الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من النسخ الخطية
فصل في معنى "الحيّ القيوم"
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من هداه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيراً، وعلى آله وصحبه وسلم
(1)
.
فصل في معنى اسمه "الحي القيوم"
قال الله سبحانه وتعالى: (الله لا إله إلا هو الحى القيوم)
(2)
.
وقال تعالى: (الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم)
(3)
. وقال تعالى: (*وعنت الوجوه للحى القيوم)
(4)
. وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهُ "الحيّ القيَّام"
(5)
. والقيَّام فَيْعَال، والقيّوم فَيعول، وفيعال من جنس فَعَّال، وفيعول من جنس فعول، لأن الحرف المضعف يعاقب الحرف المعتلّ، كقولهم تَقَضَّى البازِيْ وتقضَّضَ.
(1)
كذا في الأصل، والأولى حذف "وسلم" لتكرارها.
(2)
سورة البقرة: 255.
(3)
سورة آل عمران: 1 - 2.
(4)
سورة طه: 111.
(5)
كما في "صحيح" البخاري (في أول تفسير سورة نوح) و"المحرر الوجيز"(2/ 274) و"زاد المسير"(1/ 302) والقرطبي (3/ 272).
والقَيُّوم والقَيَّامِ من قام يقوم، فهو معتلٌّ، فإن عينَه واو، فلهذا قيل فيه: فَيْعال وفيْعُول، ولو لم يكن في ألفاظه حرفٌ معتلّ لا ياءٌ ولا واوٌ لقيل: فَعَّال، كما قيل "حمَّاد" و"ستّار"، وفُعُّول كما قيل "سُبُّوح" و"قُدُّوس"، والغالب فعُّول بالفتح، وهو القياس في شرح "قُدُّوس"، ولكن جاءت دلالة اللفظ على غير القياس بالضم سبوح وقدوس وذو الروح.
وقد تبين أن قراءة الجمهور "القَيُّوم" أتمُّ معنًى من قراءة "القيَّام"، فإن فَعُّول وفيْعُول أبلغُ من فَعَّال وفَيْعال، لأن الواو أقوى من الألف، والضم أقوى من الفتح، وهذا عينه مضمومة، والمعتلّ منه واو، فهو أبلغُ مما عينُه مفتوحة والمعتلُّ منه ألف. ودائمًا في لغة العرب الضمُّ والواوُ أقوى من الياء والكسرة، والياءُ والكسرةُ أقوى من الألف والفتحة، وهكذا هو في النطق، وكذلك في سائر الحركات، فإن المتحرك إلى أسفلَ كحركةِ الماء أثقلُ من المتحرك إلى فوق كالريح والهواء، والمتحركُ على الوسط هو الفلك أقوى منهما.
ولهذا كان الرفعُ لما هو عمدةٌ في الكلام، وهو: الفاعلُ، والمفعولُ القائمُ مقامَه، والمبتدأ، والخبر. وكان النصبُ لما هو فضلة في الكلام، كالمفاعيل وغيرها: المفعول المطلق والمفعول به وله ومعه، والحال والتمييز. وكان الجرُّ لما هو متوسِّطٌ بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه، فإنه تضاف إليه العمدة تارةً والفضلةُ تارةً، فتقول: قام غلامُ زيدٍ، وأكرمتُ غلامَ زيدٍ.
ولما كانت "كان" وأخواتُها أفعالاً تُستَعملُ تارةً تامَّةً مكتفيةً بالفاعل، وتارةً ناقصةً فتحتاج إلى منصوب، كان الرفعُ فيها مقدمًا، فإنه العمدةُ، ولابُدَّ منه في النوعين التامّة والناقصة.
وأما "إنّ" وأخواتها فإنها تختصّ بالجمل الاسمية، لكن أشبهت الأفعال، فصار لها منصوبٌ ومرفوعٌ كالأفعال، ونقصتْ درجتُها عن درجة الأفعال، فقدّمَ منصوبُها لذلك، ولأنه أخفّ، ولأن الخبر يكون غيرَ اسمٍ، مثل الجار والمجرور به، فلا يظهر فيه النصب، بل قد يقدَّم على الاسم.
وأما باب "ظننت" وأخواتها فإنها أفعالٌ، تُستعمل تارةً مع الاقتصار على الفاعل، وتارةً يُذكرَ معها المفعولاتُ، ولكن تعلق على العمل إذا تصدر ماله صدر الكلام، فلا يعمل ما قبله فيما بعده، مثل لام الابتداء وحروف الاستفهام، وما الناقصة، كقوله تعالى:({ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}
(1)
، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}
(2)
. وتارةَ تُلغَى عن العمل إذا قدم المفعولات أو وسط الفعل بينهما، كقولك:"زيد منطلق ظننتُ"، والإلغاءُ هاهنا أحسن، وقولك "زيدٌ ظننتُ منطلق".
