المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شَيْء مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن - تيسير التحرير شرح كتاب التحرير في أصول الفقه - جـ ٤

[أمير باد شاه]

الفصل: شَيْء مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن

شَيْء مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْخَطَأ منفيا عَنْهُم بِأَن كَانَ بَعضهم على الْخَطَأ (ثَبت الْهدى فِي الْخَطَأ) عِنْد الِاقْتِدَاء بذلك الْبَعْض (وَهُوَ ضلال) أَي وَالْحَال أَن الْخَطَأ ضلال وَهل يتَصَوَّر أَن يكون الْمُقْتَدِي بالضال مهديا؟ وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى أَن القَوْل بِثُبُوت الْهدى فِي الْخَطَأ ضلال (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الِاقْتِدَاء بالمخطئ أَو الْخَطَأ (هدى من وَجه) وَلذَا وَجب الْعَمَل بِهِ على الْمُجْتَهد وعَلى مقلده (فيتناوله) لفظ اهْتَدَيْتُمْ. وَقيل الحَدِيث لَهُ طرق بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَلم يَصح مِنْهَا شَيْء، وَأَنت خَبِير بِأَن الطّرق الضعيفة إِذا كثرت يرتقى الحَدِيث بهَا من الضعْف إِلَى الْحسن.

‌تَتِمَّة

(من) مبَاحث (المخطئة: الْحَنَفِيَّة قسموا) أَي الْحَنَفِيَّة (الْخَطَأ وَهُوَ الْجَهْل الْمركب إِلَى ثَلَاثَة) من الْأَقْسَام فِي التَّلْوِيح. الْجَهْل عدم الْعلم عَمَّا من شَأْنه، فَإِن قَارن اعْتِقَاد النقيض فمركب، وَإِلَّا فبسيط وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْجَهْل الْمركب على هَذَا أَعم من الْخَطَأ الْمَذْكُور فِي بَاب الِاجْتِهَاد لجَوَاز أَن يكون فِي غير الْمُجْتَهد: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بالْخَطَأ فِي هَذَا التَّقْسِيم مَا هُوَ أَعم من خطأ الْمُجْتَهد. الْقسم (الأول جهل لَا يصلح) لِأَن يكون (عذرا) لصَاحبه فِي عدم الْمُؤَاخَذَة (وَلَا شُبْهَة) يَتَرَتَّب عَلَيْهَا دَرْء حد وَنَحْو (وَهُوَ) أَي الَّذِي لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة (أَرْبَعَة) أَحدهَا (جهل الْكَافِر بِالذَّاتِ) أَي ذَات الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا قيد بالكافر لِأَن الْمُؤمن لَا يجهل بِالذَّاتِ من حَيْثُ الْوُجُود (وَالصِّفَات) أَي وجهله بِالصِّفَاتِ الْمُؤمن بهَا، وَإِنَّمَا لَا يصلح جَهله بهما عذرا وَلَا شُبْهَة (لِأَنَّهُ) أَي الْكَافِر (مكابر) أَي مترفع عَن الانقياد للحق وَالنَّظَر فِي الْآيَات ومعاند لما يَقْتَضِيهِ الْعقل (لوضوح دَلِيله) أَي دَلِيل مَا جهل بِهِ من الذَّات وَالصِّفَات (حسا) أَي دلَالَة حسية لكَون مَا يسْتَدلّ بِهِ حسا أَو وضوحا حسا (من الْحَوَادِث المحيطة بِهِ) أَي بالكافر أنفسا وآفاقا، بَيَان لدليله، فَالْمُرَاد بِالدَّلِيلِ مَا يُمكن بِأَن يُوصل بِالنّظرِ إِلَى الْمَطْلُوب (وعقلا) أَي دلَالَة عقلية لكَون مَا يسْتَدلّ بِهِ أمرا عقليا أَو وضوحا عقليا لتبادر مقدماته واستلزامه إِلَى الْعقل (إِذْ لَا يخلوا الْجِسْم عَنْهَا) أَي تِلْكَ الْحَوَادِث تَعْلِيل للوضوح على وَجه يثبت الْإِحَاطَة أَيْضا (وَمَا لَا يَخْلُو عَنْهَا) أَي الْحَوَادِث (حَادث بِالضَّرُورَةِ) فَإِن قلت: الْفلك قديم على رَأْي الْحَكِيم وَلَا يَخْلُو عَن الْحَرَكَة الْحَادِثَة، فالاستدلال بِدَعْوَى الضَّرُورَة غير مُسلم، كَيفَ وَلَو كَانَ ضَرُورِيًّا لما أجمع على خِلَافه الْحُكَمَاء قاطبة قلت: معنى كَلَامه مَا لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث الَّتِي هِيَ حَادِثَة شخصا ونوعا، وحركات الأفلاك عِنْدهم قديمَة نوعا كَيفَ؟ وَلَو كَانَت حَادِثَة نوعا والمفروض لُزُوم

ص: 211

فَرد مَا مِنْهَا للفلك للَزِمَ وجود الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم: نعم يبْقى الْكَلَام حِينَئِذٍ فِي الصُّغْرَى، وَهِي أَن الْجِسْم لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث شخصا ونوعا إِن تمّ تمّ وَإِلَّا فَلَا، وَقدم الْحَوَادِث المحيطة بالأجسام بأسرها نوعا يكَاد أَن لَا يتَصَوَّر، وحركة الْفلك غير مسلمة فضلا عَن قدمهَا (لَا بُد لَهُ) أَي لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث، فَقَوله لَا بُد خبر بعد خبر (من موجد) لَهُ (إِذْ لم يكن الْوُجُود مُقْتَضى ذَاته) أَي الْحَادِث الْمَذْكُور، وبديهة الْعقل حاكمة بِأَن وجود الْحَادِث لَا بُد لَهُ من الْمُقْتَضى (ويستلزم) الحكم بِوُجُود الْوَاجِب تَعَالَى (الحكم بصفاته) من الْحَيَاة وَالْعلم والإرادة إِلَى آخر مَا ذكر فِي علم الْكَلَام بأدلتها الْوَاضِحَة الَّتِي لَا ينكرها إِلَّا معاند، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كَمَا عرف) أَي على الْوَجْه الَّذِي عرف فِي مَحَله (وَكَذَا مُنكر الرسَالَة) أَي وَكَذَا جهل مُنكر الرسَالَة لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة لِأَنَّهُ مكابر (بعد ثُبُوت المعجزة) الَّتِي هِيَ شَهَادَة وَاضِحَة من الله تَعَالَى بِصدق دَعْوَى الرَّسُول، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى من شهد زمَان الرسَالَة (وتواتر مَا يُوجب النُّبُوَّة) من الْأَخْبَار الدَّالَّة على صُدُور المعجزة من مدعيها بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لم يشْهد زمانها، فَإِن خصوصيات الْأَخْبَار لَو لم تبلغ حدا التَّوَاتُر فالقدر الْمُشْتَرك متواتر قطعا، وَلَا سِيمَا الْقُرْآن المعجز لنبينا صلى الله عليه وسلم الْبَاقِي على صفحة الدَّهْر إِلَى آخر الدُّنْيَا، فانه متواتر إِجْمَاعًا ظَاهر إعجازه لكل بليغ كَامِل فِي بلاغته، وَفِي ذكر النُّبُوَّة مَوضِع الرسَالَة إِشْعَار بِأَن المُرَاد بالرسالة النُّبُوَّة الْمَشْهُورَة فِي الْمَعْنى الْأَعَمّ، فَإِن خُصُوصِيَّة كَونه صَاحب شَرِيعَة مَخْصُوصَة مَا لَا دخل لَهُ فِي هَذَا الْمقَام (فَلِذَا) أَي فلكون إِنْكَار الرسَالَة بعد ثُبُوتهَا مُكَابَرَة (لَا تلْزم) على الْمُسلمين (مناظرته) أَي مُنكر الرسَالَة، لِأَنَّهُ لم يبْق لَهُ حجَّة على الله تَعَالَى بعد الرُّسُل، وَثُبُوت معجزتهم، وبلوغ الْخَبَر إِلَيْهِ (بل إِن لم يتب) بعض أَفْرَاد منكري الرسَالَة، وَهُوَ (الْمُرْتَد) عَن الرَّسُول (قَتَلْنَاهُ) كَمَا نقْتل الْمُرْتَد عَن الله سُبْحَانَهُ خُصُوصا إِن عرض الْإِسْلَام عَلَيْهِ وَلم يرجع إِلَيْهِ، بِخِلَاف غَيره من الْكفَّار فَإِنَّهُ لَا يتَعَيَّن فِي حَقهم الْقَتْل، بل أحد الْأُمُور: إِمَّا الْقَتْل أَو الْجِزْيَة أَو الاسترقاق، وَإِنَّمَا شدد على الْمُرْتَد، لِأَن مكابرته بُد ذوق لَذَّة الْإِسْلَام أَشد (وَكَذَا) أَي وَكَذَا الْجَهْل (فِي حكم لَا يقبل التبدل) عقلا وَلَا شرعا باخْتلَاف الْأَدْيَان لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة لكَون صَاحبه مكابرا لوضوح دَلِيله (كعبادة غَيره تَعَالَى. وَأما تدينه) أَي الْكَافِر (فِي) الْقَامُوس: تدين اتخذ دينا وَالْمرَاد عمله بِمَا اتَّخذهُ دينا فِي حكم (غَيره) أَي غير مَا لَا يقبل التبدل كتحريم الْخمر (ذِمِّيا) حَال من الضَّمِير فِي تدينه فَإِنَّهُ فَاعل معِين (فالاتفاق على اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار تدينه الْمَذْكُور (دافعا للتعرض) لَهُ حَتَّى لَو بَاشر مَا دَان بِهِ لَا يتَعَرَّض لَهُ فَقَوله دافعا مفعول ثَان للاعتبار لتَضَمّنه معنى الْجعل (فَلَا يحد) الذِّمِّيّ (لشرب الْخمر إِجْمَاعًا، ثمَّ لم يضمن الشَّافِعِي متلفها) أَي خمر

