها إلي الحِمي، فلما سَمِنَتْ، قَدِمْتُ بها أبيعُها، قال: فدخلَ عمرُ بنُ الخطاب السوقَ، فرأى إبلًا سِمانًا، فقال: لمن هذه الإبلُ؛ فقيل: لعبدِ الله بنِ عمرَ، فجعل يقول: يا عبدَ الله بنَ عمرَ! بَخٍ بَخٍ، ابنَ أميرِ المؤمنين، قال: فجئتُه أسعى، فقلت: مالكَ يا أميرَ المؤمنين؟ قال: ما هذهِ الإبلُ؟ قال: قلت: إبلٌ اشتريتها، وبعثت بها إلي الحِمي أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقالى: ارْعَوْا إبلَ ابنِ أميرِ المؤمنين، اسْقُوا إبلَ ابنِ أمير المؤمنين، يا عبدَ الله بنَ عمر! اغْدُ علي رأسِ مالك، واجعلْ باقيه في بيت مالِ المسلمين (1).

فانظر إلي هذا العدلِ الزائد الذي لا يفعله أحد، فأيُّ أميرٍ تحدثه نفسُه في زماننا هذا أنه مثلُه، أو يدانيه مع الظلم الزائد؟

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 159)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 326 - 327)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 147).

ص: 156

وبه إلي ابن الجوزي، أنا المباركُ بنُ عليٍّ، أنا أحمدُ بنُ الحسينِ، أنا أبو إسحاقَ البرمكىُّ، أنا أبو بكرٍ الدقاقُ، ثنا عبدُ الله بنُ سليمانَ، ثنا محمّدُ بنُ يحيى، ثنا أبو أسامةَ، عن الصلتِ بن بهرانَ، قال: حدثني جميعُ بنُ عميرٍ، قال: سمعتُ عبدَ الله بنَ عمر يقول: شهدت جَلولاءَ، فابتعت من الغنائم بأربعين ألفًا، فقدمتُ بها المدينةَ علي عمر، فقال: ما هذا؟ فقلت: ابتعتُ من الغنائم بأربعين ألفًا، فقال: يا عبدَ الله بنَ عمر! لو انطُلِقَ بي إلي النار، كنتَ مفتدِيَّ؟ قال: قلت: نعم بكلِّ شيء أملكُ، قال: فإني مخاصَمٌ، وكأني بك تبايع بجلولاء، يقولون: هذا عبدُ الله بنُ عمرَ صاحبُ رسولِ الله، وابنُ أمير المؤمنين، وأكرمُ أهلِه عليه، وإن رَخَّصوا عليك كذا وكذا درهمًا، أَحَبُّ إليهم من أن يُغلوا عليكَ بدرهم، وسأعطيكَ من الربح أفضلَ ما ربح رجلٌ من قريش، ثمَّ أتى باب صفيةَ بنتِ أبي عبيد -يعني: زوجة ولده-، فقال: يا بنتَ أبي عُبيد! أقسمتُ عليك أن تخرجي من بيتك شيئًا، أو تخرجين منه، وإن كان عنقَ ظبية، فقالت: يا أمير المؤمنين! ذلك لك، ثمَّ تركني سبعة أيام، ثمَّ دعا التجار، ثمَّ قال: يا عبدَ الله بنَ عمر! إني مسؤول، فباع من التجار متاعًا بأربع مئة ألف، فأعطاني ثمانين ألفًا، وأرسل ثلاثَ مئةً وعشرين ألفًا إلي سعد، فقال: اقسمْ هذا المالَ فيمن شهدَ الوقعة، فإن كان مات أحدٌ منهم، فابعثْ بنصيبه إلي وَرَثَته (1).

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 158). ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(33779)، وأبو عبيد في "الأموال" (ص: 331)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 323 - 324).

ص: 157

فانظرْ كيف أخذَ ربَح مالِ ولده، وبعث به؛ خوفًا أن يكون رُوعي في البيع، فمَنْ يدانيه في هذا العدل، أو يقاربه؟

وبه إلي ابن الجوزي، أنا ابنُ ناصرٍ، أنا المباركُ بنُ عبد الجبار، أنا أبو الحسن الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ أحمدُ بنُ الحسينِ، ثنا أحمدُ بنُ الحارث المروزيُّ، حدثني جَدِّي محمّدُ بنُ عبدِ الكريم، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، أنا فضيلُ بنُ مرزوقٍ، ثنا عطيةُ العوفيُّ، عن ابنِ عمرَ، قال: استأذنت عمرَ في الجهاد، فقال: أي بني! إني أخاف عليكَ الزنا. فقلت: أَوَ علي مثلي تتخوَّفُ ذلك؟ قال: نعم. تلقَوْنَ العدوَّ، فيمنحُكُم الله أكتافَهُم، فتقتلون المقاتلة، وتَسبون الذريّة، وتجمعون المتاعَ، فتقدم جاريةٌ في المغنم، فينادَى عليها، فتسومُ بها، فينكُلُ الناسُ عنكَ، ويقولون: ابنُ أمير المؤمنين، وللهِ ولرسولهِ ولذي القربى واليتامى والمساكين وابنِ السبيل فيها حَق، فتقع عليها، فإذا أنتَ زانٍ، اجلسْ (1).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا عمرُ بنُ أحمدَ، أنا الحسنُ بنُ علي التميميُّ، أنا أبو بكرِ بنُ مالكٍ، ثنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، ثنا أبو سعيدٍ مولي بني هاشم، ثنا عبدُ العزيز بنُ أبي سلمى، ثنا إسماعيلُ بنُ محمّدِ بنِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، قال: قدم علي عمر رضي الله عنه مِسْكٌ وعنبرٌ من البحرين، فقال

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 158)، ورواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال"(ص 19).

ص: 158

عمر رضي الله عنه: والله! لوددتُ أني أجدُ امرأةً حسنةَ الوزن تزنُ لي هذا الطِّيبَ حتى أُفرقه بين المسلمين، فقالت له امرأتُه عاتكةُ: أنا جيدةُ الوزن، هلمَّ أَزِنْ لك، قال: لا. قالت: ولِمَ؛ قال: إني أخشى أن تأخذي هكذا، فتجعليه هكذا -وأدخلَ أصابعَه في صُدْغَيه-، وتمسحين عنقَك، فأصيبَ فضلًا عن المسلمين (1).

فانظر كيف خافَ من وزنِ زوجته أن تتطيَّبَ بأثرِ أصابعها، فهل يقاربُ هذا أحدٌ في العدل، أو يُدانيه؟ ومع ذلك، يدّعي من لا يحترم مالَ مسلمٍ أنه أعدلُ منه.

وبه إلي ابن الجوزي، أنا ابنُ ناصرٍ، أنا عبدُ القادرِ بنُ محمّدٍ، أنا أبو بكرٍ محمّدُ بنُ عليٍّ الخياطُ، أنا محمّدُ بنُ أبي الفوارسِ، أنا أحمدُ بنُ جعفرٍ، ثنا أحمدُ بنُ محمّدٍ، ثنا أبو بكرٍ المروزيُّ، ثنا عبيدُ الله بنُ معاذٍ، ثنا المعتمرُ عن أبيه، قال، حدثني نعيمٌ، عن العطارةِ، قالت: كان عمرُ يدفع إلي امرأته طِيبًا من طِيب المسلمين، فتبيعه، قال: فبايعتني، فجعلتْ تقوم، وتزيد وتنقص، وتكسره بأسنانها، فيعلق بأصابعها شيء منه، فقالت به هكذا بإصبعها في فيها، ثمَّ مسحت به علي خمارها، قالت: فدخل عمر، فقال: ما هذه الريح؟ فأخبرته الذي كان، فقال: طِيبُ المسلمين تأخذينه أنتِ، فتتطيبين به؟! قالت: فانتزعَ الخمارَ من رأسها، وأخذ جراءً من ماء، فجعل يَصبُّ الماء علي الخِمار، ثمَّ يدلكه في التراب، ثمَّ يشمُّه، ثمَّ يصبُّ عليه

(1)"مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 159).

ص: 159

الماء، ثمَّ يدلكه في التراب، ثمَّ يشمُّه، ففعل ذلك ما شاء الله. قالت العطّارةُ: ثمَّ أتيتُها مرةً أخرى، فلما وَزَنَتْ لي، علقَ بأصابعها منه شيء، فعمدتْ، فأدخلت إصبعَها في فيها، ثمَّ مسحتْ بأصابعها الترابَ. قالت: فقلت: ما هكذا صنعت أول مرة، قالت: أوما علمتَ ما لقيتُ منه؟ لقيت منه كذا، ولقيت منه كذا (1).

فانظر من يفعل مثلَ هذا، فكيف يدّعي من لا يعرف غيرَ الظلم أنه أعدلُ منه؟!

وبه إلي ابن الجوزي، أنا المباركُ بنُ عليٍّ، ثنا شجاعُ بنُ فارسٍ، أنا محمّدُ بنُ علي، أنا أحمدُ بنُ محمّدٍ، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا هارونُ بنُ عمرَ، ثنا أسدُ بنُ موسى، ثنا ابن لهيعة، ثنا ابنُ هبيرةَ، عن عبدِ الرحمن بنِ عمرٍو الأشعريِّ: أنه خرج إلي عمرَ، فنزل عليه، وكان لعمرَ ناقةٌ يحلبها، فانطلق غلامُه ذاتَ يوم، فسقاه لبنًا، فأَنْكَرَه، فقال: ويحكَ! من أين هذا اللبنُ؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن الناقة انفلتَ عليها ولدُها، فشرب لبنَها، فحلبتُ لك ناقةً من مال الله، فقال له عمر: ويحك! سقيتَني نارًا، ادعُ لي عليَّ بنَ أبي طالب، فدعاه: فقال: إن هذا عَمَدَ إلي ناقةٍ من مال الله، فسقاني لبنَها، أفَتُحِلُّه لي؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، هو لك حلالٌ ولحمُها (2).

(1) ورواه أبو بكر المروزي في "الورع"(ص: 46 - 47).

(2)

ورواه أبو بكر المروزي في "الورع"(ص: 91).

ص: 160

وبه إلي ابن الجوزيِّ، أنا الحسنُ بنُ الأحمد أنا ابنُ بشرانَ، ثنا ابنُ صفوانَ، ثنا ابنُ أبي الدنيا، ثنا محمدُ بنُ عثمانَ، ثنا حسينٌ الجُعْفِيُّ، عن زائدةَ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، قال: خرج عمرُ في يوم حارٍّ واضعًا رداءَه علي رأسِه، فمر به غلامٌ علي حمار، فقال: يا غلام! احملني معك، قال: فوثب الغلامُ عن الحمار، فقال: اركبْ يا أمير المؤمنين، فقال: لا، اركبْ وأَركبُ أنا خلفَك، تريدُ أن تحملني علي المكان الخشن، وتركب علي المكان الوطيء، ولكن اركبْ أنتَ، وأكونُ خلفك، قال: فدخل المدينةَ خلفَه، والناسُ ينظرون إليه (1).

