الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها
فقال بعض المجتهدين: إنها أدلة شرعية.
وقال بعضهم: ليست أدلة شرعية.
وتقدم ما في دلائل.
وفيه، أي: في هذا الكتاب بابان؛ لأن الأدلة المختلف فيها قسمان: مقبولة عنده، ومردودة، فأفرد لكل منهما بابًا.
الباب الأول: في المقبولة منها
وهي ستة:
الأول
الأصل في المنافع، أي: في الأشياء النافعة -بعد ورود الشرع- الإباحة لقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعًا} .
فأخبر -تعالى- بأن جميع المخلوقات الأرضية للعباد؛ لأن "ما" للعموم وقد أكد بقوله: "جميعًا"، واللام في "لكم" تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، إذ اللام في اللغة للاختصاص النافع، كما تقول: الثوب لزيد والجل للفرس.
فلزم أن يكون جميع الأشياء النافعة مباحة مأذونًا فيها شرعًا، وهو المطلوب.
وكذلك قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده
والطيبات من الرزق} فالاستفهام ليس على حقيقته، بل هو للإنكار، فأنكر -تعالى- تحريم الزينة التي يختص بنا الانتفاع بها بمقتضى اللام.
وإنكار التحريم يقتضي انتفاء التحريم، وإذا انتفت الحرمة تعينت الإباحة وهذه الآية في معرض الامتنان، فيقتضي الإذن في الانتفاع، وإلا لم يكن منه.
وكذلك قوله تعالى {أحل لكم الطيبات} فإن اللام في "لكم" يدل على أن "الطيبات" مخصوصة بنا على جهة الانتفاع- كما مر.
والحاصل من الآيات الثلاث: أنها تدل على الإباحة بواسطة اللام.
وليس المراد من الطيبات الحلال، لئلا يلزم التكرار، بل ما تستطيبه النفوس والطباع.
لأن الأصل عدم معنى ثالث والأصل في المضار أي: الأشياء الضارة التحريم، لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" رواه أبو داود في المراسيل.
عن واسع بن حبان عن أبي لبابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "لا ضرر في الإسلام ولا إضرار".
وروي عن طرق مبينة في الشرح.
فدل على نفي الضرر مطلقًا؛ لأن النكرة المنفية تعم، وهذا النفي ليس واردًا على الإمكان، ولا على الوقوع قطعًا، لوقوع الضرر والإضرار (بل على الجواز، فإذا انتفى الجواز ثبت التحريم وهو المطلوب).
قال ابن عبد البر: قيل: الضرر والإضرار بمعنى، فجمع
بينهما توكيدًا، وقيل: بمعنى الفعل والمفاعلة أي: لا تضر أحدًا ابتداء ولا تضاره إن ضر.
وقيل: الضرر الاسم، والإضرار الفعل.
قيل: على الأول: وهو أن الأصل في المنافع الإباحة، لا نسلم أن "اللام" تفيد الاختصاص النافع في جميع الصور لغة، فإن "اللام" تجيء لغير النفع أيضًا، كقوله تعالى:{وإن أسأتم فلها} .
فإنه لاختصاص المضار.
وكذلك قوله تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}
ليست للاختصاص النافع، لتنزهه تعالى عن الانتفاع به.
قلنا: استعمال "اللام" في غير الانتفاع مجاز، لاتفاق أئمة اللغة على أنها موضوعة للملك، ومعناه: الاختصاص النافع، لا التمليك الشرعي وإلا لم يصح قولهم: الجل للفرس، فتكون "اللام" حقيقة في الاختصاص النافع، فاستعماله في غيره مجاز، لأنه خير من الاشتراك.
وفيه نظر لأن المصنف قدم أن اللام موضوعة التعليل.
فالأحسن أن يقال: إن "اللام" موضوعة للاختصاص المطلق،
وهو القدر المشترك، وليس فيه اشتراك ولا مجاز.