ص: 212

الذِّمِّيّ مثلهَا إِن كَانَ ذِمِّيا وَلَا قيمتهَا إِن كَانَ مُسلما، وَبِه قَالَ أَحْمد لما فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حُرْمَة بيعهَا كالميتة، وَمَا يحرم بَيْعه لم يجب قِيمَته، وَلِأَنَّهَا لَيست بِمَال مُتَقَوّم: فَلَا تكون سَببا للضَّمَان، وَعقد الذِّمَّة خلف عَن الْإِسْلَام فَيثبت فِيهِ أَحْكَامه، وَعُمُوم خطاب التَّحْرِيم يتَنَاوَل الذِّمِّيّ، وَقد بلغه فِي دَار الْإِسْلَام (وضمنوه) أَي الْحَنَفِيَّة متلفها مثلهَا إِن كَانَ ذِمِّيا وَقيمتهَا إِن كَانَ مُسلما، وَبِه قَالَ مَالك (لَا للتعدي) يَعْنِي أَن فِي إِتْلَافه غير الْخمر وَنَحْوهَا عُدْوانًا وإعداما لمَال الْغَيْر، فالتضمين فِيهِ لمجموع الْأَمريْنِ، وَأما الْخمر وَنَحْوهَا فَلَيْسَ للتعدي لِأَنَّهُ إهانة لما أهانه الله تَعَالَى، فَلَا يُسمى عُدْوانًا وَلَا ظلما، وَإِنَّمَا هُوَ لإعدام مُتَقَوّم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذِّمِّيّ لما روى أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بلغه أَن عماله يَأْخُذُونَ الْجِزْيَة من الْخمر فَمَنعهُمْ عَن أَخذهَا وَقَالَ: ولوا أَرْبَابهَا بيعهَا ثمَّ خُذُوا الثّمن مِنْهُم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بل لبَقَاء التقوم فِي حَقهم) أهل الذِّمَّة، يَعْنِي أَن تقويمها فِي حق الْمُسلمين بعد تَحْرِيمهَا وَبَقِي فِي حَقهم (وَلِأَن الدّفع) أَي دفع التَّعَرُّض الْمَقْصُود من عقد الذِّمَّة (عَن النَّفس وَالْمَال) أَي نفس الذِّمِّيّ وَمَاله لَا يتَحَقَّق إِلَّا (بذلك) أَي التَّضْمِين (فَهُوَ) أَي التَّضْمِين (من ضَرُورَته) أَي الدّفع. (ثمَّ قَالَ أَبُو حنيفَة) فِي رد الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ: تتَنَاوَل الْأَحْكَام أهل الذِّمَّة، فَإِن الْكفْر لَا يصلح للتَّخْفِيف عَنْهُم (وَمنع تنَاول الْخطاب إيَّاهُم) أَي منع الله أَن يدخلهم تَحت خطابه (مكرا بهم واستدراجا لَهُم) مفعول لَهُ للْمَنْع، وَهُوَ الْأَخْذ على غرَّة لَا تَخْفِيفًا عَنْهُم، وَقد يتْرك الْخطاب لشخص عِنْد الْعلم بِأَنَّهُ لَا يَنْفَعهُ كالطبيب يتْرك مدواة الْمَرِيض، وَلَا يمنعهُ من التَّخْلِيط عِنْد يأسه من الْبُرْء، وَقَوله منع يحْتَمل أَن يكون على صِيغَة الْفِعْل الْمَجْهُول أَو الْمصدر، وَالْخَبَر مَحْذُوف (فِيمَا يحْتَمل التبدل) ظرف لمنع التَّنَاوُل، فَإِن الْخطاب فِيمَا لَا يحْتَملهُ تناولهم (خطاب لم يشْتَهر) بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، فَإِنَّهُ ترك خطاب وَلم ينتشر بعد فِي دِيَارنَا كَمَا فِي قصَّة أهل قبَاء حَيْثُ تحولوا نَحْو الْكَعْبَة فِي الصَّلَاة عِنْد بُلُوغ خبر تَحْويل الْقبْلَة إيَّاهُم، فَإِنَّهُ لَا يتناولهم، وَإِلَّا لما بنوا مَا بَقِي من صلَاتهم على مَا صلوه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بعد نزُول الْوَحْي قبل أَن يبلغهم الْخَبَر، فَكَمَا أَنه لَا يتناولنا فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة فِي الدَّلِيل الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَا يتناولهم مَا يَقْتَضِيهِ (فَلَو نكح مَجُوسِيّ بنته أَو أُخْته صَحَّ) النِّكَاح (فِي أَحْكَام الدُّنْيَا) يَعْنِي أَنه لَا يتَعَرَّض لَهُم فَإِنَّهُ مِمَّا يحْتَمل التبدل كَيفَ وَقد كَانَ فِي شرع آدم عليه السلام نِكَاح الْأُخْت وَلَا يتناولهم هَذَا الْخطاب، وَأما فِيمَا بَينهم وَبَين الله تَعَالَى فَلَا يَصح، وَكَذَا إِذا ترافعا أَي الزَّوْجَانِ المجوسيان (فَلَا نفرق بَينهمَا إِلَّا إِن ترافعا إِلَيْنَا) لانقيادهما لحكم الْإِسْلَام حِينَئِذٍ فيتناولهم الْخطاب. قَالَ تَعَالَى - {فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم} - (لَا) يفرق بَينهمَا إِن رفع (أَحدهمَا) صَاحبه إِلَيْنَا (خلافًا لَهما) أَي لأبي يُوسُف وَمُحَمّد (فِي) نِكَاح (الْمَحَارِم) فَإِنَّهُ

ص: 213

لَا يَصح عِنْدهمَا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا أَيْضا (لِأَنَّهُ) أَي جَوَاز نِكَاحهنَّ (لم يكن حكما ثَابتا) قبل الْإِسْلَام لنسخه فِي زمن نوح عليه السلام (ليبقى) على حَاله: أَي بعده (لقصر الدَّلِيل) عَنْهُم وَعدم تنَاول عُمُوم الْخطاب إيَّاهُم لتدينهم ذَلِك، وَقَوله لقصر الدَّلِيل مُتَعَلق بيبقى، وَقد يُجَاب بِأَن ترك التَّعَرُّض بِمُوجب الذِّمَّة يَقْتَضِي عدم تنَاول الْخطاب إيَّاهُم فِي جَمِيع مَا يحْتَمل التبدل سَوَاء كَانَ حكما ثَابتا من الله تَعَالَى فِي حَقهم، أَو من عِنْد أنفسهم مِمَّا أحدثوه فِي دينهم وَزَعَمُوا أَنه من الله تَعَالَى تحريفا، لِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْقسمَيْنِ فِي الْبطلَان بعد الْإِسْلَام: نعم يجب أَن لَا يكون من قبيل - {وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ} - كَمَا سَيَأْتِي (و) أَيْضا خلافًا لَهما (فِي مرافعة أَحدهمَا) أَي أحد الزَّوْجَيْنِ المحرمين مَعَ صَاحبه إِلَيْنَا، فَإِنَّهُمَا يفرقان بَينهمَا حِينَئِذٍ، قيل لزوَال الْمَانِع من التَّفْرِيق لانقياد أَحدهمَا لحكم الْإِسْلَام قِيَاسا على إِسْلَامه، وَمن ثمَّة لَا يتوارثون بِهَذِهِ الْأَنْكِحَة إِجْمَاعًا انْتهى قلت: بل لتناول عُمُوم خطاب التَّحْرِيم آبَاءَهُم فِيمَا لم يكن حكما ثَابتا على مَا سبق، فعلى هَذَا بَيَان هَذَا الْخلاف من التَّصْرِيح بِمَا علم ضمنا، وَالْقِيَاس على الْإِسْلَام مَعَ الْفَارِق فَتدبر (وَلَو دخل) الْمَجُوسِيّ (بهَا) أَي بمنكوحته الْمَذْكُورَة (ثمَّ أسلم) الْمَجُوسِيّ الْمَذْكُور (حد قاذفها) قيل وَالْوَجْه قَاذفه، وَالْأَحْسَن، ثمَّ أسلما حد قاذفهما انْتهى قلت صَحَّ قَوْله حد قاذفها على سَبِيل الْإِطْلَاق بِأَن يُرَاد قاذفهما جَمِيعًا، غَايَة الْأَمر أَن الْحَد لأَجله إِن أسلم فَقَط ولأجلهما إِن أسلما، وَيفهم ضمنا حكم قذف كل وَاحِد مِنْهُمَا انفرادا، فَإِن إِسْلَام الْمَقْذُوف هُوَ الْمُقْتَضى للحد، وَالْمَقْصُود أَن الدُّخُول بهَا حَال الْكفْر لَا يصلح درءا للحد فِي الْقَذْف حَال إِسْلَامه (بِخِلَاف الرِّبَا) أَي صِحَة نِكَاح الْمَحَارِم فِي أَحْكَام الدُّنْيَا ثَابت، بِخِلَاف صِحَة الرِّبَا فِيهَا (لأَنهم) أَي أهل الذِّمَّة (فسقوا بِهِ) أَي بالربا (لتحريمه عَلَيْهِم. قَالَ تَعَالَى {وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ}. وروى عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه كتب فِي صلح أهل نَجْرَان أَن لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فَمن أكل مِنْهُم فذمتي مِنْهُ بريئة، وَيرد أَن هَذَا فِي حق من نهى عَن الرِّبَا من أهل الْكتاب فَقَط: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال لما نَص صلى الله عليه وسلم فِي صلح قوم من أهل الذِّمَّة يعْتَبر ذَلِك شرطا فِي سَائِر الصُّلْح، فيتناولهم حِينَئِذٍ عُمُوم خطاب تَحْرِيم الرِّبَا، وَالله تَعَالَى أعلم (وَأورد) على مَا ذكر من تَحْرِيم الرِّبَا عَلَيْهِم بِالنَّهْي عَنهُ من حد الْقَاذِف (أَن نِكَاح الْمَحَارِم كَذَلِك) مَنْهِيّ عَنهُ (لِأَنَّهُ) أَي نِكَاح الْمَحَارِم (نسخ بعد آدم) عليه السلام (فِي زمن نوح) فَصَارَ مَنْهِيّا عَنهُ (فَيجب أَن لَا يَصح) نِكَاح الْمَحَارِم فِي قَوْله (كقولهما) أَي كَمَا لَا يَصح فِي قَوْلهمَا (فَلَا حد) على الْقَاذِف (وَلَا نَفَقَة) للمنكوحة الْمَذْكُورَة بِنَاء على عدم صِحَة النِّكَاح (إِلَّا أَن يُقَال) فِي بَيَان الْفرق بَين النِّكَاح والربا (بعد) تَسْلِيم (ثُبُوته) أَي