فانظر بنفسِك هل تنكبسُ نفسٌ عبْدِ السلطانِ اليومَ أن يركب خلفَ أحدٍ علي فرسٍ، فضلًا عن حمار؟!

وبه إلي ابن الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ الحافظُ، أنا أبو الحسنِ بنُ عبدِ الجبار، أنا محمّدُ بنُ عليٍّ، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الرحمنِ المُخَلِّص، ثنا عبيدُ الله بنُ عبدِ الرحمن، ثنا أبو بكرِ بنُ عبيدٍ، حدثني عبدُ الله بنُ يونسَ: حدثني أبي، عن الوليدِ بنِ عبدة، عن أصبغَ بنِ نُباتة، قال: خرجتُ أنا وأبي من زرودَ حتى انتهينا إلي المدينة في غَلَسٍ، والناس في الصلاة، فانصرف الناس من صلاتهم، وخرج الناس إلي أسواقهم، فدفع إلينا رجلٌ معه درَّةٌ، فقال: يا أعرابيُّ! أتبيعُ؟ فلم يزل يساومُ أبي حتى راضاه علي ثمَن، وإذا هو عمرُ بنُ الخطاب، فجعل يطوفُ في

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 157). ورواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 342)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 318 - 319)، قال الدينوري: إسناده ضعيف جداً.

ص: 161

السوق يأمرُهم بتقوى الله، يُقبل فيها ويُدبر، ثمَّ مرَّ علي أبي، فقال له أبي: حَبَسْتَني، ليس هذا وعدتني، ثمَّ مرَّ الثانيةَ، فقال له أبي مثلَ ذلك، ويردُّ عليه عمرُ: لا أريمُ حتى أوفيك، ثمَّ مرَّ به الثالثةَ، فوثب إليه أبي مُغْضَبًا، فأخذ بثياب عمر، فقال له: كذبْتَني وظلمتني، ولَهَزه، فوثب المسلمون إليه: يا عدو الله! لهزت أمير المؤمنين، فأخذ عمرُ بِجُمْعِ ثيابِ أبي، فجرّه إليه، لايملك من نفسه شيئًا -وكان شديدًا-، فانتهى به إلي قصّاب، فقال: عزمتُ عليك، أو أقسمتُ عليك لتعطينَّ هذا حقَّه، ولك ربحي، وكان عمرُ باعَ الغنَم منه، فقال: يا أمير المؤمنين! لا، ولكن أُعطي هذا حقّه، وأهديك ربحه، فأخَرج حقّه، فأعطاه، فقال له عمر: استوفيتَ؛ قال: نعم، فقال له عمر: بقي حقُّنا عليك، لهزتك التي لهزتني قد تركتُها لله عز وجل، قال الأصبغ: فكأني أنظرُ إلي عمر أخذَ ربحَه لحمًا، فعلّقه في يده اليسرى، وفي يده اليمنى الدرَّة يدور الأسواق حتّى دخل رحله (1).

فانظر- رحمك الله- هل يفعل هذا عبدٌ لأميرٍ، فضلًا عن سلطان الدين؟! فكيف يزعم كلبٌ منغمِسٌ في الظلم أنه أعدلُ منه؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.

أخبرنا الجماعةُ، أنا ابنُ الزَّعبوب، أنا الحجّار، أنا ابنُ الزَّبيديُّ، أنا السِّجْزِيُّ، أنا الداوديُّ، أنا السَّرَخْسيُّ، أنا الفربريُّ، أنا البخاريُّ،

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر": (ص: 156). ورواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال"(ص: 75 - 76)، وفي "التواضع والخمول" (ص: 133)، وأصبغ بن نباتة متروك رمي بالرفض.

ص: 162

ثنا يحيى بنُ بكيرٍ، ثنا الليثُ، عن يونسَ، عن ابنِ شهابٍ: قال ثعلبة بنُ أبي مالكٍ: إن عمرَ بنَ الخطاب قسمَ مُروطًا بين نساءٍ من نساء أهلِ المدينة، فبقي منها مِرْطٌ جيدٌ، فقال له بعضُ مَنْ عندَه: يا أمير المؤمنين! أعطِ هذا ابنةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التي عندَك- يريدون: أُمَّ كُلثوم بنتَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ زوجتَه-، فقال عمر: أُمُّ سليطٍ أحقُّ به، وأم سليطٍ من نساء الأنصار ممن بايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: فإنها كانت تزفرُ لنا القِرْبَةَ يومَ أُحد (1).

أخبرنا جدّي وغيرُه، أنا الصلاحُ، أنا الفخرُ، أنا ابنُ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ الحسينِ، وإسماعيلُ بنُ أحمدَ، قالا: أنا أبو الحسينِ بنُ النقّورِ، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الرّحمنِ المخلِّصُ، أنا أحمدُ بنُ عبدِ الله، ثنا السَّرِيُّ بنُ يحيى، ثنا شعيبُ بنُ إبراهيمَ، أنا سيفُ بنُ عمَر، عن مجالدٍ، عن الشعبيِّ، وسهلٍ، ومبشرٍ بإسنادهم، قالوا: لمّا سمع النّاسُ قولَ عمر، ورأوا عملَه، وكان يمشي في الأسواق، ويطوف في الطرقات، ويقضي بين الناس في قبائلهم، ويعلّمهم في أماكنهم، ويَخْلُف الغزاةَ في أهليهم، ذكروا أبا بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمُ بأبي بكر، وكان أبو بكر أَعلم بعمرَ، فجرى أبو بكرٍ وعمرُ مجرًى واحدًا، فكانوا يخافون من لعنِ هذا، ومن شدَّةِ هذا، فكان أبو بكر - مع لينه- أقواهم فيما لانوا عنه، وألينَهم فيما ينبغي، وكان عمر ألينَهم فيما ينبغي، وأقواهم علي أمرهم (2).

(1) رواه البخاري (3843)، كتاب: المغازي، باب: ذكر أم سليط.

(2)

رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 66 - 67).

ص: 163

وبه إلي ابن الجوزي، أنا المحمّدان، ابنُ ناصرٍ وابنُ عبدِ الباقي، قالا: أنا أحمدُ، أنا أحمدُبنُ عبدِ الله، ثنا محمّدُ بنُ معمر، ثنا أبو شُعيبٍ الحرانيُّ، ثنا يحيى بنُ عبدِ الله، ثنا الأوزاعيُّ، إن عمرَ بنَ الخطابِ خرج في سواد الليل، فرآه طلحةُ، فذهب عمر فدخل بيتًا، ثم دخل بيتًا آخر، فلمّا أصبح طلحةُ، ذهب إلي ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياءَ مُقْعَدَةٍ، فقال لها: ما بالُ هذا الرجل يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدُني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلِحني، ويُخرج عنّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمُّك [يا] طلحةُ، أعثراتِ عمرَ تتبّعُ؟! (1).

وبه إلي محمّدِ بنِ عبدِ الباقي، أنا الحسنُ بنُ عليٍّ الجوهريُّ، أنا أبو عمرَ بنُ حيُّويه، أنا أحمدُ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ نعيمٍ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ، ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، أنا يحيى بنُ المتوكلِ، حدثني عبدُ الله بنُ نافعٍ، عن أبيه، عن ابنِ عمرَ، قال: قدمَتْ رُفقةٌ من التجار، فنزلوا المصلَّي، فقال عمرُ لعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ: هل لكَ أن تحرسَهُ الليلةَ من السرقِ؟ فباتا يحرسانهم، ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمرُ بكاء صبيٍّ، فتوجه نحوه، فقال لأمِّه: اتقي الله، وأحسني إلي صَبِيِّك، ثم عاد إلي مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلي أمه، فقال لها مثلَ ذلك، ثم عاد إلي مكانه، فلما كان من آخر الليل، سمع بكاءه، فأتى أمه، فقال: ويحك! إني لأراك أمَّ سوء، مالي أرى ابنَك لا يقرُّ منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله! أبرمتني منذ الليلة، إني أربعه عن الفِطام،

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 68). ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 48).

ص: 164

فيأبى، قال: ولِمَ؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، قال: ويحك! لا تعجليه، فصلَّي الفجر، وما يستبين الناسُ قراءتَه من غَلَبَة البكاء، فلما سلَّم، قال: يا بؤسًا لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديًا فنادى: ألا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتبتُ بذلك إلي الآفاق أن يفرض لكلِّ مولود في الإسلام (1).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصور وعليُّ بنُ أبي عمرَ، قالا: أنا عليُّ بنُ الحسين، أنا أبو عليِّ بنُ شاذانَ، أنا أحمدُ بنُ جعفرٍ، ثنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، قال: ذكر مصعبُ بنُ عبدِ الله الزبيديُّ: حدثني أبو عبدِ الله بنُ مصعبٍ، عن ربيعةَ بنِ عثمانَ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلي حَرَّةِ وَاقِمٍ، حتى إذا كنا بصرارٍ، إذا نارٌ، فقال: يا أسلم! إنَّ هاهنا ركبًا، فضربهم الليل والبرد، انطلقْ بنا، فخرجنا نُهرولُ حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار، وقِدْرٍ منصوبة علي نار، وصبيانُها يَتَضاغَوْنَ، فقال عمر: السلامُ عليكم يا أصحابَ الضوء -وكره أن يقول: يا أصحاب النار-، فقالت: وعليكم السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادنُ بخير، أو دع، فدنا، فقال ما بالُكُم؟ قالت: قصر بنا الليلُ والبرد، قال: وما لهؤلاء الصبيةِ يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأيُّ شيء في هذه القدر، قالت: ما أُسَكِّتُهم به حتى يناموا، واللهُ بينَنا

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 68) ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 301)، وأبو عبيد في "الأموال" (ص: 303).