قيل: عليه (أيضًا سلمنا) أن اللام للاختصاص النافع، لكن لا يلزم من ذلك إباحة جميع المنتفعات، لأنه مطلق، ولم لا يجوز أن يكون المراد بالانتفاع المخصوص بنا والاستدلال بما في الأرض على وجود الصانع، فإن هذا نفع عظيم.
قلنا: هو يعني الاستدلال حاصل لكل مكلف في نفسه، فإنه يمكن أن يستدل من نفسه على صانعه، فيحمل على غيره، أي: على غير الاستدلال تكثيرًا للفائدة، فيكون أولى، فيكون راجحًا.
وما قيل: إنه يحمل على غيره، وإلا يلزم تحصيل الحاصل، فيه نظر.
واستثنى السبكي من الأصل في الأشياء الإباحة "الأموال" فقال: الظاهر أن الأصل فيها التحريم، وإيضاحه في الشرح وغيره لم يذكر هذا الاستثناء.
الثاني من الأدلة
الاستصحاب
يعني استصحاب الحال فإنه حجة، خلافًا للحنفية والمتكلمين.
كذا أطلق المصنف الخلاف تبعًا لجماعة.
والتحقيق: أن له صورًا:
الأولى: استصحاب العدم الأصلي.
وهو نفي ما نفاه العقل، ولم يثبته الشرع، كوجوب صوم رجب فهو حجة جزمًا.
الثانية: استصحاب مقتضى العموم أو النص، إلى أن يرد المغير من مخصص أو ناسخ، فهو حجة جزمًا، فيعمل بهما إلى وروده.
وتقدم أن ابن سريج: خالف في العمل بالعام قبل البحث عن المخصص.
وقال ابن السمعاني: لا يسمى هذا استصحابًا؛ لأن ثبوت الحكم فيه باللفظ.
الثالثة: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته لوجود سببه كثبوت الملك بالشراء، أو شغل الذمة عن فرض، أو إتلاف، إذا لم يعرف وفاؤه، فهو حجة مطلقًا.
ولم يختلف أصحابنا في العمل بالاستصحاب في هذه أيضًا، وفيها خلاف لغيرهم: فقيل: ليس بحجة مطلقًا، حكي عن بعض المتكلمين وعزاه الإمام الرازي للحنفية.
وقيل: إنه حجة لإبقاء ما كان على ما كان، وليس بحجة لإثبات أمر لم يكن، كاستصحاب حياة المفقود قبل الحكم بموته، فإنه دافع للإرث منه وليس برافع، لعدم إرثه من غيره، للشك في حياته، فلا يثبت استصحابها، ويشهد له مسائل في مذهبنا.
وقيل: حجة، بشرط أن لا يعارضه ظاهر، فإن عارضه ظاهر عمل بالظاهر، سواء كان الظاهر مستندًا إلى علته أم لا.
وهو المرجوح من قولي الشافعي (رضي الله تعالى عنه).
وقيل: إنه حجة إن لم يعارضه ظاهر مستندًا إلى علته.
فإن استند الظاهر إلى علته قدم على الأصل.
وقيل: إنما يقدم الظاهر الغالب على الأصل إذا كان له سبب، كما لو رأى ظبية تبول في ماء كثير ثم قرب إليه فوجده متغيرًا، فإنا نحكم بنجاسته إحالة على السبب الظاهر.
نص عليه الشافعي -رضي الله تعالى عنه- وتابعه الأصحاب.
وقيل: يفرق في هذه الصورة بين أن يعهده عن قرب غير
متغير، فيعمل بالسبب المذكور، وبين أن لا يكون له به عهد، أو يعهده من زمن بعيد فيعمل باستصحاب الأصل.
قاله القفال، والجرجاني.
وقال في جمع الجوامع: إنه الحق.
الرابعة: استصحاب حال الإجماع في موضع الخلاف، بأن يجمعوا على حكم في حال أخرى.
والأكثرون: على أنه لا يحتج باستصحاب تلك الحالة في هذه خلافًا للمزني وأبي بكر الصيرفي: وابن سريج والآمدي في قولهم يحتج بذلك.
مثاله: الخارج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء عندنا
استصحابًا لما قبل الخروج من بقائه المجمع عليه.
