المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وأما إن أَمَر الناسَ بالمعاصي: فلا تجب طاعتُه في ذلك، - إيضاح طرق الإستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة

[ابن المبرد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌الباب الأوّلفي مسميات الحكام والولاة وما يتعلق بذلك

- ‌أول مُسَمَّيات كبير الحكام: الملك:

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثّانيفي شروط الولاة والحكم، ومَنْ يَصْلُح للولاية

- ‌شروط عامة:

- ‌فروع تتعلق بذلك:

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فروع

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌ فصل

- ‌ فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثّالثفي فضل الولاية وثوابها لمن عَدَلَ وبَرَّ

- ‌يشترط للعدل عشرون شرطًا:

- ‌الباب الرّابعفي الخوف منها، وإثم الجَور والظُّلم

- ‌[الباب السَّادسفيما لكل واحد من الحق والطاعة، ومن لا تجب طاعته]

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب السَّابعفي أئمة جور أخبرنا عنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وما ذكر من ظهور الجور

- ‌الباب الثّامنفي أموال المسلمين وبلادهم وما يباح للإمام والحكام من ذلك وما يمنع منه

- ‌الأموال التي تؤخذ منها الزكاة

- ‌فصل

- ‌الباب التّاسعفيمن تمنى ذلك، ومن كرهه، وفرّ منه

- ‌فصل

- ‌الباب العاشرفي ذكر جماعة من الخلفاء والملوك ومُدَدهم وأخبارهم

- ‌ حكام الإسلام

- ‌فصلفي دولة بني العباس

الفصل: وأما إن أَمَر الناسَ بالمعاصي: فلا تجب طاعتُه في ذلك،

وأما إن أَمَر الناسَ بالمعاصي: فلا تجب طاعتُه في ذلك، فلا طاعةَ في ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج، ولا ارتكاب المعاصي: فلا طاعةَ في قتل نفسٍ محرَّمَة، ولا زِنًا، ولا شربِ خمر، ولا معاملةٍ بالربا، ولا لِواطٍ، ولا اكلِ أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك.

‌‌

‌فصل

وعلي الناس نصرةُ الإمام، والقتالُ معه، والنصحُ له، والدعاءُ له، وكذلك عليه النصحُ لهم، وعدمُ الغش، والذبُّ عنهم، ورحمتُهم جهده.

فصل

وأفضلُ الشهداء كلمةُ حَقٍّ بين يَدَيْ سلطانٍ جائر، فكان فيه حتفُه، كما روينا ذلك في الحديث (1)، وقد ذكرنا على أنه لا ينكر على الإمام إلا موعظة.

وقد روينا: أن رجلًا جاء إلي بعض الخلفاء، فقال له: إني أريد أن أكلمك كلامًا فيه غِلْظَة، فاحتملْه لي، فقال: لا ولا نعمةَ عينٍ ولا كرامةَ؛ فإن الله عز وجل بعث مَنْ هو خيرٌ منك إلي من هو شرٌّ مني، وأمرَه أن يكلمه كلامًا لَيِّنًا (2).

(1) رواه أبو داود (4344)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، واللفظ له، والترمذي (2174)، في الفتن، باب: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، وابن ماجه (4011)، كتاب: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن غريب.

(2)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 172)، والموعوظ هو =

ص: 204

وقد أخبرنا جدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا أبو عبدِ الله بنُ راجحٍ، أنا السلفيُّ، أنا أبو الحسنِ العلاّفُ، ثنا أبو الحسنِ الحماميُّ، ثنا أبو بكرٍ الموصِليُّ، ثنا محمّدُ بنُ معدانَ، ثنا أبو عمرٍو النحويُّ، عن الفضل بنِ الربيعِ، قال: بينا أنا ذاتَ ليلة في منزلي بمكة، إذ أتاني رجلٌ، فدقّ بابي، فخرجت، فإذا أنا بهارون، فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أرسلتَ إليّ حتى آتِيَك، قال: ويحك يا عباسي! إنه حاك في صدري شيء، فهل تعرف لي أحدًا من العلماء؟ فقلت: نعم، سُفيان بنُ عُيينة، قال: وهو شاهد؟ قلت: نعم، فانطلقنا إليه، فدققتُ عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجبْ أميرَ المؤمنين، فخرج مسرِعًا، فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلتَ إليّ حتى آتيَكَ، قال: خذ لما جئناكَ له، فحدَّثه ساعة، ثم قال له: يا ابنَ عُيينة! أعليك دَيْن؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، قال: يا عباسي! اقضِ دينه. فخرجنا من عنده، فقال لي: يا عباسي! ما أغنى عني صاحبُك شيئًا، فهل تعرف لي غيرَه؟ قلت: نعم، عبدُ الرزاق الصنعانيُّ، فدققتُ الباب، فقال لي: من هذا؟ فقلت: أجبْ أميرَ المؤمنين، فخرج مسرعًا، فقال مثلَ ما قال سفيانُ، فقال: خذ لما جئناك له، فحدَّثه ساعة، فقال: يا عبد الرزاق! أعليك دَيْن؟ قال: نعم، قال: يا عباسي! اقض دينه. قال: فخرجنا، فقال: يا عباسي! ما أغنى صاحباك شيئًا، فهل تعرف غيرَهما؟ قلت: نعم،

= هارون الرشيد عندما كان يطوف بالبيت، وكذا ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية"(10/ 217).

ص: 205

ههنا فُضيل بنُ عياض، قال: وشاهد هو؟ قلت: نعم، قال: فأتينا فضيلًا، فإذا هو في غرفة له قائمٌ يصلي يتلو آية من القرآن، فجعل يردِّدها، فجعل هارونُ يستمع ويبكي، وكان هارون رجلًا رقيقًا، قال: فدققتُ عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجبْ أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ قلت: رحمك الله، أوما عليك طاعة؟ قال: أو ليسَ قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لِلْمُومِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ"؟ فنزل ففتح الباب، ثمّ طلع الغرفة، فأطفأ السراج، ثمّ التجأ إلي زاوية من زوايا الغرفة، قال: فجعلتُ أجول أنا وهارون في البيت بأيدينا، فسبقت كفُّ هارون كفي إليه، فسمعتُه وهو يقول: أوّه من كَفٍّ ما ألينَها إن نجتْ غدًا من عذاب الله تعالي، قال: فعلمتُ أنه سيكلمه بكلام نقي من قلب نقي، قال: خذ لما جئناك له، فقال: يا أمير المؤمنين! لما ولي عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الخلافةَ دعا سالمَ بنَ عبدِ الله بنِ عمر رضي الله عنهم، ومحمّدَ بنَ كعبٍ القرظيَّ، ورجاءَ بنَ حيوةَ الكنديَّ. فقال: ويحكم! إني قد بُليتُ بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافة بليةً، وعَدَدْتَها نعمةً أنت وأصحابُك، فقال: سالم بنُ عبد الله: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله عز وجل، فصم [عن] الدنيا، وليكن إفطارُك منها الموت.