ص: 165

وبين عمر، قال: أي رحمك الله! وما يُدري عمرَ بكم؟ قالت: يتولَّي أمرَنا، ثم يغفلُ عنّا؟! -وفي رواية: لأي شيء هذا أمير المؤمنين-. قال: فأقبل عليَّ، فقال: قد كِدْتُ أهلِك، انطلقْ بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دارَ الدقيق، فأخرجَ عدلًا من الدقيق، وَكبة من شحم، فقال: احملْه عليَّ، فقلت: أنا أَحمله عنكَ، فقال: أنتَ تحمل وِزْري يومَ القيامة لا أمّ لك؟! احملْه عليَّ، فحملته عليه، فانطلقَ، وانطلقتُ معه إليها نُهرول، فألقي ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، فجعل يقول لها: ذُريّ علي، وأنا أُحَرِّك، وجعل ينفخ تحت القِدْر، ثم أنزلها، فقال: ابغني شيئًا، فأتته بصَحْفَة، فأفرغ فيها، ثم جعل يقول لها: أَطعميهم، وأنا أسطحُ لكِ لهم، فلم يزل يفعل حتى شبعوا، وترك عندها فضلَ ذلك، وقام، وقمتُ معه، فجعلَتْ تقول: جزاكَ الله خيرًا، كنتَ أولي بهذا من أمير المؤمنين، فيقول لها: قولي خيرًا، إذا جئتِ أميرَ المؤمنين، وجدتيني هناك -إن شاء الله-. قال: ثم تنحّى ناحيةً عنها، ثم استقبلها، فربضَ مربضَ السبعِ، فقلت: لك شأن غير هذا؟ فلا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدؤوا، فقال: يا أسلم! الجوعُ أسهرهم وأبكاهم، وأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت (1).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ أبي طاهر، أنا أبو محمّدٍ الجوهريُّ، أنا أبو عمرَ بنُ حيويه، أنا أبو الحسن بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ الفهمِ، ثنا محمّدُ بنُ سعد، ثنا محمّدُ بنُ عمرَ، حدثني

(1) ورواه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة"(1/ 290 - 291).

ص: 166

عبدُ الله بنُ زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: كان عمر يصوم الدهر، فكان زمان الرمادة إذا أمسى، أُتي بخبز قد ثُرِدَ بالزيت، إلي أن نحروا يومًا من الأيام جَزورًا، فأطعمها الناسَ، وغرفوا له طيبها، فأُتي به، وإذا قدرٌ من سنامٍ وكبدٍ، فقال: أَنَّى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! من الجزور التي نحرنا اليوم، قال: بَخٍ بَخٍ، بئس الوالي أنا إن أكلتُ طيبها، وأطعمتُ الناسَ كراديسها، ارفعْ هذه الجفنةَ، هاتِ لنا غيرَ هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويلك يا يرفأ، احملْ هذه الجفنة حتى تأتي بها أهلَ بيت بِثَمْغ، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مُقْفرين، فضعها بين أيديهم (1).

قال ابن سعد: قال عوفُ بنُ الحارث، عن أبيه: إنما سُمي عامَ الرمادة؛ لأن الأرض كلَّها صارت سوداء، فشُبهت بالرماد، وكانت تسعة أشهر.

قال ابن سعد: ونظر عمرُ عامَ الرمادة إلي بطِّيخةَ في يد بعضِ ولده، فقال: بَخٍ بَخٍ! ابنُ أمير المؤمنين يأكل الفاكهةَ، وأمةُ محمّدٍ هزلى؟! فخرج الصبي هاربًا، وبكي، فقالوا: اشتراها بكفٍّ من نوى.

قال ابنُ سعد: قال عياضُ بن خليفة: رأيت عمرَ عام الرمادة وهو أسودُ اللون، ولقد كان أبيضَ، كان رجلًا عربيًا يأكل السمنَ واللبن، فلما أَمحلَ الناسُ، حرمها، وأكل الزيت حتى غيَّر لونَه، وجاع فأكثر.

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 71).

ص: 167

قال ابن سعد: وقال زيدُ بنُ أسلم، عن أبيه: كنا نقول: لو لم يرفع الله المَحْلَ عام الرمادة، لظننا أن عمرَ يموت همًّا بأمر المسلمين (1).

فانظر كيف حالُه، وانظر هل وُجد في الدنيا من يفعل هذه الفعال، أو يقارب؟ فكيف يزعم من قد انغمس في الظلم، وأكل أموال المسلمين وبلادهم وإقطاعهم أنه مثلُه، أو أعدلُ منه؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبه إلي ابن الجوزي، أنا هبةُ الله بنُ أحمدَ، ثنا محمد بن عليٍّ بعشارى، ثنا أبو الحسين محمّدُ بنُ سمعون، ثنا أبو بكرٍ العبديُّ، ثنا إسماعيلُ بنُ إسحاقَ، ثنا أبو ثابتٍ، حدثني عبدُ الله بنُ وهبٍ، قال: سمعت مالكًا يحدِّث عن يحيى بن سعيد، قال: اشترت امرأةُ عمرَ بنِ الخطاب لعمرَ فَرقَ سمنٍ بستين درهمًا، فقال عمر: ما هذا؟ فقالت امرأته: هو من مالي، ليس من نفقتك، فقال عمر: ما أنا بذائقه حتى يحيا الناس (2).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ ناصر، وعمرُ بنُ ظفر، قالا: أنا محمّدُ بنُ الحسن: ثنا القاضي أبو العلاءِ الواسطيُّ، ثنا أبو نصرٍ النيازكيُّ، ثنا أبو الخيرِ البزازُ، ثنا البخاريُّ، ثنا بشرُ بنُ محمد، أنا عبيدُ الله، أنا أبو يونسَ البصريُّ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، قال: قال

(1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 315).

(2)

انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 72)، ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 346).

ص: 168

أبو مَحْذُورَةَ: كنت جالسًا عند عمر، إذ جاء صفوانُ بن أمية بجفنة يحملها نفرٌ في عَباءة، فوضعوها بين يَدَي عمر، فدعا عمرُ ناسًا مساكينَ وأرقاء من أرقّاء الناس حولَه، فأكلوا معه، ثم قال عند ذلك: يفعل الله بقوم -أو قال: لَحَي اللهُ قومًا- يرغبون في أرقّائهم أن يأكلوا معهم، فقال صفوان: أما والله! ما نرغب عنهم، ولكنّا نستأثر عليهم، ولا نجدُ -والله- من الطعامِ الطيبِ ما نأكلُ ونُطعمهم (1).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا عبدُ الوهابِ، أنا عاصمُ بنُ الحسنِ، أنا ابنُ بشرانَ، أنا ابنُ صفوانَ، ثنا ابنُ أبي الدنيا، حدثني القاسمُ بنُ هاشمٍ، عن عبدِ الله بنِ بكرٍ السهميِّ، حدثني الفضلُ بنُ عميرة: أنّ الأحنفَ بنَ قيسٍ قدم علي عمرَ بنِ الخطاب في وفد من العراق قدموا عليه في يومٍ صائفٍ شديدِ الحرِّ، وهو محتجِزٌ بعباءة يَهْنَأُ بعيرأ من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف! ضعْ ثيابَك وهلمَّ فأَعِنْ أمير المؤمنين علي هذا البعير، فإنه لمن إبل الصدقة، فيه حقُّ اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجلٌ من القوم: يغفرُ الله لك يا أمير المؤمنين، فهلّا تأمرُ عبدًا من عبيد الصدقة، فيكفيك هذا؛ قال عمر: وأيُّ عبدٍ هو أعبدُ منّي ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمرَ المسلمين، فهو عبا للمسلمين، يجب عليه لهم ما يجب علي العبد لسيده من النصيحة، وأداء الأمانة (2).

(1) انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 72). ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(ص: 85)، وابن المبارك في "البر والصلة" (ص: 182).

(2)

انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 73).

ص: 169

فانظر -رحمك الله- إلي هذا الإمام الذي كان سلطانًا علي جميع الدنيا، كيف يفعل ما لا يرضى مباشرتَهُ العبيدُ، ومع ذلك يَرى أنه عبدٌ لجميع المسلمين، الصغير والكبير، والقليل والكثير، فهل يدانيه في ذلك أحدٌ حتى يزعم بعضُ من لا يصلح أن يكون عبدًا في زمنه من الفراعنة والجبابرة الظلمة أنه مثلُه، وأعدلُ منه؟

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ الأنماطيُّ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبارِ، ثنا محمّدُ بنُ علي، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الله، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، أنا ابنُ أبي الدنيا، حدثني محمّدُ بنُ الحسين، أنا الفضلُ بنُ دُكَيْنٍ، ثنا هشام بنُ سعدٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، أخبرني أبي، قال: كنا نَبيت عند عمرَ أنا ويرفأ، قال: فكانت له ساعةٌ من الليل يُصلِّيها، وكان إذا استيقظ، قرأ هذه الآية:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. قال: حتى إذا كان ذات ليلة، قام فصلّي، ثم انصرف، ثم قال: قُومَا فصلّيا، فوالله! ما أستطيع أن أصلِّي، وما أستطيع أن أرقد، وإنّي لأفتتح السورة، فما أدري في أولها أنا أو في آخرها، قلنا: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: من همِّي بالناس (1).

وبه إلي ابن الجوزي: أنا المحمّدان؛ ابنُ ناصرٍ وابنُ عبد الباقي، قالا: أنا حمدُ بنُ أحمدَ، أنا أبو نعيمٍ، أنا محمّدُ بنُ إبراهيم، ثنا المفضلُ بنُ محمّدٍ، ثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ، قال: قال الفُضَيل بنُ

(1) انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 73)، ورواه ابن أبي الدنيا في "التهجد وقيام الليل" (ص: 398).

ص: 170

عياض يوبِّخ نفسَه: ما ينبغي لك أن تتكلم بغمّك كلّه، تدري من يكلّم بغمه كلّه؟ عمرُ بنُ الخطاب، كان يُطعمهم الطَّيِّب، ويأكل الغليظَ، ويكسوهم اللَّيِّن، ويَلْبَس الخشنَ، وكان يعطيهم حقوقَهم، ويزيدُهم (1).

وكان عمر رضي الله عنه يَعُسُّ المدينة كلّ ليلة بنفسِه، وله في ذلك حكايات كثيرة وقعت له.

وبه إلي ابن الجوزي، أنا أبو بكرِ بنُ أبي طاهرٍ، أنا الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، أنا ابنُ معروفٍ، ثنا ابنُ الفهمِ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ: أنّ عروةَ قال: كان عمرُ إذا أتاه الخصمان، بَرَك علي ركبتيه، وقال: اللهمَّ أعِنّي عليهما، فإنَّ كلَّ واحد منهما يُريدني عن ديني (2).

أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابن الحصينُ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا القَطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، حدثني أبي، ثنا إسماعيل، أنا الجريري سعيدٌ، عن أبي نضرةَ، عن أبي فراسٍ: قال: خطب عمر بن الخطاب فقال: يا أيها الناس! ألا إنا إنما كنا نعرفكم إذ بين ظهرينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نقول لكم: من أظهر منكم خيرًا ظننا به خيرًا، وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرًّا أبغضناه عليه، سرائركم بينكم

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 86) مطولًا.

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 289)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 94).