إذا علمت ذلك فالاستصحاب الذي نقول به -دون الحنفية- وينصرف إليه الاسم: ثبوت أمر في الزمان الثاني لثبوته في الزمن الأول، لانتفاء ما يصلح أن يتغير به الحكم بعد البحث التام.
والسين فيه للطلب.
فأما عكسه: وهو ثبوت (الأمر في) الأول لثبوته في الثاني، فاستصحاب مقلوب.
كأن يقال: في المكيال الموجود الآن كان على عهد (رسول الله) صلى الله عليه وسلم باستصحاب الحال في الماضي.
قال السبكي: ولم يقل الأصحاب به إلا في مسألة واحدة، بينتها في الشرح مع فوائد حسنة.
لنا على حجية الاستصحاب: أن ما ثبت في الزمان الأول من وجود أمر أو عدمه، ولم يظهر زواله، لا قطعًا ولا ظنًا، ظن بقاؤه.
كما كان ضرورة، والعمل بالظن واجب.
وإنما قلنا ذلك لوجهين:
الأول: لولا ذلك، أي: لولا بقاء الظن بثبوت الثابت الذي لم يظهر زواله بوجه من الوجوه.
لما تقررت المعجزة لتوقفها، أي: لتوقف المعجزة على استمرار العادة، لأن المعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم
المعارضة.
إذ لو جاز التغير فيها لم تكن معجزة خارقة لها لجواز تغيرها فلم تكن معجزة.
ولولا أن ما ثبت في الزمان الأول يظن بقاؤه كما كان لم تثبت الأحكام الثابتة في عهده عليه الصلاة والسلام (بالنسبة إلينا) لجواز النسخ، فإنه إن لم يحصل الظن ببقاء تلك الأحكام لم يكن الحكم بثبوتها لانتفاء الجزم بثبوتها، لأن احتمال بقائها مساو لجواز نسخها.
ولكان الشك في الطلاق مانعًا من الحل، كالشك في النكاح حيث كان مانعًا من الحل اتفاقًا، والثلاثة التالية باطلة فالمقدم كذلك.
ولنا أيضًا: على أن ثبوت الشيء في الزمان الأول من غير ظهور مزيلة، يقتضي ظن بقائه في الزمان الثاني، وذلك؛ لأن ظن البقاء راجح على حدوث الفناء، وذلك لأن الباقي مستغن عن سبب جديد، أو شرط جديد، لأن الاحتياج إليهما، إنما هو لأجل الوجود، والوجود حاصل.
فلا يحتاج إليهما، وإلا يلزم تحصيل الحاصل، بل يكفيه دوامهما، دون الحادث، الذي هو عدم الباقي، فإنه لا بد له من سبب وشرط جديدين، فيفتقر إلى مقدمات أكثر فيكون مرجوحًا بالنسبة إلى الباقي.
وأيضًا: فإنه يقل عدمه أي يقل عدم الباقي، وذلك
لأنه أقل من عدم الحادث؛ لأن الباقي داخل في الوجود (وكل ما) دخل في الوجود فهو متناه، لاستحالة دخول ما لا يتناهى في الوجود، فكذا عدمه، بخلاف عدم الحادث، فإنه لا نهاية له لصدق عدم الحادث على ما لا نهاية له، وإذا كان عدم الباقي أقل كانوجوده أكثر، فيكون راجحًا على وجو الحادث، وهو المطلوب.
وهنا نفائس في الشرح.
الثالث
من الأدلة المقبولة
الاستقراء
وهو تام وناقص.
فالتام -قال بعضهم-: هو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في الكل، والناقص إثباته في فرد لثبوته في أكثر الجزئيات.
وقال بعضهم: التام إثبات حكم كلي لثبوته في جميع جزئياته.
(والناقص: إثبات حكم كلي لثبوته في بعض جزئياته).
والأول فيه تسامح؛ لأن الاستقراء حجة موصلة إلى التصديق الذي هو الحكم الكلى، فكأنه أراد أن إثبات المطلوب بالاستقراء هو: ثبات حكم كلي لوجوده في أكثر الجزئيات.