وكان الفرق بين باب "ظننتُ" وباب "كسوت" أن المفعولين هاهنا المبتدأ والخبر، بخلاف باب كسا، فإن الثاني غير الأول، ولهذا يجوز في باب كسا الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب ظننتُ، فإنه لا يجوز ذلك فيه، كما لا يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر.
وقد تبين أن المبتدأ وخبره مع نواسخه قد استوعبت الأقسام الممكنة، فإنهما إما مرفوعان، كما إذا تجرَّدا عن العوامل اللفظية؛ وإمّا منصوبان، وهو باب ظننتُ، إذ الأول مرفوع، وهو باب "كان"؛
(1)
سورة الكهف: 12.
(2)
سورة البقرة: 102.
أو الأول منصوب وهو باب "إن". وتبين أن الرفع لما هو عمدة، والنصب لما هو فضلة.
وكذلك الضم والفتح والكسر التي هي حركاتٌ لنفس الكلمة، وتسمى مناسبة إذا كانت في الآخر لم ....
(1)
عامل للإعراب، كقولك: جَرْح وجُرْح، وكَرْه وكُرْه، والغَسْل والغُسْل ونحو ذلك، فالجَرْح والكَرْه والغَسْل مصدر الفعل الثلاثي المتعدي، وهو قياس، تقول: ضرَبه ضَرْبًا، وأكله أَكْلاً ونحو ذلك، وأما الجُرْح والكُرْه فهو نفس الشيء المكروه والمجروح، والعَين أقوى من الفعل، والغُسْل بالضم اسم الاغتسال، واغتسال الإنسان لنفسه أكمل من غَسْلِه لغيره، تقول في هذا: غُسْل الجمعة وغُسْل الجنابة، لأن المراد الاغتسال؛ وتقول في ذلك: غَسْل الميت وغَسْل الثوب، لأن المصدر غَسْل الإنسان لغيره. هذا هو اللغة المشهورة سماعًا وقياسًا، وما نُقِل غير ذلك فإما خطأ وإما شاذ.
فتبيَّن أن "القَيُّوم" أبلغُ من "القيَّام"، ذلك يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يُفيد إقامتَه لغيره وقيامَه عليه؟ فيه قولان. وهو يفيد دوامَ قيامه وكمالَ قيامِه، لما فيه من المبالغة لقيوم وقيام. ولهذا قال غير واحدٍ من السلف: القيوم الذي لا يزول، كما قال ابن أبي حاتم
(2)
: حدثنا علي بن الحسين نا عيسى الصائغ ببغداد نا سعد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الحسن رضي الله عنه: القيوم الذي لا زوال له.
(1)
هنا بياض في الأصل بقدر كلمة.
(2)
"تفسيره"(2/ 487).
وقد ظنّ طائفة من النفاة - كبشر المريسي وغيره - أن مرادَهم بذلك أن لا تقوم به الأفعال الاختيارية ولا يتحرك ونحو ذلك، ورَدَّ عليهم عثمان بن سعيد الدارمي وغيره، وبيَّنوا خطأه فيما فهمه من ذلك عمن نقل ذلك عنه من السلف، وهو إنما نقله عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا الإسناد وحدَه مما لا يعتمِد عليه أهل الحديث، فذكروا ضعفَه
(1)
، ثمَّ ذكروا عدمَ دلالتِه على ما طلَبَه. ولكن قد رُوِيَ هذا بغير هذا الإسناد، فبينوا خطأ من فهم ذلك المعنى، وأن المراد بقولهم "لا يزول": أنه دائمٌ باقٍ لا يَنْقُص عن كمالِه فضلاً عن أن يَفْنَى أو يَعْدَم، كقوله تعالى:({وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} (46))
(2)
. وفيه قراءتان
(3)
: أكثر القراء يقرءون "لِتزوْلَ"، فيدلُّ على النفي، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وقرأ بعضُهم "لَتزُوْلُ" بالرفع على الإثبات، أي: إن كان مكرُهم تزول، هذا تقدير البصريين. والكوفيُّونَ يقدرون: ما كان مكرهم ألَاّ تزول. وكلا القراءتين لهما معنى صحيح، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
(4)
.