ص: 171

وبين ربكم، ألا إنه قد أتى عليّ حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن يريد الله وما عنده، فقد خيّل إليّ بآخره أن رجالًا قد قرأوه يريدون به ما عند الناس، فأريدوا الله تعالي بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا وإني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنتكم، فمن عمل به سوى ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفسي بيده لأُقصّنه منه، فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! أفرأيت إن كان رجل من المسلمين علي رعيته، فأدب بعض رعيته، أئنك لتقصنه منه؟!، قال: إي، ومن نفس عمر بيده، إذًا لأقصّنه منه، أنّى لا أقصّ منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم (1).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا المبارك بن علي، أنا محمد بن عبد السلام، أنا أبو علي بن شاذان، أنا أبو محمد بن كيسان، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي زرعة عمرو بن جرير، عن جرير بن عبد الله البجلي: أن رجلًا كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت، ونكاية في العدو، فغنموا مغنمًا، فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعًا، فجلده أبو موسى عشرين سوطًا،

(1) رواه الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 41)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 282). ورواه أبو داود (4537)، كتاب: الديات، باب: القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، مختصرًا.

ص: 172

وحَلَقه، فجمع الرجل شعره، ثم ترحل إلي عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل علي عمر بن الخطاب قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر، فأدخل يده فاستخرج شعره، فضرب به صدر عمر، فقال: أما والله لولا النار، فقال عمر: صدق والله لولا النار، فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية في العدو، فأخبره بأمره، وقال: ضربني أبو موسى عشرين سوطًا، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه. فقال عمر رضي الله عنه: لأن يكون الناس كلهم علي صرامة هذا، أحب إلينا من جميع ما أفاء الله علينا. فكتب عمر إلي أبي موسى: سلام عليك، أمّا بعد: فإن فلانًا أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملاء من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملاء من الناس، حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء من الناس، حتى يقتص منك. فقدم الرجل فقال له الناس: اعف عنه، فقال: لا والله، لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلي السماء ثم قال: اللهمَّ إني قد عفوت عنه (1).

وروى ابن شبة بإسناد له قال: قال عمرو بن العاص رضي الله عنه لرجل من تُجَيب: يا منافق. فقال التُّجيبي: ما نافقت منذ أسلمت، ولا أغسل لي رأسًا ولا أدهنه حتى آتي عمر، فأتى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! إن عَمرًا نفقني، ولا والله ما نافقت منذ أسلمت. فكتب عمر رضي الله عنه إلي عمرو، وكان إذا غضب عليه

(1) رواه ابن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 16 - 17).

ص: 173

يكتب: إلي العاص بن العاص، أمّا بعد: فإن فلانًا التجيبي ذكر أنك نفقته، وقد أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين مرة، فقال: أنشد الله رجلًا سمع عَمرًا نفقني إلا قام، فشهد، فقام عامة أهل المسجد فقال له حشمه: أتريد أن تضرب الأمير؟ قال: وعرض عليه الأرش؟ فقال: لو ملئت لي هذه الكنيسة ما قبلت. فقال له حشمه: أتريد أن تضربه؟ فقال التجيبي: ما أرى لعمر ها هنا طاعة، فلما ولي قال عمرو: ردوه، وعلم أنه يعزله ويقيده منه، فأمكنه من السوط وجلس بين يديه، فقال لعمرو: أتقدر أن تمتنع مني بسلطانك؟ قال: لا، فامض لما أمرت به، قال: فإني أدعك لله، فعفى (1).

وقد وقع في إمامته أن بعض من يدعي أنه أعدل من عمر بن الخطاب بكفره وفجوره أن بعض أعوانهم ممن يقال: إنه يعدل، قتل رجلًا مَن طلبة العلم الأجواد الأخيار، فادَّعى والده، فقيل: اعرف لولدك قاتلًا. فقال: فلان. فقال له هذا المدعي في جملة المدعين: ذلك تريد، لن نقتل مملوك ملك الأمراء بولدك هذا، والله لو قتل منكم مئة فقيه ما قتلناه بهم، فكن عاقلًا. فانظر بعينيك إلي هذا الكفر والفجور، ومع ذلك يزعمون أنهم مثلُ عمر، أو أعدلُ منه.

وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمد بنُ أبي منصورٍ، ثنا محمّدُ بنُ أبي نصرٍ، ثنا محمّدُ بنُ سلامةَ، ومنصورُ بنُ النعمانِ، ويحيى بنُ فرحٍ، قالوا: ثنا أبو محمد بنُ أحمد، أنا أبو بكرِ بنُ دريد، ثنا عسلُ بنُ

(1) رواه ابن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 16).

ص: 174

ذكوانَ، ثنا كثيرُ بنُ يحيى، ثنا سالمٌ، حدثني أبو عامرٍ، عن ابنِ أبي مُلَيكةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قدم علينا عمرُ بنُ الخطاب حاجًّا، فصنع له صفوانُ بنُ أميةَ طعامًا، قال: فجاؤوا بجَفْنَة يحملُها أربعة، فوُضعت بين القوم، وأخذ القومُ يأكلون، وقام (1) الخدام، فقال عمر: ما لي لا أرى خُدَّامكم ياكلونَ معكم، أترغبون عنهم؟ وغضب، ولم يأكل (2).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، ثنا محمد بنُ أبي طاهرٍ، أخبرني الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، ثنا أبو الحسنِ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ الفهمِ، ثنا محمد بنُ سعد، ثنا المعلّي بنُ أسدٍ، ثنا وهيبُ بنُ خالدٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سالمِ بنِ عبدِ الله: أن عمرَ بنَ الخطاب كان يُدخل يده في دُبُر البعير، ويقول: إني لخائفٌ أن أسُأل عمّا بك (3).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا أبو محمّدِ بنُ البشريِّ، عن أبي عبدِ الله بن بَطَّةَ، أخبرني محمّدُ بنُ الحسينِ الآجُرِّيُّ، ثنا محمّدُ بنُ كردي، ثنا أبو بكر المروزيُّ، ثنا رَوْحُ بنُ حربٍ، ثنا محمّدُ بنُ الحسينِ، ثنا أبي خلدة، عن المسيبِ بنِ دارمٍ، قال: رأيت عمرَ بنَ الخطاب يضرب حَمَّالًا، ويقول: حمّلْتَ جَملَكَ ما لا يُطيق. قال: ورأيته مرَّ به سائل، وعلي ظهره جرابٌ مملوء طعامًا، فأخذه فنثره

(1) في الأصل: "وقال".

(2)

رواه الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 96).

(3)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 286)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 356)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 97).

ص: 175

للنواضِحِ، ثم قال: الآنَ سَلْ ما بدا لك (1).

وبه إلي ابن الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الحبار، أنا أحمدُ بنُ عبدِ الله الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ المروزيُّ، ثنا أحمدُ بنُ الحارث، ثنا جَدِّي محمّدُ ابنُ عبدِ الكريم، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، أنا يوسفُ بنُ عبدة، عن ثابتٍ البنانيِّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: كنا عند عمرَ بنِ الخطاب، إذ جاءه رجلٌ من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين! هذا مقامُ العائِذِ بكَ، قال: وما لَكَ؟ قال: أجرى عَمْرُو بنُ العاص الخيلَ، فأقبلَتْ، فلما رآها الناس، قام محمّدُ بنُ عمرٍو، فقال: فَرَسي وربِّ الكعبة! فلما دنا مني عرفته، فقلت: فرسي وربِّ الكعبة! فقام إليّ يضربني بالسوط، ويقول: خُذْها، وأنا ابنُ الأكرمين. قال: فوالله! ما زاده عمرُ علي أن قال: اجلسْ، ثم كتب إلي عَمْرِو إلي مصر: إذا جاءك كتابي هذا، فأقبلْ، وأقبل معك بابنِك محمد. قال: فدعا عمرٌو ابنَه، فقال: أَأَحدثْتَ حدثًا؟ أَجنيتَ جنايةً؟ قال: لا، قال: فما بالُ عمرَ يكتب فيك؟ قال: فقدم به إلي عمر، قال أنس: فوالله! إنَّا لعند عمرَ بمنى، إذا نحنُ بعمرٍو قد أقبل في إزارٍ ورداء، فجعل عمرُ يلتفت هل يرى ابنَه، وإذا هو خلفَ أبيه، فقال: أين المصريُّ؟ قال: ها أنا ذا، قال: دونك الدرَّةَ، اضرب ابنَ الأمير، اضرب ابنَ الأمير، اضرب ابنَ الأمير، قال: فضربه حتى أثخنه، ثم قال: اجعلْها علي صلعةِ عمرٍو، فوالله! ما ضربك إلا بفضل سلطانه، فقال: يا أمير المؤمنين! قد ضربتُ مَنْ ضربني، فقال: أما

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 97).

ص: 176

والله! لو ضربْتَهُ، ما حُلْنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعُه، يا عمرو! متى استعبدتُم الناسَ وقد ولدتْهم أماتُهم أحرارًا؟ ثم التفت إلي المصريِّ فقال: انصرفْ راشدًا، فإنْ رابَكَ ريبٌ، فاكتبْ إليّ (1).

فلمثلِ هذا يصلح الحكمُ وأمرُ الناس، لا للكفرة الفجرة.

أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبل، أنا ابن الحُصينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القَطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ أحمد، حدثني أبي، ثنا محمّدُ بنُ مبشرٍ، ثنا محمّدُ بنُ إسحاقَ، عن محمّدِ بنِ عمرِو بنِ عطاءٍ، عن مالكِ بنِ أوس، قال: كان عمر رضي الله عنه يحلف علي إيمان ثلاث: يقول: واللهِ! ما أحدٌ أحقَّ بهذا المال من أحد، وما أنا بأحقَّ به من أحد، واللهِ! ما من المسلمين أحدٌ إلا وله في هذا المال نصيب، إلا عبدًا أو مملوكًا، ولكنّا علي منازلنا من كتاب الله- عز وجل، وقَسْمِنا من رسول الله، والرجلُ وبلاؤه في الإسلام، والرجلُ وقدمُه في الإسلام، والرجلُ وغناه في الإسلام، والرجلُ وحاجتُه، ووالله! إن بقيت لهم، ليأتينَّ الراعيَ بجبل صنعاءَ حَظُّه من هذا المال، وهو يرعى مكانَه (2).

يشير بذلك إلي أموال المسلمين التي ببيت المال، وما يتحصَّل من بلادهم.

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 98 - 99).

(2)

رواه الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 42)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 299)، ورواه أبو داود (2955)، كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: فيما يلزم الإمام؛ بمعناه.

ص: 177

فكان عمر يقسم ذلك، حتى علي الرجل والمرأة، والكبير والصغير، ولا يشرك أحدًا معه يعلم به.

