المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حكم القراءات الشاذة: - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌ حكم القراءات الشاذة:

قلتُ: الصواب المقطوع به أن القراءة المشهورة المتواترة أرجحُ من هذه، فإنّ تلك القراءة لو كانت أرجحَ من هذه لكانت الأمة قد نَقَلتْ بالتواتر القراءةَ المرجوحةَ. والقراءة التي هي أحبُّ القراءتين إلى الله ليست معلومةً للأمة، ولا مشهودًا بها على الله، ولا منقولةً نقلاً متواترًا، فتكون الأمة قد حفظت المرجوح، ولم تحفظ الأحبَّ إلى الله الأفضلَ عند الله، وهذا عيب في الأمة ونقص فيها.

ثمّ هو خلاف قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))

(1)

، فإنه على قولِ هؤلاء يكون الذكر الأفضل الذي نزله ما حفظه حفظًا يُعلَم به أنه منزَّل، كما يعلم الذكر المفضول عندهم.

وأيضًا فللناس في هذه القراءة وأمثالها مما لم يتواتر قولان

(2)

:

منهم من يقول: هذه تشهد بأنها كذب، قالوا: وكل مالم يُقطَع بأنه قرآن فإنه يُقطَع بأنه ليس بقرآن. قالوا: ولا يجوز أن يكون قرآنٌ منقولاً بالظنّ وأخبارِ الآحاد، فإنّا إن جوّزنا ذلك جاز أن يكون ثَمَّ قرآن كثير غيرُ هذا لم يتواتر. قالوا: وهذا مما تُحِيلُه العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن، فكما لا يجوز اتفاقُهم على نقل كذبٍ، لا يجوز اتفاقهم على كتمان صدقٍ.

فعلى قولِ هؤلاء يُقطَع بأن هذه وأمثالَها كذب فيَمتنعُ أن يكون أفضل من القرآن الصدق.

(1)

سورة الحجر: 9.

(2)

انظر في‌

‌ حكم القراءات الشاذة:

"التمهيد" لابن عبد البر (8/ 293)، و"فتاوى ابن الصلاح"(1/ 231 - 233)، و"المرشد الوجيز" ص 183 وما بعدها، و"منجد المقرئين" ص 82 وما بعدها، و"مجموع الفتاوى"(13/ 389 وما بعدها).

ص: 112

والقول الثاني: قول من يُجَوِّز أن تكون هذه قرانًا وإن لم يُنقَل بالتواتر. وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يُقرَأُ بها في السبعة والعشرة، لا يُشتَرط فيها التواتر. وقد يقولون: إنّ التواتر منتفٍ فيها أو ممتنع فيها. ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف، وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغُ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلفَّظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته. وما كان تلفظه به على وجهين كلاهما صحيح المعنى، مثل قوله:(وما الله بغافل عما تعملون (85))

(1)

ويعملون

(2)

، وقوله:(إلا أَن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُوَد الله)

(3)

إلاّ أن يُخافَا أن لا يقيما حدود الله

(4)

، فهذه يُكتفَى فيها بالنقل الثابت وإن لم يكن متواترًا، كما يُكتفَى بمثل ذلك في إثبات الأحكام والحلال والحرام، وهو أهمُّ من ضبط الياء والتاء، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بغافلٍ عما يعمل المخاطَبون بالقرآن، ولا عمّا يعمل غيرهم، وكلا المعنيين حقّ قد دلَّ عليه القرآن في مواضع، فلا يضرّ أن لا يتواتر دلالةُ هذا اللفظ عليه. بخلاف الحلال والحرام الذي لا يُعلَم إلاّ بالخبر الذي ليس بمتواتر.

والعادة والشرع أوجب أن يُنقَل القرآن نقلاً متواترًا، كما نُقِلتْ جُمَلُ الشريعة نقلاً متواترًا، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وأن صلاة

(1)

سورة البقرة: 85.

(2)

هي قراءة نافع وابن كثير ويعقوب وخلف.

(3)

سورة البقرة: 229.

(4)

هي قراءة أبي جعفر وحمزة ويعقوب.

ص: 113

الحضر أربعٌ إلاّ المغرب والفجر، وأنه يُخافَت في صلاة النهار ويُجهَر في صلاة الليل، ويُجهَر في صلاة الفجر وإن قيل: إنها من صلاة النهار، وأنها ركعتان حضرًا وسفرًا، والمغرب ثلاث حضرًا وسفرًا، ونحو ذلك.

ثمّ كثير من الأحكام التي يعملها الخاصَّة دون العامة، تُعلَم بالأخبار التي يعلمها الخاصة، كذلك بعض الحروف التي يضبطها الخاصة من القرّاء قد تكون من هذا الباب.

وعلى هذا الوجه فيمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بتلك القراءة أكثر، ويُعلِّمها لأمته أكثر، وجماهير الأمة لم تنقُلْها ولم تَعْرِفها، فنقلُ جمهور الأمة لها خلفًا عن سلف تُوجب أنها كانت أكثر وأشهر من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان قرأ بالأخرى، وإن كان لم يقرأ بالأخرى لم تعدل بهذه. فنحن نشهد شهادةً قاطعةً أنه قرأ بهذه، وأنّ تلك إمّا أنه لم يَقرأ بها أو قرأ بها قليلاً، والغالب عليه قراءته بهذه، لأنه يمتنع عادةً وشرعًا أن تكون قراءتُه بتلك أكثر، وجمهور الأمة لم تنقل عنه ما هو أغلبُ عليه، ونقل عنه ما كان قليلاً منه.