وقال له محمّدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله عز وجل، فليكن كبيرُ المسلمين عندك أبًا، وأوسطُهم عندك أخًا، وأصغرُهم عندك ولدًا، فأكرِمْ أباك، ووقّرْ أخاك، وتحنّنْ على ولدِك.

ص: 206

وقال له رجاءُ بنُ حيوةَ: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله عز وجل، فأحبَّ للمسلمين ما تحبُّ لنفسك، واكرهْ لهم ما تكرهُ لنفسك، ثم مُتْ إذا شئت.

وإني أقول لك هذا، وإني لأخافُ عليك أشدَّ الخوف من يومٍ تزلُّ فيه الأقدام، فهل معك مثلُ هذا -رحمك الله-، أو من يأمرُك بمثل هذا؟ فبكي هارونُ حتى غُشي عليه. فقلت له: ارفقْ بأميرِ المؤمنين -رحمك الله-، فقال: يا بن أم الربيع! تقتلُه أنت وأصحابُك، وأرفُقُ به أنا؟! قال: فأفاق هارون، ثم استوى جالسًا، فقال: زدني، فقال: يا أمير المؤمنين! بلغني أن واليًا لعمرَ بنِ عبد العزيزِ شُكي إليه، فكتب إليه: يا أخي! أذكّرك طولَ سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإنَّ أجلك يطردُك إلي الموت نائمًا ويقظانًا، وإياكَ أن ينصرف بك من عند الله عز وجل، فيكون آخر العهد، وينقطع الرجاء. فلما قرأ الكتاب، طوى البلاد حتى قَدِم على عمر، فقال: ما أقدمَكَ؟ قال: قد خلعْتَ قلبي بكتابك، ولا أعودُ إلي ولاية حتى ألقي الله عز وجل. فبكي هارون حتى غُشي عليه، ثم استوى جالسًا، فقال: زدني- يرحمك الله-، قال: إن أباك عمَّ المصطفي صلى الله عليه وسلم سأل المصطفي صلى الله عليه وسلم: فقال: أمِّرْني، فقال:"يَا عَبَّاسُ! يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ! نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْر مِنْ إِمَارَة لَا تُحْصِيهَا؛ فَإِنَّ الإِمْرَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال: زدني، قال: يا حسن الوجه! أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجهَ الحسنَ من النار، فافعل، ولا تصبح وتمسي وفي قلبك لأحدٍ

ص: 207

من أهل ولايتك غِشّ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ [شَيْئًا]، فَأَصبَحَ لَهُمْ غَاشًّا، لَمْ يَرحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ".

قال: رحمك اللهُ! هل عليك دَيْن؟ قال: نعم، دين لربي تبارك وتعالى لم يحاسبني بعدُ، فويل لي إن ناقشني، وويلٌ لي إن ساءَلَني، وويلٌ لي إن وافقني، وويلٌ لي إن لم أُلْهَم حجتي.

قال: أُعفيكَ من دين العباد؟ قال: لا، لأن عندي خيرًا كثيرًا لا أحتاج معه إلي ما في أيدي الناس. قال أبو عمر: كأنه يعني القرآنَ والسننَ والدعاء.

قال: فهذه ألفُ دينار خذْها تستعين بها على عيالك وزمانك، وتوسِّع بها عليهم، قال: إن ربي عز وجل لم يأمرني بهذا، أمرني أن أُطيع أمره، وأصدّق وعدَه، وقد قال- تبارك وتعالي-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، فراجعَه، فقال: يا هذا! أنا أصفُ لك طريقَ النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟! ثم صَمَتَ فلم يردَّ علينا شيئًا حتى خرجْنا من عنده، فقال هارون: يا عباسي! إذا دَلَلْتَنى، فدلّني على مثلِ هذا، هذا سيدُ المسلمينَ اليومَ (1).

وقد قرأتُ هذه الحكايةَ على الشيخْ شهابِ الدين بنِ هلالٍ، فكتب لي بخطه: عن ابنِ المحبِّ، عن النابلسي، عن الواسطيِّ، عن الشيخ موفقِ الدين، وبعضهم ينكر ذلك.

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 105 - 108)، والبيهقي في "شعب الإيمان":(7425 - 7426).

ص: 208

وقرأ بها على الشهاب بن الشريفة، عن المشايخ الثلاثة، أنا شيخُ الإسلام بنُ أبي عمر وغيرُه، أنا شيخُ الإسلام موفقُ الدينِ، أنا محمد، ثنا أحمدُ، ثنا سليمانُ بنُ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ زكريا الغلابيُّ، ثنا أبو عمرَ الحرميُّ، ثنا الفضلُ بنُ الربيع، فذكره، وفيه: أن هارون قال له: هذه ألفُ دينار خذْها لك، فأنفقها، وتقوَّ على عبادة ربك، فقال: يا سبحان الله! أدلُّك على النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟! سلَّمك الله، ووفقك، ثم صَمَتَ فلم يكلِّمنا، فخرجنا من عندِه، فلمَّا أَنْ صرنا من عندِه على الباب، قال لي هارون: يا عباسي! إذا دَلَلْتَني على رجلٌ، فدُلَّني على مثلِ هذا، هذا سيدُ المسلمين اليوم.

قال غيرُ أبي عمَر: فبينما نحن كذلك، إذ دخلَتْ عليه امرأةٌ من نسائه، فقالت: يا هذا! قد ترى سوءَ ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلْتَ هذا المال، تَفَرَّجنا به، فقال: مثلي ومثلُكم كمثل قوم لهم بعير يأكلون من كَسْبه، فلما كبر، نحروه، وأكلوا لحمَه، فلما سمع هارونُ الكلام، قال: نرجعُ، فنسعى أن يقبل المال، قال: فدخل، فلمّا علم فُضيلٌ، خرج، فجلس على تراب في السطح على باب الغرفة، فجاء هارونُ فجلس إلي جنبه، فجعل يكلِّمه، فلم يجبهُ، فبينما نحن كذلك، إذ خرجت جاريةٌ سوداءُ، فقالتْ: يا هذا؟ لقد آذيتَ الشيخَ منذُ الليلة، فانصرِفْ -رحمك الله-، قال: فانصرفْنا (1).

(1) رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1/ 366 - 367)، وابن عساكر من طريقه في "تاريخ دمشق"(48/ 437 - 440) مختصرًا، وابن قدامة في "التوابين" (ص: 164 - 170). =

ص: 209

أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أنا أبو عبدِ الله القرشيُّ، أنا أبو الحسنِ الغسّانيُّ، أنا ابنُ أبي الحديدِ، أنا جَدِّي، أنا ابنُ زَبْرٍ، ثنا أبو عمرانَ الجونيُّ، ثنا ابنُ أخي الأصمعيِّ، قال: حدثني عمي، قال: كنت عند أمير المؤمنين الرشيد، ومعنا سعيدُ بنُ سلم، فلما كان نحوُ نصفِ النهار، انصرفنا، فإذا نحن بيهوديين ضريرين، أحدُهما يقود صاحبه، فقال أحدُهما للآخر -وليس يعلم أن أحدًا يسمع كلامهما-: ويحك! قد أفرح سيدي الحرسي قلوبَ الخلق، فقل معي: يا حليمُ ذو أناةٍ لا تعجَلْ على الخاطئين، وإنما تؤخِّرهم إلي يومٍ تشخَصُ فيه الأبصار، لا طاقةَ لنا بسَعَةِ حِلْمِك عن سيدي الحرسيِّ، وأنت العليمُ الحكيم. قال الأصمعي: فقلتُ لسعيد: هل سمعتَ؟ قال: قد سمعتُ، قال الأصمعي: فلمَّا وصلتُ إلي منزلي، رميتُ ثيابي لأستريح، فإذا رسولُ الخليفةِ يدعوني إليه، فراعَني ذلك، وصرتُ مع الرسول، فإذا هو جالسٌ في مجلسه ذلك، فقال لي: لا تُرَعْ، إنكم لمّا نهضتم، غفوتُ، فإذا قائل يقول لي: اعزلْ سيدي الحرسيَّ عن رقابِ الناس، وسلِ الأصمعيَّ عمّا سمع، قال: فحدثتُه الحديث، فظهر عليه من الخشوع والجَزَع شيء عظيم، وعلم أنها دعوةٌ استجيبت من وقتها، وبعث فأشخص إلي حرسيٍّ، فضربه ألفَ سوط، ثم أخذ صفَة اليهوديين، وأمر بطلبهما من بغدادَ كلِّها، ومساءلة اليهود عنهما، فلم يعرفوهما، ولا سُمع لهما بذكر، ولا بمعرفة.

قلت: إنما هما مَلَكان تمثّلا في تلك الصورة، والله أعلم.

ص: 210

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ البالسيِّ وغيرُه، أنا الحافظُ المِزِّيُّ، أخبرتنا ساميةُ بنتُ البكريِّ، أنا ابنُ طبرزذ، أنا أبو القاسمِ السمرقنديُّ وغيرُه، قالوا: أنا أبو الحسينِ بنُ النقّورِ، أنا أبو الطاهرِ المخلصُ، ثنا أبو الحسنٍ الصيدلانيُّ، حدثني أبو الهيثمِ الغنويُّ، ثنا الرياشيُّ، ثنا شيبانُ بنُ فرُّوخَ، قال: وفدَ على عمر رضي الله عنه وفد، قال: وكان منهم شابٌّ، فتكلم الشابُّ، فنظر إليه عمَر، فحدَّد النظر، ثم قال: الكبرُ الكبرُ، قال الشابُّ: يا أميرَ المؤمنين! ليس بالكبير ولا بالصغير، ولو كان بالكبر، لقد كان في الناس من هو أكبرُ منك، قال: صدقت، فتكلم، قال: ما جئناك لرغبةً ولا لرهبة، قال: فنظر إليه عمرُ -أيضًا-، فقال: أما الرغبةُ، فقد أتتنا في منازلنا، وأما الرهبةُ، فقد أمِنَّا جَوْرَكَ، ولكنّا وفدُ الشكر، قال: فسُرِّيَ عن عمرَ، وقال: ناقتي إذًا لك عقلًا فظني، فقال: إن قومًا أكثروا بالله فيك، فأثْنَوْا عليكَ بما ليس فيك، فلا يَغْرُرْك اغترارُهم بالله فيك عمّا تعرفُه من نفسك. قال: فبكي عمر رضي الله عنه حتى سقط (1).

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أنا أبو محمّدٍ الحلوانيُّ، أنا أبو عليٍّ النَّسَفِيُّ، أنا أبو أحمَد المطوّعيُّ، أنا أبو بكرٍ محمّدُ بنُ الفضلِ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدٍ، ثنا أبوالفضلِ محمّدُ بنُ داودَ، ثنا محمّدُ بنُ عبس، ثنا سفيانُ بنُ عُيينةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال: كان رجلٌ ينادي:

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(68/ 195 - 196).

ص: 211

لا تظلموا الناس عبادَ الله، واتقوا دعوةَ المظلوم، قال: فقيل له: ما قصتك؟ قال: كنتُ رجلًا شرطيًا، فمررت بصياد يصيد، وقد صاد سمكة، فساومته بها، فأبى أن يبيعها مني، فضربتُه، وأخذتُ منه السمكةَ، فبينما هي معلقةٌ، إذ وثبتْ فعضَّتْ على إصبعي، فلما بلغتُ المنزلَ، إذا فيها قُرْحَةٌ منكر، وكان لنا جارٌ ينظر في القروح، فأريتُها إياه، فقال: اقطعها من المفصل، وإلّا دبَّت في يدك، فإنها أكلةٌ، قال: فقطعتُها، فدبّت في ظهر الكفِّ، فقال: اقطعه، فقطعته، فدبّت في ساعدي، قال: اقطعها، فقطعتُها من المرفَقِ، فدبّت في العَضُد، فأتاني آتٍ في منامي، فقال لي: دواؤك عند من ظلمتَهُ، فأتيت الصيادَ، فجلستُ بين يديه وأنا أبكي، فقلت له: حَلِّلْني؛ فقد أصابني من أجلِك هذا، قال: فأخذ الرجلُ يبكي، وقال: اللهمَّ إني جعلتُه في حِلّ، قال: فرأيتُ الدودَ يتناثر من يدي، ثم قال لابنٍ له: احفرْ زاوية البيت، قال: فحفرَ، فأخرج منها جرّةً فيها عشرةُ آلاف درهم، فقال: خذها أنفقْها على نفسك وعيالك، قال: فأخذتُها، وعوفيتُ، فقلت له: هل دعوتَ عليَّ حينَ أوجعتُك وأخذتُ السمكةَ منك؟ قال: نعم، قلت: يا ربّ! خلقتَ هذا قويًا، وخلقتني ضعيفًا، فأَحِلَّ به عقوبةً في الدنيا تكون نكالًا، فهو ما رأيتَ (1).

أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أنا أبو القاسم زنكي، أنا أبو على العلويُّ، حدَّثه: أن أبا محمّدٍ وزيرَ أبي الحسنِ بنِ بُوَيْه - وكان من أفاضل الوزراءِ

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 63 - 64) نحوه.