والصحيح في تفسيره انه عبارة عن: تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات.
فتصفحنا جزئيات ذلك الكلي، لنطلب الحكم في واحد واحد هو الاستقراء. وإيجاب الحكم لذلك الأمر الكلي، أو سلبه عنه هو نتيجة الاستقراء.
سمي بذلك لأن المستقري يتبع جزئيًا فجزئيًا ليتحصل المطلوب.
يقول: استقرت البلاد إذا تتبعها قرية قرية.
يخرج من أرض إلي أرض.
والناقص هو مقصود المصنف.
ويسمي عند الفقهاء إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.
مثاله: الوتر يؤدى على الراحلة في السفر، فلا يكون واجبًا، لاستقراء أن الواجبات لا تفعل كذلك على الراحلة.
أما كون الوتر يؤدي على الراحلة في السفر، فبالإجماع.
وأما الثانية: فباستقراء وظائف اليوم والليلة، فلم نجد واجبًا يؤدى على الراحلة.
وهذا لا يفيد القطع، لجواز أن يكون حكم ما لم يستقرأ من الجزئيات، على خلاف ما استقرئ منها. بل يفيد الظن عند المنصف، حيث قال "وهو يفيد الظن والعمل به لازم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن نحكم بالظاهر".
قال الزركشي: أفادني شيخنا مغلطاي أن الحافظ أبا طاهر
إسماعيل (بن علي) بن إبراهيم بن أبى القاسم الجنزوري رواه في كتابه:
إدارة الحكام في قضية الكندي والحضرمي اللذين اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأصل حديثهما: في الصحيحين، فقال المقتضي عليه: قضيت علي والحق لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر".
وله شواهد.
قال: والحديث مشتهر في كتب الفقه وأصوله، وقد استنكره جماعة من الحفاظ منهم المزي والذهبي وقالوا: لا أصل له.
وقال العراقي: لم أقف على هذا الحديث بإسناد.
وقال والدي: لا (أصل له.
وفي الصحيحين): فأقضى له على نحو ما أسمع.
وفي البخاري: عن عمر رضي الله عنه (عنه): "إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم"
وفي الأم للشافعي رضي الله عنه بعد أن أخرج حديث أم
سلمة رضي الله عنها: "إنما أنا بشر" الحديث
قال: رضي الله عنه فأخبر -صلي الله عليه وسلم- أنه إنما يحكم بالظاهر، وإن أمر السرائر إلى الله- تعالى.
فربما ظن أن هذا حديث. وهو كلام الشافعي رضي الله عنه كذا قيل.
والمصنف تابع في جزمه لصاحب الحاصل.
وقال الإمام الرازي: الأظهر أنه: لا يفيد الظن، إلا بدليل منفصل.
أما ثبوته في جزئي (لثبوته في جزئي) آخر بجامع فهو القياس
الشرعي وأما هذا فإنه إلحاق للفرد بالأكثر بغير جامع.
وأما التام (فلا خلاف) كما قال الصفي الهندي إنه حجة.
والأكثرون: على أنه مفيد للقطع.
واعلم أن الوتر كان واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن فعله على الراحلة كان بعد النسخ. والله أعلم.
الرابع
من الأدلة المقبولة
أخذ الشافعي رضي الله عنه بأقل ما قيل، وهو مذهب الجمهور.
إذا كان الأقل جزءًا من الأكثر [و] إذا لم يجد دليلاً يدل على الأكثر أو الأقل.
كما قيل: في دية الكتابي: الثلث، وقيل: النصف، وقيل: الكل.
فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه- الثلث: بناء على الإجماع والبراءة الأصلية.
فوجوب الأقل مجمع عليه؛ لأن من أوجب الثلث فقد أوجبه، ومن أوجب ومن أوجب الزائد استلزم بالضرورة لإيجاب الأقل وهو الثلث، والأصل براءة الذمة عن الزائد، فليس إجماعًا، محضًا، بل مركب من أمرين.
وقال القاضي أبو بكر وغيره: إن الناقل عن الشافعي أنه من الإجماع لعله زل في كلامه.