ثم حَدَثَ هؤلاء، فأكلوا مالَ بيت المال، واقتسموا البلاد إقطاعًا، واختصوا بذلك لأنفسهم، ويزعمون أنه حلالٌ لهم، حتى إن بعضَهم يقول لنا: كلْ؛ فإنه من إقطاعي حلال!! فقد اقتسموا بلاد المسلمين، فجعلوها لهم إقطاعًا، ثم أكلوا أموالَ بيتِ المال، ولم يُعطوا أحدًا من ذوي الحاجات ولا غيرهم منها درهمًا، ثم لم يقنعهم ذلك حتى أخذوا من أوقاف المسلمين، ثم لم يقنعهم ذلك حتى أخذوا الرشا والبرطيل علي الولايات والمناصب، ويقول بعضهم: أعطني مالي الذي لي عندَك؛ كأنه باعه به التجارةَ والمتاع، ثم لم يقنعوا بذلك حتى أخذوا أموالَ الناس ظلمًا وعسفًا وعدوانًا، ثم بعد ذلك يزعم أحدُهم أنه عادل، أو أنه مثلُ عمر، بل ويزعم بعضُهم أنه أعدلُ من عمر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، هذا هو الكفر والجهل.

أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا ابنُ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الباقي، أنا حمدُ بنُ أحمدَ، ثنا أحمدُ بنُ عبد الله، ثنا سليمانُ بنُ أحمدُ، ثنا المقدامُ بنُ داودَ، ثنا عبدُ الله بنُ محمد، ثنا مالكُ بنُ مِغْوَلٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: قدم علي عمر مالٌ من العراق، قال: فأقبل يَقسمه، فقام إليه رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين! لو أبقيتَ من هذا المال لعدوٍّ إن حضر، أو نائبةً إن نزلت، فقال عمر: مالَكَ قاتَلَكَ الله نُطق بها علي لسانِك شيطان؟ كفاني الله حجّتها، والله! لا أعصينّ الله اليوم لغد،

ص: 178

لا، ولكن أعدُّ لهم كما أعدَّ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (1).

وبه إلى ابن الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، وعبدُ الله بنُ عليٍّ، قالا: أنا طرّادُ بنُ محمد، أنا أبِوِ الحسين بنُ بشرانَ، ثنا ابنُ صفوانَ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدٍ، ثنا أبو خيْثمَةَ، ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، عن محمّدِ بن عمرٍو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ: أنه قال: قدم على عمرَ من البحرين مالٌ، فقدمْت عليه، فصليت معه العشاء، فلما رآني سلَّمت عليه، قال: ما قدمتَ به؟ قلت: قدمتُ بخمس مئة ألف، قال: أتدري ما تقول؟ قلت: مئة ألف، ومئة ألف، ومئة ألف، حتى عَدَدْتُ خمسًا، قال: إنك ناعسٌ، ارجِعْ إلى بيتك فنمْ، ئمّ اغدُ عليَّ. قال: فغدوتُ عليه، فقال: ماذا جئت به؟ قلت: خمس مئة ألف، قال: أطيِّب؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك، فقال للناس: إنه قدم عليَّ مالٌ كثير، فإن شئتم أن نعدّ لكم عددًا، وإن شئتم أن نكيله لكم كَيْلًا، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين! إني قد رأيتُ لهؤلاء الأعاجم يدونون ديوانًا يعطون الناس عليه، فدوّن الديوان، ففرض للمهاجرين خمسة آلاف، وللأنصار أربعة آلاف، ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفًا، ائني عشر ألفًا (2).

فأقسمُ بالله! لو قد جاء مثلُه لقايتباي، لكنزهُ لنفسه، ولم يعط

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 45)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 100).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 300)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(32864).

ص: 179

أحدًا منه درهمًا، ولو كان من [كان].

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا إسماعيلُ بنُ أحمدَ السمرقنديُّ، أنا محمّدُ بنُ هبةِ الله، أنا محمّدُ بنُ الحسينِ، أنا عبدُ الله بنُ جعفرٍ، أنا يعقوبُ بنُ سفيانَ، ثنا عبدُ الله، أنا عبدُ الله بنُ موهبٍ، حدثني عبيدُ الله بنُ عبدِ الله، قال: سمعتُ أبا هريرةَ يقول: قدمتُ علي عمرَ بنِ الخطاب من عندِ أبي موسى الأشعري بثماني مئة ألفِ درهمٍ، فقال لي: ماذا قدمت؟ قال: قلتُ: قدمتُ بثماني مئة ألف، قال: إنما قدمتَ بثمانين ألفَ درهم، قال: قلتُ: إنما قدمت بثماني مئة ألف، قال: ألم أقلْ لكَ: إنكَ يمان أحمقُ، إنما قدمتَ بثمانين ألف درهمٍ، فكم ثماني مئة ألف؟ فعددت مئة ألف، ومئة ألف، حتى عددتُ ثمان مئة ألف، فقال: أطيبٌ ويلك؟ قلت: نعم، قال: فبات عمر ليلته أرِقًا، حتى إذا نودي لصلاة الصبح، قالت له امرأته: يا أمير المؤمنين! ما نمتَ الليلةَ، [قال]: كيف ينام عمرُ وقد جاء الناس ما لم يكنْ يأتيهم مثلُه منذ كان الإسلام، فما يؤمنُ عمرَ لو هلك، وذلك المالُ عنده، ولم يضعْه في حقه؟ فلما صلّي الصبح، اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إنه قد جاء الناسَ الليلةَ ما لم يأتهم مثلُه منذ كان الإسلام، وقد رأيت رأيًا، فأشيروا عليَّ، رأيتُ أن أكيل للناس بالمكيال، فقالوا: لا تفعلْ يا أمير المؤمنين، إن الناس يدخلون في الإسلام، ويكثر المال، ولكن أعطِهم علي كتاب، فلما كثر الإسلامُ، وكثر المالُ، أعطيتَهم، قال: فأشيروا عليَّ بمن أبدأ منهم؟ قالوا: بكَ يا أمير المؤمنين، إنك وليُّ ذلك، ومنهم من قال: أمير المؤمنين أَعلمُ،

ص: 180

قال: لا، ولكن أبدأُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب إليه، فوضع الديوانَ علي ذلك، فبدأ ببني هاشم، وبني المطلب، ثم ببني عبد شمس، ثم ببني نوفل بن عبد مناف، ثم سائر الناس (1).

فأقسمُ بالله! لو قدمَ مثلُ ذلك علي قايتباي، لم يهتم لقسمه، ولا خاف أن يموت وهو عنده، ولَمَا أعطي أحدًا منه درهمًا.

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي طاهرٍ، أنا الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، ثنا أبو الحسنِ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ فهمٍ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ، يرفعه إلي محمّدِ بنِ سيرينَ، عن الأحنف، قال: كنا جلوسًا بباب عمر، فمرتْ جارية، فقالوا: سُرِّيَّةُ أميرِ المؤمنين، فقالت: ما هي لأمير المؤمنين بسريَّة، وما تحلُّ له، إنها من مال الله، فما هو إلا قدر أن بلغت، وجاء الرسول فدعانا، فأتيناه، فقال: ماذا قلتم؟ فقلنا: لم نقل باسًا، مرت جارية، فقلنا: هذه سريةُ أمير المؤمنين، فقلتَ: ما هي لأمير المؤمنين بسرية، وما تحل له، إنها من مال الله، فقلنا: ماذا يحلُّ له من مال الله؟ فقال: أنا أخبركم بما يحلُّ لي منه، حُلَّتان: حلةٌ في الشتاء، وحلة في القيظ، وما أحجُّ عليه وأَعتمر من الظَّهْر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجلٌ من قريش، ليس بأغناهم، ولا أفقرهم، ثم بعدُ أنا رجلٌ من المسلمين يُصيبني ما أصابهم (2).

(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 364)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 101).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(32912)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" =

ص: 181

قال ابن سعد: وأنا عارمٌ، ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن عروةَ: أن عمرَ بنَ الخطاب قال: لا يحلُّ لي من هذا المال إلا ما كنتُ آكِلًا من صُلْب مالي (1).

قال ابن سعد: قال محمّدُ بنُ إبراهيم: كان عمرُ يستنفق كلَّ يوم درهمين له ولعياله، وأنفق في حجّته ثمانين ومئةَ درهم (2).

وقال: إني أنزلتُ مالَ الله مني بمنزلة مالِ اليتيم، إن استغنيتُ، عففتُ عنه، وإن افتقرتُ، أكلت بالمعروف (3).

فانظر إلي هذا الفعل، وانظر إلي هؤلاء الفَجَرة الذين جعلوا أموال المسلمين خالصة لأنفسهم، واقتسموا بلادَ المسلمين، فجعلوها إقطاعًا لأنفسهم، وإنها أحل شيء لهم، وهي أحرم شيء عليهم.

واعتلّ عمرُ مرة، فوصف له العسلُ، وفي بيت المال عُكَّةٌ من العسل، فقال للناس: إن أَذِنْتم لي فيها، أخذتُها، وإلا، فإنها عليّ حرامٌ (4).

= (3/ 275 - 276)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(5/ 164)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(69/ 197).

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 276)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 102).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 308)، وابن الجوزي فى "مناقب عمر" (ص: 102).

(3)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 276)، وابن الجوزي فى "مناقب عمر" (ص: 102).

(4)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 276 - 277)، ومن طريقه: الطبري =

ص: 182

ولما وَلِيَ، استشار الناسَ فيما يحلُّ له من هذا المال من مال هؤلاء؟ فقال عليٌّ: ما أصلحَكَ وأصلحَ عيالَكَ بالمعروف، ليس لك من هذا الأمرِ غيرُه (1).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المبارك، أنا أبو الحسينِ بنُ الطيوريِّ، ثنا الحسينُ بنُ عليٍّ الطباشيريُّ، أنا أبو جعفر السلميُّ، ثنا أبو بكرٍ الباغنديُّ، ثنا عثمانُ بنُ أبي شيبةَ، ثنا حسينُ بنُ عليٍّ، عن إسرائيلَ، عن موسى، عن الحسنِ، قال: قال عمرُ بنُ الخطاب: السنة ثلاثُ مئةٍ وستون يومًا، وإن حَقًّا علي عمرَ أن يكسح بيتَ المال في كل سنة يومًا؛ عذرًا إلي الله- عز وجل، فلا أدعُ فيه شيئًا (2).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ ناصرٍ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أبو الحسنِ الأنماطيُّ، ثنا أبو حامدٍ أحمدُ بنُ الحسينِ، ثنا أحمدُ بنُ الحربِ، حدثني جَدِّي محمّدُ بنُ عبدِ الكريم، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، ثنا جريرُ بنُ حازمٍ، عن الحسنِ: قال: بينما عمر يمشي في سِكَّة من سكك المدينة، إذا هو بصبية تطيش على وجه الأرض، تقوم مرة، وتقع أخرى، فقال عمرُ: يا بؤسها! من يعرف هذه منكم؟ فقال عبدُ الله بنُ عمرَ: وما تعرفُها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ومن هي؟

= في " تاريخه"(2/ 569)، وابن عساكر في "تاريخه"(44/ 301)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 102).

(1)

رواه الطبري في "تاريخه"(2/ 453).

(2)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 342).

