المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ لهم كرامات يكرمهم الله بها - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌ لهم كرامات يكرمهم الله بها

يمين، كما ذكر الله هذين الصنفين في سورة الواقعة في أولها وفي آخرها، فذكر تعالى أن الناس ثلاثة أصناف وقتَ القيامة الكبرى ووقتَ الموت، فقال تعالى:{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)}

(1)

. وكذلك قال في آخر السورة: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)}

(2)

.

وكذلك ذكر الأصناف الثلاثة في سورة هل أتى على الإنسان، وفي سورة المطففين. وقد ذكر في سورة فاطر تقسيمَ أمّة محمد صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أصناف في قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}

(3)

، فالظالم لنفسه: هو المفرِّط بترك المأمور أو فعلِ المحظور، والمقتصد

(4)

: المؤدِّي للفرائض، المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات: المؤدِّي للواجب والمستحبّ، والتارك للمحرَّم والمكروه.

وأولياءُ الله المتقون‌

‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

، فخواصُّ أولياء الله المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم يكون كراماتُهم إمّا لحجةٍ في الدين، أو لحاجةٍ للمسلمين، كما كانت معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، فهم يتقرَّبون إلى الله بما يُكرِمُهم به من الخوارق، ويعبدون الله بها، ويزدادون بها قربًا إلى الله، لا يطلبون بها عُلوًّا في الأرض ولا فسادًا.

(1)

سورة الواقعة: 7 - 10.

(2)

الآيات 88 - 94.

(3)

سورة فاطر: 32.

(4)

في الأصل: "المقتصدون".

ص: 69

وقد كان كثير من السلفِ يُسمِّي من يُسمِّي من هؤلاء الأبدال، وقد قيل في معنى الأبدال

(1)

: إنهم الذين بَدَّلوا السيّئاتِ بالحسنات، كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}

(2)

. ولا ريبَ أنّ الصالحين من عباد الله لهم سببٌ في الرزق والنَّصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقَّاص:"يا سعدُ، وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم"

(3)

. فهذا ونحوه حق جاء به الكتابُ والسنّة، ولا وُصولَ للخلقِ إلى رضوان الله وكرامته إلاّ بالإيمان برسُلِه وطاعتهم، فهم الوسائط والسُّفَراء بين الله وبين خلقِه، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلَامُه أفضلُ الخلق، فمن ظَنَّ أنه يصل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بدون اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أو لأحدٍ من الخلق طريقٌ إلى رضوان الله وكرامته غير اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر مُلحِد. ومن ادَّعَى أنّ أحدًا من أولياء الله الذَين بلغتْهم رسالةُ محمد صلى الله عليه وسلم يَصِل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بغير كتاب الله وسنَّةِ رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فهو ملحدٌ ضالٌّ مُفتر، يُستتاب فإن تاب وإلاّ قُتِل كافرًا. بل محمد صلى الله عليه وسلم رسولُ الله إلى جميع الخلق الثّقلينِ إنسِهم وجِنِّهم، وهو رسولُ الله إلى جميع الإنس: أسودِهم وأحمرِهم، وعَرَبِهم وعجمِهم.

فأولياء الله المتقون هم العالمون العاملون بما بعثَ الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولا يكون لله وليٌّ إلَاّ من يَتّبع محمدًا، ومن لم يَتَّبع محمدًا فهو

(1)

انظر لمعنى الأبدال: "فتوى في الغوث" للمؤلف.

(2)

سورة الفرقان: 70.

(3)

أخرجه البخاري (2896) والنسائي (6/ 45) عن مصعب بن سعد، ورواه أحمد (1/ 173) من طريق مكحول عن سعد نحوه.

ص: 70

عدوُّ الله، لا ولي له، وإن كان مع ذلك له أحوال شيطانية، يَحصُل له بها مكاشفة وتصرُّف يُعِين بذلك أعداء محمد ويَخْفِرُهم، فهم من أعداء الله الملاعين، لا من أوليائه المتقين. وهو من جنس السَّحَرةِ والكُهَّان الذين كانت الشياطين تُخْبرهم ببعض المغيبات، وتُساعِدهم على بعض مطالبهم، وهؤلاء من أعَداء الله المجرمين، لا من أوليائه المتقين، بل هم كُفار يجبُ قتلُهم، بل يُقتَلون بلا استتابةٍ عند كثير من علماء المسلمين.