هذا إذا انحصرت الأقوال في ثلاثة، أما إذا لم تنحصر. كما إذا كان مع هذه الأقوال فول رابع، وهو أنه لا يوجب شيئًا فلم يكن الأخذ بأقل ما قيل واجبًا.
وكذا إذا دل دليل على الأقل، فإن الحكم يكون لأجل الدليل فقط.
أو دل دليل على الزائد فيرجع إليه، ولا يجوز الأخذ بالأقل.
واعترض على أصل الدليل، بأن قيل: إذا كان مركبًا من هذين الدليلين فكيف جعل دليلاً مستقلاً؟
وكيف تتجه المخالفة فيه ممن يوافقه عليهما.
فإن قيل: يجب الأكثر لأنه؛ ثبت في الذمة شيء ليتقن الخلاص والخروج عن عهدة ما وجب عليه.
قلنا: إنما يجب ذلك حيث تيقن الشغل [أي] شغل الذمة به، والزائد على الأقل لم يتيقن فيه ذلك؛ لأنه لم يثبت عليه دليل فلا يجب.
الخامس
قد عرفت أن الوصف المناسب للحكم قد يعتبره الشارع، وقد يلغيه، وقد لا يعلم حاله في الاعتبار والإلغاء، وقد عرفت القسمين الأولين.
وأما الثالث وهو المناسب المرسل: ويسمى بالمصالح المرسلة فقد اختلفت فيه.
والأكثرون: على أنه غير معتبر مطلقًا، واختاره ابن الحاجب،
وقال الآمدي: إنه الحق الذي اتفق عليه الفقهاء.
واختار المنصف تبعًا للغزالي أنه إن كانت المصلحة ضرورية، أي لا
يمكن تحصيلها بطريق آخر، وهي إحدى الضروريات الخمس.
قطعية: وهى التي يجزم بحصول المصلحة فيها بالقطع لا بالظن.
كلية: لرجوعها إلي كافة الأمة، كتترس الكفار الصائلين بأسارى المسلمين.
وقطعنا بأنا لو امتنعا عن قتل الترس، لصدمونا واستولوا على ديارنا، وقتلوا المسلمين كافة حتى الترس، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلمًا من غير ذنب صدر منه،
فقتل الترس -والحالة هذه- مصلحة مرسلة، لكونه لم يعهد في الشرع جواز قتل مسلم بلا ذنب.
ولم يقم -أيضًا- دليل على عدم جواز قتله عند اشتماله على مصلحة عامة للمسلمين، ضرورية قطعية.
اعتبر المناسب حينئذ، ويكون من الأدلة المقبولة.
فلذلك يجوز أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى أن يقول هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشارع من حفظ مسلم.
وإلا، أي: إن لم تكن المصلحة ضرورية، قطعية كلية، فلا يعتبر المناسب، ولا يكون دليلاً مقبولاً، فعلم منه أنها لو لم تكن
ضرورية ولكن كانت حاجية فإنها لا تعتبر. وكذا إن لم تكن قطعية ولكنها ظنية. وكذا إن لم تكن كلية ولكنها جزئية.
هذا وقد قال صاحب جمع الجوامع: ليس منه، أي من المناسب المرسل مصلحة ضرورية كلية قطعية، رداً على الإمام والآمدي وغيرهما حيث قالوا: لم يقل الشافعي -رضي الله تعالي عنه- بالمرسل إلا في هذه المسألة.
ورداً على المصنف وغيره، في جعلها من المناسب المرسل،
وحكاية الخلاف فيها: لأن هذه الصورة قد قام الدليل على اعتبارها.
فإنه إذا قيل: فيه سفك دم امرئ معصوم.
عورض بأن في الكف عن إهلاك دماء معصومة لا حصر لها.
وقد علم من الشرع تقديم حفظ الكلي على الجزئي، وأن حفظ أصل الإسلام عن استئصال الكفار أهم في نظر الشرع من حفظ طائفة مخصوصة، ولم يسم هذا قياسًا.