فهذا من جهة نقل إعراب القرآن ولفظه.

فصل

وأما من جهة معناه ومفهومه فيقال: نفس القراءة المتواترة أرجح وأظهر وأتم، وذلك من وجوه: أحدها: أن معنى هذه موافق لمعنى قوله في الآية الأخرى (وَمَا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو القوة المتين (58))

(1)

. فقوله: (وما أريد أن يطعمون (57))

(1)

سورة الذاريات: 56 - 58.

ص: 114

نفيٌ لإرادته منهم أن يطعموه، فهو نفيٌ لإطعامهم، وهذا موافق لقوله (وَهُوَ يُطعِمُ وَلَا يُطعَمُ) على البناء للمفعول. ولو أريد نظير تلك القراءة لقال:"فإني لا أطعَم" ونحو ذلك. ولا ريب أنه سبحانه منزَّهٌ عن الأكل والشرب، بل الملائكة لا تأكل ولا تشرب، فكيف بالسبوح القدوس ربّ الملائكة والروح؟

وهذا المعنى قد دلّ عليه في مواضع:

منها: اسمه "الصمد"، فإن من معناه الذي لا يأكل ولا يشرب، كما قد بيّن هذا في تفسير هذه السورة

(1)

.

ومنها: قوله (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75))

(2)

. وهو سبحانه ذكر هذا بعد قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75))

(3)

.

(1)

ضمن "مجموع الفتاوى"(17/ 223 - 225).

(2)

سورة المائدة: 75.

(3)

الآيات 72 - 75.

ص: 115

فهذا كلام في سياق نفي الإلهية عن المسيح وغيره، وتكفير من قال: إنه الله، أو إنّ الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذه وأمة إلهين من دون الله، فبيَّن غايته وغاية أمّه، فقال (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه)، وهو ردّ على اليهود والنصارى. ثم قال:(كانا يأكلان الطعام)، وهو يقتضي أن أكل الطعام منافٍ للإلهية، فمن يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلهًا. ولولا منافاته للإلهية لم يذكر دليلاً على نفيها، فإن الدليل يستلزم المدلول عليه، فعُلِم أن أكل الطعام يستلزم نفي الإلهية.

وقد ذكروا في ذلك وجهين

(1)

، أشهرهما أن من يأكل ويشرب يعيش بالغذاء، ومن يقيمة اكل والشرب كان مفتقرًا إلى غيره، فلا يصلح أن يكون إلهًا. وهذا هو الذي ذكره أكثر المفسرين.

وقال طائفة منهم ابن قتيبة

(2)

: إنّه نبَّه على عاقبته، وهو الحدث، إذ لابد لأكل الطعام من الحدث. قال: وقوله (اَنظُر كيف نبين لهم الآيات) من ألطف ما يكون من الكناية.

وهذا الوجه صحيح في حق المسيح وأمثاله من البشر في الدنيا، فإن أكلهم الطعامَ يستلزم الحدثَ، وخروجُ الحدث من أبين الأشياء دلالةً على انتفائه إلهية من يبول ويغوط، وذلك أعظم من كونه يلد. والدليل يجب طردُه ولا يجب عكسُه، فلا يلزم أن يكون كل من

(1)

انظر تفسير ابن عطية (5/ 162) و"زاد المسير"(2/ 404) والقرطبي (6/ 250).

(2)

في "تفسير غريب القرآن" ص 145. وردّ عليه ابن عطية فقال: هذا قول بشيع، ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي.

ص: 116

يتغوط أو من لا يأكل ويشرب إلهًا. كما أنه [لو] استدلّ على انتفاء الإلهية بأنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، كان دليلاً صحيحًا، ولم يلزم أن يكون كل من يتكلم ويسمع ويبصر إلهًا، بل انتفاءُ صفاتِ الكمالِ يناقض الإلهية، وإن كان ثبوت جنسها لا يستلزم إلهية. كما أنه إذا قيل: إن الإله يجب أن يكون موجودًا قائمًا بنفسه حيا عليمًا قديرًا، فانتفاءُ هذه الأمور يَستلزِم انتفاء الإلهية، ولا يستلزم أن يكون كل موجودٍ حيّ عليم قديرٍ إلهًا.

وأما إن أريد بهذا الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من لزوم الحدث طردُ الدليل، فيحتاجون أن يُفسِّروا الحدثَ بجنس الخارج من الآكل الشارب، فإن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة

(1)

، لهم رشح كرشح المسك، وهذا من جنس العَرَق الذي يخرج من المَشَام. وهو أيضًا ينافي الصمدية، فإنّ الصمد هو الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، فخروج الخارج ولو كان كرشح المسك ينافي الصمدية التي هي من لوازم البارئ، فيكون لزوم الحدث للأكل دالاًّ على نفي إلهيته منْ هذه الجهة أيضًا. والصمدية هي المنافية للأكل والشرب وسائر ما يدخل ويخرج، كما قد بُسِطَ في تفسير السورة

(2)

.

الوجه الثاني: أن هذه الآية لم تُسَقْ لبيان تنزُّهه عن الأكل، فإن

(1)

منها ما أخرجه مسلم (2835) عن جابر مرفوعًا: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جُشَاءٌ ورَشح كرَشحِ المسك". وانظر أحاديث أخرى في هذا الباب في "حادي الأرواح" ص 128.

(2)

ضمن "مجموع الفتاوى"(17/ 223 - 225، 238 - 239).

