المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا قياس في وقوعه، بل القياس أنه لا يقع - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌لا قياس في وقوعه، بل القياس أنه لا يقع

وأما قول القائل: إن ابن عباس أفتى بخلافه، فقد اختلفت فُتْيا ابن عباس في ذلك، فنُقِل عنه إيقاعُ الثلاث بكلمة واحدة، ورُوِيَ عنه أنه لا تقع، كما ذكر ذلك أبو داود في سننه وغيرُه

(1)

.

والمقصود هنا أنه ليس في السنة قَط أن أحدًا طلَّق ثلاثًا جملةً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأوقعها به، وهذا لا ريبَ فيه.

وأما الإجماع فلا إجماعَ في المسألة

(2)

، بل قد نقل عن أكابر الصحابة - مثل الزبير وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس - أنه لا تقع الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ، وهو قول غير واحدٍ من التابعين ومن بعدهم، كطاوس وعكرمة وابن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقول طائفة من أصحاب مالك من أهل قرطبة وغيرهم، وقول طائفة من فقهاء الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكان جدُّنا أبو البركات يفتي بذلك أحيانًا، وقول [طائفة] من الناس من أهل الحديث والكلام والفقه، وهو أحد قولَي الظاهرية بل أكثرهم، وقول الشيعة.

وأما القياس ف‌

‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

، لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فسادَ المنهي عنه، بمعنى أنه لا يحصل للمنهي قصده، والمنهي عن الطلاق المحرم قصدُه وقوعُه، ففسادُه يُوجب أن لا يحصل مقصوده. كما أن المكرِه الظالم لما كان قصدُه وقوَعَ الطلاق بالمكرَه لم يقع الطلاق من المكْرَه.

(1)

سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى.

(2)

علق عليه أحد القراء: "هذا كلام ساقط، بل الإجماع منعقد على وقوع الثلاث، وأنه جائز، انتهى". قلت: كأن المعلق لم يقرأ ما نقله المؤلف عن أكابر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فأين الإجماع الذي ادَّعاه المعلق؟ وانظر "مجموع الفتاوى"(33/ 82 - 84). وقد سبق ذكر بعض الآثار الواردة فيه فيما مضى.

ص: 316

فإن قيل: المنهي عنه إذا كان سببًا للإباحة فينبغي أن لا يُباح له، لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة، وأما إذا كان سببًا لإيجاب أو تحريم فإنه يصحّ، كالنذر والظهار، فإنه نُهِي عن النذر وانعقد، ونُهِيَ عن الظهار وانعقد.

قيل: أما الظهار فقد تقدم القول فيه، وبيّنّا أنه نفسه قولٌ منكر وزُورٌ، وأنهم كانوا يجعلونه طلاقا، فأبطل الشارع ذلك، وذكرنا أن هذا مما يَحتجُّ به من يقول "النهي يقتضي الفساد"، حيث لم يُوقع الطلاق. وأما إيجاب الكفارة فيه فلكونه أتى بالمنكر من القول والزور، والكفارة قربة وطاعة، كما أوجب الكفارة في نظائر ذلك من الأمور المنهي عنها، كالجماع في رمضان وغيره.

وأما النذر فإنه يمين، وهو حجة لنا، فإنه إذا نذرَ ماليس بقربة لم يلزمْه، بل يُجزِئه كفارة يمين. وأما إذا نذرَ القُرَب فالقُرَب يحبُّها الله ورسوله، وإنما نُهِي عن النذر لاعتقاد أنه يَقضِي حاجتَه، لا لكون المنذور مكروها. وقال صلى الله عليه وسلم:"إنه يُستَخرج به من البخيل"

(1)

، والاستخراج من البخيل مما يُحِبّه الله ورسوله، فلم يَحصُل بانعقاد النذر إلاّ ما يُحِبُّه الله ورسولُه، لكن يُخَافُ عليه أن لا يُوفِيَ. كما أن المُحرِمَ قبل الميقات يُخَاف عليه أن يرتكب المحظورات، وكذلك الشارع في التطوعات يُخاف عليه أن لا يأتي بها، وما كان مُفضِيًا إلى الطاعة لم يَبطُل خوفًا من عدم الإتمام، بل قد يأمر بإتمامه، كما قال تعالى:(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (6608،6692،6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر.

(2)

سورة البقرة: 196.

ص: 317

والمفسدة التي نهي عنها إنما هي إذا لم يفعل المنذور، أما مع فعله فالمصلحة راجحة، وإذا لم يفعل كان كاذبًا، لكونه التزم مالم يَفِ به، وهو مذموم على الكذب، كما قال تعالى:(*وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77))

(1)

. وقد ذكرنا أن نفس المنهي عنه إذا كانت المفسدة فيه فلا يمكن رفعها، وإنما يمكن رفع ما يترتب على ذلك. وأما الأفعال كالقتل والوطء والشرب إذا رفع محرمًا فهنا لا يمكن أن يقال: لا حكم له، بل وجودُه كعدمه، بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم، فإن هذا العقد باطل، وجودُه كعدمه.

والأقوال قسمان: قسم هو بمنزلة الفعل، كالكفر وشهادة الزور ونحو ذلك، فإن هذا إذا كذب لم يمكن أن يقال: وجود الكذب كعدمه. وكذلك إذا اعتقد الكفر بقلبه أو قاله بلسانه غيرَ مُكرَهٍ استهزاءً بآيات اللهِ لم يمكن إن يقال: وجود ذلك كعدمه. فالطلاق والعتاق عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد في القسم الأول من جنس البيع والنكاح وغيرهما، لا من جنس الكذب.

والقول الموجب للصدق إذا كذب صاحبُه كان الذنب له، ولم يكن رفع المفسدة إلاّ بأن يقال: الصيغة ليست التزامًا وعهدًا، وهذا ممتنع، إلاّ ترى أنه لما التزم فعلَ المحرمات أبطل الشارع ذلك، ولما التزم فعل المباحات لم يأمره بذلك، بل شرع الكفارة في الموضعين

(1)

سورة التوبة: 75 - 77.

ص: 318

عند من يقول بذلك كأحمد وغيره، أو لا شيء عليه كما يقوله الشافعي وغيره.

وأيضًا فإنه إذا نذر الطاعات إن جعل وجود العقد كعدمه ففيه صَدٌّ عن الترغيب في الطاعات، والشارع يُرغب في ذلك من لم ينذر، فكيف إذا نذر؟ وكذلك إن قيل: فيه كفارة يمين مطلقًا ففيه صَدٌّ عن الطاعات التي هي أحبُّ إلى الله من الكفارة، وهذا بخلاف المحرّمات، فإن الكفارة أحب إلى الله منها.

ثم الظهار ونذر المعصية أوجب كفارةً يتقرب بها إلى الله، أما إيقاع الطلاق الذي نهى الله عنه وهو يوجب ما يُبغِضه الله من غير مصلحةٍ في ذلك، لا للزوج ولا للمرأة ولا لأحدٍ من المسلمين، ولا فيه ما يُحِبّه الله ورسولُه، فكيف يشرع الله وقوعَ فسادٍ راجح وشر راجح، ولا يجعل للعباد طريقًا إلى رفع ذلك الشر والفساد؟! وهذا ليس من شريعة الإسلام ولله الحمد والمنة.

وإذا قيل: العبد هو الذي أوقع ذلك.

قيل: نعم، والعبد هو الذي يعقد سائر العقود المنهي عنها، ويلتزم ما فيها من اللوازم، ومع هذا لما كان فسادها راجحًا أبطلَ الشارعُ تلك العقود، ولم يشرع وقوع ذلك الفساد الراجح، كمن نكح أنكحةَ منهيَّا عنها، وباعَ بيوعًا منهيَّا عنها، ونحو ذلك، فالطلاق المحرَّم عقد من العقود المنهي عنها.

فإن قيل: فعمر بن الخطاب ألزمَ الناسَ بوقوع الثلاث جملة كما ذكرتم، وعمر لم يكن ليخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعُلِمَ أنه اطّلعَ على دليل شرعي يُوجِب ذلك. وقد وافقه علي وابن مسعود وابن

ص: 319

عباس وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو

(1)

، فهؤلاء أفتوا فيمن أوقع الثلاث جملة أن تقع. واشتهر ذلك عند عامة العلماء حتى ظنه من ظنَّه إجماعا، وصار نقيضُ ذلك يُحكَى عن أهل البدع كالرافضة، ولهذا لمّا ذُكِر هذا القولُ عن الرافضة لأحمدَ قال: قولُ سوء، أو نحو ذلك.

قيل: أما المنقول عن عمر رضي الله عنه فظاهره أنه عاقبَ الناسَ بإيقاعِها جملة لما أكثروا من فِعْلِ ما نُهُوا عنه، ولهذا قال: إن الناس قد أسرعوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم.