ص: 214

النّسخ لجَوَاز نِكَاح الْمَحَارِم (المُرَاد من تدينهم) الَّذِي لَا يتَعَرَّض لَهُ وَفَاء لعهد الذِّمَّة (مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ) فِيمَا بَينهم واتخذوه دينا سَوَاء كَانَ مُوَافقا لما شرع الله تَعَالَى لَهُم أَو لَا، وَالنِّكَاح الْمَذْكُور من هَذَا الْقَبِيل، بِخِلَاف الرِّبَا وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا مَبْنِيّ على معرفَة ملتهم تَفْصِيلًا، وَحكم مَحل الِاتِّفَاق (بِخِلَاف انْفِرَاد الْقَلِيل) مِنْهُم (بِعَدَمِ حد الزِّنَا وَنَحْوه) مِمَّا لم يتفقوا عَلَيْهِ (وَلِأَن أقل مَا يُوجب الدَّلِيل) مَعْطُوف على مَا يدل عَلَيْهِ الْكَلَام السَّابِق، كَأَنَّهُ قَالَ: اعْترض على مَا ذكر لِأَن نِكَاح الْمَحَارِم الخ (كحرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم الشُّبْهَة، فيدرأ الْحَد) خبر أَن، يَعْنِي الشُّبْهَة فِي إِحْصَان الْمُسلم الَّذِي دخل بمحرمه فِي زمَان كفره لاحْتِمَال تنَاوله الذِّمِّيّ فَإِنَّهُ على ذَلِك يصير زَانيا فَكيف يحد قَاذفه مَعَ هَذِه الشُّبْهَة؟ وَالْحُدُود تندرئ بِالشُّبُهَاتِ (وَفرق) أَبُو حنيفَة (بَين الْمِيرَاث وَالنَّفقَة) بِاعْتِبَار التدين فِي حق النَّفَقَة دون الْمِيرَاث (فَلَو ترك بنتين إِحْدَاهمَا زَوجته، فَالْمَال بَينهمَا نِصْفَيْنِ: أَي بِاعْتِبَار الرَّد) مَعَ فرضيهما (لِأَنَّهُ) أَي الْمِيرَاث (صلَة) لرحم أَو مَا يقوم مقَامه (مُبتَدأَة) من غير أَن تكون عوضا لشَيْء (لَا جَزَاء) للاحتباس (لدفع الْهَلَاك) كَمَا فِي الزَّوْجَة فَإِنَّهَا محبوسة دَائِما لحق الزَّوْج عاجزة عَن الْكسْب لنَفسهَا، فَلَو لم ينْفق عَلَيْهَا لهلكت، فَقَوله لدفع الْهَلَاك تَعْلِيل للُزُوم الْجَزَاء (بِخِلَاف النَّفَقَة) فَإِنَّهَا لَيست بصلَة مُبتَدأَة، بل جَزَاء لدفع الْهَلَاك، والتدين سَبَب ضَعِيف يصلح لِأَن يعْتَبر فِي حق ضَرُورِيّ وَلَا يصلح لِأَن يثبت حق ابْتِدَاء من غير ضَرُورَة ملجئة إِلَى اعْتِبَاره (فَلَو وَجب إِرْث الزَّوْجَة) الْمَنْكُوحَة بِالنِّكَاحِ الْمَذْكُور (بديانتها) أَي بِسَبَب أَنَّهَا تعتقد صِحَة نِكَاحهَا بِمُقْتَضى دينهَا (كَانَت) الدّيانَة (ملزمة على) الْبِنْت (الْأُخْرَى) نقصا فِي حَقّهَا لأخذ الْبِنْت الزَّوْجَة سَهْما زَائِدا على مَا تستحقه من النّسَب (والديانة دافعة) لُزُوم الضَّرَر عَن صَاحبهَا (لَا متعدية) ملزمة للضَّرَر على غَيره، وَكم من شَيْء يصلح للدَّفْع لَا للإثبات كالاستصحاب وَغَيره (وَأورد) على الْفرق الْمَذْكُور (أَن) الْبِنْت (الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ) أَي بِجَوَاز نِكَاح أُخْتهَا لاتِّفَاقهمَا فِي العقيدة، فلزمها الِاعْتِرَاف بِزِيَادَة اسْتِحْقَاق أُخْتهَا فَلَا ضَرَر فِي وجوب الْإِرْث من حَيْثُ الزَّوْجِيَّة نظرا إِلَى دينهم.

وَأَنت خَبِير بِأَن عدم وجوب الْإِرْث إِذا كَانَ بِسَبَب أَن الدّيانَة دافعة فِي نفس الْأَمر لَا متعدية لَا يخْتَلف الحكم بديانة الْأُخْرَى صِحَة النِّكَاح للُزُوم كَون الدّيانَة متعدية فِي نفس الْأَمر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال أَن بطلَان كَون الدّيانَة متعدية على هَذَا الْوَجْه مَمْنُوع (فَذهب بَعضهم) أَي الْحَنَفِيَّة، قيل هَذَا معزو إِلَى كثير من الْمَشَايِخ (إِلَى أَن قِيَاس قَوْله) أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى (أَن ترثا) أَي الزَّوْجَة وَالْبِنْت، وَكَانَ الْأَظْهر أَن يَقُول أَن تَرث من الْجِهَتَيْنِ، لَكِن لما كَانَت

ص: 215

بِمَنْزِلَة وارثين بِاعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ نزلت منزلتهما، فَعبر عَنْهَا بضمير التَّثْنِيَة إشعارا بِأَنَّهُ لَو كَانَت الجهتان فِي ذاتين لَكَانَ يَأْخُذ كل وَاحِد مُقْتَضى جِهَته، فَكَذَا إِذا اجتمعتا فِي ذَات وَاحِدَة (وَأَن النَّفْي) لإرثها بِالزَّوْجِيَّةِ (قَوْلهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (لعدم الصِّحَّة) للنِّكَاح (عِنْدهمَا، وَقيل بل) لَا تَرث عِنْدهمَا (لِأَنَّهُ إِنَّمَا تثبت صِحَّته فِيمَا سلف) أَي فِي شَرِيعَة آدم عليه السلام (وَلم يثبت كَونه سَببا للإرث) فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة، فَلَا يثبت سَببا للإرث بديانتهم، إِذْ لَا عِبْرَة بهَا إِذْ لم تعتمد على شرع، كَذَا فِي الْمُحِيط. (وَالْقَاضِي) أَبُو زيد (الدبوسي) قَالَ لَا تَرث (لفساده) أَي النِّكَاح (فِي حق) الْبِنْت (الْأُخْرَى لِأَنَّهَا إِذا نازعتها) أَي الْبِنْت الزَّوْجَة (عِنْد القَاضِي) فِي اسْتِحْقَاقهَا الْإِرْث بِالزَّوْجِيَّةِ (دلّ) النزاع على (أَنَّهَا لم تعتقده) أَي جَوَاز النِّكَاح وَالْإِرْث مَبْنِيّ عَلَيْهِ، وَلم يُوجد فِي حَقّهَا (وَمُقْتَضَاهُ) أَي الْمَذْكُور للْقَاضِي الدبوسي (أَنَّهَا) أَي الْبِنْت الْأُخْرَى (لَو سكتت) عَن مُنَازعَة أُخْتهَا (ورثت) الْبِنْت الزَّوْجَة بِالزَّوْجِيَّةِ أَيْضا (وَلَا يعرف عَنهُ) أَي أبي حنيفَة (تَفْصِيل) فِي هَذَا. ثمَّ لما ظهر من كَلَام الْقَوْم اضْطِرَاب فِي دفع الْإِيرَاد الْمَذْكُور، وَهُوَ أَن الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ أَرَادَ أَن يذكر مَا هُوَ الْحق عِنْده فَقَالَ (وَالْحق فِي) لُزُوم (النَّفَقَة) الزَّوْجِيَّة على الْمَجُوسِيّ سَوَاء كَانَت محتاجة أَو لَا (أَن الزَّوْج) الْمَجُوسِيّ (أَخذ) وألزم بِالنَّفَقَةِ (بديانته) واعتقاده (الصِّحَّة) أَي صِحَة النِّكَاح، فالتزم بالإقدام على النِّكَاح الْإِنْفَاق عَلَيْهَا وديانته حجَّة عَلَيْهِ (فَلَا يسْقط حق غَيره) وَهُوَ نَفَقَة الزَّوْجِيَّة (لمنازعته) أَي الزَّوْج الزَّوْجَة فِي تَسْلِيم النَّفَقَة (بعده) أَي بعد تحقق النِّكَاح الْمُوجب الْتِزَام النَّفَقَة، وَإِنَّمَا يسْقط عَنهُ بِإِسْقَاط صَاحب الْحق وَلم يُوجد (بِخِلَاف من لَيْسَ فِي نِكَاحهمَا) كَذَا وَقع فِي عبارَة فَخر الْإِسْلَام وَصدر الشَّرِيعَة. وَالْمعْنَى مُنَازعَة الزَّوْج فِي حق السُّقُوط، بِخِلَاف مُنَازعَة من لَيْسَ لَهُ دخل فِي النِّكَاح الْوَاقِع بَينهمَا، وَلَيْسَ بملتزم مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَتسقط النَّفَقَة بعد موت الْمَجُوسِيّ، فقد تعيّنت النَّفَقَة إِذا نازعتها الْأُخْرَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي من لَيْسَ فِي نِكَاحهمَا. (الْبِنْت الْأُخْرَى)، وَمُقْتَضَاهُ عدم الْإِرْث من حَيْثُ الزَّوْجِيَّة أَيْضا. وَفِي الْمُحِيط: كل نِكَاح حرم لحُرْمَة الْمحل لَا يجوز عِنْدهمَا، وَاخْتلفُوا على قَول أبي حنيفَة: فَعِنْدَ مَشَايِخ الْعرَاق لَا يَصح إِذا لم يعْتَمد شرعا كَنِكَاح الْمَحَارِم، لِأَنَّهُ لم يكن مَشْرُوعا فِي شَرِيعَة آدم عليه السلام إِلَّا لضَرُورَة النَّسْل عِنْد عدم الْأَجَانِب، وَعند مَشَايِخنَا يَصح لِأَنَّهُ كَانَ فِي شرع آدم، وَلم يثبت النّسخ حَال كَثْرَة الْأَجَانِب عِنْد الْمَجُوس (و) الثَّانِي من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل المبتدع كالمعتزلة مانعي ثُبُوت الصِّفَات) الثبوتية من الْحَيَاة، وَالْقُدْرَة، وَالْعلم، والإرادة، وَالْكَلَام وَغَيرهَا لله تَعَالَى. قَوْله مانعي ثُبُوت الصِّفَات صفة أَو عطف بَيَان للمعتزلة لشهرتهم بِهِ، وَغَيرهم من الْمُتَكَلِّمين الموافقين لَهُم فِي منع