إذ ليس له أصل معين، بل أدلته متعددة من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، فلذلك أطلق عليه اسم المصلحة المرسلة، وكأن هذه التسمية هي الموقعة للإمام وغيره في جعل الشافعي قائلًا بالمصلحة في هذه المسألة
واعلم أنه تنازع في اشتراط القطع: حكاية الأصحاب وجهين في مسألة التترس من غير اشتراط القطع.
وعللوا المنع بأن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا
يباح بالخوف.
وفيه تصريح بجريان الخلاف في حالة الخوف بدون القطع.
قال العراقي: وقد قال: حالة القطع محل جزم، والخلاف في صورة الخوف، وبه صرح العزالي في المستصفي.
قلت: وعبارته: نحن إنما نجوزه عند القطع أو الظن قريب من القطع. والله أعلم.
وأما مالك -رضي الله تعالي عنه- فقد اعتبره أي: اعتبر المناسب المرسل مطلقًا، سواء اشتملت هذه المناسبة على هذه القيود، أو لم تشتمل.
لأن اعتبار جنس المصالح في الشرع، حيث اعتبر الحكم المشتمل على المصلحة (الخالصة، والحكم المشتمل على المصلحة) الراجحة، واعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتباره، أي اعتبار المناسب المرسل؛ لأنه إذا غلب على ظننا أن هذا الحكم مصلحة غالبة على المفسدة (وقطعنا بأن المصلحة الغالبة على المفسدة) معتبرة في الشرع، لزم ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعًا، والعمل بالظن واجب.
ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم- قنعوا بمعرفة المصالح، ولم يلتفتوا إلى الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في القياس والأصل والفرع.
إذ المقصود من الشرائع رعاية المصالح، وإذا كان كذلك فالمناسب المرسل معتبر في الشرع.
وإن فقدت المناسبة هذه المناسبة هذه الشرائط التي ذكرتم، وذلك يدل على اعتباره مطلقًا ولم يجب المنصف عن هذه الدليلين.
قال بعضهم: لقوتهما.
وأجاب البعض عن الأول: بأنه لو وجب اعتبار المصالح المرسلة لاشتراكها مع المصالح المعتبرة في كونها مصالح، لوجب إلغاؤها أيضًا، لاشتراكهما مع المصالح الملغاة في ذلك، فيلزم اعتبارها وإلغاؤها وهو محال.
وعن الثاني: بأنا لا نسلم إجماع الصحبة علية، بل إنما اعتبروا من
المصالح ما اطلعوا على اعتبار الشارع لنوعه أو جنسه القريب.
وما نقله المصنف عن مالك -رضي الله تعالى عنه- من اعتبار المناسب المطلق، نقل عن إمامنا أشياء أيضًا عن الشافعي -رضي الله تعالى عنه- قال: إمام الحرمين: إلا أنه شرط فيه أن تكون تلك المصالح مشتبهة بالمصالح المعتبرة.
واعتبر إمام الحرمين: المصلحة في الجملة، لكن لم يعتبر جنس المصلحة مطلقًا، بل بالغ في البرهان في إنكاره.
فلا يقال: اختاره إمام الحرمين.
وقيل: ترد في العبادات وتقبل في المعاملات.
قال ابن الأنباري: وهو الذي يقتضيه مذهب مالك- رضي الله تعالى عنه.
السادس
من الأدلة المقبولة عند المصنف ونقله في المحصول عن بعض الفقهاء ولم يصرح بموافقته: فقد الدليل بعد التفحص البليغ، فإنه يدل على عدم الحكم بعد ما يدل عليه.
بيانه: أن المجتهد إذا طلب في الواقعة النص والإجماع والقياس، واجتهد في الطلب ولم يجد شيئًا يغلب على الظن عدمه، أي عدم الدليل، وعدمه- أي: عدم الدليل- يستلزم عدم الحكم؛ لأنه لو ثبت حكم شرعي من غير أن ينصب عليه الشارع دليلًا، لزم تكليف الغافل، وذلك باطل، لامتناع تكليف الغافل.
والمراد بعدم الحكم: عدم تعليقه؛ لأن الحكم قديم.