ص: 183

قال: هذه إحدى بناتك، قال: وأي بناتي هذه؟ قال: هذه فلانة بنتُ عبدِ الله بنِ عمر، قال: ويحك! وما صيّرها إلي ما أرى؟ قال: مَنْعُك ما عندَك، قال: ومنعي ما عندي يمنعُك أن تطلب لبناتك ما يكسِبُ الأقوامُ لبناتهم؟! إنه والله! ما لك عندي غيرُ سهمك في المسلمين، وَسِعَكَ، أو عَجَزَ عنك، هذا كتابُ الله بيني وبينكم (1).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا إسماعيلُ بنُ أحمدَ، أنا عمرُ بنُ عبيدِ الله، أنا أبو الحسينِ بنُ بشرانَ، أنا عثمانُ بنُ أحمدَ، أنا حنبل، ثنا إبراهيمُ بنُ محمد: ثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن ابنِ شهاب، عن مالكِ بنِ أوس، قال: قال عمر: ما أحدٌ إلا وله في هذا المال حق، إلا ما ملكَتْ أيمانكم (2).

وشكا عمرُ بطنَه من أكل الزيت، فخطب الناس، فقال: إن أمير المؤمنين يشتكي بطنه من الزيت، فإن رأيتم [أن] تحلوا له ثلاثة دراهم ثمنَ عُكَّة سمنٍ من بيت مالكم (3).

ولمّا كتب المهاجرين، جعل عطاءهم خمسةَ آلاف، وكتبَ نفسه كذلك، وكتبَ ابنَه عبدَ الله علي أربعة آلاف، فقال له: إن كان لي حَقٌّ، فأعطِنيه، وإلّا فلا تعطني، فقال لعبد الرحمن بن عوف: اكتبه على

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الورع"(ص: 114).

(2)

رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 325)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 347).

(3)

رواه ابن شبة في "أخبار المدينة"(1/ 373)، وابن الجوزي فى "مناقب عمر" (ص: 107).

ص: 184

خمسة آلاف، واكتبني أنا علي أربعة آلاف، فقال عبد الله: أنا لا أريد هذا، فقال عمر: لا أجتمع أنا وأنت علي خمسة آلاف (1).

وكان عمر رضي الله عنه يقسم للناس علي قدر فضلهم؛ من الرجال والنساء والصبيان، ولا يدع أحدًا من الناس.

وبه إلي ابنِ الجوزيّ، أنا المباركُ بنُ عليٍّ، أنا عليُّ بنُ أحمدَ، أنا محمّدُ بنُ محمّدٍ، أنا أحمدُ بنُ جعفرٍ القطيعيُّ، ثنا إبراهيمُ الحربيُّ، ثنا داودُ بنُ عمرٍو، ثنا ابنُ أبي غنيةَ، ثنا سلامةٌ بنُ منيحٍ، قال: قال الأحنفُ بن قيس: وفدْنا إلي عمر بفتح عظيم، فقال: أين نزلتم؟ فقلنا: في مكان كذا، فقام معنا حتى انتهينا إلي مناخ ركابنا، فجعل يتخللها ببصره، ويقول: ألا اتقيتم الله في ركابكم هذه، أما علمتم أن لها عليكم حقًا؟ ألا خلَّيتم عنها فأكلَتْ من نبت الأرض؟ فقلنا: يا أمير المؤمنين! إنا قدمنا بفتح عظيم، فأحببنا التسرعَ إلي أمير المؤمنين والمسلمين بما يسرُّهم. ثم انصرف راجعًا ونحن معه، فلقيه رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين! انطلقْ معي، فأَعْدِني علي فلان، فإنه ظلمني، قال: فرفع الدرةَ، فخفق بها رأسه، وقال: تَدَعون عمرَ وهو معترضٌ لكم، حتى إذا انشغلَ في أمر من أمور المسلمين، أتيتموه، أَعْدِني، أَعْدِني؟! فانصرف الرجل وهو يتذمر، فقال عمر: عليَّ الرجل، فألقي إليه المِخْفَقَة، فقال: أمسكْ، قال: لا، ولكن أَدَعُها لله ولك، قال: ليس ذلكَ لك، إما تدعُها لله وإرادة ما عندَه، أو تَدَعُها

(1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(32880)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 350)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 108).

ص: 185

لي، فاعلم ذلك، قال: أدعُها لله، قال: انصرفْ، ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه، فافتتح الصلاة، فصلَّي ركعتين، ثم جلس فقال: يا بن الخطاب! كنتَ وضيعًا، فرفعك الله، وكنت ضالًا، فهداك الله، وكنت ذليلًا، فأعزّك الله، ثم حملَكَ علي رقاب المسلمين، فجاءك رجلٌ يَستعديك، فضربْتَهُ! ما تقولُ لربك غدًا إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسَه معاتبةً ظننتُ أنه من خير أهلِ الأرض (1).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبار، أنا القاضي أبو الحسين، أنا عمرُ بنُ ثابت، أنا عليُّ بنُ أحمد، ثنا عبدُألله بنُ محمّدٍ القرشيُّ، ثنا محمّدُ بنُ حمادٍ، قال: سمعتُ عبدَ الله بنَ عبدِ المجيد، ثنا عكرمةُ بنُ عمارٍ، أخبرني إياسُ بنُ سلمةَ، عن أبيه، قال: مرَّ عليّ عمرُ بنُ الخطاب وأنا في السوق، وهو مارٌّ في حاجة له، ومعه الدرَّةُ، فقال: هكذا أمِطْ عن الطريق يا سلمةُ، قال: ثم خَفَقَني، فما أصابَ إلا طرفَ ثوبي، فأمطْتُ عن الطريق، فسكتَ عني، حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة! أردتَ الحجَّ العام؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذَ بيدي، فما فارقَتْ يدُه يدي حتى دخلَ بي بيته، فأخرج كيسًا فيه ست مئة درهم، فقال: يا سلمة! استعنْ بهذه، واعلم أنها من الخَفْقَة التي خَفَقْتُك عامَ أولَ، قلت: يا أمير المؤمنين! ما ذكرتُها حتى ذَكَّرْتنيها، قال: وأنا -والله- ما نسيتُها بعدُ (2).

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 111 - 112).

(2)

رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 112).

ص: 186

فانظر بعينك كيف ضربه بجلدة لا تضر، أصابت طرفَ ثوب إنسان، أقام يتفكر فيها سنة، ثم إنه ورّث لربها لأجلها ست مئة؛ خوفًا منها، فما ظنك بقطج والمحصبي اللَّذَين قتلا لأجل إراقة خمر مئةً وعشرين مسلمًا في جامع دمشق، وعلي أبوابه، وافتخرا بذلك هما وسيدُهما، ومع ذلك يزعمون أنهم أعدلُ من عمر بنِ الخطاب، هذا هو الضلال المبين.

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ، ومحمّدُ بنُ أبي منصورٍ، قالا: أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا الحسنُ بنُ عليٍّ الجوهريُّ، أنا أبو عمرَ بنُ حيويه، أنا أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ، ثنا إسماعيلُ بنُ إسحاقَ، ثنا اسماعيلُ بنُ أبي قيسٍ، ثنا مالكٌ، عن عاصمٍ، عن عبيدِ الله، قال: قال عمرُ بنُ الخطاب تحتَ شجرة في طريق مكة، فلما اشتدت عليه الشمس، أخذ عليه ثوبَه، وقام، فناداه رجلٌ غير بعيد منه: يا أمير المؤمنين! هل لك في رجلٌ قد رثدتْ حاجتُه، وطال انتظاره؟ قال: من رثدها؟ قال: أنت، قال: فجاراه

القول حتى ضربه بالمِخْفَقَة، فقال: عَجِلت عليَّ قبل أن تنظر فيّ، فإن كنتُ مظلومًا، رددتَ إليّ حقي، وإن كنتُ ظالمًا رددتني، فأخذ عمرُ طرف ثوبه، وأعطاه المخفقة، وقال له: اقتضِ، قال: ما أنا بفاعل، فقال: والله! لتفعلنّ، أو لتفعلنّ كما يفعل المنصف من حقه، قال: فإني أغفرُها، فأقبل عمر على الرجل، فقال: أنصف من نفسي أصلح من أن ينتصف مني وأنا كاره -يعني: يوم القيامة-، فلو كنت في الأراك لسمعت حنين عمر -يعني: بكاءه لأجل ذلك-.

ص: 187

فانظر كيف بكي حتى سمع الناس بكاءه لأجل ضربة بجلدة؛ خوفًا من أن تكون بغير حق، [ولمّا] يتحققْ أنها بغير حق. فوالله! لم يبك قانصوه ولا المحصبي وقطج لقتلِ أكثرَ من مئةِ نفسٍ ظلمًا؛ لإراقة خمر، ومع ذلك يزعمون أنهم أعدلُ من عمر، هذا هو العجبُ والافتراء.

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ، أنا عاصمُ بنُ الحسنِ، ثنا عليُّ بنُ محمّدٍ، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، ثنا أبوبكرِ بنُ سعدِ بنِ عبدِ الله بنِ محمّدٍ، ثنا أبي، عن أبي عبيدةَ الجعفيِّ، عن جابرٍ الجعفيِّ: أنه سمع سالمَ بنَ عبد الله قال: نظر عمرُ إلي رجلٌ أذنبَ ذنبًا، فتناوله بالدرَّةِ: فقال الرجل: والله يا عمر! إن كنت أحسنت، فقد ظلمتني، وإن كنت أسأت، فما علمتني، قال: صدقت، فاستغفر الله، دونَكَ فاقْتَدْ من عمر، فقال الرجل: أَهَبُها لله عز وجل، وغفر الله لي ولك (1).

أخبرنا أبو العباسِ الفُولاذيُّ، أنا ابنُ بردس، أنا ابنُ [عبدِ] الجبار، أنا الإربليُّ، أنا الفُراويُّ، أنا الفارسيُّ، أنا الجُلُوديُّ، أنا أبو إسحاقَ الزاهدُ، أنا مسلمٌ، حدثني هارونُ بنُ سعيدٍ الأيليُّ، ثنا ابنُ وهبٍ، حدثني حرملةُ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ شماسةَ، قال: أتيتُ عائشة أسألها عن شيء، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجلٌ من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبُكم لكم في غَزاتكم هذه؟ قال: ما نقمنا شيئًا، إن كان ليموت للرجل منا البعيرُ، فيعطيه البعيرَ،

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 113).

ص: 188

والعبدُ، فيعطيه العبد، ويحتاج إلي النفقة، فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بنِ أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: "اللَّهُمَّ مَنْ وَليَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ"(1).