ص: 216

ثُبُوتهَا تبع لَهُم (زَائِدَة) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الثُّبُوت إِلَى الصِّفَات، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ أَنَّهَا عين الذَّات وَلَا يمْنَعُونَ أصل وجودهَا، بل كَونهَا موجودات زَائِدَة على الذَّات، فمرجع النَّفْي إِلَى الزِّيَادَة (و) ثُبُوت (عَذَاب الْقَبْر) وَمن متأخريهم من حكى ذَلِك عَن ضرار بن عَمْرو، وَقَالَ إِنَّمَا نسب إِلَى الْمُعْتَزلَة وهم بُرَآء عَنهُ لمخالطة ضرار إيَّاهُم، وَتَبعهُ قوم من السُّفَهَاء المعاندين للحق (و) ثُبُوت (الشَّفَاعَة) للرسل والأخيار فِي أهل الْكَبَائِر يَوْم الْقِيَامَة وَبعد دُخُول النَّار (و) ثُبُوت (خُرُوج مرتكب الْكَبِيرَة) من النَّار إِذا مَاتَ بِلَا تَوْبَة (و) ثُبُوت (الرُّؤْيَة) البصرية لله تَعَالَى للْمُؤْمِنين فِي الدَّار الْآخِرَة (و) مثل (الشُّبْهَة لمثبتيها) أَي الصِّفَات الْمَذْكُورَة لله تَعَالَى زَائِدَة على الذَّات لَكِن (على مَا) أَي على الْوَجْه الَّذِي (يُفْضِي إِلَى التَّشْبِيه) بالمخلوق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ - {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} -. وَقَوله لمثبتيها مُضَاف إِلَى الضَّمِير من قبيل الضار بك (لَا يصلح عذرا) خبر الْمُبْتَدَأ، يَعْنِي جهل المبتدع لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة فَإِن قلت: كَونه لَا يكفر يدل على أَنه يصلح شُبْهَة قلت: المُرَاد أَنه لَا يصلح شُبْهَة فِي حق التفسيق (لوضوح الْأَدِلَّة) الدَّالَّة على خلاف مَا زَعَمُوا (من الْكتاب وَالسّنة الصَّحِيحَة، لَكِن لَا يكفر) المبتدع بِهِ (إِذْ تمسكه) فِي ذَلِك الْجَهْل وَمَا ذهب إِلَيْهِ (بِالْقُرْآنِ أَو الحَدِيث أَو الْعقل) كَمَا ذكر فِي مَحَله (وللنهي عَن تَكْفِير أهل الْقبْلَة). روى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح أَن جَابر بن عبد الله سُئِلَ هَل تسمون الذُّنُوب كفرا أَو شركا أَو نفَاقًا. قَالَ معَاذ الله وَلَكنَّا نقُول مُؤمنين مذنبين، وروى أَبُو دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاث من أصل الْإِيمَان: الْكَفّ عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا نكفره بذنب وَلَا نخرجهُ عَن الْإِسْلَام بِعَمَل فَإِنَّمَا هُوَ هُوَ (وَعنهُ صلى الله عليه وسلم من صلى صَلَاتنَا واستقبل قبلتنا وَأكل ذبيحتنا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان) رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَهُوَ طرف من حَدِيث طَوِيل أخرجه البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ إِلَّا أَنهم قَالُوا بدل فَاشْهَدُوا إِلَى آخِره، فَذَلِك الْمُسلم الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله وَفِي هَذَا أَحَادِيث كَثِيرَة وَقد نَص عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْفِقْه الْأَكْبَر حَيْثُ قَالَ: وَلَا نكفر أحدا بذنب من الذُّنُوب وَإِن كَانَ كَبِيرَة مَا لم يستحلها (وَجمع بَينه) أَي هَذَا الحَدِيث (وَبَين) حَدِيث افْتَرَقت الْيَهُود على إِحْدَى وَسبعين، وافترقت النَّصَارَى على ثِنْتَيْنِ وَسبعين فرقة، و (ستفرق أمتِي على ثَلَاث وَسبعين) فرقة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وللترمذي كلهم فِي النَّار إِلَّا مِلَّة وَاحِدَة قَالُوا: من هِيَ يَا رَسُول الله.؟ قَالَ مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي، وَلِلْحَدِيثِ طرق كَثِيرَة من رِوَايَة كثير من الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة (أَن الَّتِي فِي الْجنَّة المتبعون) لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (فِي العقائد والخصال) الْخصْلَة الْخلَّة والفضيلة، وَالْمرَاد هَهُنَا الْأَخْلَاق الحميدة كالجود

ص: 217

والحلم وَالرَّحْمَة والتواضع إِلَى غير ذَلِك (وَغَيرهم) أَي غير المتبعين (يُعَذبُونَ) فِي النَّار بِمَا شَاءَ الله (وَالْعَاقبَة الْجنَّة وعدوهم) أَي عَدو أهل السّنة وَالْجَمَاعَة غير المتبعين فِيمَا ذكر (من أهل الْكَبَائِر) لكَون بدعتهم فِي العقيدة كَبِيرَة لمخالفتهم ظواهر النُّصُوص وجوابهم عَلَيْهَا بتأويلها اعْتِمَادًا على مَا تستحسنه عُقُولهمْ الزائغة وتعمقهم فِي أُمُور منع الشَّارِع عَن الْخَوْض فِيهَا على خلاف مَا نَص عَلَيْهِ الصَّحَابَة وتابعوهم رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (وللإجماع على قبُول شَهَادَتهم على غَيرهم) وَمَا قيل من أَن مَالِكًا لَا يقبلهَا، وَتَابعه أَبُو حَامِد من الشَّافِعِيَّة، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد إِجْمَاع من قبله لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ يسْتَلْزم مُخَالفَته الْإِجْمَاع وَهُوَ بَاطِل بل يحمل على الْإِجْمَاع الظني وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الْمُخَالف نَادرا كإجماع من عدا ابْن عَبَّاس على الْعَوْل، وَمن عدا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ على أَن النّوم نَاقض وَمن عدا أَبَا طَلْحَة على أَن الْبرد مفطر. وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين: الظَّاهِر أَنه حجَّة لِأَنَّهُ يدل ظَاهرا على وجود رَاجِح أَو قَاطع (وَلَا شَهَادَة لكَافِر على مُسلم) لقَوْله تَعَالَى - {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} - (وَعَدَمه) أَي عدم قبُول الشَّهَادَة (فِي الخطابية) من الرافضة (لَيْسَ لَهُ) أَي لكفرهم بل لتدينهم الْكَذِب فِيهَا لمن كَانَ على رَأْيهمْ أَو حلف أَنه محق (وَإِذ كَانُوا) أَي المبتدعة (كَذَلِك) أَي غير كفار (وَجب علينا مناظرتهم) لإِزَالَة الشُّبْهَة الَّتِي أوقعتهم فِي تِلْكَ الْبِدْعَة وإظهارا للصَّوَاب. (وَأورد) على نفي تكفيرهم بطرِيق الْمُعَارضَة: يَعْنِي إِن كَانَ لكم دَلِيل يدل على عدم تكفيرهم فعندنا دَلِيل يدل على كفرهم، وَهُوَ قَوْلنَا (اسْتِبَاحَة الْمعْصِيَة كفر) فنائب الْفَاعِل فِي أورد هَذِه الْجُمْلَة بِتَأْوِيل هَذَا القَوْل. (وَأجِيب) عَن الْإِيرَاد بِأَن اسْتِبَاحَة الْمعْصِيَة كفر (إِذا كَانَ ذَلِك عَن مُكَابَرَة وَعدم دَلِيل، بِخِلَاف مَا) إِذا كَانَ (عَن دَلِيل شَرْعِي) أَي مَأْخُوذ من الشَّرْع احْتِرَازًا عَمَّا إِذا لم يكن شَرْعِيًّا كالأدلة الشَّرْعِيَّة الْحكمِيَّة فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لَهُم دَلِيل شَرْعِي يدل بزعمهم على أَن مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ حق يجب اتِّبَاعه لَا يُقَال حِينَئِذٍ أَنهم استباحوا مَعْصِيّة فَإِن قلت فَيَنْبَغِي حِينَئِذٍ أَن يفسقوا بذلك أَيْضا لأَنهم اجتهدوا فآل اجتهادهم إِلَى ذَلِك قلت شبهتهم تصلح لدرء الْكفْر، لَا لدرء الْفسق، لِأَن الشَّارِع أمرنَا بِعَدَمِ تَكْفِير أهل الْقبْلَة، لَا بِعَدَمِ تفسيقهم إِذا كَانَ مَا يدل على خلافهم من الْكتاب وَالسّنة وَاضح الدّلَالَة (والمبتدع مُخطئ فِي تمسكه) بِمَا كَانَ يزْعم أَنه دَلِيل لَهُ من الْكتاب وَالسّنة لعدم إِصَابَته حكم الله تَعَالَى فِي اجْتِهَاده، فَإِن حكم الله فِيمَا يتَعَلَّق بالاعتقاد وَاحِد بِاتِّفَاق المخطئة والمصوبة (لَا مكابر) ومعاند، لِأَن المكابرة إِنَّمَا تكون عِنْد الْعلم بِخِلَاف مَا يَدعِيهِ (وَالله تَعَالَى أعلم بسرائر عباده) فيجازيهم بموجبها. قَالَ المُصَنّف فِي المسايرة: لَا خلاف فِي تَكْفِير الْمُخَالف فِي ضروريات الْإِسْلَام من حُدُوث الْعَالم وَحشر الأجساد وَنفي الْعلم بالجزئيات وَإِن كَانَ من أهل الْقبْلَة المواظب