ص: 117

ذلك مبيَّنٌ فيما يناسب ذلك من السور التي فيها تنزيهه عن النقائص، ومن الآيات الدالة على أن هذه النقائص مستلزمة لكون صاحبها مخلوقًا لا إلهًا ونحو ذلك. وإنما سِيْقَتْ لبيان حاجة الخلق إليه وإحسانه إليهم، وبيان غناه عنهم وامتناع إحسانهم إليه، فإنه يُطعِمهم وهم لا يطعمونه، وهذا الوصفُ دالٌّ على هذا المقصود. كما إذا قيل: يُعلِّمهم ولا يُعلِّمونه، ويُعطِيهم ولا يُعطُونه. وهو من معاني الصمد، أن كل ما سواه محتاج إليه، وهو مستغنٍ عن كل ما سواه، ثمَّ كونُه في نفسه لا يأكل ولا يشرب مدح له وتنزيهٌ من جهة أخرى، فإن نفسَ كونه يُطعِم ولا يُطعَم وصفٌ اختصَّ به. فالحيوانُ إنسُهم وجنُّهم وبهائمهُم يأكلون، فإذا قُدِّر أنهم أَطعَموا فهم يُطعَمون، والملائكة وإن كانوا لا يأكلون ولا يشربون فهم لا يُطعِمون الخلقَ، فليس من يُطعِم ولا يُطعَم إلاّ الله. وإذا قدر قادرٌ يُطعِمُ غيرَه ويُحسِنُ إليه ويَرزقه، وأولئك لا يُطعِمونه ولا يرزقونه ولا يُحسِنون إليه، كان هو المُنعِم عليهم، واستحقَّ أن يشكروه، وإن كان هو يأكل ويشرب من ملكه، لكن ليس هو محتاجًا إليهم، ولا هم يُحسِنون إليه.

فتبيَّن أن هذا الوصفَ وصفُ مدع يختصُّ به، ويُبيِّن ربوبيته وافتقارَ الخلق إليه وإحسانَه إليهم، وإذا قيل: وهو يُطعِم ولا يُطعَم، كان دلالتُه على هذا المعنى بطريقِ اللزوم، فإنه إذا كان لا يطعم في نفسه امتنعَ أن يُطعِمه أحد.

الوجه الثالث: أن مجرد كون الشيء يُطعِمُ غيرَه ولا يُطعِمُه يُوجب المدحَ، فهذه صفة كمال حيث كانت، وأما كون الشيء في نفسه لا يطعم ولا يأكل ولا يشرب، فهذا إنما يكون مدحًا في حق الكامل المستغني عن الطعام والشراب لكماله، وأما من لا يطعم ولا

ص: 118

يشرب لنقصه، كالجامدات وكالحيوان المريض، فهذا ليس ممدوحًا بذلك، فلو قدر مريض موسر يُطعِم الناس، وهو في نفسه لا يطعم لمرضه، لم يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، والناس إذا لم يُطعِموه لكونه لا يَطعم لمرضه ونقصه لم يكن ممدوحًا بأنهم لا يُطعِمونه، بخلاف ما إذا لم يَطعم لغناه، فإنه يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، وإن كان هو في نفسه يأكل ويشرب من ماله، مع أن المريض لابدّ أن يَطعَم، وأما ما لا يَطعَم بمالٍ لنقصه كالجامدات، فالأرض يخرج منها صنوف الثمرات، وهي لا تأكل لنقصها، فقد يقال: إنها تُطعِم ولا تَطعَم أي لا تأكل لنقصها، لكن هي محتاجة إلى السقي والشرب، وهذا حاجةٌ منها إلى ما يقيها ويغذيها.

ولهذا قال تعالى: (وهو يطعم ولا يطعم)، فوصفه بالإثبات المطلق والنفي العام، وصفه بأنه يُطعِم، وهذا مطلق يصلح أن يدخل فيه كل إطعام، كما إذا قيل: يخلق ويرزق ويُعطي ويمنع، كما في الحديث الصحيح الإلهي

(1)

: "يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلاّ من هديتُه، فاستهدوني أَهدِكم، يا عبادي! كلكم جائع إلاّ من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلاّ من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم". وقال: (وَمَا بِكُم من نِعمَةٍ فَمِنَ اَلله)

(2)

، وقال:(هَل مِن خالِقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض)

(3)

، وقال الخليل:(الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80))

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(490) ومسلم (2577) من حديث أبي ذر.

(2)

سورة النحل: 53.

(3)

سورة فاطر: 3.

(4)

سورة الشعراء: 78 - 80.

ص: 119

وفي الحديث المأثور أنه يقال على الطعام

(1)

: "الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ منّي ولا قوة"، وأنه من قال ذلك غُفِر له. وفي الحديث الآخر

(2)

: "الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، ومن كل خبر آوانا"

(3)

. وقد قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف (4))

(4)

.

وبالجملة فضرورة الخلق إلى الرزق دائمًا أمرٌ باهرٌ علمًا وذوقًا ووجدًا، فكونه "يُطعِم" من أطعم بيان نعمه وكرمه وإحسانه، وقوله "ولا يُطعَم" نفي عام، فإن الفعل نكرةٌ في سياق النفي، فلا يطعمه أحدٌ بوجهٍ من الوجوه، فلا يكون أحدٌ محسنًا إليه، ولا مكافئًا له على هذه النعمة. كما رواه البخاري

(5)

عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا رُفِعَتْ مائدتُه: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غيرَ مَكْفِيّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مستغنًى عنه ربَّنا".