أخبرنا أبو العباسِ الحريريُّ، وغيرُه، أنا ابنُ البالسيِّ وغيرُه، أنا المِزَيُّ وغيرُه، أنا ابنُ أبي عمرَ وغيرُه، أنا ابنُ الجوزيِّ، [أنا] محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أبو الحسنِ الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ المروزيُّ، أنا أبو العباسِ أحمدُ بنُ الحربِ، أنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، [أنا] عبدُ الله بنُ الوليدِ بنِ عبدِ الله بنِ معقلٍ المزنيُّ، حدثني عمارةُ بنُ خزيمةَ، قال: كان عمرُ بن الخطاب إذا استعملَ عاملًا، كتب عليه كتابًا، وأشهدَ عليه رهطًا من الأنصار: أن لا يركَبَ بِرْذَونًا، ولا يأكلَ نقيًّا، ولا يلبسَ رقيقًا، ولا يُغلق بابَه دونَ حاجات [الناس]، ثم يقول: اللهمَّ اشهدْ (2).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا أبو بكرِ بنُ عبدِ الباقي، أنا أبو إسحاقَ البرمكيُّ، أنا ابن حيويه، أنا ابنُ معروفٍ، أنا ابنُ الفهمِ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ، قال: كان عمرُ بنُ الخطاب قد استعمل النعمانَ علي ميسانَ، وكان يقول الشعر، فقال:

(1) رواه مسلم (1828)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(32920)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 277)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 114).

ص: 189

أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَهَا

بِمَيْسَانَ يُسْقَي فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ

إِذَا شِئْتُ غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ

وَرَقَّاصَة تَجْثُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ

فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالأَكْبَرِ اسْقِني

وَلَا تَسْقِنِي بِالأَصغَرِ الْمُتَثَلِّمِ

لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُومِنِينَ يَسُوءُهُ

تنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ

فلما بلغ عمرَ قولُه، قال: نعم، والله! إنه ليسوءُني، من لقيه، فليخبره أني قد عزلتُه، فقدم عليه رجلٌ من قومه، فأخبره بعزله، فقدمٍ علي عمر، فقال: والله! ما صنعت شيئًا مما قلت، وإنما كنتُ امرأً شاعرًا، فوجدتُ فضلًا من قول، فقلتُ فيه الشعر، فقال عمر: والله! لا تعملُ لي علي عملٍ ما بقيتُ، وقد قلتَ ما قلتَ (1).

وفي رواية: لما بلغ عمرَ، كتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 2، 3].

أما بعدُ: فقد بلغني قولُك:

(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(4/ 140)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 115).

ص: 190

لعَلَّ أَمِيرَ الْمُومِنِينَ يَسُوءُهُ

تنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ

وايم الله! ليسوءُني، وعزلَه. فلما قدمَ علي عمر، قال: والله! ما شربتُها قَطُّ، وما ذاك الشعرُ إلا شيءٌ طفح علي لساني، فقال عمر: أظنُّ ذاك، ولكنْ لا تعملُ لي علي عمل أبدًا (1).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الملك، أنا أحمدُ بنُ عليٍّ، أنا أبو عبدِ الله محمّدُ بنُ عبدِ الواحدِ، أنا محمّدُ بنُ العباسِ، ثنا أحمدُ بنُ محمّدٍ، ثنا محمّدُ بنُ القاسمِ، عن عبّادِ بنِ الوليدِ، قال: سمعتُ محمّدَ بنَ عبدِ الغفارِ، قال: استعمل عمرُ بن الخطاب رجلًا من قريش علي عمل، فبلغه أنه قال:

اسْقِنِي شَرْبَةً ألذُّ عَلَيْهَا

وَاسقِ بِاللهِ مِثْلَهَا ابْنَ هِشَامِ

فأشخصَ عليه يطلبه، وذكر أنه إنما أشخص من أجل البيت، ثم أشخص بآخر، فلما قدم عليه، قال: ألستَ القائل:

اسْقِنِي شَرْبَةً ألذُّ عَلَيْهَا

وَاسْقِ بِاللهِ مِثْلَهَا ابْنَ هِشَامِ

قال: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن قلتُ بعده، وما بلغك:

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 116).

ص: 191

عَسَلًا بَارِدًا بِمَاءِ سَحَابٍ

إِنَّنِي لَا أُحِبُّ شُرْبَ المُدَامِ

قال: اللهِ؟ قال: آللهِ، يعني: أنه قال ذلك حين قاله، فلما حلف له أنه قاله كذلك، قال: ارجعْ إلي عملك (1).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي طاهرٍ، أنا أبو محمّدٍ الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، ثنا أبو الحسنِ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ الفهمِ، ثنا محمّدُبنُ سعدٍ، أنا محمّدُ بنُ عمرَ، حدثني عاصمُ بنُ عبدِ اللهِ الجهنيُّ، عن عمرانَ بنِ سويدٍ، عن ابنِ المسيَّبِ، عن عمرَ، قال: أَيُّما عاملٍ لي ظلمَ أحدًا، فبلغَتْني مظلَمَتُه، فلم أُغَيِّرْها، فأنا ظلمتُه (2).

فانظر إلي هذا الكلام، وكل نجس من هؤلاء الظَّلَمة يتخذ أعوانًا يدعمهم في مئة يظلمون له الليلَ والنهارَ، ويقول: أنا لا أظلم، ويقول: هؤلاء يظلمون! يظن بجهله أنه إذا لم يباشرْ، وباشره غيرُه: أنه لا يعاقَب عليه، وما يعلم أن فعلهم كلَّه بمنزلة فعله، وظلمَهم بمنزلة ظلمِه.

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا أبو غالبٍ الماورديُّ، وأبو سعدٍ البغدادي، قالا: أنا المطهرُ، أنا أبو جعفرِ بنُ المرزبانِ، أنا محمّدُ بنُ إبراهيم، ثنا لُوَيْنٌ، ثنا شريكٌ، عن عياضٍ الأشعريِّ: قال: قدم على

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 116).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 305).

ص: 192

عمر فتحٌ من الشام، فقال لأبي موسى: ادعُ كاتبك يقرؤه علي الناس في المسجد، قال أبو موسى: إنه نصراني لا يدخل المسجد، قال عمر: ولِمَ استكتبت نصرانيًا؟ (1).

وبه إلي شريك، عن أبي هلال، عن أشق، قال: كنت عبدًا نصرانيًا لعمر، فقال: أسلِمْ حتى نستعينَ بك علي بعض أمورِ المسلمين؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين علي أمورهم مَنْ ليس منهم.

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ ناصرٍ، أنا محمّدُ بنُ علىٍّ، ثنا عليُّ بنُ الحسن، أنا الحسينُ بنُ أحمدَ، أنا أبو يعلي الموصِلِّيُّ، ثنا غسانُ بنُ الربيعِ، عن حمادِبنِ سلمةَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن مُحاربِ بن دِثارٍ، عن عمرَ بنِ الخطاب: أنه قال لرجل قاضٍ: من أنت؟ قال: أنا قاضي دمشق، قال: كيف تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإذا جاءك ما ليس في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا جاءك ما ليس في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأي، وأؤامر جلسائي، قال عمر: أحسنتَ. وقال: إذا جلست فقل: اللهمَّ إني أسألك أن أفتي بعلم، وأقضي بحكم، وأسألك العدلَ في الغضب والرضا. قال: فسار الرجل ما شاء الله أن يسير، ثم رجع إلي عمر، فقال: ما أرجعك؟ قال: رأيت القمر والشمس يقتتلان، ومع كل واحد منهما جنود من الكواكب، فقال: مع أيهما كنت؟ قال: كنت مع القمر، فقال: يقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 116).

ص: 193

آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] [فقال له،: لا تلي لي عملًا، اذهب (1).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا إسماعيلُ بنُ أحمد، أنا عمرُ بنُ عبيدِ الله، أنا أبو الحسينِ بنُ بشرانَ، أنا عثمانُ بنُ أحمدَ حنبل، حدثني أبو عبد الله أحمدُ بنُ حنبل، ثنا هاشمُ بنُ القاسم، ثنا المباركُ بنُ فضالةَ، عن الحسن، قال: قال عمر: أعياني أهلُ الكوفة، إن استعملتُ عليهم ليّنًا، اسضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدًا، شكوه، ولوددت أني وجدتُ رجلًا قويًا أمينًا مسلمًا أستعمله عليهم، فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين! أنا والله أدلّك علي الرجل القوي الأمين المسلم، وأثنى عليه، فقال عمر: ومن هو؟ قال: عبد الله بن عمر، قال عمر: قاتلك الله، واللهِ! ما أردتَ اللهَ بها (2).

فانظر كيف مَقَتَه حين ذكر ذلك، وكره ولايَة ولدِه، وكذلك قال عند موته: يَشهدكم عبدُ الله بنُ عمرَ -يعني: في الولاية بعدَه-، ولا حقَّ له فيها، فلم يجعل إليه شيئًا، لا في حياته، ولا بعد موته.

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا القاضي أبو عبدِ الله النصيبيُّ، ثنا إسماعيلُ بنُ سعيدٍ، ثنا أبو بكير الأنباريُّ، ثنا أبو عبدِ الله المقدَّمِيُّ، ثنا أحمدُ بنُ المقدامِ، ثنا مرحومُ بنُ عبدِ العزيزِ، ثنا عاصمُ بنُ بهدلةَ،

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(68/ 103 - 104).

(2)

رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 118).

ص: 194

قال: كان عمرُ بنُ الخطاب جالسًا مع أصحابه، فمرّ به رجلٌ، فقال له: ويل لك يا عمرُ من النار، فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين! ألا ضربته؟ -وأُقسمُ بالله لو قال مثلَها رجلٌ لقطج، لَقَطَع لسانه، أو عاقبه العقاب الشديد- فقال له رجلٌ- أظنه عليًا-: ألا سألته؟ فقال: عليَّ الرجل، فقال له: لِمَ قلتَ ذلك؟ قال: تستعمل العامل، وتشرط عليه شروطًا، ولا تنظر في شروطه، قال: وما ذاك؟ قال: عاملُكَ علي مصر اشترطْتَ عليه شُروطًا، فترك ما أمرتَه به، وانتهكَ ما نهيته عنه. وكان عمر إذا استعمل عاملًا، اشترط عليه: أن لا يركب دابةً، ولا يلبس رقيقًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يغلق بابه من حوائج الناس وما يصلحهم. قال: فأرسل إليه رجلين، فقال: سَلا عنه، فإن كان كذبَ عليه، فأعلماني، وإن كان صدق، فلا تملِّكاه من أمره شيئًا حتى تأتياني به، وإن وجدتماه أغلقَ بابه دون الناس، فأحرقا بابه- وكان يأمر بذلك-، قال: فقدما، فسألا عنه، فوجداه قد صدق عليه، فاستأذنا ببابه، فقيل: إنه ليس عليه إذن، فقالا: ليخرجنَّ إلينا، أو لنحرقنَّ بابه، وجاء أحدُهما بشعلة من نار، فلما رأى ذلك حاجبُه، أخبره، فخرج إليهما، فقالا: إنا رسولا عمر لتأتيه، فقال: إن لي حاجة حتى نتزود، قالا: ما أنت بالذي تأتي أهلك، فاحتملاه، فأتيا به عمرَ، فسلم عليه، فقال: من أنت ويلك؟ قال: عاملُك علي مصر -وكان قد ابيضَّ وسَمِنَ من ريف مصر-، قال: استعملتُك، وشرطتُ عليك شروطًا، فتركتَ ما أمرتُك به، وانتهكْتَ ما نهيتتُك عنه، أما والله! لأعاقبنَّك عقوبةً أبلغ إليك فيها، ائتوني بدرَّاعة من كساء، وعصا، وثلاثِ مئةِ شاةٍ من شاءِ الصدقة، فقال: البسْ هذه الدرَّاعة، فقد رأيت

ص: 195

أباك، وهذه خيرٌ من دراعته، وهذه خيرٌ من عصاه، ودفع إليه العصا، وقال: اذهب بهذه الشياه، فارعَها في مكان كذا وكذا، وذلك في يوم صائف، ولا تمنعِ السابلةَ من ألبانها ولحومِها شيئًا، واعلم أنا آلَ عمر لم نصب من شاء الصدقة، ولا من ألبانها ولحومها شيئًا. فلما ذهب، ردّه، فقال: أفهمتَ ما قلتُ لك؟ وردَّد عليه الكلام ثلاثًا، فلما كان في الثالثة، ضرب بنفسه الأرض بين يديه، وقال: ما أستطيع ذلك، فإن شئتَ، فاضربْ عنقي. قال: فإن رددتُك إلي عملك، أيَّ رجلٌ تكون؟ قال: لا ترى مني إلا ما تحبُّ، فردّه، فكان خيرَ عامل (1).