ص: 218

طول الْعُمر على الطَّاعَات انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام رَجَعَ الْأَشْعَرِيّ عِنْد مَوته عَن تَكْفِير أهل الْقبْلَة، لِأَن الْجَهْل بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جهلا بالموصوفات انْتهى. وَذهب الإِمَام الرَّازِيّ وَالشَّيْخ الْمَذْكُور أَن من يلْزمه الْكفْر وَلم يقل بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِر، فعلى هَذَا لَا تكفر المجسمة، وَإِن لزم عَلَيْهِم إِثْبَات النَّقْص، تَعَالَى شَأْنه عَمَّا يَقُولُونَ لأَنهم لم يَقُولُوا بِهِ، لَكِن المُصَنّف ذكر فِي المسايرة أَن الْأَظْهر كفرهم، فَإِن إِطْلَاق الْجِسْم مُخْتَارًا مَعَ الْعلم بِمَا فِيهِ من النَّقْص استخفاف (و) الثَّالِث من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل الْبَاغِي وَهُوَ) الْمُسلم (الْخَارِج على الإِمَام الْحق) مثل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمن سلك طريقهم، يظنّ أَنه على الْحق وَالْإِمَام على الْبَاطِل (بِتَأْوِيل فَاسد) فَإِن لم يكن لَهُ تَأْوِيل فَهُوَ فِي حكم اللُّصُوص، وَهُوَ لَا يصلح عذرا لمُخَالفَته التَّأْوِيل الْوَاضِح، وَهَذَا الْجَهْل (دون جهل المبتدعة) لِأَنَّهُ لَا يخل بِأَصْل العقيدة، الظّرْف خبر الْمُبْتَدَأ الْمَحْذُوف، وَقَوله (لم يكفره) أَي الْبَاغِي مُسْتَأْنف لبَيَان مَضْمُون الْخَبَر (أحد) من أهل الْعلم، فالجهل الَّذِي لَا يُوجب الْكفْر إِجْمَاعًا دون الْجَهْل الَّذِي اخْتلف فِي إِيجَابه إِيَّاه (إِلَّا أَن يضم) الْبَاغِي إِلَيْهِ (أمرا آخر) كإنكار شَيْء من ضروريات الدّين فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكفر بِسَبَب ذَلِك الْأَمر، لَا للبغي، وَالِاسْتِثْنَاء من عُمُوم الْأَوْقَات بِتَقْدِير الْوَقْت بعد إِلَّا (وَقَالَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) فِي أهل الْبَغي (إِخْوَاننَا (بغوا علينا) وَلَا يُقَال للْكَافِرِ إِخْوَاننَا، فَإِن المُرَاد مِنْهُ أخوة الْإِسْلَام، وَقَالَ تَعَالَى - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم} - فِي بَيَان حكم أهل الْبَغي (فنناظره) أَي الْبَاغِي (لكشف شبهته) ليرْجع إِلَى طَاعَة الإِمَام بِغَيْر قتال (بعث عَليّ) بن أبي طَالب (ابْن عَبَّاس) رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (لذَلِك) أَي لمناظرة أهل الْبَغي من الْخَوَارِج كَمَا أخرجه النَّسَائِيّ وَغَيره (فَإِن رَجَعَ) إِلَى طَاعَة الإِمَام (بِالَّتِي) أَي بالخصلة الَّتِي (هِيَ أحسن) وَهِي إِزَالَة الشُّبْهَة وَإِظْهَار الْحق من غير قتال فبها (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرجع إِلَى طَاعَته (وَجب جهاده) لقَوْله تَعَالَى - {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى (فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي} حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} - أَي ترجع إِلَى كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَلِأَن النَّهْي عَن الْمُنكر فرض، وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ حِينَئِذٍ، ظَاهر سِيَاق الْآيَة يدل على أَن هَذِه الدعْوَة لَهُم قبل الْقِتَال وَاجِبَة، وَإِنَّمَا الْقِتَال يجب بعْدهَا، وَفِي الْمَبْسُوط أَن الْقِتَال وَاجِب قبلهَا، وَإِنَّمَا تَقْدِيمهَا أحسن، وَقيل مُسْتَحبّ (وَمَا لم يصر لَهُ) أَي وَمَا دَامَ لم يصر للباغي (مَنْعَة) بِالتَّحْرِيكِ، وَقد يسكن: أَي قُوَّة يمْنَع بهَا من قَصده (فيجرى عَلَيْهِ) أَي على الْبَاغِي (الحكم الْمَعْرُوف) فِي الْقصاص وغرامات الْأَمْوَال وَغَيرهَا من الْمُسلمين لبَقَاء ولَايَة الْإِلْزَام فِي حَقه كَمَا فِي حَقهم (فَيقْتل) الْبَاغِي (بِالْقَتْلِ) الْعمد الْعدوان (وَيحرم) الْبَاغِي (بِهِ) أَي بِالْقَتْلِ لمورثه الْإِرْث مِنْهُ (وَمَعَهَا) أَي المنعة (لَا) يجْرِي عَلَيْهِ الحكم الْمَعْرُوف (لقُصُور الدَّلِيل

ص: 219

عَنهُ) أَي الْبَاغِي (لسُقُوط الْتِزَامه) الَّذِي كَانَ لَهُ قبل الْبَغي بِسَبَب تَأْوِيله الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ لدفع الْخَطَأ عَنهُ (وَالْعجز عَن إِلْزَامه) بِسَبَب المنعة (فَوَجَبَ الْعَمَل بتأويله) الْفَاسِد، تَحْقِيق الْمقَام على مَا ذكر المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة أَنه أجمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على أَن لَا يقيموا على أحد حدا فِي فرج اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآن، وَلَا قصاصا فِي دم اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآن، وَلَا برد مَال اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآن إِلَّا أَن وجد شَيْء بِعَيْنِه فَيرد على صَاحبه، وَأَيْضًا الْفَاسِد من الِاجْتِهَاد يلْحق بِالصَّحِيحِ عِنْد انضمام المنعة إِلَيْهِ لانْقِطَاع ولَايَة الْإِلْزَام وَلَا يخفى أَن إِلْحَاق الِاجْتِهَاد الْفَاسِد من الِاجْتِهَاد الَّذِي ضلل مرتكبه بعلة انْقِطَاع ولَايَة الْإِلْزَام إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ بِسَبَب الْإِجْمَاع، وَإِلَّا فَلَا يلْزم من الْعَجز عَن الْإِلْزَام سُقُوطه، بل إِنَّمَا يلْزم سُقُوط الْخطاب بالإلزام مَا دَامَ الْعَجز عَن إِلْزَامه ثَابتا فَإِذا ثبتَتْ الْقُدْرَة تعلق خطاب الْإِلْزَام كَمَا يَقُوله الشَّافِعِي (وَلَا نضمن مَا أتلفنا من نفس وَمَال). قيل هَذَا ظَاهر لَا خلاف فِيهِ، وَقد كَانَ الأولى لَا يضمن الْبَاغِي مَا أتلف من نفس وَمَال فِي هَذِه الْحَالة بعد أَخذه أَو تَوْبَته كَمَا فِي الْحَرْبِيّ بعد الْإِسْلَام تَفْرِيعا على وجوب الْعَمَل بتأويله انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه صرح بقوله لَا لقُصُور الدَّلِيل عَنهُ إِلَى آخِره أَن الْبَاغِي إِذا كَانَ مَعَ المنعة لَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب، وَلَا شكّ أَن من لَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب لَا يضمن، فالمحتاج إِلَى الذّكر حكم من لم يقصر عَنهُ الدَّلِيل وَقد أتلف نفس الْبَاغِي وَمَاله وَهُوَ مُسلم فَقَالَ: لَا نضمن، فَذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونا مَأْمُورا من قبل الشَّارِع بِالْقِتَالِ وَمن ضَرُورَته إتلافهما فقد عرفت أَنه لَا يتَفَرَّع عدم الضَّمَان على وجوب الْعَمَل بتأويله بل على قَوْله وَجب جهاده. قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة: الْحَاصِل أَن نفي الضَّمَان مَنُوط بالمنعة مَعَ التَّأْوِيل فَلَو تجرد المنعة عَن التَّأْوِيل كقوم غلبوا على أهل بَلْدَة فَقتلُوا واستهلكوا الْأَمْوَال بِلَا تَأْوِيل، ثمَّ ظهر عَلَيْهِم أخذُوا بِجَمِيعِ ذَلِك، وَلَو انْفَرد التَّأْوِيل عَن المنعة بِأَن انْفَرد وَاحِد أَو اثْنَان فَقتلُوا وَأخذُوا عَن تَأْوِيل ضمنُوا إِذا تَابُوا أَو قدر عَلَيْهِم (ويذفف على جرحاهم) فِي الْمغرب. ذفف على الجريح بِالذَّالِ وَالدَّال، أسْرع قَتله، وَفِي كَلَام مُحَمَّد عبارَة عَن إتْمَام الْقَتْل، وَظَاهر هَذِه الْعبارَة وجوب التدفيف كَمَا صرح بِهِ فَخر الْإِسْلَام، وَذَلِكَ لقطع مَادَّة الْفساد الْمَذْكُور. فِي الْمَبْسُوط أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد لَا يجوز لما روى عَن عَليّ أَنه قَالَ: يَوْم الْجمل لَا تتبعوا مُدبرا وَلَا تجهزوا جريحا، وَقَالُوا أَن التدفيف مَشْرُوط بِمَا إِذا كَانَت لَهُم فِئَة، وَيفهم اعْتِبَار هَذَا الْقَيْد من اشْتِرَاط المنعة فِي نفي الضَّمَان (وَيَرِث) الْعَادِل (مُوَرِثه) الْبَاغِي (إِذا قَتله) أَي قتل الْعَادِل الْبَاغِي اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ مَأْمُور بقتْله فَلَا يحرم الْمِيرَاث بِهِ (وَكَذَا عَكسه) أَي يَرث الْبَاغِي مُوَرِثه الْعَادِل إِذا قَتله وَقَالَ كنت على الْحق وَأَنا الْآن عَلَيْهِ لما عرفت من أَنه بِسَبَب التَّأْوِيل والمنعة لَا يتَنَاوَل الْخطاب وَهُوَ مُسلم فَلَا مَانع من الْإِرْث (لأبي حنيفَة وَمُحَمّد) مُتَعَلق بقوله وَكَذَا