وقوله تعالى "تزول منه الجبال" مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
(1)
انظر "الإتقان" للسيوطي (4/ 239)، و"تدريب الراوي"(1/ 181).
(2)
سورة إبراهيم: 44 - 46.
(3)
انظر: "زاد المسير"(4/ 374) والقرطبي (9/ 381).
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى": (17/ 381 - 382).
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}
(1)
ومنه قول لبيد
(2)
:
ألَا كلُّ شيء مَا خَلا الله باطلُ
وقد قال له عثمان
(3)
بن مظعون رضي الله عنه وهو ينشد: "صدقتَ". ثم قال:
وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالةَ زَائلُ
فقالَ له: "كَذبتَ، إن نعيم الجنة لا يزول"
(4)
.
وليس المراد بقوله {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} وبقوله تعالى {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} و {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} هو الحركة، فإنهم كانوا يتحركون، والكواكب متحركة، بل الأفلاك التي فيها الكواكب متحركة. و"زال" يُستعمل لازمًا ويُستعمل ناقصةً من أخواتِ "كان"، فيقال في اللازم: زال يزول زوالاً، كما في قوله تعالى (أَن تَزُولا) و (مَا لَكم من زَوَال (44)) و {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}. ومنه: زالت الشمسُ تزولُ زوالاً. وليس المراد بزوالها حركتها، فإنها لا تزال متحركةً في رأي العين منذ تطلع إلى أن تغرب. ولا يقال إنها زالت إلاّ إذا انحطَّت عن غاية الارتفاع، فإذا ارتفعت على رءوس الناس كان غايةُ ارتفاعها، وهو قَبْلَ الزوال، ثُمَّ إذا
(1)
سورة فاطر: 41.
(2)
ديوانه: 256.
(3)
في الأصل "لعثمان"، وهو خطأ، فقد كان المنشد لبيدًا، وعلَّق عليه عثمان.
(4)
الخبر في "سيرة" ابن إسحاق (ص 158 - 159)، و"سيرة" ابن هشام (1/ 370) و"البداية والنهاية"(4/ 227 - 228).
انحطت بعد هذا وانحطت ومالت قِيل: زالتْ، ويقال لها قبل الزوال: قد قام قائمُ الظهِيرة، فيُعَبر عن هذا بلفظ القيام، وعن آخرها يُلفَظ في الانحطاط بلفظ الزوال، كما يُعبَّر عنه بلفظ الاستواء، فيقال: استوتِ الشمسُ، وعند الزوال بالميل فيقالُ مالت الشمسُ؛ فكأن لفظ الزوال يَدُكُ على النقص بعد الكمال، والانخفاض بعد الارتفاع.
والذين أقسموا من قبل "ما لهم من زوال" لم يريدوا أنهم لا يموتون، فإن هذا لا يقوله أحد من العقلاء، ولكن ظنوا دوامَ ماهم فيه من الملك والمال، وأن ذلك لا يزول عنهم. وهذا باطل. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سُبقَتْ ناقتُه العَضْباءُ وكانت لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسَبقها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ حقًا على الله أن لا يُرفعَ شيءٌ من الدنيا إلاّ وَضَعَه"
(1)
. فكلَّما ارتفع شيء من الدنيا فإن الله تعالى يضعه، وذلك من زوالِه.
والزائل الذي لم يكتسب به ما يدوم نفعه يُسمَّى باطلاً، فالموتُ حق والحياة باطلٌ، فإن الباطل ضدُّ الحق، والحقُّ يقال على الموجود، فيكون الباطلُ هو المعدوم. ويقال أيضًا على ما ينفع ويُنفَى نفعُه، فيكون الباطلُ اسمًا لما لا ينفع، أو لما لا يدومُ نفعُه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كل لهوٍ يَلْهُو به الرجلُ باطلٌ منه إلاّ رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنهن الحقّ". رواه أبو داود وغيره
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2872) عن أنس.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 144، 148) والدارمي (2410) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من طريق عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر. أما أبو داود (2513) فأخرجه من طريق خالد بن زيد الجهني عن عقبة بلفظ مختلف.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الرجل لا يُحِبُّ الباطل"
(1)
، وهو مالا يَنفعُ النفع الباقي، وهو النافع في الآخرة، فكلُّ مالا ينفع في الآخرة فهو باطل، وإن كان لذةً حاضرةً، فإنها تزول وتُعَدُّ بلا نفعٍ يَبقى، فهي باطل بهذا الاعتبار.