وأما أن يكون في العالم أحدٌ من البشر لا يُنزِلُ الله رزقًا أو نصرًا أو هُدًى إلاّ بواسطته، فهذا من أقوال المفترين الملحدين، وهو من جنس قول النصارى، إمّا في المسيح، وإمّا في الباب. بل الناسُ يَدعُون الله، فيُجيبُ دعاءهم، ويسمع كلامهم. والمشركون كانوا يَدعُون الله إذا اضَطُرُّوا، فيُجيب دعاءهم، فكيف بالمؤمنين!

وليس أحدٌ من الخلق يكون هو الذي يَرفع دعاءَ العبادِ كُلِّهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولا لعباد الله الصالحين وأوليائه المتقين عدد مُعين، لا أربعة ولا سبعة ولا اثنا عشر ولا أربعون ولا ثلاث مئة وثلاثة عشر، بل يكثرون تَارةً ويَقِلُّون أخرى. وقد كان حين بعث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كانوا من أقل الناس، ثم إنه بعد هذا انتشر الإيمان.

وقد أغرق الله أهلَ الأرض في زمن نوحٍ عليه السلام إلاّ من آمن معه، وما آمن معه إلاّ قليل.

وفي الحديث الصحيح

(1)

أن الخليل عليه السلام قال لسارةَ لما طَلَبَها الكافر، وكان يأخذ امرأةَ الرجل إذا أعجبتْه، فقال الخليل لها: إذا سألكَ

(1)

البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة.

ص: 71

فقولي إنّكِ أُختي، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرُكِ.

وقول القائل: إن الله إذا غضِبَ على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل به العذابَ، نظرَ إلى قلوب هؤلاءِ المذكورين، فإن وجدَهم راضين بإنزالِ العذاب على الذي قد استحقّهُ أَنزَلَه، وإن لم يجدهم راضين بذلك رَفَعَه- كذِبٌ مفترى، بل قد أنزلَ الله العذابَ على قوم لوط مع مجادلةِ إبراهيم الخليل عنهم. قال تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}

(1)

.

وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم لمَّا استغفر للمنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}

(2)

.

ومحمد وإبراهيم أفضلا الخلق، هذا خليل الله، وهذا خليل الله. والخليل إبراهيم استغفرَ لأبيه. ثمَّ لما مات أبو طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرنَّ لك مالم أُنْهَ عنك"

(3)

، فانزل الله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}

(4)

. فقال بعض المسلمين: إنَّ إبراهيم قد استغفر لأبيه، فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}

(5)

.

(1)

سورة هود: 74 - 75.

(2)

سورة المنافقين: 6.

(3)

أخرجه البخاري (4675 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن سعيد بن المسيب عن أبيه.

(4)

سورة التوبة: 113.

(5)

سورة التوبة: 114.

ص: 72

وقد ثبت

(1)

أنه يوم القيامة يُراجِعُ الناس الشفاعة، فيأتون إلى آدم ليشفع لهم، فيَرُدُّهم إلى نوح، ويَرُدُّهم نوح إلى إبراهيم، ويردُّهم إبراهيم إلى موسى، ويردُّهم موسى إلى عيسى، ويردُّهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعلى سائرِ النبيين واَلِ كل وسائرِ الصالحين، فإذا أتوا محمدًا أفضلَ الشفعاءِ وأعظمَ الخلقِ جاهًا عند الله قال:"فآتِي ربي، فإذا رأيتُه خَرَرْتُ له ساجدًا، وأَحمدُ ربي بمحامدَ يَفتحها عليَّ لا أُحسِنُها الآن، فيقال: أيْ محمد، ارفَعْ رأسَك، وقُلْ تُسْمَع، وسَلْ تُعْطَه، واشْفَعْ تُشَفَّعْ". فلا يَشفع حتى يأذَن الله له في الشفاعة، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}

(2)

، وقال تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}

(3)

.