ص: 220

وَكَذَا عَكسه: أَي عكس مَذْهَب لَهما، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ لَا يَرِثهُ فِي الْوَجْهَيْنِ: أَي سَوَاء قَالَ كنت على الْحق أَو قَالَ: كنت على الْبَاطِل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يتَنَاوَلهُ خطاب تَحْرِيم قتل الْمُسلم وحرمان الْقَاتِل من الْإِرْث عِنْدهمَا (وَلَا يملك مَاله) أَي مَال الْبَاغِي (بوحدة الدَّار) أَي بِسَبَب وحدة الدَّار لِأَنَّهُمَا فِي دَار الْإِسْلَام، فَإِن تملك المَال بطرِيق الِاسْتِيلَاء يتَوَقَّف على اخْتِلَاف الدَّاريْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ (على هَذَا اتّفق عَليّ وَالصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم) أخرج ابْن أبي شيبَة أَن عليا لما هزم طَلْحَة وَأَصْحَابه أَمر مناديه فَنَادَى أَن لَا يقتل مقبل وَلَا مُدبر وَلَا يفتح بَاب وَلَا يسْتَحل فرج وَلَا مَال، وَلم ينْقل عَن غَيره من الصَّحَابَة مُخَالفَته فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُم (و) الرَّابِع من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل من عَارض مجتهده) على الْبناء للْمَفْعُول، فِيهِ حذف وإيصال كالمشترك أَصله مُشْتَرك فِيهِ (الْكتاب كحل مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا) مِثَال لمجتهده الْعَارِض للْكتاب وَيُمكن أَن يكون الْمَعْنى كجهل مُجْتَهد قَالَ بحله (و) جَوَاز (الْقَضَاء بِشَاهِد) وَاحِد (وَيَمِين) من الْمُدَّعِي معارضين (مَعَ) قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} أَو رد عَلَيْهِ أَن مَا فِي الْآيَة كِنَايَة عَمَّا لم يذبحه موحد، وَفِي الْكِنَايَة أَنه لَا يلْزم تحقق الْمَعْنى الْأَصْلِيّ، وَلَو سلم إِرَادَة الْحَقِيقَة، لم لَا يجوز أَن يكون الذّكر القلبي كَافِيا؟ وَالْجَوَاب أَن صرف الْعبارَة عَن الْحَقِيقَة بِغَيْر صَارف لَا يجوز فَإِن قلت الصَّارِف مَا احْتج بِهِ الشَّافِعِي من قَوْله صلى الله عليه وسلم " الْمُسلم يذبح على اسْم الله تَعَالَى سمى أَو لم يسم " قُلْنَا هَذَا ورد فِي النسْيَان، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّن نسي التَّسْمِيَة على الذَّبِيحَة فَقَالَ: اسْم الله على لِسَان كل مُسلم، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم ذَبِيحَة الْمُسلم حَلَال سمى أَو لم يسم مَا لم يتَعَمَّد تَركه. وَحجَّتنَا الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، أما الْكتاب فَهَذِهِ الْآيَة، وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حَاتِم: إِذا أرْسلت كلبك الْمعلم وَذكرت اسْم الله تَعَالَى فَكل فَإِن شَاركهُ كلب آخر فَلَا تَأْكُل فَإنَّك إِنَّمَا سميت على كلبك فعلل الْحُرْمَة بترك التَّسْمِيَة، وَأما الْإِجْمَاع فَلَا خلاف بَين الصَّحَابَة فِي حُرْمَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم فِي متروكها نَاسِيا، فمذهب ابْن عمر أَنه يحرم، وَمذهب عَليّ وَابْن عَبَّاس أَنه يحل، وَقَالَ أَبُو يُوسُف مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا لَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد حَتَّى لَو قضى قَاض بِجَوَاز بَيْعه لَا ينفذ لكَونه مُخَالفا للْإِجْمَاع، كَذَا فِي شرح الْقَدُورِيّ للْإِمَام الحدادي، وَصُورَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا أَن يعلم أَن التَّسْمِيَة شَرط وَيَتْرُكهَا مَعَ ذكرهَا، أما لَو تَركهَا من لَا يعلم اشْتِرَاطهَا فَهُوَ فِي حكم النَّاسِي: كَذَا فِي الْحَقَائِق، وَأما الْجَواب عَن الذّكر القلبي فَمَا قَالُوا من أَنه يُقَال ذكر عَلَيْهِ وسمى عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ وَلَا يُقَال بِقَلْبِه (فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ) مَعْطُوف على مَدْخُول مَعَ والعاطف مَحْذُوف كَقَوْلِه تَعَالَى - (وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم قلت

ص: 221

أَي وَقلت وَيجوز أَن يَجْعَل الْمَحْذُوف مُضَافا إِلَيْهِ مَعَ على سَبِيل اللف والنشر الْمُرَتّب، قَالُوا إِن الله تَعَالَى بَين الْمُعْتَاد بَين النَّاس، وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ، ثمَّ انْتقل إِلَى غَيره، فَإِن حضورهن مجَالِس الحكم غير مُعْتَاد مُبَالغَة فِي الْبَيَان، فَلَو كَانَ يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ شَاهد كَافِيا لانتقل إِلَيْهِ لكَونه أيسر وجودا فَدلَّ النَّص التزاما على عدم حجية يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ شَاهد (وَالسّنة الْمَشْهُورَة) مَعْطُوف على الْكتاب: أَي وَجعل من يُعَارض مجتهده للسّنة الْمَشْهُورَة (كالقضاء الْمَذْكُور مَعَ) قَوْله صلى الله عليه وسلم:

" الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي (وَالْيَمِين على من أنكر) لفظ الصَّحِيحَيْنِ وَالْبَيْهَقِيّ: وَالْيَمِين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، جعل جنس الْأَيْمَان على الْمُنكر، وَلَيْسَ وَرَاء الْجِنْس شَيْء، وَمَا عَن ابْن عَبَّاس من أَنه صلى الله عليه وسلم قضى بِشَاهِد وَيَمِين، فقد روى عَن البُخَارِيّ وَغَيره انْقِطَاعه، وَمِنْهُم من ذكره فِي الضُّعَفَاء، وَله طرق لَا تَخْلُو كلهَا من نظر، وَعَن الزُّهْرِيّ بِأَنَّهُ بِدعَة، وَأول من قضى بِهِ مُعَاوِيَة. وَأورد أَنه لم يبْق لتضعيف الحَدِيث مجَال بعد مَا أخرجه مُسلم وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ بمعصوم عَن الْخَطَأ فِي الْمُحدثين، فَمن الْمُحدثين من قَالَ فِي كِتَابه أَرْبَعَة عشر حَدِيثا مَقْطُوعًا، وَمِنْهُم من أَخذ عَلَيْهِ فِي سبعين موضعا رَوَاهُ مُتَّصِلا وَهُوَ مُنْقَطع، على أَن مَا رَوَاهُ حِكَايَة وَاقعَة لَا عُمُوم لَهَا، وَيجوز أَن تكون فِي مَحل الِاتِّفَاق: كَشَهَادَة الطّيب أَو امْرَأَة فِي عيب لَا يطلع عَلَيْهِ غير ذَلِك الشَّاهِد واستحلاف المُشْتَرِي على أَنه لم يرض بِالْعَيْبِ، ثمَّ أَن الْقَضَاء بِيَمِين الْمُدَّعِي وَشَاهد وَاحِد لَا يَصح فِي غير الْأَمْوَال عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء (والتحليل) أَي وكالقول بِحل الْمُطلقَة ثَلَاثًا لزَوجهَا الأول إِذا تزَوجهَا الثَّانِي ثمَّ طَلقهَا (بِلَا وَطْء) كَمَا هُوَ قَول سعيد بن الْمسيب (مَعَ حَدِيث الْعسيلَة) وَهُوَ مَا روى الْجَمَاعَة عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَنه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن رجل طلق امْرَأَته ثَلَاثًا فَتزوّجت زوجا غَيره فَدخل بهَا ثمَّ طَلقهَا قبل أَن يواقعها أتحل لزَوجهَا الأول؟ قَالَ لَا حَتَّى يَذُوق الآخر من عسيلتها مَا ذاق الأول. قَالَ الصَّدْر الشَّهِيد: وَمن أفتى بِهَذَا القَوْل فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ. وَفِي الْمَبْسُوط: لَو أفتى فَقِيه بذلك يعزز (وَالْإِجْمَاع) أَي وَجَهل من عَارض مجتهده الْإِجْمَاع (كَبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد) أَي جَوَازه كَمَا ذهب إِلَيْهِ دَاوُد الظَّاهِرِيّ (مَعَ إِجْمَاع الْمُتَأَخر من الصَّحَابَة) قيل وَالْوَجْه من التَّابِعين لما تقدم من اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي جَوَازه وَإِجْمَاع التَّابِعين على مَنعه.