وقال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}
(2)
، فهذا باطل من الجهتين: من جهة أن استحقاق الإلهية معدوم، فهو لا ينفع ولا يضر؛ ومن جهة أن عبادته لا تنفع وإن كانت موجودة
(3)
في الحياة الدنيا، فيومَ القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
(4)
قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}
(5)
، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)} إلى قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(6)
. والثابت ضدّ الزائل، فالباطل الزائل الذي لا ينفع في الآخرة هو الذي شرع فيه الزهد، فالزهد مشروع في كل مالا ينفع في الآخرة، والورع مشروع في كلِّ ما قد يَضُرّ في
(1)
أخرجه أحمد (3/ 435) والبخاري في "الأدب المفرد"(342) عن الأسود بن سريع.
(2)
سورة لقمان: 30.
(3)
في الأصل: "كان مودة"!.
(4)
أخرجه البخاري (6489) ومسلم (2256) عن أبي هريرة.
(5)
سورة الفرقان: 23.
(6)
سورة إبراهيم: 24 - 27.
الآخرة. فالورع عن المحرمات واجبٌ، لأنها سبب الضرر، والورع عن الشبهات حسن، لأنه قد يكون في ذلك محرَّم، وقد يدعو الوقوع فيها إلى الوقوع في الحرام، كما في الصحيحين
(1)
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمىً، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحتْ صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب".
فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ من ترك الشبهات التي لا يعلم كثير من الناس أحلال هي أم حرام، استبرأ لعرضه ودينه، وإن وقع فيها وقعَ في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع، ويقرب أن يواقعه.
وبيَّن أنّ حِمَى الله تعالى محارمُه التي حرَّمها، وفي هذا ما دلَّ على أن الشبهات لا تخفى على جميع الناس، بل كسبهم من غير الحَلال منها من الحرام. ومن تبين له ذلك فأخذ الحلال وترك الحرام لم يكن ممن وقع في الشبهات، وإنما الذي يقع فيها من لم يتبين له أحلالٌ هي أم حرام. وفيه ما دلَّ على أن شريعتَه في ترك الشبهات يتضمن سدَّ الذريعة، فإنها داعية إلى الحرام، وما كان ذريعة يترك، إلاّ إذا كان مصلحة فِعلُه راجح.
مثال ذلك أن يشتبه عليه الحلال بالحرام، فلا يقطع بواحدٍ
(1)
البخاري (52) ومسلم (1599).
منهما، فهذا يُرَغَّبُ في الترك، لأنه شبهة، إلا أن يكون إذا تركَ ذلك تضمن تَرْكَ واجب محقق أو فِعْلَ محرَّم محقق، فلا يكون حينئذ مرغبًا في ترك الشبهة، بل يكون مأمورًا بفعلها، لأنه إذا فعلَها لم يعلم أنه يأثم، وإذا تركها وتضمن ذلك تَرْكَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ كان إثمًا.
والورع المشروع هو ما قاله صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: "دع ما يَريبك إلى مالا يريبك"
(1)
، وهنا إذا تركه لم يدعه إلى مالا يريبه، بل إلى ماهو يريبه قطعًا، وذلك يظن أنه قد يريبه.
ومثل هذه المسألة المشهورة عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وقد ذكرها أبو طالب وأبو حامد وغيرهما في كتاب الورع للمروذي
(2)
وغيره، أنه سُئِل عمَّن مات أبوه وعليه دَين، وله مالٌ فيه شبهة، وهو يتورع عن قبض ذلك المال، أيَدَع ذمةَ أبيه مرتهنةً فبيَّن ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه أن قضاءَ دَيْنِ الميت من المال الذي خلفه واجب، وأن الوارث عليه أن يفعل ذلك، أو يُمكِّن الغرماء من قبضه، وإن لم يمكن قضاؤه إلاّ بفعل الوارث تعين عليه ذلك، فإنه واجبٌ على الكفاية، وهو متعين عليه إذ لم يقم من غيره. وأما قبضه الشبهة فليس محرمًا، بل ورعٌ مستحب، فكيف يفعل مستحبًّا بترك واجب؟.
وهكذا مَن عليه دُيُون وله مالٌ يقضي به الديون، وفيه شبهة، فقضاء الديون واجب، والورع بقضاء الديون واجب، وليس تركُ الشبهة واجبًا. ولو قُدِّر أن في ملك الشبهة ظلم قليل
(3)
، فهو أخفُ من
(1)
أخرجه أحمد (1/ 200) والدارمي (2535) والترمذي (2518) والنسائي (8/ 327) من طريق أبي الحوراء السعدي عن الحسن.