وأما إذا قيل: يُطعِم وهو لا يأكل، لم يكن المنفي عنه من جنس المثبت له، بل ذكر تنزيهه عن الأكل، فلا يبين المقصود من أنه

(1)

أخرجه أحمد (3/ 439) والدارمي (2693) وأبو داود (4023) والترمذي (3458) وابن ماجه (3285) من حديث معاذ بن أنس. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1989).

(2)

أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (301) وابن السنّي (485) والحاكم في المستدرك (1/ 546) من حديث أبي هريرة. وفي إسناده زهير بن محمد، وهو ضعيف. وقد سقط ذكره في مطبوعة كتاب النسائي.

(3)

في مصادر التخريج: "وكل بلاء حسن أبلانا".

(4)

سورة قريش: 3 - 4.

(5)

برقم (5458). وانظر شرحه في "فتح الباري"(9/ 580 - 581).

ص: 120

يُحسِن إليهم الإحسان الذي يضطرون إليه، مع أن أحدًا من الخلق لا يُحسِن إليه، فإن دلالة القراءة المشهورة على نفي إحسان الخلق إليه مع إحسانه إليهم أبينُ من دلالة كونه لا يأكل، فإن تلك تدلُّ على المدح مطلقًا مع قطع النظر عن كونه هو يأكل أو لا يأكل، حتى لو قُدِّر على سبيل الفرض أنه يأكل لم يكن محتاجًا إليهم، ولا كانوا هم الذين يُطعِمونه، كما قال:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58))

(1)

.

وقد نبهنا على هذا وأنه إذا كان مخلوق يُحسِنُ إلى غيره ويُطعِمه، وهو لا يَحتاج إليه في أمرٍ لا إطعامٍ ولا غيرِه، كان محسنًا إليه إحسانًا محضًا، وإن كان محتاجًا إلى غير هذا الشخص، فكيف بمن هو سبحانه لا يَحتاج إلى أحدٍ بوجهٍ من الوجوه؟ ثم إنه من كمالِ إحسانه إلى عبادِه بين أنّ من لم يُطعِم أولياءَه ولم يعدهم، فهو كمن لم يُطعِمه ولم يَعُده، كما في الحديث الصحيح

(2)

: "يقول الله تعالى: عبدي! مرضتُ فلم تَعُدني، فيقول: ربِّ! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا مَرِضَ، فلو عُدتَه لوجدتَني عنده. عَبْدي! جُعْتُ فلم تُطعِمني، فيقول: رب! كيف أُطْعِمك وأنتَ رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا جاعَ، فلو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي". فقال: "لوجدتَ ذلك عندي"، ولم يقل:"لوجدتني قد أكلتُه". وقال: "لوجدتني عنده"، ولم يقل:"لوجدتَني إياه".

(1)

سورة الذاريات: 56 - 57.

(2)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(517) ومسلم (2569) من حديث أبي هريرة.

ص: 121

الوجه الرابع: أن يقال: قوله (وَهُوَ يُطْعِمُ) يتناول إطعامَ الأجساد ما تأكل وتشرب، وإطعامَ القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوَّتُ به من العلم والإيمان والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوتٌ للقلوب، فإنه هو الذي يُقِيتُ القلوبَ بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالمٌ لم يُعلِّمْه أحدٌ، هادٍ لم يَهدِه أحد، متصف بجميع صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يُعطيه غيرُه شيئا من ذلك. فإذا قال:"وهو يُطعِم ولا يُطْعَم" تناولَ القسمين، وإذا قيل:"لا يَطْعَم" لم يكن المراد إلا الأكل والشرب، لم يكن المراد ذكره وعلمه وهدايته.

وحينئذٍ فيكون قوله "وهو يُطْعِم" لا يتناول إلاّ مأكولَ الجسد ومشروبَه، ومعلومٌ أنّ ذاك أشرف القسمين، فالقراءة التي تتناول القسمين أكمل من القراءة التي لا تتناول إلاّ أحدَهما.

بيان ذلك ما في الصحاح

(1)

من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوِصال قالوا: إنك تُواصِل، قال:"إني لست كأحدكم، إني أَبِيتُ - ورُوي: أَظَلُّ - عند ربي يُطعِمني ويَسقيني". وأظهر القولين عند العلماء

(2)

أن مرادَه ما يُطعِمه ويَسقِيه في باطنه، من غير أن يكون أكلاً وشربًا في الفم لوجهين.

أحدهما: أنه لو كان يُطعِمه ويَسقِيه من فمِه لم يكن مُواصِلاً، فإن المواصل هو من لا يأكل ولا يشرب، ولو قُدِّرَ أنه أُتِيَ بطعامٍ من الجنة فأكلَه، لكان آكلاً لا مُواصِلًا.

(1)

البخاري (1964) ومسلم (1105) من حديث عائشة. وفي الباب عن ابن عمر وأنس وغيرهما، انظر باب الوصال من كتاب الصوم عند البخاري، وباب النهي عن الوصال من كتاب الصيام عند مسلم.

(2)

انظر "فتح الباري"(4/ 208،207)، ففيه الاحتجاج لكل قول ومناقشته.

ص: 122

الثاني: أنه رُوِي "إني أَظَلُّ عند ربي"، وهذا يتناول النهار، والأكل في النهار حرامٌ مُفطِرٌ ولو كان من طعام الجنة. فتبين أنه سمَّى ما يرزقه ويُقِيت قلبَه ويُغذيه إطعامًا وإسقاءً.