أَقُول فِي هَذَا الْكَلَام بعد مَا ذكر فِي بحث الْإِجْمَاع اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَإِجْمَاع التَّابِعين إِشَارَة إِلَى مَا عرف من أَن الصَّحَابَة كلهم على عدم جَوَاز بيعهنَّ إِلَّا عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَبعد موت عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حصل الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة. وَقد علم إِجْمَاع التَّابِعين مِمَّا سبق، فعلى قَول من لم يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع إِلَّا إِجْمَاع الصَّحَابَة أَيْضا يتم الِاسْتِدْلَال (فَلَا ينفذ الْقَضَاء

ص: 222

بِشَيْء مِنْهَا) أَي المجتهدات الْمَذْكُورَة الْمُخَالفَة للْكتاب أَو السّنة الْمَشْهُورَة أَو الْإِجْمَاع لكَونهَا فِي مُقَابلَة الْقطعِي وَلَا يخفى عَلَيْك أَن للبحث فِي كل مِنْهَا مجالا لعدم قَطْعِيَّة دلَالَة الْكتاب على الْخلاف وَكَون الْمَشْهُور آحادا فِي الأَصْل، وَكَون الْإِجْمَاع الْمَسْبُوق بِالْخِلَافِ مُخْتَلفا فِيهِ بَين الْعلمَاء، غير أَنه لما كَانَ أمرا مقررا فِي الْمَذْهَب لم يتَعَرَّض المُصَنّف لَهُ، وَعدم نَفاذ الْقَضَاء بهَا قَول الْجُمْهُور من الْحَنَفِيَّة، وتفصيلة فِي الْكتب المفصلة من الْفُرُوع (وكترك الْعَوْل) كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس (وَربا الْفضل) أَي القَوْل بحله كَمَا صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس، وَقد روى رُجُوعه عَنهُ. أخرج الطَّحَاوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قلت: لِابْنِ عَبَّاس: أَرَأَيْت الَّذِي يَبِيع الدينارين بالدينار وَالدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ أشهد لسمعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الدِّينَار بالدينار وَالدِّرْهَم بالدرهم لَا فضل بَينهمَا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَنْت سَمِعت هَذَا من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقلت نعم، فَقَالَ إِنِّي لم أسمع هَذَا إِنَّمَا أخبرنيه أُسَامَة بن زيد، وَقَالَ أَبُو سعيد وَنزع عَنْهَا ابْن عَبَّاس (الثَّانِي) من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة (جهل يصلح شُبْهَة) دارئة للحد وَالْكَفَّارَة، وعذرا فِي غَيرهمَا (كالجهل فِي مَوضِع اجْتِهَاد صَحِيح بِأَن لم يُخَالف) الْمُجْتَهد (مَا ذكر) من الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع (كمن صلى الظّهْر بِلَا وضوء ثمَّ صلى الْعَصْر بِهِ) أَي بِوضُوء (ثمَّ ذكر) أَنه صلى الظّهْر بِلَا وضوء (فَقضى الظّهْر فَقَط ثمَّ صلى الْمغرب يظنّ جَوَاز الْعَصْر) لجهله بِوُجُوب التَّرْتِيب (جَازَ) أَدَاؤُهُ صَلَاة الْمغرب (لِأَنَّهُ) أَي ظَنّه جَوَاز الْعَصْر (فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد) الصَّحِيح (فِي تَرْتِيب الْفَوَائِت) فَإِنَّهُ وَقع بَين الْعلمَاء خلاف فِي وجوب التَّرْتِيب، وَلَيْسَ فِي الْمحل دَلِيل قَطْعِيّ، وَكَانَ هَذَا الْجَهْل عذرا فِي جَوَاز الْمغرب لَا الْعَصْر، وَالْفرق أَن فَسَاد الظّهْر بترك الْوضُوء قوي، وَفَسَاد الْعَصْر بترك التَّرْتِيب ضَعِيف لِأَنَّهُ مُخْتَلف فِيهِ، فيؤثر الأول فِيمَا بعده دون الثَّانِي، وَكَانَ الْحسن بن زِيَاد يَقُول إِنَّمَا يجب مُرَاعَاة التَّرْتِيب على من يعلم، لَا على من لَا يعلم، وَكَانَ زفر يَقُول إِذا كَانَ عِنْده أَن ذَلِك يجْزِيه فَهُوَ فِي معنى النَّاسِي للفائتة، وَفِيه مَا فِيهِ (وكقتل أحد الوليين) قَاتل موليه عمدا عُدْوانًا (بعد عَفْو) الْوَلِيّ (الآخر) جَاهِلا بِسُقُوط الْقود بعفوه (لَا يقْتَصّ مِنْهُ) أَي من الْقَاتِل لِأَن هَذَا جهل فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد (لقَوْل بعض الْعلمَاء) من أهل الْمَدِينَة على مَا فِي التذهيب (بِعَدَمِ سُقُوطه) أَي الْقصاص (بِعَفْو أحدهم) أَي الْأَوْلِيَاء، حَتَّى لَو عَفا أحدهم كَانَ للباقين الْقَتْل (فَصَارَ) الْقَتْل الْمَذْكُور (شُبْهَة يدْرَأ) بِهِ (الْقصاص) وَهُوَ قد يسْقط بِالظَّنِّ كَمَا لَو رمى إِلَى شخص ظَنّه كَافِرًا فَإِذا هُوَ مُؤمن، وَإِذا قسط الْقصاص بِالشُّبْهَةِ لزمَه الدِّيَة فِي مَاله لِأَن فعله عمد وَيجب لَهُ مِنْهَا نصف الدِّيَة، إِذْ بِعَفْو شَرِيكه وَجب لَهُ نصف الدِّيَة على الْمَقْتُول فَيصير نصف الدِّيَة قصاصا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِي، وَلَو علم سُقُوطه بِالْعَفو ثمَّ قَتله عمدا يجب الْقود عَلَيْهِ. وَقَالَ زفر عَلَيْهِ

ص: 223

الْقصاص علم بِهِ أَولا: كَمَا لَو قتل رجلا يظنّ أَنه قتل وليه ثمَّ جَاءَ وليه حَيا (و) مثل (المحتجم) فِي نَهَار رَمَضَان (إِذا ظَنّهَا) أَي الْحجامَة (فطرته) فَأفْطر بعْدهَا (لَا كَفَّارَة) عَلَيْهِ: وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاء (لِأَن) قَوْله صلى الله عليه وسلم (أفطر الحاجم والمحجوم) رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم (أورث شُبْهَة فِيهِ) أَي فِي وجوب الْكَفَّارَة بِالْفطرِ بعد الْحجامَة (وَهَذِه الْكَفَّارَة يغلب فِيهَا معنى الْعقُوبَة) على الْعِبَادَة عندنَا (فتنتفى بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا يدل على أَن الْعَاميّ إِذا اعْتمد على الحَدِيث غير عَالم بتأويله ونسخه فَفعل مَا يُوجب الْكَفَّارَة كَانَ ذَلِك مورثا للشُّبْهَة فِي حَقه. كَمَا أَن قَول الْمُعْتَمد فِي الْفَتْوَى فِي الْبَلَد يُورثهَا بِحَيْثُ لَو أفطر الْعَاميّ بقوله لَا تلْزمهُ الْكَفَّارَة، بل الحَدِيث أولى بذلك، وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِذْ لَيْسَ للعامي الْأَخْذ بِظَاهِر الحَدِيث لجَوَاز كَونه مصروفا عَن ظَاهره أَو مَنْسُوخا، بل عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى الْفُقَهَاء، وَإِذا لم يسْتَند ظَنّه إِلَى دَلِيل شَرْعِي وَأفْطر يجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ جهل مُجَرّد، وَهُوَ لَيْسَ بِعُذْر فِي دَار الْإِسْلَام (وَمن زنى بِجَارِيَة وَالِده) أَو والدته (أَو زَوجته) حَال كَونه (يظنّ حلهَا لَا يحد) عِنْد الثَّلَاثَة، وَقَالَ زفر يحد وَلَا عِبْرَة بظنه الْفَاسِد: كَمَا لَو وطئ جَارِيَة أَخِيه وَعَمه يظنّ الْحل (للاشتباه) لِأَن بَين الْإِنْسَان وَأَبِيهِ وَأمه وَزَوجته انبساطا فِي الِانْتِفَاع بِالْمَالِ، بِخِلَاف الْأَخ وَالْعم (وَلَا يثبت نسب) بِهَذَا الْوَطْء وَإِن ادَّعَاهُ الْوَاطِئ (وَلَا عدَّة) أَيْضا على الْمَوْطُوءَة بِهَذَا الْوَطْء (لما) عرف (فِي مَوْضِعه) إِذْ لَا حق لَهُ فِي الْمحل، وللعاهر الْحجر، وَلَا عدَّة عَن الزِّنَا، وَتسَمى هَذِه شُبْهَة فِي الْفِعْل يسْقط بهَا الْحَد على من اشْتبهَ عَلَيْهِ، لَا على من لَا يشْتَبه عَلَيْهِ، بِخِلَاف الشُّبْهَة فِي الْمحل كَوَطْء الْأَب جَارِيَة ابْنه، فَإِنَّهُ لَا يحد، وَإِن قَالَ علمت أَنَّهَا حرَام، لِأَن الْمُؤثر فِيهِ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم أَنْت وَمَالك لأَبِيك، وَيثبت النّسَب إِذا ادَّعَاهُ، وَتصير أم ولد لَهُ. وَعند أبي حنيفَة شُبْهَة أُخْرَى دارئة للحد، وَهِي شُبْهَة العقد سَوَاء علم الْحُرْمَة أم لَا كَوَطْء الَّتِي تزَوجهَا بِغَيْر شُهُود (وَكَذَا حَرْبِيّ دخل دَارنَا فَأسلم فَشرب الْخمر جَاهِلا بِالْحُرْمَةِ لَا يحد) لِأَنَّهُ فِي مَوضِع الشُّبْهَة لحلها فِي وَقت: كَذَا ذكره الشَّارِح، وَالْوَجْه لحلها فِي بعض الْأَدْيَان لما سَيَأْتِي (بِخِلَاف مَا إِذا زنى) بعد دُخُوله دَارنَا وإسلامه (لِأَن جَهله بِحرْمَة الزِّنَا لَا يكون شُبْهَة لِأَن الزِّنَا حرَام فِي جَمِيع الْأَدْيَان فَلَا يكون جَهله عذرا، بِخِلَاف الْخمر) لعدم حُرْمَة شربهَا فِي سَائِر الْأَدْيَان (فَمَا فِي الْمُحِيط وَغَيره: شَرط الْحَد أَن لَا يظنّ الزِّنَا حَلَالا مُشكل) فَإِنَّهُ يدل على أَن جَهله بحرمته وظنه الْحل عذر يسْقط بِهِ الْحَد عَنهُ، وَقد قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة وَنقل فِي اشْتِرَاط الْعلم بِحرْمَة الزِّنَا إِجْمَاع الْفُقَهَاء (بِخِلَاف الذِّمِّيّ أسلم فَشرب الْخمر) وَقَالَ لم أعلم بحرمتها، وَقَوله: أسلم صفة للذِّمِّيّ لكَونه فِي معنى النكرَة كَقَوْلِه: وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني (يحد لظُهُور