ص: 212

وأتقاهم- ركب يومًا في شدة البرد في الشتاء، فرأى في شاطئ دجلةَ صيادًا قائمًا في الماء بيده شبكةٌ، فقال لحاجبه: هذه مئةُ دينارٍ احملْها إليه، فإنه لم يخضِ الماء في هذا البرد الشديد إلا لضرورة، وقل له: استعنْ بهذه الدنانير، وانصرفْ إلي أهلك، فجاء الحاجبُ، وصاح به، فلم يُجبه، وتزاحم الناس على الشاطئ للنظر، فقرب الحاجب منه، وسلَّم عليه، وقال له: أثقيلُ السمع أنت يا رجلُ؟ فلم يلتفتْ إليه، وقال: أنا صحيحُ الجوارح والجسد، وقال: وقد ازدحم الناس يتصايحون، وأنت مطرقٌ رأسَك لا تبالي، فقال: هؤلاء بطّالون فيما لا تحتاج إليه، وما لي في ذلك من حاجة، فقال الحاجب: إن مولانا رآكَ على هذه الحالة، فرحمَكَ، وأمر لك بهذه الدنانيرِ مئة صحاح، فقال: ومَنْ مولاك يا عبد الله؟ قال: مولاي الوزيرُ أبو محمد، قال: بل مولانا ومولاه الله تعالي، أمّا رحمتُه إيّاي، فأنا أَوْلي أن أرحمه؛ لأنه اجتمع عليه أثقال هذه الأعمال في الدنيا، وأوزارُها في الآخرة، وأمّا ما أنفذَ إليّ، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يريدَ اللهَ تعالي، أو الرياءَ والسمعةَ، فإن أراد اللهَ تعالي، فليردَّ [هُ] على الذين عفتهم حقوقهم، وإن أراد الرياءَ والسمعة، فليفرِّقْها في مئة نفر، فتظهر في الأسواق، ويكون أعظم لذكره وأكثرَ؛ فإني رجلٌ خاملٌ، ولا حاجة لي فيها، وأنا من ربي بخير، فأراد الحاجبُ أن يجيبه، فلم يلتفت إليه، ولم يسمع كلامه، وانصرف الحاجب بالدنانير منكسِرًا خائبًا، ولم يقبل منه شيئًا.

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا أبو محمّدٍ عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ الواحدِ، وجَدِّي أبو العباسِ، قالا: أنا عبدُ الله

ص: 213

الخشوعيُّ، أنا أبي أبو طاهرٍ، أنا أبو محمّدِ بنُ الاكفانيِّ، أنا أبو محمّدٍ الكتانيُّ، أنا أبو بشرٍ المزنيُّ، أنا ابنُ زبرٍ، أنا أبي، قال: ذكر عبدُ الجبارِ بنُ سعيدٍ، عن أبيه، عن محمّدِ بنِ إبراهيمَ، قال: حضرت أبا جعفرٍ المنصورَ بالمدينة، وعنده ابنُ أبي ذئبٍ، فقال له أبو جعفرٍ: يا بن أبي ذئب! أخبرْني بحالات الناس، فقال: يا أمير المؤمنين! هلك الناس، وضاعت أمورُهم، فلو اتقيتَ الله فيهم، وقسمتَ فيهم فيئهم. قال: ويلَكَ يا بن أبي ذئب! لولا ما بعثنا بذلك الفيء من البعوث، وسددنا به من الثغور، لأتيت في منزلك، وأُخذت بعنقك، وذُبِحْتَ كما يُذبَح الجمل. فقال ابن أبي ذئب: يا أمير المؤمنين! قد بعثَ البعوثَ، وسدَّ الثغورَ، وقسم فيهم فيئهم غيرُك، قال: وَيْلَكَ! ومن ذاك؟ قال: عمرُ بنُ الخطاب. قال: فأطرق أبو جعفرٍ إطراقةً، ورفع رأسه، وقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عملَ لزمانٍ، وعملنا لغيره. فقال: يا أمير المؤمنين! إن الحقَّ لا ينقلُه الزمانُ عن مواضعه، ولا يغيرُهُ عن وجهه. قال: أحسبُكَ يا بن أبي ذئبٍ طعَّانًا على السلطان؟ قال: لا تقلْ ذلك يا أمير المؤمنين، فوالذي يُمسِكُ السماءَ أن تقع على الأرض إلا بإذنه، لَصلاحُكَ أحبُّ إليَّ من صلاح نفسي، وذاك أنَّ صلاحي لنفسي لا يَعْدوها، وصلاحك لجميع المسلمين. قال: فأطرق أبو جعفر، وإن المسيب والحرس قيامٌ على رأسه بأيديهم السيوفُ المسللةُ. قال: ثم رفع رأسه، وقال: من أراد أن ينظر إلي خير أهلِ الأرض اليومَ، فلينظرْ إلي هذا الشيخ -وأومأ إلي ابن أبي ذئب-. قال: فقلت في نفسي: أشهدُ أن الله وليُّ الذين آمنوا، وهو منجي المتقين.

ص: 214

وبه إلي ابنِ زبرٍ، أنا أبي، أخبرني عبدُ الله بنُ مسلمٍ، عن أحمدَ بنِ يحيى، عن محمّدِ بنِ إدريس الشافعيِّ، قال: قدم أبو جعفرٍ المنصورُ المدينةَ حاجًّا، فأتته الوفودُ من كل بلد يشكون إليه الأمراءَ، فأتاه أهلُ اليمن يشكون معنَ بنَ زائدة، وأتاه بنو أبي عمرو الغفاريِّ من أهل المدينة يشكون أميرهم الحسنَ بنَ زيد، فقال وفدُ اليمنِ لأبي جعفر المنصور -وقد أحضر ابن أبي ذئب والعلماء-: يا أمير المؤمنين! إن معن بنَ زائدة قد تعدَّى علينا، وأساء فينا السيرةَ، وقد رضينا بابن أبي ذئب، فقال له أبو جعفر: ما تقولُ في معنِ بنِ زائدةَ؟ قال: قَوْلي فيه وعلمي به أنه عدوُّ الله، يقتل المسلمين بغير حق، والمعاهَدين، ويحكم بغير ما أُنزل، ويفسد العبادَ والبلاد. قال: ثم تقدَّمَ الغفاريون يشكون الحسنَ بنَ زيدٍ وسيرتَه فيهم، وقالوا: قد رضينا بابن أبي ذئب، فأطبق عليه ابنُ أبي ذئب، وذكره بسوء. فقال الحسنُ بنُ زيدٍ: يا أمير المؤمنين! قد ذَكَرني بما قد ذَكَر، فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يسأله عن حال أمير المؤمنين عندَه، فقال أبو جعفر: ما تقول فيَّ يا بن أبي ذئب؟ فقال: أَعْفِني، قال: عزمْتُ عليك، قال: أَعْفِني، قال: لستُ أفعل، قال: فبكي ابنُ أبي ذئب، ثم قال: تسألُني عن نفسِك، أنت أعلمُ بنفسك مني، وما عسى أن أقولَ فيك مما فيك؟ أنت -واللهِ- الرجلُ الذي اتزرت المسلمين أمرَهم، ظلمتَهم، واعتديتَ عليهم، وسفكتَ الدماءَ الحرام، وأخذتَ الأموالَ من غير حِلِّها، ووضعتَها في غير حَقِّها، وأهلكتَ المسلمينَ والفقراء، واليتامى والمساكين.