وقد وَصفَ النبي صلى الله عليه وسلم بالطعم والذوق والوجد والحلاوة ما في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم

(1)

عن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا". فهذا ذائق طَعْمَ الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه، يَظهر أثرُه إلى سائر بدنِه، ليس هو ذوقًا لشيء يَدخلُ من الفم، وإن كان ذوقًا لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائمُ تَسْمَنُ من أقواتِها، والآدمي يَسمن من أذنه.

وفي الصحيحين

(2)

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يُحبُّ المرءَ لا يُحبُّه إلاّ لله، ومن كان يكره أن يَرجع في الكفر بعدَ إذ أنقذَه الله منه، كما يكره أن يُلقَى في النار". فأخبر أن من كانت فيه هذه الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، والحلاوة ضدُّ المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبيَّن أنّ الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طَعْمَ الإيمان، والله سبحانه هو الذي يُذِيقه طَعْمَ الإيمان، وهو الذي يجعلُه واجدًا لهذه الحلاوة. فالمؤمنون يذوقون هذا الطعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللذة والسرور والبهجة ما هو أعظم من لذة أكل البدن وشربه.

(1)

برقم (34). ورواه أيضًا أحمد (1/ 207) والترمذي (2758).

(2)

البخاري (21،16 ومواضع أخرى) ومسلم (43) من حديث أنس.

ص: 123

والرب تعالى له الكمال الذي لا يَقدِرُ العبادُ قَدْرَه في أنواع علمِه وحكمته ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلَّتْ عليه الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسارّ والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جَعَله تائبًا حتى فَرِحَ بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحدٍ سواه.

والتعبيرِ بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يُقِيتُ القلوبَ ويُغذِّيها كثيرٌ جدًّا، كما قال بعضهم: أَطعمَهم طعامَ المعرفة، وسقاهم شرابَ المحبّة. وقال آخر:

لها أحاديثُ من ذِكراكَ يَشغَلُها

عن الشَّرابِ ويُغْنِيها عن الزادِ

(1)

وكثيرًا ما تُوصَف القلوبُ بالعطش والجوع، وتُوصفَ بالريّ والشّبَع. وفي الصحيحين

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ كأنّي أُتِيتُ بقَدَحٍ، فشربتُ حتى إني لأرى الرِّيَّ يَخرجُ من أظفاري، ثمَّ ناولتُ فَضْلِي عمرَ"، قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يُشرَب.

وفي الصحيحين

(3)

عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فانبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها

(1)

البيت لمروان بن أبي حفصة في ديوانه (ص 53).

(2)

البخاري (82 ومواضع أخرى) ومسلم (2391) من حديث عبد الله بن عمر.

(3)

البخاري (79) ومسلم (2282).

ص: 124

طائفة إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثلُ من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهَدى والعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به". فقد بيَّن أن مثلَ ما بعثه الله به من الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتُخرِج فنون الثمرات، وتمسكه أرض لتنتفع به الناس، وأرضٌ ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن القلوب تشرب ما يُنزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن المطر شراب للأرض، والأرض تَعطَش وتَروَى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ويَروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد شيئًا، بل هو الذي يُعلِّم ولا يتعلم من غيرِه شيئًا.

وفي مناجاة داود: إني ظَمِئْتُ إلى ذكرك كما تَظمأُ الإبلُ إلى الماء، أو نحو هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه.

وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد

(1)

لما ذكر أن من الناس من شرب براري قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلعَ لسانَه من العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل:

شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ

فما فَنِيَ الشرابُ وما رَوِيْتُ

ويقال: فلان ريّان من العلم، ويقال: هذا الكلام يَشفِي العليل ويُروِي الغليل، وهذا الكلام لا يَشفِي العليل ولا يُروِي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل

(2)

: "من أخلصَ لله أربعين يومًا تفجرت

(1)

انظر: "حلية الأولياء"(10/ 40).

(2)

أخرجه هنّاد في "الزهد"(678) والمروزي في "زيادات الزهد" ص 359 وابن =

ص: 125

ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه

(1)

: "كونوا ينابيع العلم مصابيحَ الحكمة أحلاسَ البيوت سُرُجَ الليل جُددَ القلوب أخلاقَ الثياب، تُعْرَفون في السماء وتخفون على أهل الأرض".

وقد شبّه حياة القلوب بعد موتها بحياةِ الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله عليها، فيسقيها وتَحيا به، وشبّه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديًا كبيرًا يَسعُ ماءً كثيرًا، وواديًا صغيرًا يَسَعُ ماءً قليلاً، كما قال:(أَنزَلَ من السماء ماءً فَسَالَت أودية بِقَدَرِهَا)

(2)

. وبيَّن أنه يحتمل السيل زبدًا رابيًا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17))

(3)

. فالأرض تشربُ ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع وتحفظه، كما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثله ومثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم كغيثٍ أصاب أرضًا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يَسقِي ويزرع، وبعض الأرض قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً. ثم قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك

= أبي شيبة في "المصنّف"(13/ 231) وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 189) عن مكحول مرسلاً. وأخرجه أبو نعيم بسند آخر عن مكحول عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا، ولا يصح. انظر كلام الألباني عليه في "الضعيفة"(38).

(1)

أخرجه الدارمي (262) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 507). وإسناده ضعيف. وروي نحوه عن علي بن أبي طالب، أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 77).

(2)

سورة الرعد: 17.

(3)

من الآية المذكورة.

ص: 126

رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به"

(1)

. فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن انتفع به. ولهذا قال:"فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا". فالماء أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله

(2)

- قال: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده".

وبعض الناس قال: إن. الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين. والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول مالم يفهمه الثاني.

