الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في المجتهدين وأحكامهم وشرائطهم
وفيه (أي: في هذا الفصل) مسائل:
المسألة الأولى
يجوز له عليه الصلاة والسلام أن يجتهد.
وبه قال الأكثرون، وهو مذهب الشافعي وأحمد -رضي الله
عنهما- لعموم قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} .
فإنه عام شامل له صلى الله عليه وسلم لأنه كان أعظم الناس بصيرة وأكثرهم خبرة بشرائط القياس، فيكون مأمورًا بالاجتهاد، فاعلاً له، صيانة لعصمته عن ترك المأمور به.
وأيضًا: وجوب العمل بالراجح يقتضي ذلك، فإذا غلب على ظنه صلى الله عليه وسلم أن الحكم معلل بكذا، ثم عَلِم أو ظن وجود ذلك الوصف في صورة أخرى، فيلزم أن يحصل له ظن ثبوت الحكم في تلك الصورة، فيجب العمل بالظن لما هو مقرر في بداية
العقول من وجوب العمل بالراجح.
ولأنه -أي: ولأن العمل بالاجتهاد- أشق من العمل بالنص، لأنه يحتاج إلى إتعاب النفس في بذل واسع، فيكون أكثر ثوابًا، فلو لم يعمل به صلى الله عليه وسلم مع أن بعض أمته يعمل به، لزم اختصاص بعض أمته بفضيلة لم توجد فيه (وذلك باطل قطعًا).
ولأن الاجتهاد أدل على الفطانة) وجودة القريحة من العمل بالنص، فيكون العمل بالاجتهاد نوعًا من الفضل.
فلا يجوز خلو الرسول صلى الله عليه وسلم منه، لكونه جامعًا لأنواع الفضائل.
ونظر في الدليلين الأخيرين من جهة: أنا لا نسلم أن علو درجته تقتضي تركه للاجتهاد، بل قد يقتضي تركه، إذ الشيء قد يسقط
لدرجة أعلى، ولا يكون فيه نقص لأجره، ولا كون غيره مختصًا بفضيلة ليست له، وذلك كمن يحرم ثواب الشهادة لكونه حاكمًا، وثواب التقليد لكونه مجتهدًا، وثواب القضاء لكونه إمامًا.
وما اختاره المصنف من جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم هو مذهب الجمهور ونُقِل عن الشافعي وأحمد رضي الله عنهما.
ومنع ذلك أب علي الجبائي وابنه أو هاشم: لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وهو ظاهر في العموم، وأن كل ما ينطق به هو عن وحي، وهو ينفي الاجتهاد، ولأنه القول بالقياس كما تقدم، والقياس قول بالرأي، والرأي هو قول بهوى النفس ومشيئتها.
قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم مأمور به -أي: بالاجتهاد- لما مر.
فليس بهوى، فإن أمره بالاجتهاد إذا كان بالوحي كان نطقه بالحكم المجتهد فيه نطقًا عن الوحي لا عن الهوى.
قال العراقي: ما حاصله تبع في هذا الجواب صاحب الحاصل، ولم يستدل الخصم بقوله تعالى:{وما ينطق عن الهوى} إذ لا يمكن القول بأن الاجتهاد هوى، وإنما استدلاله بقوله:{إن هو إلا وحي يوحى} .
وجوابه: ما ذكره الغزالي والإمام: أنه لما أُمر بالاجتهاد لم يكن العمل بمقتضاه نطقًا بغير الوحي.
وقالا ثانيًا: لا يجوز له الاجتهاد لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في جواب كثير من المسائل كالظهار واللعان.
ولو كان مأمورًا بالقياس لما انتظر الوحي بل اجتهد وأجاب.
قلنا: لا نسلم الملازمة، فإنه ربما تأخر لجواز الوحي الذي
عدمه شرط في الاجتهاد.
فإن شرط العمل بالقياس فقد النص، فانتظاره ليحصل الناس على النص، بأن يصبر مقدارًا يعرف به أن الله -تعالى- لا ينزل فيه وحيًا.
أو لأنه لم يجد أصلاً يقيس عليه في الحال فانتظر نصًا يقيس عليه.
وأيضًا: فربما تأخر الاجتهاد، فإن استفراغ الوسع يستدعي زمانًا.
وقيل: يجوز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الآراء والحروب دون غيرها، وقيل بالتوقف في هذه الثلاثة، ونقله في المحصول عن أكثر المحققين.
وإذا قلنا: بالجواز فقيل: وقع، واختاره الآمدي وابن الحاجب.
وقيل: لم يقع.
وقيل بالوقف.
ومحل الخلاف في الفتوى، أما في الأقضية فيجوز الاجتهاد فيها قطعًا.
قاله القرافي، وتبعه غير واحد.
ويشهد له ما في سنن أبي داود عن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- قالت: أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم رجلان) يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فقال: "إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه".