الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل أبو عبد الله سؤالاً صورته:
ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين - في الرجل يستأجر أرضًا ليزرعها، أو يضمن بستانًا، فينقطع الماء عن الأرض والبستان، أما ماء المطر أو النهر فيفسد بعض الزرع والثمر، فهل يُحَطُّ عن المستأجر أو الضامن من الأجرة شيءٌ أم لا؟ وكذلك إذا استأجر طاحونًا يديرها الماء فينقطع، وكذلك إذا استأجر ظِئرًا للإرضاع، فينقص لبنها، وأمثال ذلك. وكذلك إذا أصاب الأرضَ الجرادُ أو الفار أو النار، فتَلِفَ الزرع أو الثمر، هل يوضع الجائحة فيضمن المؤجر ما تلف بالآفة السماوية. وما الفرق بين وضع الجوائح في الثمرة المشتركة والزرع في الأرض؟ بينوا لنا ذلك.
وفي الرجل يضمن بستانًا بألفٍ مثلاً، وفيه عشرة أصناف من الفاكهة، فيتعطل بعض المنافع، ويرتفع سعر الباقي فيزيد على الألف. وكذلك الطاحونة إذا كانت عدة أحجارٍ، فيعطل البعض، وزاد السعر. وكذلك في الحانوت وغيره.
أفتونا وابسطوا القول مثابين، رضي الله عنكم.
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحمد لله رب العالمين. نعم
يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة
، وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره من العلماء. قال أحمد
ابن القاسم: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن رجل اكترى أرضًا فزرعها، وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها.
وهذه المسألة لها صورتان
(1)
:
أحدهما أن ينقطع الماء بالكلية، بحيث لا يمكن الانتفاع بها لشيء من الزرع، فهذا لا أعلم نزاعًا أن للمستأجر الفسخ هنا، وفيما إذا انهدمت الدار المستأجرة. لكن هل ينفسخ الإجارة بنفس الانقطاع؟
أو يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد:
إحداهما أنه ينفسخ بمجرد انقطاع الماء. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو المنصوص عن أحمد، لأنه أمر أن يحطّ عن المستأجر بقدر انقطاع الماء، ولم يعلق ذلك باختياره، فأسقط الأجرة من حين انقطاع الماء. وهذا معنى الانفساخ.
والثاني: يثبت له الفسخ، وهو المنصوص عن الشافعي في صورة انقطاع الماء، ونص في صورة الهدم على الانفساخ.
فخرجت المسألتان على قولين. ومأخذ من قال: له الفسخ، أنه قال: المنفعة لم تتعطل، بل يمكن الانتفاع بالأرض في غير الازدراع، فأما إذا قدّر أن المنفعة تعطلت بالكلية فلا نزاع بين الأئمة في انفساخ الإجارة. وهذا هو الصواب في المسألتين، لأن المنفعة المقصودة بالعقد إذا كانت هي الازدراع، لم يكن الانتفاع بها في غير ذلك
(1)
انظر تفصيل القول في هذه المسألة في "مجموع الفتاوى"(30/ 266 وما بعدها).
مستحقا بالعقد، فوجوده كعدمه.
والأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه متى تعطلت المنفعة المقصودة بالعقد انفسخت الإجارة. مثل أن يستأجر ظئرًا، فيموت في أثناء المدة؛ أو يستأجر جمالاً أو حميرًا للركوب أو الحمل، فيموت قبل التمكن من استيفاء المنفعة؛ ونحو ذلك مما يتلف فيه العين المستأجرة، فإنه ينفسخ الإجارة عند الأئمة الأربعة. وقال أبو ثور: لا ينفسخ الإجارة إذا كان المستأجر قد تسلَّم العين المستأجرة، وإن تلفت عقب التسلُّم، لأن ذلك تلف بعد القبض، فأشبهَ ما لو تلف المبيع بعد القبض، فإنه يكون من ضمان المشتري، فكذلك إذا تلف الموجود بعد القبض كان من ضمان المستأجر، لاسيما من يقول: إنه لا يوضع الجوائح في الثمر المبيع بعد بُدُوّ صلاحه إذا تلف بعد قبض المشتري، فإن هذا قياس قوله، لأنه يقول هناك قد تلف بعد القبض، وإن كان المشتري لم يتمكن من الجداد والحصاد، كذلك المنافع هنا تلفت بعد القبض، وإن كان المستأجر لم يتمكن من استيفاء المنفعة بالبيع عند الأكثرين، كمالك والشافعي وأحمد في أقوى الروايات.