(1)

سبق هذا الحديث قريبًا.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(13/ 235) والمروزي في "زوائد الزهد" ص 407 وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 661) عن الحسن مرسلاً. ورواه مكي بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن الحسن من قوله، كما أخرجه الدارمي. ورواه يحيى بن يمان عن هشام عن الحسن عن جابر مرفوعًا به، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 346) وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 73)، ويحيى بن يمان ضعيف. انظر تعليق الألباني على "المشكاة"(270).

ص: 127

وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبُه معناه فأثر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب. قال الحسن البصري

(1)

: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل.

وفي الصحيحين

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته"

(3)

وغير ذلك

(4)

.

والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسمًا لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه خطيبًا، كما قال ابن مسعود

(5)

: إنكم في زمنٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه، كثيرٍ معطوه قليلٍ سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه".

(1)

أخرجه الخطيب في "اقتضاء العلم العمل"(56).

(2)

البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير.

(3)

ضمن "مجموع الفتاوى"(7/ 187 وما بعدها).

(4)

انظر "مجموع الفتاوى"(9/ 307 - 319، 14/ 119 - 122).

(5)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(789) وعبد الرزاق في "المصنف"(3787) والطبراني في "الكبير"(9496،8567) من طرق عن ابن مسعود موقوفًا.

ص: 128

وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري

(1)

لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أوانُ يُرفع العلم"، فقال له زياد: كيف يُرفع العلمُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءَنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أوَ ليست التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا يُغني عنهم؟ ".

وقد قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78))

(2)

.

وقال تعالى: (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يَفْقَهُونَ (7))

(3)

.

وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يَفقَهُونَ بِهَا) الآية

(4)

.

وفي الحديث

(5)

: "خصلتان لا تكونان في منافق: حسنُ سَمْتٍ

(1)

أخرجه أحمد (4/ 160، 218، 219) وابن ماجه (4048) وأبو خيثمة في "العلم"(52). وهو حديث صحيح. وأخرجه أحمد (6/ 26) والبخاري في "خلق أفعال العباد" ص 42 من حديث عوف بن مالك. وأخرجه الدارمي (294) والترمذي (2653) من حديث أبي الدرداء. وفي حديثهما ذكر زياد بن لبيد وسؤاله.

(2)

سورة النساء: 78.

(3)

سورة المنافقين: 7.

(4)

سورة الأعراف: 179.

(5)

أخرجه الترمذي (2684) من حديث أبي هريرة. وقال: هذا حديث غريب.

وصححه الألباني في "الصحيحة"(278) بمجموع طرقه.

ص: 129

ولا فقهٌ في الدين". فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق.

وقال الكفار لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول)

(1)

مع أن شعيبًا خطيب الأنبياء.

وفي الصحيحين

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الناس معادنُ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وهذا إنما يكون بفهم القلب للحق، وأتباعه له.

وفي الصحيحين

(3)

عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجَّةِ طَعْمها طيّبٌ وريحُها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحَ لها". فهذا قارئ القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالمًا بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تَصُدُّ القلب عن اتباع الحق، قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ

(1)

سورة هود: 91.

(2)

أخرجه البخاري (3493، 3496، 3588) ومسلم (2638) من حديث أبي هريرة.

(3)

البخاري (5020 ومواضع أخرى) ومسلم (797).

ص: 130

الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23))

(1)

. فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يُفهِمهم إياه، ولو علم فيهم خيرًا لأفهمهم إياه، ولمّا لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولّوا وهم معرضون، فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصدٌ للخير والحق وطلبٌ له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق.

وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبُيِّن أن مثلَ هذا العلم والفهم الذي لا يقترن به العمل بموجبه لا يكون تامًّا، ولو كان تامًّا لاستلزم العمل، فإن التصوِر التام للمحبوب يستلزم حبَّه قطعًا، والتصوّر التام للمخوف يوجب خوفه قطعًا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تامًّا.

قال بعض السلف

(2)

: من عرف الله أحبَّه. ولهذا قال السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً

(3)

. وقيل للشعبي: أيها العالم! فقال: إنما العالم من يخشى الله

(4)

. وهذا مبسوط في مواضع.

(1)

سورة الأنفال: 22 - 23.

(2)

روي عن عتبة الغلام (كما في "الحلية" (6/ 236 و 10/ 81)، وعن الحسن البصري (كما في "الزهد" لأحمد ص 279)، وعن بديل (في "الزهد" لابن المبارك ص 209 و"الحلية" 3/ 108).

(3)

أخرجه أحمد في "الزهد" ص 158 وابن المبارك في "الزهد" ص 15 عن ابن مسعود.

وأخرجه الدارمي (389) وأبو نعيم في الحلية (2/ 95) عن مسروق.

(4)

انظر: "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1/ 538).

ص: 131

ولهذا قال تعالى: (هُدًى للمتقينَ (2))

(1)

، وقال:(ليُنذِرَ مَن كاَنَ حَيًا)

(2)

، وقال:(سَيَذكرُ مَن يخشَى (10))

(3)

، إلى أمثال ذلك. ولهذا يجعل الرسول نفس الفقه موجبًا للسعادة، كما يجعل عدمَه موجبًا للشقاء، ففي الصحيحين

(4)

أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". فجعل مسمى الفقه موجبًا لكونهم خيارًا، وذلك يقتضي أن العمل داخل في مسمى الفقه لازم له.