قال محمّدُ بنُ إبراهيم: وبين يَدَي أبي جعفر عمودٌ، فجمع الناسُ

ص: 215

عليهم ثيابهم مخافةَ أن تتلطَّخ عليهم من دمه ودماغه، فلم يهجْه بشيء، وانصرف الناس.

فقال عمُّ أبي جعفر له: يا أمير المؤمنين! إن هذا المجلس قد حضره أهلُ الآفاق، وينصرفون إلي البلاد، فيخبرون بما كان إلي أمير المؤمنين من الجرأة، فلو قتلتَ هذا الكلبَ، لئلا يجترئ عليك غيرُه من الناس، فقال له أبو جعفر: ويحكَ! هذا رجلٌ قد بلغت منه صعوبةُ العبادة، وقد سمعَ الحديثَ:"إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ قَالَهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، فَقُتِلَ عَلَيْهَا"، فطمع أني أقتلُه، فيصير إلي الجنة، وأُريحه مما هو فيه من صعوبة العبادة، ولا والله! ما أهيجه أبدًا حتى يموتَ أو أموتَ.

وبه إلي ابنِ زبرٍ، أنا أبي، ثنا عبد الله بنُ مسلمٍ، عن داودَ بنِ أبي العباس، عن أبيه، عن جدِّهِ، قال: بعث بي المنصورُ إلي ابنِ أبي ذئبٍ أسألُه عن مسألة، فقال: ما هي؟ فذكرتها له، فقال: لا يراني الله عز وجل أُفتي جبارًا مثلَه في مسألة فيها ضررٌ على المسلمين، قال: فرجعتُ إلي المنصور مُغْضَبًا، فعرف في وجهي ذلك، فقال: لقد جئتَ بغير الوجه الذي ذهبتَ به؟ فقلت: تبعثُ بي إلي مجنون؟ ثم أخبرته، فقال المنصور: الذي لقيتُ أنا منه العامَ في الطواف أشدُّ من هذا، كنتُ بالأسواق إلي أن أراه، فبينا أنا أطوف، إذ قال لي المسيَّبُ: أليس كنتَ تسألُ عن ابن أبي ذئب؟ فقلت: بلي، فقال: هو ذا هو يطوف، فأتيته، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله، وناولتُه يدي، قال: فبرق عينيه في وجهي، وقال: من أنت؟ فلقد

ص: 216

أخذتَ يدي أخذَ جبَّار، قلت: أوما تعرفني؟ قال: لا، قلت: أنا أبو جعفرٍ المنصورُ، قال: فجذب يدَه من يدي، وقال:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] الآية. قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين! فما صنعتَ به، قال: ما عسيتُ أن أفعلَ برجلٍ اللهُ في قلبه عظيمٌ.

أخبرنا الحافظُ أبو العباسِ، أنا أبو المعالي الأزهريُّ، أخبرتنا عائشةُ بنتُ عليٍّ، أنا أحمدُ بنُ عليٍّ، أنا البوصيريُّ، أنا الأريافيُّ، أنا ابنُ الفراء، أنا ابنُ الضرابِ، أنا أبي، أنا الدينوريُّ، ثنا الحسنُ بنُ الحسينِ، ثنا أحمدُ بنُ يونسَ، قال: قالَ حفصُ بنُ غياث لابن إدريسَ: مررتُ بطاقِ اللَّحامين، فإذا أنا بعليانَ المحدثِ جالسٌ، فلما آنَ حِزْبُه، سمعتُه يقول: من أراد سرورَ الدنيا وحزنَ الآخرة، فليتمَنَّ ما هذا فيه، فو الله! لتمنيت أني كنتُ متُّ قبلَ أن أَلِيَ القضاءَ (1).

أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدين، أنا موفق الدينِ، أنا أبو القاسمُ بنُ بُندار، أنا والدي أبو المعالي، أنا أبو عبدِ الله الحسينُ بنُ عليٍّ، أنا المعافى بنُ زكريا، ثنا أحمدُ بنُ جعفرٍ، ثنا أبي، ثنا الربيعُ بنُ ثعلبٍ، قال أحمدُ بنُ

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 170).

ص: 217

جعفرٍ، وثنا جدِّي، ثنا أبو الليث سلمُ بنُ قادمٍ، ثنا أبو حفصٍ العبديُّ، عن هشامِ بنِ حسانَ، عن الحسنِ، قال: بعث عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه عُميرَ بنَ سعدٍ أميرًا على حمصَ، فأقام بها حَوْلًا، ثم إن عمر رضي الله عنه كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: من عمرَ بنِ الخطابِ إلي عُمير بنِ سعدٍ، سلام عليك، فإني أحمدُ اللهَ الذي لا شريك له، وقد كنّا ولّيناك شيئًا من عملنا، فلا ندري أوفيتَ بعهدنا، أم خنتنا؟ فإذا جاءك كتابي هذا، فاحمل ما قبلك من في المسلمين، ثم أَقْبِل. قال الحسنُ: فلما وقع الكتابُ إليه، أقبل من حمصَ على رجليه، ومعه عَصًا له، وجرابٌ، وقصعةٌ، ومطهرةٌ، فلما قدم على عمر رضي الله عنه، قدم عليه رجلٌ شاحبٌ، رَثُّ الهيئة، كثيرُ الشعر، فقال له: سبحان الله يا عمير! ما هذا الذي أرى من سوء حالك، أكانت البلادُ بلادَ سوء، أم هذا منك خديعة؟ فقال عميرٌ: سبحانَ الله يا عمر! ألم ينهكَ ربُّك عن التجسسِ وسوءِ الظنِّ؟ وما الذي ترى من سوء حالي؟ أما تراني طاهرَ الدم، صحيحَ البدن، معي الدنيا بقرابها، فقال له عمر: وما معك من الدنيا يا عمير؟ فقال: معي عصاي أتوكأ عليها، وأقتل بها حيةً إن لقيتُها، ومعي جرابي أحمل فيه طعامي، ومعي قصعتي آكلُ فيها طعامي، وأغسل فيها رأسي وثوبي، ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي ووضوئي لصلاتي، فما كان بعد هذا من الدنيا، فهو تبع لما معي. قال: صدقت -رحمك الله-، فما صنع المسلمون؟ فقال: تركتُهم يوحدون الله عز وجل، ويصلون على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد نهانا الله عز وجل أن نسأل عمّا وراء ذلك. قال: فما صنع أهل الجزية؟ قال: أخذتُ منهم الجزية عن يَدٍ وهم صاغِرون.