وهكذا ينبغي للسلطان أن ينتقد عمّاله.

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا ابنُ ناصرٍ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبار، وعبدُ القادرِ بنُ محمّدٍ، قالا: ثنا أبو إسحاقَ البرمكيُّ، أنا أبو بكرِ بنُ بخيتٍ، أنا أبو جعفرِ بنُ ذريحٍ، ثنا هَنّادٌ، ثنا أبو معاويةَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي عثمانَ، قال: استعمل عمرُ بنُ الخطاب رجلًا من بني أسدٍ علي عمل، فدخل ليسلِّمِ عليه، فأتى عمرُ ببعض ولده، فقبَّله، فقال له الأسدي: أتقبِّلُ هذا يا أمير المؤمنين؟ فواللهِ! ما قبلت ولدًا لي قَطّ. فقال عمر: فأنتَ واللهِ بالناسِ أقلُّ رحمة، لا تعملُ لي عملًا، فردّ عهده (2).

وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ، ثنا

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 119 - 120).

(2)

رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 120). ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(ص: 48) نحوه.

ص: 196

أبو الحسينِ بنُ الطيوريِّ، ثنا الحسينُ بنُ عليٍّ الطباشيريُّ، أنا أبو جعفرٍ السلميُّ، أنا أبو بكرٍ الباغنديُّ، ثنا عثمانُ بنُ أبي شيبةَ، ثنا الفضلُ بنُ دُكَيْنٍ، عن حمادِ بنِ زيدٍ، عن أيوبَ، عن ابنِ سيرينَ، قال: قال عمرُ بنُ الخطاب: والله! لأنزعنّ فلانًا عن القضاء، ولأستعملن على القضاء رجلًا إذا رآه الفاجر، فَرِقَه.

وروي: أن عمرَ وجَد على بعض عماله، فترامى على زوجةِ عمرَ، فقالت له: يا أمير المؤمنين! فيمَ وجدْتَ عليه؟ فقال: يا عدوةَ الله! فيما أنت وهذا؟ إنما أنتِ لعبةٌ يلعب بك، وتتركين (1).

وروينا عن الحسنِ: أن عمرَ قال: إن عشتُ، لأسيرنَّ في الرعية حولًا، وأعمل للناس، فإن حوائجهم تقطع عني آمالهم، فلا يصلون إليّ، وعمالُهم لا يرفعونها إليّ، أسيرُ إلي الشام، فأُقيم بها شهرين، ثم أسير إلي مصر، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلي البحرين، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلي الكوفة، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلي البصرة، فأقيم بها شهرين (2).

وروينا عن زيد بن وهب (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأنجس من فعلهم هذا وأقبح: أنهم قد استعملوا الحطّ على بعضهم والذمَّ، يدخل أحدُهم على الأتراك، فيذكر رفيقه أو غيره، حتى

(1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 121).

(2)

رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر"(ص: 121).

(3)

حصل في الأصل الخطي خرم بين هذا الموضع والموضع الذي يليه، فجاء في اللوح (82 / أ):"وروينا عن زيد بن وهب"، ثم جاء في (82 / ب) من اللوح نفسه، في أوله: "وأنجس من فعلهم هذا

"، ويقدر هذا السقط بعشرين لوحًا.

ص: 197

ولو كان من خير الناس وأعلمِهم، فيذمُّه ويحقِّره، ويقع فيه بالنقائص و [الشتم] حتى لايجعله مسلمًا، فأوجبَ ذلك لهم منهم المقتَ والبعدَ، والطمعَ فيهم، والازدراء لهم؛ بحيث إن الفقهاء قد صاروا عندهم أنجسَ خلق الله، وأبخسه، ولو أن أهل العلم صانوه، صانهم، ولو عظّموه في النفوس، لَعُظّم.

أخبرنا جَدِّي، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ، أنا عبدُ الله بن أحمدَ، حدثني أبي، ثنا مؤمل بنُ إسماعيلَ، ثنا حَمَّادُ بنُ سلمةَ، ثنا داودُ بنُ أبي هندٍ، عن الشعبيِّ، عن جابرِ بنِ سَمُرَةَ، قال: سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " يَكُونُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ اثْنَا عَشَرَ خَلِيَفَةً"(1).

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا وكيعٌ، ثنا الأعمشُ، عن سهلٍ أبي الأسدِ، عن بكرٍ الجزريِّ، عن أنسٍ، قال: كنا في بيت رجلٌ من الأنصار، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بِعِضادَتَي الباب، فقال:"الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقٌّ، وَلَكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِذَا اسْتُرْحِمُوا، رَحِمُوا، وَإِذَا حَكَمُوا، عَدَلُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا، وَفَوْا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"(2).

(1) رواه الإمام أحمد في "مسنده"(5/ 106).

وروى مسلم (1821)، كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، نحوه.

(2)

رواه الإمام أحمد في "مسنده"(3/ 183)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5942). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 192): رجاله ثقات.

ص: 198

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا حسنُ بنُ موسى، ثنا سكينُ بنُ عبدِ العزيزِ، عن سيارِ بنِ سلامةَ أبي المنهالِ الرياحيِّ، قال: دخلتُ مع أبي على أبي بَرْزَةَ الأسلَمِيِّ، وإن في أذني يومئذٍ لَقُرطين، وإني لغلام، قال: فقال أبو برزة: إني أحمدُ الله أني أصبحت لائمًا لهذا الحيِّ من قريش، فلانٌ ههنا يقاتل على الدنيا، وفلان ههنا يقاتل على الدنيا، وفلان ههنا يقاتل على الدنيا -يعني: عبد الملك بن مروان-، قال: حتى ذكر ابنَ الأزرق، قال: ثم قال: إن أحبَّ الناسِ إليّ لهذه العصابةُ المائدة، الخميصةُ بطونُهم من أموال المسلمين، والخفيفةُ ظهورُهم من دمائهم، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِمْ حَقٌّ، وَلَكُمْ عَلَيْهمْ حَقٌّ فَافْعَلُوا -ثلاثًا- مَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا، وَاسْتُرْحِمُوا فَرَحِمُوا، وَعَاهَدُوا فَوَفَوْا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لعنةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"(1).

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا سليمانُ بنُ داود، ثنا سكينٌ، ثنا سيّارُ بنُ سلامةَ، سمع أبا برزةَ، يرفعُه إلي النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الأئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذَا اسْتُرْحِمُوا رَحِمُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِذَا حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"(2).

(1) رواه الإمام أحمد في "مسنده"(4/ 424)، وأبو يعلي في "مسنده" (3645). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 193): رجال أحمد رجال الصحيح خلا سكين بن عبد العزيز وهو ثقة.

(2)

رواه الإمام أحمد في "مسنده"(4/ 421)، والروياني في "مسنده"(768).

ص: 199

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا حسنٌ، ويحيى بنُ إسحاقَ، ثنا ابنُ لَهيعةَ، قال: حدثنا خالدُ بنُ أبي عمرانَ، عن القاسمِ بنِ محمّدٍ، عن عائشةَ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ "، قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال:"الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لأنْفُسِهِمْ"(1).

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا يحيى، عن عبيدِ الله، أخبرني نافعٌ، عن ابنِ عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَي الْمَرْءِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ"(2).

وبه إلي عبدِ الله بنِ الإمامِ أحمدَ، ثنا عبيدُ الله بنُ عمرَ القواريريُّ، ثنا ابنُ مهديٍّ، عن سفيانَ، عن زبيدٍ، عن سعدِ بنِ عُبيدة، عن أبي عبدِ الرحمن السلَميِّ، عن عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ"(3).

(1) رواه الإمام أحمد في "مسنده"(6/ 67)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 16)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(11139). قال أبو نعيم حديث غريب، تفرد به ابن لهيعة عن خالد.

(2)

رواه الإمام أحمد في "مسنده"(2/ 17)، ومسلم (1839)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية.

(3)

رواه الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 131). وروى نحوه مسلم (1840)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية.

ص: 200

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ جعفرٍ، ثنا شعبةُ، عن محمّدِ بنِ أبي يعقوبَ، سمعت شقيقَ بنَ حيّانَ يحدِّثُ عن مسعودِ بنِ قَبيصَة، [أو قبيصة] بنِ مسعودٍ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّهُ سَتُفْتَحُ لَكُمْ مَشَارِقُ الأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَإِنَّ عُمَّالَهَا في النَّارِ، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ"(1).

أخبرنا جدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا ابنُ طبرزذ، أنا أبو الفتح الدُّوميّ، أنا أبو بكرٍ الخطيبُ، أنا أبو عمرَ الهاشميُّ، أنا أبو عليٍّ اللؤلؤيُّ، أنا أبو داودَ، ثنا موسى بنُ عامرٍ، ثنا الوليدُ، ثنا زهيرُ بنُ محمّدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيه، عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِالأمِيرِ خَيْرًا، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ، إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ"(2).

• • •

(1) رواه الإمام أحمد في "مسنده"(5/ 366)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 85): فيه مسعود وشقيق بن حبان وهما مجهولان.

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 199) عن الحسن مرسلًا.

(2)

رواه أبو داود (2932)، كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: في اتخاذ الوزير، قال النووي في "رياض الصالحين" (ص: 144): إسناده جيد على شرط مسلم.

ص: 201