وفي الصحيحين

(5)

أنه قال: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين"، فمن لم يفقّهه في الدين لم يُرِد به خيرًا، فلا يكون من أهل السعادة إلاّ من فقّهه في الدين. والدين يتناول كلَّ ما جاء به الرسول، كما في الصحيحين

(6)

لمّا جاء جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال:"هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم". فجعل هذا كلَّه دينًا.

والمقصود هنا كان الكلام في أن الله يُطعِم القلوب ويسقيها، وقد قال الله تعالى في حق عُبَّاد العجل:(وأشربوا في قلوبهم العجل)

(7)

، أي أُشرِبوا حُبَّه. فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه

(1)

سورة البقرة: 2.

(2)

سورة يس: 70.

(3)

سورة الأعلى: 10.

(4)

سبق الحديث وتخريجه قريبًا.

(5)

البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية.

(6)

البخاري (4777،50) ومسلم (9) عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب.

(7)

سورة البقرة: 93.

ص: 132

القلب حبًّا يجعل ذلك شرابًا للقلب، فحب الربّ تعالى أن يكون شرابًا يشربه قلوب المؤمنين أولى وأحرى.

قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله)

(1)

. ووَصْفُ الشعراءِ وغيرهم أن القلوب تشربُ المحبة، وضَرْبُهم المثلَ في ذلك بالشراب الطاهر، وأن شرب المحبة أعلى الشرابين كثير جدًّا. وهو سبحانه الذي يُطعِم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته ومحبته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبته وإيمانه - إذ كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا.

وأهل الشرك الذين يعبدون غير الله ومن ضاهاهم من أهل البدع، الذين اتخذوا من دون الله أوثانا يحبونهم كحبّ الله، لهم شراب من محبتهم وذوق ووجد، لكن ذلك من عبادة الشيطان لا من عبادة الرحمن، فلهذا وقعت باطلاً. فإن البدن كما يتغذى بالطيب والخبيث، كذلك القلوب تتغذى بالكلم الطيب والعمل الصالح، وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحة ومرض، وإذا مرضت اشتهتْ ما يضرها وكرهتْ ما ينفعها.

وقد ضرب الله مثل الإيمان الذي هو كلمة طيِبة بشجرة طيبة، ومثل الشرك الذي هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيبة في قلبه وهي كلمة التوحيد، وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشرك؛ فهذا يتغذى بهذه الكلمة الطيبة، وهذا يتغذى بهذه

(1)

سورة البقرة: 165.

ص: 133

الكلمة الخبيثة، كما تتغذى الأبدان بالطيب والخبيث. قال تعالى:(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)

(1)

، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)

(2)

.

فالتوحيد والإيمان كلمة طيبة، مثلها مثل الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ والشرك والكفر كلمة خبيثة اجتُثَّتْ من فوق الأرض مالها من قرار

(3)

، ليس لها أصلٌ راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشرك والضلال لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقادٍ ونظرٍ، أو في جهلٍ مركب يحسبون أنهم على هدى وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدًى من الله. ولهذا قال تعالى:(الله نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية إلى قوله (نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35))

(4)

. ثم قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه) إلى آخر الآية

(5)

. ثم ضرب للكفار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا) الآية

(6)

. فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقادات

(1)

سورة المؤمنون: 51.

(2)

سورة البقرة: 172.

(3)

إشارة إلى الآيات 24 - 26 من سورة إبراهيم.

(4)

سورة النور: 35.

(5)

الآية 36 من السورة.

(6)

الآية 39 منها.

ص: 134

الفاسدة. ثم قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)

(1)

. وهذا مثل الجهل البسيط.

وأهل الضلال يذكرون المحبة وشراب الحبّ ونحو ذلك، وكثيرًا ما يمثلون ذلك بشراب الخمر دون غيرها من الأشربة، ويذكرون أوعية الخمر كالدَّنّ والكأس ونحو ذلك، ومواضعها كالحان أو دَير الرهبان. والخمر توجب الغيّ، ولمّا عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراج اللبن والخمر أخذ اللبن، فقيل له:"أصبتَ الفطرةَ، لو أخذتَ الخمر لغَوَتْ أمتك"

(2)

.

وكلما كان القوم أعظم عنتًا وضلالاً مثلوا بما هو أقبح من شرب الخمر، فإن شربها وإن كان قبيحًا فهو في الحاناتِ مواضعِ الفحش أقبح، وفي مواضع الكفر كديور الرهبان أقبح وأقبح. ويذكرون السُّكْر من شراب المحبة، كالسُّكْر الذي يعتري من شرب الخمر، كقول بعضهم

(3)

:

شَرِبنا على ذِكرِ الحبيبِ مُدَامةً

سَكِرْنا بها من قبلِ أن يُخلَقَ الكَرْمُ

وهذا الحب والشرب من عبادة الشيطان، لا من عبادة الرحمن. والتشبيهُ بالخمر يبين أن ذلك من عبادة الشيطان الذي قال الله فيه: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن

(1)

الآية 40 منها.

(2)

أخرجه البخاري (3394،3437،4709،5576،5603) ومسلم (168) من حديث أبي هريرة.

(3)

هو ابن الفارض، انظر ديوانه (ص 140).

ص: 135

ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91))

(1)

. وذلك من وجهين:

أحدهما: أن شرب الخمر محرَّم، فحبُّ الله ورسوله وشرب القلوب لهذا الحبّ لا يكون كشرب الخمر، وإنما يكون كشرب الخمر شرب الحب الذي لا يحبه الله ورسوله، كحب المشركين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحبّ الله.