ص: 218

قال: فما صنعتَ فيما أخذتَ منهم؟ قال: وفيم أنتَ من ذلك؟ بعثتني أمينًا، فنظرتُ لنفسي، واحتطْتُ لها، والله! لولا أني أكره أن أغمَّكَ، ما حدثتُك بشيء، قدمتُ البلادَ، فدعوت المسلمين على ما يجب عليهم من دينهم، ثمّ قلدتهم ذلك، ثمّ دعوت أهل الكتاب، واستعملت عليهم ناسًا من المسلمين يأخذون منهم الجزية، ثمّ يردونها في فقراء المسلمين ومجهوليهم، ولم ينلك من ذلك شيء، ولو نالك من ذلك شيء، بلّغتكه. فقال عمر: سبحان الله يا عمير! أما كان أحد ينزع بخير، فيحملك على دابة حين أقبلتَ، بئس المسلمون فارقتَ، وبئس المعاهَدون فارقتَ، أما والله! لقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لتوطأنَّ حَريمُهُمْ بِطَرِيقِهِمُ، ولَيُجارُنَّ في حُكْمِهِمْ، ولَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْهِمْ رِجَالٌ إِنْ تَكَلَّمُوا قَتَلُوهُمْ، وَإِنْ سَكَتُوا اجْتَاحُوهُمْ". فقال عمير: سبحان الله يا عمر! أولا أراك تشتهي سفكَ دماءِ المسلمين، وانتهاكَ حريمهم؟ فقال عمر رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتنهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَن اللهُ عَلَيْكُمْ شِرَاركُمْ، ثُمَّ تَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابَ لَهُمْ". ثمّ قال: هاتوا صحيفة كيما نُحْدِثَ لعميرٍ عهدًا. فقال عمير: كلا والله يا أمير المؤمنين! اتَّقِ اللهَ وأَعْفِني، فوالله! ما كنتُ أنجو مع أَنِّي ما نجوتُ، إني قلتُ لنصرانيٍّ مرة: أجزاك الله، وإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أَنَا خَصِيم عَنِ الذِّمِّيِّ وَالْيَتيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أُخَاصِمْهُ أَخْصِمْهُ"، وما يؤمِنُني أن يخاصمَني محمّدٌ صلى الله عليه وسلم؟ ثمّ جعل يبكي.

قال الحسن: فبكي عند ذلك عمرُ رضي الله عنه، ثمّ صعد

ص: 219

المنبر، فخطب، ثمّ قال: من يكفيها إلا قائمٌ اليومَ يُريحني منها -يعني: الخلافة-؟ ثمّ نزل يشتد حتى أتى قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر رضي الله عنه، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، ماذا لقيتُ بعدَكما؟! ثمّ قال: اللهمَّ أَلْحِقْ عمرَ بصاحبيه لم يغيرْ ولم يبدل.

ثمّ قال لعميرٍ: الْحَقْ بأهلِك.

قال الحسن: وبين أهله وبين المدينة ثلاثة أميال، ثمّ إن عمر تبعته نفسُه بعد ذلك، فقال: والله! ما آمَنُ أن يكونَ خدعَنا، فدعا رجلًا من أصحابه يقال له: حبيبُ بنُ جارية، فأعطاه مئة دينار، وقال له: انطلق حتى تنزل على عميرِ بنِ سعدِ ثلاثةَ أيام، وانظرْ إلي مطعمه وملبسه، فإذا انقضت الثلاثةُ، فأعطه هذه المئةَ دينارٍ، فقدم الرسولُ على عمير وهو قاعدٌ في الشمس يَفْلي ثيابه، فسلَّم عليه، فرفع رأسه إليه، ورَحَّب به، ثمّ قال: كيف تركَت أمير المؤمنين؟ قال: صالحًا، وهو يقرأ عليك السلام، قال له: ويحك! فلعلّه استأثر بغيه؟ قال: اللهمَّ لا، ويحك! فلعله جارَ في حكمه؟ قال: اللهمَّ لا، قال: ويحك! فلعلك اطلعت عليه وهو يرتشي؟ قال: اللهمَّ لا، ويحك! فلعلّه يضرب أهلَ القبلة بالسوط؟ قال: نعم، تركته وقد ضربَ ابنًا له بالسوط ضربًا شديدًا حتى بلغ حدًّا، قال: أفي فجره أتاها؟ قال: نعم. قال: اللهمَّ سَلِّمْ عمرَ؛ فإنه لا يُضيع الحدود.

قال: ثمّ قال: اللهمَّ إني أُشهدك وأُشهد صاحبي هذا أني لا أعلم عمرَ إلا شديدَ الحبِّ لك ولرسولك.

ص: 220

قال الحسن: فأقام الرسولُ عندهم ثلاثًا، فكان إذا أمسى، أتوه بقُرصة لهم قد أَدموها بزيت، فلما انقضتِ الثلاثة، قال له عميرٌ: يا هذا! تحوَّلْ عنّا، فقد أَجَعْتَنا وأجعتَ عيالنا.

وكان الحسن يقول: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حَقُّ الضِّيَافَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا أَصَابَ الضَّيْفُ فَوْقَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ".

فلما قال للرسول ما قال، أخرج المئة دينار، فناولها عُميرًا، وقال: هذه صِلَةُ أمير المؤمنين، وخرج الرسولُ، فلما صارت الدنانير في يد عمير، جعل يبكي، فقالت له امرأته لما رأته يبكي: قمْ فأخرجْ هذه الدنانيرَ عني، ولا تَبْك على مال. [فقال لها]: ويحك! تلومينني أن أبكي، وقد صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أُبْتَلَ بشيء من الدنيا، ثمّ صحبتُ الأمينَ الصدِّيق أبا بكر رضي الله عنه ولم أُبتلَ بشيء من الدنيا، ثمّ صحبتُ عمرَ رضي الله عنه، فابتُليت بالدنيا، ألا وشرُّ أيامي يومَ خُلقت مع عمر إذ ابتُليت بالدنيا، فهل عندك من خير؟ قالت: أنا بحيث تحب، فألقت إليه درعًا لها خَلَقًا، فجعل يَصُرُّ خمسة وأقلَّ وأكثر حتى أتى عليها، ثمّ دار بها على بني الشهداء، ففرقها عليهم.

وقدم الرسول على عمر، فقال له: كيف تركتَ أخي؟ قال: يا أمير المؤمنين! جئتُ من عندِ أقلِّ الناس خيرًا، يعمد إلي الخير كلِّه، فيجعله للآخرة، والله! ما أعطاني من تلك الدنانير دينارًا واحدًا.