(2)
ص 83.
(3)
كذا في الأصل مرفوعًا، والصواب النصب.
ظلم أرباب الديون بمنع حقوقهم. مثل أن يكون له ألف درهم فيها مئةٌ لغيره مثلاً، وعليه ألف درهم، فإذا لم يوفِ الغرماءَ حقوقَهم ظَلَمَهم بألف درهم، وذاك أعظم إثمًا من ظلم مئة، هذا إذا قُدَّر أنه لا يعرف قدر ما في مالِه من الظلم، وإلاّ فإذا عرف قَدْرَ ذلك فإنه يُخرِج مقدارَ الحرام، فيعطيه لمستحقّه إن عرفه، وإلا تعرف به وصرفه في مصالح المسلمين عنه إذا لم يعرفه، كما نُقِل عن السلف من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أكثر الفقهاء، كمالك وأبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، أعني صرفَه إذا جهل صاحبه إلى مصرف مالِ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو صرفه في كل ما أمر الله تعالى به ورسولُه صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا كاللُّقَطة التي له أن يتملكها، فإن اللقطة عرَّفها حولاً وأخذها بفعله، فإذا لم يجد صاحبها صارت بمنزلة ما يملكه من المباحات بفعله ما دام صاحبها مجهولاً، وله أن يتصدَّق بها عنه، فإن عرف صاحب المال في الموضعين فالأمر إليه، إن شاء أجاز ما فعله من تصرفه لنفسه أو صدقة بها عنه، وإن شاء ردَّ ذلك وطلبَ بدلَ مالِه، كما قال الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في المال، وفي امرأة المفقود أيضًا، قالوا: يُخيَّر الزوجُ القادمُ بين المرأة وبين مهرها، وهو مبني على هذا، فإنه لمّا انقطع خبرُه جاز التصرفُ في بُضْعِ امرأته، كما جاز التصرف في المال الملتقط الذي جهل صاحبه، وفي غيرِه، ثم ظهر خبرُه، صارَ حينئذٍ مخيَّرًا، وكان ذلك التصرف الأول الذي كان مع عدم العلم به جائزًا باطنًا وظاهرًا، كمالِ اللقطة، فإنه بعد حلول التعريف يملك الملتقَط باطنًا وظاهرًا، وكذلك يملكه من تصدق عليه، فإذا جاء المالك وطلبه عادَ إليه ملكًا جديدًا.
وأمّا الشبهة إذا اجتنبها أوقعتْه فيما يتردد بين الكراهة والتحريم قطعًا، فهذا مما يتنازع الفقهاء فيه، مثل إذا شكَّ من الطلاق الثلاث فمن الفقهاء من يستحب له اجتنابها، بل يستحبون له إيقاع الطلاق يقينًا لتُباحَ لغيره بلا شك، مثل أن يقول: إن لم يكن وقع بكِ فقد أوقعتُه بكِ. ومنهم من يَستحبُّ له إمساكَها، ويرى ذلك خيرًا
(1)
من مفارقتها ومن إيقاع الطلاق عليها، فإنه إذا ملكها لم يأثم، فإن الأصلَ عدمُ الطلاق، وإمساكُها جائزٌ لا إثم فيه، وأما الطلاق فهو مكروه أو محرَّم، فمن قَطَع بتحريمه فإنه يقطع بأنه ليس له أن يطلقها لأجل الشك، ومن قال مكروه فقد يتردد اجتهاده لكون كراهة الطلاق أشدّ أم كراهة إمساكها مع الشك. وأما من تردَّد هل الطلاق محرَّم أو مكروه فإمساكها أولى عنده، لأنه هناك متردد بين حلال وحرام، وهنا متردد بين حرام ومكروه. وأما من قال: الطلاق مباح لا كراهة فيه، فإيقاعُه عنده أولى من إمساكِها مع الشك. وقد بسطنا هذه المسائل في غير هذا الموضع. والصواب أن الطلاق في الأصل محظور، وإنما أُبيح للحاجة.
والمقصود هنا أن ما لا يُستعانُ به على النفع الدائم فهو نفع يتعقبه، ومنه يُسمَّى العبث واللعب باطلاً، وإن كان العابث اللاعب فيه منفعتُه زائلة، [فهي] لما فيه من اللذة الحاضرة، لكن هو باطل إذا لم يُستعَن به على الحق الذي يَدُوم نفعُه. ولهذا قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}
(2)
، وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)}
(3)
، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
(1)
في الأصل: "خير".
(2)
سورة ص: 27.
(3)
سورة الدخان: 38.