فإذا كان أفضلُ الخلق لا يَشفع في أحدٍ إلاّ بإذنِ الله عز وجل، فكيف يُقال: إنّ الله لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ إذا رضي هؤلاءِ أن يُعذِّبَهم؟ ومعلوم أنّ العبدَ عليه أن يتبعَ رِضا اللهِ عز وجل، فيفعلَ ما أَمَر، ويَرضى بما قَدَّر. وأمّا الربّ عز وجل إذا أرادَ أن يُهلِك أعداءَه هَل يُشاوِرُ أحدًا، أو يتوقفُ فِعلُه على رِضا أحدٍ من عباده؟ بل [على] هؤلاء العباد إن كانوا راضينَ بما أمرهم أن يَرضَوْا به، وإلاّ وَجَبتِ التوبةُ عليهم. إلاّ ترى أن الله تعالى لمَّا أَغْرق أهلَ الأرضِ، وأغرقَ فيهم ابنَ نوح الذي قال له نوح: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ

(1)

في حديث الشفاعة الطويل، الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة.

(2)

سورة البقرة: 255.

(3)

سورة سبأ: 23.

ص: 73

رَحِمَ}

(1)

. وبعد هذا دعا نوح ربَّه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}

(2)

، قال الله:{قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(3)

. فإذا كان الله لمَّا استحقَّ ابنُ نوح الهلاكَ أهلكَه، وسألَ نوحٌ فيه فعاتبَ الله نوحًا على سُؤالِه، وهو أولُ رسولٍ بعثَه الله إلى أهلِ الأرض، فكيف يقال: إنه لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برِضا طائفةٍ من عبادِه؟ فهل يكون أحدٌ أفضلَ من أولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟

وقد {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} أي محنتك واختبارك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً

}

(4)

الآية.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}

(5)

.

فهذا حالُ الرسل مع الله يَرُدّ على من يَغْلُو فيهم، فكيف يُقال: إنّ له عبادًا لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العبادُ لو أرادَ أن يُهلِكَهم فمن يَملِك دَفْعَ بأسِ الله عنهم؟ وهؤلاء العبادُ عليهم

(1)

سورة هود: 42 - 43.

(2)

الآية: 45.

(3)

الآية: 46.

(4)

سورة الأعراف: 155 - 156.

(5)

سورة المائدة: 17.

ص: 74

أن يتوبوا إلى الله ويَستغفروه، ففي صحيح البخاري

(1)

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "واللهِ إني لأستغفر الله وأتوبُ إليه في اليومِ أكثر من سبعين مرةً".

وفي صحيح مسلم

(2)

عن الأغرّ المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "يا أيها الناس، تُوبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة".

وقال صلى الله عليه وسلم

(3)

: "إنّه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة".

وثبت عنه في الصحيحين

(4)

أنه كان يقول: "اللهم اغْفِرْ لي هَزْلي وجدِّي، وخَطَئي وعَمْدِي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ ومَا أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلاّ أنتَ".

وهذا وأمثاله في دعاءِ الأنبياء وتضرُّعِهم واستغفارِهم وتوبتهم كثير في الكتاب والسنة، وهم يسألون الله رحمتَه لهم ولغيرِهم، ويستعيذون بالله من عذابه أن يَنزِلَ بهم أو بمن يطلبون دفعَه عنهم، فكيفَ يكون تعذيبُ ربّ العالمين لمن شاء تعذيبَه لا يكون إلاّ برِضا بعضِ الناس؟.

لكن قد ثبتَ في الصحيحين

(5)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مُرَّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال:"وَجَبَتْ"، ومُرَّ عليه بجنازةٍ، فأثنوا عليها

(1)

برقم (6307).

(2)

برقم (2702/ 42).

(3)

في الحديث السابق عند مسلم (2702/ 41) عن الأعز المزني.

(4)

البخاري (6399) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري.

(5)

البخاري (2642) ومسلم (949) عن أنس بن مالك.

ص: 75