قال: فلعلَّ على أخي دينًا؟ قال: لا والله! ولكني أخليها.

ص: 221

فقال عمر: عليَّ بعمير، فلما قَدِم عليه، قال: عزمتُ عليكَ بحقي عليك يا عمير ماصنعتَ بتلك الدنانير؟ قال: استودعتُها رَبَّنا -تبارك وتعالي-، ولم أحبَّ أن يطّلع على ذلك أحدٌ، وحملنا بها إخواننا.

قال عمر لعبدِ الله ابنهِ: قم فأعطِه ثوبين، وكِلْ له وَسقَين من تمر.

فقال: أما الثوبان فسآخذُهما، وأما التمرُ فما كان بالذي يصحبُني، إني خَلَّفت في أهلي صاعًا من تمر.

فقال له عمر: يا عمير! ارجعْ إلي أهلك، واقرأ على امرأتك السلام.

قال الحسن: فما لبثَ أن طُعِن، فمات، فبينما عمر- رضي الله عنه في جنازته، وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، إذ قال لهم: تمنّوا، فقال: جابر بن عبد الله: وَدِدْتُ لو أن لي من القوة ما أميحُ الدلوَ بمنى، فأسقي حاجَّ بيتِ الله عز وجل، فقال عمر رضي الله عنه: وددتُ لو أنَّ عندي رجالًا مثلَ عُمير بنِ سعد أستعين بهم على أمور المسلمين (1).

فانظر -رحمك الله- إلي هذا الأمير، وإلى هذا الكلام، فإن أدنى أدنى أدنى عبدٍ من عبيدِ عبيدِ عبيدِ أميرِ اليوم لا يرضا بمثل هذا الحال،

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 51 - 52)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 247 - 250)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(46/ 489 - 494)، نحوه.

ص: 222

فإن قال قائل: كان الشيء عليهم قليلًا، فقد كذب؛ فإن الأموال كانت أكثرَ منها اليومَ، حتى إنه أتى عمرَ في بعض الفتوح خمسُ مئةِ حملِ حملٍ من الأموال، فلم يُبَيِّتْ منها شيئًا حتى قَسَمه، وأخذ ولدٌ من أولاده الصغار من ذلك درهمًا، فقام فخلَّصه منه، وردَّه.

فهل يرضى عبدُ أميرٍ أن يخرج ماشيًا من حمصَ إلي الحجاز ليس معه غيرُ عصا، وسقاءٌ وقدحٌ على هيئة الفقراء؟ وهل يقدرُ أحدٌ اليوم -مع تَجبُّرهم وتكبُّرهم بخيلهِ ورَجِلِه-[أن] يقطع هذه البراري، أو يدخلها؟

انظر كيف أُخذوا مع كثرتهم فيها غير مرة، وكلما تفاحموا وتكبروا، أذلَّهم الله عز وجل، مثل هذا يكون على نيابة حمص، ويخرج في هذه الهيئة؟ لمثل هؤلاء يكون الخير، وكيف كانوا على هذه الحال في حال سلاطين الدنيا من كسرى وقيصر، ثمَّ يخافون منهم، ويقهرونهم؟ ومع ذلك لا يعتزُّون بمال، ولا رجال، ولا غيرِ الله عز وجل.

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا عبدُ الله بنُ أبي الهيجاءِ، وأبو العباسِ بنُ شجاعٍ، وأبو العباس بن المعالي، أنا خطيب مَرْدا، أنا ابنُ الموازيني، أنا أبو يعلي السلميُّ، أنا أبو الفتح المقدسيُّ، أنا أبو الفتحِ الرازيُّ، أنا أبو الحسينِ بنُ فارسٍ، أنا أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ إبراهيم، أنا أبو يونس المدينيُّ، ثنا أبو الحارثِ عمرُ بنُ إبراهيمَ، ثنا عبدُ الله بنُ يحيى، عن أبيه، قال: دخل سليمان بنُ عبدِ الملك حاجَّاً، فسأل: هل رجلٌ أدركَ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحدًا؟ قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسل إليه، فلمَّا أتاه،

ص: 223

قال: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء؟ قال: وأيُّ جفاء تعتدُّ مِنِّي يا أمير المؤمنين؟ قال: أتاني وجوهُ الناس غير واحد، ولم تأتني، قال: والله! ما عرفتني قبلَ هذا، ولا أنا رأيتُك، فأيُّ جفاء تعتدُّ مني؟ فالتفت سليمانُ إلي ابن شهابٍ، فقال: أصاب الشيخُ، وأخطأت أنا، ثمَّ قال: يا أبا حازم! مالنا نكرَهُ الموت؟ فقال: لأنكم عَمَّرْتُم الدنيا، وخَرَّبتُم الَاخرة، فأنتم تكرهون أن تخرجوا من العمرانِ إلي الخراب.

قال: يا أبا حازم! ليت شعري، مالنا عند ربنا عز وجل؟ قال: اعرضْ عملَك على كتاب الله عز وجل، قال: فأين أجدُه في كتاب الله عز وجل؟ قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13، 14]، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].

قال سليمان: يا أبا حازم! ليت شعري كيف العرضُ غدًا على الله عز وجل؟ قال أبو حازم: أما المحسن، فكالغائب يقدَمُ على أهله، وأما المسيء، فكالآبق يُقْدَمُ به على مولاه. فبكي سليمانُ حتى اشتد بكاؤه، ثمَّ قال: يا أبا حازم! كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون الصلف، وتتمسكون بالمروءة، وتقسمون بالسويَّة.

قال: وكيف المأخذ لذلك؟ قال: تأخذه من حقه، وتضعه في أهله.

قال: يا أبا حازم! ومن أفضلُ الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنُّهى.

ص: 224

قال: فما أعدل العدل؟ قال: قول الحق عند من يرجوه ويهابه.

قال: يا أبا حازم! فما أسرعُ الدعاءِ إجابةً؟ قال: دعاء المحسَن إليه للمحسن.

قال: فما أفضل الصدقة؟ قال: جهدُ المُقِلِّ إلي البائس الفقير، لا يُتْبِعها منَّاً ولا أذى.

قال: يا أبا حازم! من أكيسُ الناس؟ قالوا: رجلٌ ظفر بطاعة الله- عز وجل، فعمل بها، ثمَّ دلَّ الناس عليها، فعملوا بها.

قال: فمن [أحمقُ] الخلقِ؟ قال: رجلٌ انحطَّ في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرتَه بدنيا غيره.

قال: سليمان: يا أبا حازم! هل لك أن تصحبنا، فتصيبَ منا، ونُصيبَ منك؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركَنَ إليكم شيئًا قليلًا، فيذيقني الله ضعفَ الحياة، وضعفَ الممات، ثمَّ لا يكون لي منه نصيرًا.