ص: 224

الحكم) أَي حُرْمَة الْخمر لشيوعها (فِي دَار الْإِسْلَام) وَهُوَ مُقيم بهَا (فجهله) بحرمتها مَعَ شيوعها فِيهِ (لتَقْصِيره) فِي طلب مَعْرفَتهَا فَلَا يكون عذرا فِي دَرْء الْحَد وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا إِنَّمَا يَصح إِذا وجد فرْصَة أمكنه تَحْصِيل الْعلم فِيهَا، فَأَما فِي بَدْء إِسْلَامه فَلَا يحكم بتقصيره، وَترك طلب معرفَة الْأَحْكَام فِي زمَان الْكفْر لَا يُوجب التَّقْصِير، على أَن الْإِسْلَام يمحو مَا قبله الْقسم (الثَّالِث: جهل يصلح عذرا كمن أسلم فِي دَار الْحَرْب) أَي كجهل من أسلم فِيهَا (فَترك بهَا صلوَات جَاهِلا لُزُومهَا فِي الْإِسْلَام لَا قَضَاء) عَلَيْهِ إِذا علمه بعد ذَلِك لعدم تَقْصِيره لعدم اشتهار الْأَحْكَام فِي دَار الْحَرْب. وَقَالَ زفر: عَلَيْهِ الْقَضَاء لالتزامه الْأَحْكَام بِالْإِسْلَامِ وَإِن قصر عَنهُ خطاب الْأَدَاء وَهُوَ لَا يسْقط الْقَضَاء بعد تقرر السَّبَب: كالنائم إِذا انتبه بعد مُضِيّ الْوَقْت (وكل خطاب ترك وَلم ينتشر فجهله عذر) لانْتِفَاء التَّقْصِير، يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} مَا لم يتَعَلَّق علمهمْ بحرمته، سَوَاء لم يحرم أصلا أَو حرم وَلم ينتشر خَبره (للَّذين شربوا) الْخمر (بعد تَحْرِيمهَا غير عَالمين) بحرمتها، فَقَوله للَّذين مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره لقَوْله تَعَالَى - {لَيْسَ على الَّذين} - منزلا للَّذين شربوا، ولبيان حكم شربهم، روى أَن بعض الصَّحَابَة كَانُوا فِي سفر فَشَرِبُوا بعد التَّحْرِيم غير عَالمين بحرمتها فَنزلت. وَعَن ابْن كيسَان لما نزل تَحْرِيم الْخمر وَالْميسر، قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: كَيفَ بإخواننا الَّذين مَاتُوا وَقد شربوا الْخمر وأكلوا الميسر؟ وَكَيف بالغائبين عَنَّا فِي الْبلدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بتحريمها وهم يطعمونها؟ فَإِذا نزل الله تَعَالَى (بِخِلَافِهِ) أَي الْخطاب (بعد الانتشار) فَإِن جَهله لَيْسَ بِعُذْر. وَيَنْبَغِي أَن يُرَاد بِهِ الانتشار فِي بلد الْمُكَلف، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ بَلَده بَعيدا عَن مهبط الْوَحْي وَعَن الْبلدَانِ الَّتِي انْتَشَر فِيهَا فعذره وَاضح: وَظَاهر هَذِه الْعبارَة أَن الْجَهْل بعد تحقق الانتشار لَيْسَ بِعُذْر سَوَاء كَانَ الانتشار فِي بَلَده أَولا، وَيُؤَيِّدهُ إِطْلَاق قَوْلهم: الْجَهْل فِي دَار الْإِسْلَام لَيْسَ بِعُذْر لاستفاضة الْأَحْكَام وشيوعها فِيهَا والاستفاضة فِيهَا أُقِيمَت مقَام الْعلم: فعلى هَذَا كَون الْجَهْل عذرا يخص بابتداء الْإِسْلَام، لَكِن مُقْتَضى الدَّلِيل مَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ لَا وَجه لإِقَامَة الاستفاضة فِي غير بَلَده مقَام الْعلم وَإِن كَانَ بَعيدا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُؤَاخذ بترك المهاجرة لطلب الْعلم مَعَ قدرته عَلَيْهَا (لِأَنَّهُ) أَي جَهله بعد الانتشار (لتَقْصِيره) فِي طلب مَا يجب عَلَيْهِ (كمن لم يطْلب المَاء فِي الْعمرَان فَتَيَمم وَصلى لَا يَصح) تيَمّمه فَلَا تصح صلَاته (لقِيَام دَلِيل الْوُجُود) وَهُوَ الْعمرَان لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن المَاء غَالِبا (وَتَركه الْعَمَل) بِالدَّلِيلِ وَهُوَ طلبه فِيهِ. هَذَا إِذا لم يستكشفه، أما لَو استكشفه فَلم يجده فِيهِ فقد صرح بِجَوَازِهِ الْبَعْض وَهُوَ الْوَجْه، وَالتَّقْيِيد بالعمران أَن يدل على أَنه لَو ترك الطّلب فِي المفارة

ص: 225

وَتيَمّم وَصلى جَازَت صلَاته لِأَنَّهَا مَظَنَّة الْعَدَم (وَكَذَا الْجَهْل بِأَنَّهُ وَكيل أَو مَأْذُون) أَي وَكَذَا جهل الْإِنْسَان بِكَوْنِهِ وَكيلا لشخص بِأَنَّهُ وَكله وَلم يبلغهُ الْخَبَر، وبكونه مَأْذُونا إِن كَانَ عبدا أذن لَهُ سَيّده وَلم يبلغهُ الْإِذْن (عذر) خبر الْجَهْل. ثمَّ أَخذ يبين ثَمَرَة كَونه عذرا، فَقَالَ (حَتَّى لَا ينفذ تصرفهما) أَي تصرف الْوَكِيل والمأذون قبل الْعلم بالوكيل وَالْإِذْن فِي حق الْمُوكل وَالْمولى مُطلقًا وَفِي حق نفسهما أَيْضا إِذا كَانَ مَحل التَّصَرُّف ملك الْمُوكل وَالْمولى أَو ملك غَيرهمَا، وَلكَون التَّصَرُّف لَهما (ويتوقف) نَفاذ تصرفهما على إِذن الْمُوكل وَالْمولى إِذا كَانَ فِي ملكهمَا أوفى غَيره، لَكِن لَهما (كالفضولي) أَي كتوقف تصرف الْفُضُولِيّ على إِذن من لَهُ الْولَايَة (إِلَّا فِي شِرَاء الْوَكِيل) اسْتثِْنَاء من عُمُوم نفي نَفاذ تصرفهما، وَالْمرَاد شِرَاؤُهُ مثلا فَيعم كل تصرف مِنْهُ لَا يكون فِي ملك الْمُوكل وَلَا يُضَاف إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف. بل (ينفذ على نَفسه) فَبَقيَ عُمُوم نفي نَفاذ تصرف الْمَأْذُون على إِطْلَاقه لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّة للتَّصَرُّف بِغَيْر الْإِذْن فلولا أَن الْجَهْل عذر للْوَكِيل لما نفذ تصرفه فِي حق الشِّرَاء لنَفسِهِ إِذا كَانَ التَّوْكِيل بشرَاء ذَلِك المُشْتَرِي بِعَيْنِه (كَمَا عرف) من أَن العقد إِذا وجد نفاذا على الْعَاقِد نفذ عَلَيْهِ. فِي النِّهَايَة: اتّفقت الرِّوَايَات على أَن الْوكَالَة إِذا ثبتَتْ قصدا لَا تثبت بِدُونِ الْعلم، أما إِذا ثبتَتْ فِي ضمن أَمر الْحَاضِر بِالتَّصَرُّفِ بِأَن قَالَ لغيره: اشْتَرِ عَبدِي من فلَان لنَفسك، أَو لعَبْدِهِ انْطلق إِلَى فلَان ليعتقك فَاشْترى من فلَان أَو أعتق بِدُونِ الْعلم جَازَ، وَعَن أبي يُوسُف أَن الْوكَالَة بِمَنْزِلَة الْوِصَايَة لَا يشْتَرط فِيهَا الْعلم لِأَن كلا مِنْهُمَا إِثْبَات الْولَايَة، فحكاية الِاتِّفَاق على مَا فِي النِّهَايَة أَنه مَبْنِيّ على عدم الِاعْتِدَاد بِهَذِهِ الرُّؤْيَة وَيحمل كَلَام المُصَنّف على الْوكَالَة الثَّابِتَة قصدا جمعا بَين الرِّوَايَات بِحَسب الْإِمْكَان، يردهُ مَا فِي الْمُحِيط من أَنه أَي الْوَكِيل لَا يصير وَكيلا قبل الْعلم بِالْوكَالَةِ فِي رِوَايَة الزِّيَادَات وَيصير وَكيلا فِي رِوَايَة وكَالَة الأَصْل، فَالْوَجْه أَن يُقَال فِيهِ رِوَايَتَانِ، ومختار المُصَنّف مَا فِي الزِّيَادَات وَالله تَعَالَى أعلم (و) كَذَا الْجَهْل (بِالْعَزْلِ) للْوَكِيل (وَالْحجر) على الْمَأْذُون عذر، فَالْأول مَعْطُوف على قَوْله بِأَنَّهُ، وَالثَّانِي على الْعَزْل وَذَلِكَ للُزُوم الضَّرَر عَلَيْهِمَا على تَقْدِير ثبوتهما بِدُونِ الْعلم لِأَنَّهُمَا يتصرفان اعْتِمَادًا على أَنه يلْزم الْمُوكل وَالْمولى وبالعزل يلْزم الْوَكِيل، وبالفك يلْزم فِي ذمَّة العَبْد فَيتَأَخَّر الدّين إِلَى الْعتْق (فَيصح تصرفهما) أَي الْوَكِيل والمأذون على الْمُوكل وَالْمولى قبل علمهما بِالْعَزْلِ، ثمَّ إِن الْأذن إِذا كَانَ مَشْهُورا لَا ينحجر إِلَّا بشهرة حجره عِنْد أهل السُّوق دفعا للضَّرَر عَنْهُم للُزُوم تَأَخّر حَقهم إِلَى الْعتْق (و) كَذَا (جهل الْمولى بِجِنَايَة العَبْد) خطأ عذر للْمولى فِي عدم تعين لُزُوم الْفِدَاء مُطلقًا إِذا أخرجه عَن ملكه قبل علمه (فَلَا يكون) الْمولى (بِبيعِهِ) أَي العَبْد قبل الْعلم بِالْجِنَايَةِ (مُخْتَارًا للْفِدَاء) وَهُوَ الْأَرْش الَّذِي كَانَ مخبرا بَينه وَبَين الدّفع بل يجب عَلَيْهِ الْأَقَل من الْقيمَة وَالْأَرْش (و) كَذَا

ص: 226