ولولا قبضه لها لما جاز ذلك، وله أن يربح فيها عندهم، مع النهي عن الربح فيما لم يضمن، فدل ذلك على أنها من ضمانه.
ومذهب الجمهور هو الصواب، لما روى مسلم في صحيحه
(1)
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعتَ من أخيك تمرًا، فأصابته جائحةٌ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بمَ تأخذ مالَ أخيك بغير حق؟ ".
(1)
برقم (1554).
وفي رواية لمسلم
(1)
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثمرة التالفة من ضمان البائع، ونهى البائع أن يأخذ من المشتري شيئًا من الثمن، وبين أنه أكل مالاً بالباطل، مع أن الثمرة بعد بدو صلاحها عينٌ موجودة، فإنه قد يمكن الانتفاع بها ببعض الوجوه، فالمنافع التي لم توجد بعدُ ولا يمكن المستأجر من استيفاء شيء منها أولى وأحرى أن لا يكون من ضمانه، بل من ضمان المؤجر. ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي في الجديد يقولان: المنفعة تتلف من ضمان المؤجر، والثمرة من ضمان المشتري. فإذا كان النص قد ورد في الثمار بأنها من ضمان البائع، فلأن تكون المنافع من ضمان المؤجر أولى.
وأيضًا فإن تلف المنافع قبل التمكن من استيفائها كتلف الأعيان المبيعة قبل التمكن من استيفائها، وإذا كان المبيع التالف قبل التمكن من قبضه من ضمان البائع، فكذلك المنافع التالفة قبل التمكن من استيفائها، ومعلومٌ أنه لم يتمكن من استيفائها، وطرد ذلك الثمرة بعد ظهور صلاحه وقبل كماله، فإن المشتري لما لم يتمكن من جدادها على الوجه المعروف كانت من ضمان البائع، فإن التمكن إنما يحصل عند إمكان الجداد على الوجه المعروف.
فإن قيل: بل المستأجر قد قبض المنفعة قبضًا حكميا، فقبض العين بدليل جواز التصرف فيها بالإجارة، وبدليل أنه يجب عليه تسليم الأجرة.
قيل: هذا فيه نزاع، فأما إجارة المستأجر لما استأجره فعن أحمد
(1)
برقم (1554/ 17).
فيها أربع روايات
(1)
:
إحداها: لا يجوز بحالٍ، بناءً على هذا، إذ المنافع لو تلفت لتلفت من ضمان المؤجر. وكذلك عنه في بيع المشتري للثمرة المشتراة قبل الجداد روايتان، والنزاع في ذلك معروف عن الصحابة ومن بعدهم.
والثانية: يجوز بمثل الأجرة، ولا يجوز بزيادة إلاّ إذا جدّد فيها عمارة، فإن فعل تصدَّق بالزيادة. وهذا قول أبي حنيفة وطائفة.
والثالثة: لا يجوز إلاّ بإذن المؤجر.
والرابعة: يجوز مطلقًا، كقول الشافعي وكثير من العلماء.
وكذلك يجوز على المشهور عنه للمشتري أن يبيع الثمرة قبل كمال صلاحها، وعلى هذا فنقول: وجد القبض للمبيع، ولم يوجد كمال القبض الذي يُوجِب أن يتلف من ضمان المشتري والمستأجر.
والدليل على أنه لم يوجد القبض التام أن البائع عليه سَقْي الثمرة إلى كمال صلاحها، فلو تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع بلا نزاع. وإذا كان على البائع تمام التوفية عُلِم أنه لم يوجد كمال القبض.