قال: يا أبا حازم! ارفعْ إليَّ حاجتك، قال: نعم، تُدخلني الجنة، وتُخرجني من النار. قال: ليس ذلك إليَّ. قال: فما لي حاجةٌ سواها. قال: يا أبا حازم! ادعُ الله لي. قال: نعم، اللهم إن كان سليمانُ من أوليائك، فيسّره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان سليمان من أعدائك، فخذْ بناصيته إلي ما تحبُّ وترضى.

قال سليمان: فقط؟ قال أبو حازم: قد أكثرتُ وأطنبتُ إن كنتَ من

ص: 225

أهله، وإن لم تكنْ من أهله، فما حاجتك أن ترميَ عن قوس ليس لها وتر.

قال سليمان: يا أبا حازم! ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: وتُعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: يا أبا حازم! أوصني، قال: نعم، سوف أُوصيك وأُوجز: نزّه الله عز وجل وعظّمه أن يراك حيثُ نهاك، أو يفقدك من حيث أمرك، ثمَّ قام، فلما ولَّي قال: يا أبا حازم! هذه مئةُ دينار أنفقْها، ولك عندي أمثالًا كثيرة، فرمى بها، وقال: ما أرضاها لكَ، فكيف لنفسي؟ إني أعوذ بالله أن يكون سؤالك لي هزلًا، وردِّي عليك بذلًا، إن موسى بن عمران عليهم السلام لما ورد ماءَ مدين وجد عليه بضعة من الناس يسقون، ثمّ قال:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 24]، فسأله عليه السلام ربه عز وجل، ولم يسأل الناس، ففطنتِ الجاريتان، ولم يفطن الرِّعاءُ، فأتتا أباهما، وهو شعيب عليه السلام فأخبرتاه، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعًا، ثمَّ قال لإحداهما: اذهبي ادعيه إليَّ، فلما أتته أعظمته، وغطَّت وجهها، وقالت:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]، فلما قالت:{أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ، كره ذلك موسى، وأراد ألَّا يتبعها، ثمَّ لم يجد بُدَّاً من أن يتبعها؛ لأنه كان في أرض مَسْبَعَةٍ وخوف، فخرج معها، وكانت امرأة ذاتَ عجز، وكانت الرياح تضربُ ثوبها، فتصف لموسى عجزها، فيغضي مرة، ويعرض أخرى حتى عِيلَ صبرُه، فقال: يا أمة الله! كوني خلفي، وأرني السمت -يريد: الطريق-، فأتيا إلي شعيب، والعَشاء مهيأ - فقال: اجلسْ يا شابُّ فكُلْ، فقال موسى:

ص: 226

لا، قال شعيب: ألستَ بجائع؟ قال: بلى ولكني من أهل بيت لا يبيع شيئًا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبًا، وأخشى أن يكون هذا أجرًا لما سقيتُ لهما، قال شعيب: لا يا شابُّ، ولكنها عادتي وعادةُ آبائي قِرى الضيف، وإطعامُ الطعام. قال: فجلس موسى بن عمران، فأكل.

قال أبو حازم: فإن كانت هذه المئة دينار عوضًا عما حَدَّثتك، فالميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير عندَ الإضطرار أحلُّ منه، وإن كانت من بيت مالِ المسلمين، فلي فيه شركاء ونظراء، فإن وازيتهم بي، وإلا فلا حاجة لي بها، إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقوى حيث كان أمراؤهم يأتون إلي علمائهم رغبةً في علمهم، فلما نكسوا، وسقطوا من عين الله تعالي، وآمنوا بالجِبْت والطاغوت، صار علماؤهم يأتون إلي أمرائهم من [أجل] دنياهم، ويشتركون معهم في فتكهم. فقال ابن شهاب: لعلَّك يا أبا حازم إياي تعني، وبي تعرِّض؟ فقال: ما إيَّاك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع. قال سليمان: يا بن شهاب! تعرفه؟ قال: نعم جاري منذ ثلاثين سنة ما كلمتُه قط. قال أبو حازم: إنك نسيت فنسيتني، ولو أحببت الله لأحببتني. قال ابن شهاب: يا أبا حازم! أتشتمني؟ قال: ما شتمتك، ولكن أنت شتمتَ نفسك، أما علمتَ أن للجار على الجار حَقَّاً كحق القَرابة تجب. فلما ذهب، قال رجلٌ من جلساء سليمان: أتحبُّ أن الناسَ كلَّهم مثلُه؟ قال سليمان: لا (1).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 234 - 237)، واللفظ له، والدارمي في "سننه"(647)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(22/ 35 - 38).

ص: 227

قال [أبو] يونس: قال أبو الحارثِ عمرُ بنُ إبراهيمَ: ثنا عبدُ الله بنُ يحيى، عن أبيه، قال: دخل أبو حازم على سليمان بن عبد الملك بالشام في نفر من العلماء، فقال سليمان: يا أبا حازم! ألك مال؟ قال: نعم، لي مالان، قال: ما هما بارك الله لك فيهما؟ قال: الرضا بما قسم الله لي، واليأسُ مما في أيدي الناس.

قال سليمان: يا أبا حازم! ارفعْ إليَّ حاجتك. قال: هيهات، رفعتُها إلي من لا تختزل الحوائجُ دونه، فما أعطاني شكرتُ، وما منعني صبرتُ، مع أني رأيت الأشياء شيئين: فشيء لي، وشيء لغيري، فما كان لي، فلو جهد الخلق أن يردُّوه عني، ما قدروا، وما كان لغيري، فما نافست فيه أهله فيما مضى، فكيف فيما بقي؟ كما مُنِعَ غيري رزقي، كذلك منعت رزق غيري.

قال سليمان بن عبد الملك: يا أبا حازم! ما المخرجُ مما نحن فيه؟ قال: بالصغير من الأمر.

قال سليمان: وما هو؟ قال أبو حازم: تنظر ما كان في يدك مما ليس بحق، فترده إلي أهله، وما لم يكن لك، لم تنازع فيه غيرَك.

قال سليمان: ومن يطيق هذا؟ قال أبو حازم: من خاف النار، وأحبّ الجنة.

قال: يا أبا حازم! ادعُ الله عز وجل لي، قال: ما ينفعُك أن أدعو لك في وجهك، ويدع عليك مظلوم من وراء الباب، فأي الدعاء

ص: 228

أحقُّ أن يجاب؟ فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، وقام أبو حازم (1).

فانظر -رحمك الله- إلي هؤلاء الخلفاء كيف كانوا يقبلون النصح والمواعظ، ويُصغون إليها، ويحتملون الكلمات الثقيلة من العلماء والناصحين، ولو قيل اليوم لواحد من هؤلاء أدنى من ذلك، لقتلوه، أو قطعوا لسانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(22/ 38).

ص: 229