الثاني: أن شرب الخمر يُوجب السُّكر وزوال العقل، فهو والسكر بالحب واتباع الأهواء حالُ الكفر، كقوم لوط الذين قال الله فيهم:(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72))

(2)

. وقد قيل

(3)

: سُكرانِ سُكْرُ هوى وسكرُ مُدامة ومتى إفاقةُ مَن به سُكرَانِ

ومحبة المؤمنين لله ورسوله لا تستلزم زوال العقل، بل هم أكمل الناس عقلاً، وإنما يُوجب متابعة الرسول، كما قال:(قلْ إِن كُنتُم تُحِبونَ الله فَاَتَّبِعُوني يُحبِبكمُ الله)

(4)

. فالمحبون لله إذا اتبعوا الرسول أحبهم الله. واتباعُ الرسول فِعلُ ما أمر به وتركُ ما نهى عنه، وهو لم يأمر بما يزيل العقل قَط، لا باطنًا ولا ظاهرًا، فلم يأمر بأكل شيء مما يغيّر العقل سواء كان معه سكر كالخمر، أو لم يكن كالبَنْج، بل نهى عن ذلك. وكذلك ما في القلوب من حبّ الله ورسوله وحقائق الإيمان التي يحبها الله ورسوله، ليس فيما أمر الله به ورسوله منها ما يوجب زوال العقل ولا الموت ولا الغشي والصعق. ولهذا لم يكن الصحابة

(1)

سورة المائدة: 91.

(2)

سورة الحجر: 72.

(3)

البيت بلا نسبة في "تاج العروس"(سكر). وللخليع الشامي في "يتيمة الدهر"(1/ 271) ضمن أربعة أبيات.

(4)

سورة آل عمران: 31.

ص: 136

أفضل القرون يعتريهم شيء من هذا، ولكن بعض من بعدهم ضعفت قلوبهم عن بعض ما يرد عليها من خوف أو غيره. فصار فيهم من يموت إذا سمع الآية، وفيهم من يُغشَى عليه. وهؤلاء معذورون مع الصدق والاجتهاد في اتباع الرسول، ويشكر الله لهم ما معهم من الإيمان والخوف الذي .....

(1)

، وهو ما يحضّ على فعل الواجب وترك المحرّم، وأما الزيادة التي أوجب لهم الموت فحسبهم أن يكونوا فيها معذورين لا مأجورين، كالحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، فإذا اجتهد فأخطأ فله أجر.

ومن ظنَّ أن الميت من هؤلاء بسماع آية أفضل من شهداء بدر وأحدٍ ونحوهما، وجعل هؤلاء قتلى القرآن وشهداء الرحمن، وأولئك ماتوا بسيوف الكفار، فقد غلط غلطًا عظيمًا، فإن أولئك فعلوا ما أمروا به وقُتِلوا شهداء، فهم من أفضل ما خلق الله، وهؤلاء فعلوا مالم يؤمروا به، إمّا تعدّيًا للحدّ، وإمّا تفريطًا في الحقّ، فماتوا بهذا السبب موتًا ليس في سبيل الله ولا جهاد أعدائه، ولكن لضعف قلوبهم عما ورد عليها.

والله تعالى ما أنزل القرآن ليقتل به أولياءه، ولا ليُشْقِيهم به، بل ليهديهم وليَشْفِيَهم ويُنَوِّرهم، فهؤلاء ضلُّوا الطريق، ولهذا أنكرَ حالَهم من أدركهم من الصحابة، مثل ابن عمر وابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم، كما هو مبسوط في موضع آخر.

إذ المقصود هنا أنّ الرب تعالى هو الذي يُقيت عباده، ويغذيهم لأرواحهم وأجسادهم، وهو مستغنٍ عن عبادِه من كل وجهٍ، فهو

(1)

كلمة غير مقروءة.

ص: 137

بنفسه عالم قادر، وكلُّ ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون عليه فهو من إقدارِه. وهو سبحانه وتعالى كما قال:(وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمِه إلا بما شاء)

(1)

، وهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. وإذا كان ما للعباد من علم وقدرة فمنه امتنع أن يحصل له منهم علم أو قدرة، فإن ذلك يستلزم الدور القبلي، إذا كان المعلم المقدر لغيره يمتنع أن يكون علمه وقدرته منه.

وأيضًا فمن جعل غيرَه عالمًا قادرًا كان أولى أن يكون عالمًا قادرًا، قال تعالى:(قُلْ مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر فسيقولون الله فَقُل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32)) إلى قوله: (قُل هَل مِن شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى فما لَكم كيَف تَحكمون (35))

(2)

. فقوله: (أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى) فيه قراءتان مشهورتان

(3)

: الإدغام "يهدِّي"، وأصله يهتدي، فسكنت الياء، وأدغمت في الدال بعد أن قُلِبتْ دالاً، وأُلقِيتْ حركتها على الهاء. فأكثر القراء يفتحون الهاء، ومنهم من يسكنها، ومنهم من يختلس. والقراءة الأخرى بالتخفيف "يَهْدِي"، ثم قيل: إنه فعل متعدي، أي يهدي غيره، وقيل: بل فعل لازم، أي يهتدي، وحكوا "هَدَى" بمعنى اهتدى، وأنه يستعمل لازمًا ومتعديًا. وهذا أصح، والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع أم من لا يهتدي

(1)

سورة البقرة: 255.

(2)

سورة يونس: 31 - 35.

(3)

انظر: "زاد المسير"(4/ 30). وفي تفسير القرطبي (8/ 341 - 342) ست قراءات.

ص: 138