وكذلك المؤجر عليه عمارة ما شعث من العين المؤجرة، وما يحتاج إليه الآدمي والبهيمة من النفقة هو على المؤجر، والإنفاق على العين المؤجرة من تمام التسليم المستحق بالعقد. فعُلِم أنه لم يوجد كمال القبض، وإنما وجد التخلية التي لا يتمكن معها من كمال الاستيفاء.
(1)
انظر: "المغني"(8/ 56).
وإنما جاز فيها التصرف بالبيع وغيره، لأن البائع قد فعل ما يمكنه من الإقباض، وكذلك في الإجارة قد فعل المؤجر غاية ما يمكنه، وانتقلت بهذا إلى ضمان المستأجر من بعض الوجوه، وهو أنه إذا تلفت المنفعة تحت يده تلفت من ضمانه، فلا يكون إذا ربح فيها قد ربح فيما لم يضمن، فالاعتبار في الضمان بتمكنه، إذا تمكن من استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، والمستأجر بعد تسليم العين قد تمكن من استيفائها شيئا فشيئًا، كما كان يتمكن المؤجر، فلو تركها تلفت من ضمانه، فإذا باعها باعها بعد قبض مثلها. وإن كان القبض التام الذي يوجب إذا تلفت بغير اختياره أن يكون من ضمان المؤجر لم يوجد.
وهكذا الثمرة بعد بدو صلاحها إذا خُلِّي بينه وبينها كان متمكنًا من قبضها والانتفاع بها إن شاء، ولو قطعها لضمنها بالمسمى، لم يضمنها ضمان الغصب.
ثم يقال: أما كونها مضمونة على البائع فهو ثابت بالنصّ، وأما جواز التصرف فيها ففيه نزاع، وحينئذِ فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا منع الحكم، فإن ما ثبت بالنصّ لا يجوز دفعه بغير نصِّ يعارضه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجهٍ أنه قال:"من ابتاع طعامًا فلا يَبعْه حتى يستوفيه"
(1)
. وثبت عنه أنه قال: "إن بعتَ من أخيك ثمرةً، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ "
(2)
. فيجب العمل بالحديثين، فإن كان القبض
(1)
أخرجه البخاري (2126،2133،2136) ومسلم (1526) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (2132،2135) ومسلم (1525) من حديث ابن عباس نحوه.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
المبيح للتصرف هو كمال القبض الذي يرفع ضمان البائع لم يجز للمشتري بيع الثمرة؛ وإن أريد به أصل القبض فهو موجودٌ هنا، والسنة دلت على أن ضمان المشتري وجواز تصرفه لا يتلازمان، بل قد يكون مضمونًا عليه من بعض الوجوه مالا يجوز له بيعه، وقد يجوز أن يبيعَ ما يكون مضمونًا على البائع من بعض الوجوه. وهذا ظاهر مذهب أحمد، وهو الذي ذكره الخرقي وغيره، وإن كان من أصحابه من يقول بتلازمهما، كمذهب أبي حنيفة والشافعي. وذلك أنه قد ثبت في الصحيحين
(1)
عن ابن عمر أنه قال: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من مال المبتاع". فإذا باعه حيوانًا، وتمكن المشتري من قبضه ولم يقبضه، كان من ضمان المشتري. وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه.
وكذلك إذا اشترى صُبْرةَ طعام جزافًا، وتمكن من نقله، كان من ضمان المشتري في ظاهر مذهب أحمد، مع أنه لا يجوز له بيعه حتى ينقله، كما في الصحيح
(2)
عن ابن عمر أنه قال: "لقد رأيت الناس في عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزَافًا - يعني الطعام - فيضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم". وفي لفظ
(3)
: "كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبلَ أن نبيعَه". فابن عمر نقل هذا وهذا، وكلاهما مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، فالموجب
(1)
ذكره البخاري تعليقًا في كتاب البيوع: باب 57، ووصله الدارقطني في "سننه"(3/ 54). وانظر "فتح الباري"(4/ 352). ولم يروه مسلم.
(2)
البخاري (2137).
(3)
لمسلم (1527).