والذين أفتوا بذلك من الصحابة رأوا رأيَ عمر في ذلك، وألفاظهم تَدُلُّ على أنهم فعلوا ذلك عقوبةً لمن فَعَلَ ما نُهِيَ عنه، كقول ابن مسعود لما سُئِل عمن طلَّق ثلاثًا: أيها الناس! مَن أتى الأمرَ على وجهِه فقد بُيِّن له، وإلاّ فوالله ما لنا طاقة بكل ما تُحدِثون. وفي لفظٍ: من أتى بدعةً ألزمناه بدعتَه. فعُلِم أن هذا كان عنده ممّا نُهُوا عنه، فألزمَهم به. وكذلك ابن عباس قال لمن طلَّق ثلاثًا: إنك لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، ولكنّك لم تتق اللهَ فلم يجعل لك فرجًا ومخرجًا. وكذلك عبد الله بن عمر يقول: إذا فعلتَ ذلك فقد عصيتَ الله وبانت منك امرأتك. ومثل ذلك كثير في كلامهم، يَذُمُّون فاعلَ ذلك مع إيقاعهم به الثلاث. وهذا يقتضي أن فاعلَ ذلك كان مذمومًا عندهم مع إيقاع الثلاث به.

وقد كان للصحابة رضي الله عنهم اجتهاد في أنواع من العقوبات

(1)

سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى.

ص: 320

وفي المنع من بعض المباحات، لما يَرونَه من مصلحة الأمة، كاجتهاد عمر وغيرِه في حدّ الشارب حتى حَدُّوه ثمانين، وحتى كان عمر ينفيه ويَحلِق رأسَه. وكما كان عمر ينهى عن متعة الحج ليعتمر الناسُ في غير أشهر الحج، فمنَعَهم من المباح لمَّا رآهم يتركون به ماهو مشروع للأمة، ولما رأى في ذلك من حَضِّ الناس على الطاعة به، ويمنعهم من المباح ليفعلوا خيرًا أو لئلاّ يفعلوا شرًّا. فلمّا كثر منهم إيقاعُ الثلاثِ جملةً، ورأى أنهم لا ينتهون عن ذلك إلاّ بإلزامهم بها ومنعِه من المرأة إذا قال ذلك، فمنعهم من نكاحها بعد الثلاث جملةً ومُفرَّقًا، لئلاّ يفعلوا الشرَّ الذي كانوا يفعلونه، كما منعهم من متعة الحج، ليفعلوا الخيرَ - وهو العمرة - في سائر السنة، وكما حرَّم على الناكح في العدَّة أن يتزوج المنكوحة أبدًا، ليمنعهم بذلك من الشر الذي فعلوه، وهو التزوج في العدّة. وكما منع شاربَ الخمر أن يقيم ببلدِه، ليمنعه بذلك من شُربِ الخمر.

وهذه العقوبات لها أصل في الشرع، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم نَفَى المخنَّثَ والزاني، ومَنَعَ الحميريَّ من السَّلَب الذي أمر خالدًا أن يُعطِيَه إياه، فحرَّمَه عليه بعد أن أوجبَه له، ليزجر بذلك عن التعدّي على ولاة الأمور لما اعتدى عوف بن مالك على خالدٍ

(1)

. وكذلك ما رُوِي من منع الغالّ سهمَه. وأيضًا فإنه لما أمر بهجر الثلاثة الذين خُلِّفوا أمرَ أزواجَهم بهجرهم، ومنعهنَّ أن يمكِّنوهم من مضاجعتهم

(2)

، مع أن هذا حلالٌ للزوج مع امرأته. وهذا أبلغ من موجب الظهار، فإن هذا تحريم لنسائهم عليهم إلى أن يتوبَ الله عليهم أو يحكمَ الله بحكمٍ

(1)

أخرجه مسلم (1753) عن عوف بن مالك.

(2)

كذا في الأصل، والأولى أن يكون:"ومنعهن أن يمكنهم من مضاجعتهنَ".

ص: 321

آخر. والمظاهر تحرمُ عليه إلى أن يكفر، فاثبت موجب الظهار تعزيرًا لمن استحقَّ التعزير بالهجرة. وعاقبَ المتلاعنينِ بتحريم كل منهما على الآخر، وهذا أبلغ من موجب الطلاق. فإذا كان قد عاقبَ بتحريمٍ أخفَّ من موجب الطلاق وبتحريمٍ أبلغَ من موجب الطلاق، وجعلَ الثاني شرعا مطلقًا، وجعلَ الأوَّلَ تعزيزًا يسوغ أن يفعله الأئمةُ بمن أذنب مثل ذلك الذنب -: لم يمتنع أن يكون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - مع كمال علمه ونُصحِه للأمة - رأى أن يُعاقِبَ المستكثرين مما نَهى الله عنه، الذين لم يرتدعوا بمجرد نهي الشارع، بما هو من جنس العقوبات المشروعة. وقد كان أحيانًا يَهُمُّ بنهيهم عن أشياءَ وعقوبتهم بالمنع، ثم يتبين له الصواب في ذلك، كما همَّ أن يمنعهم من الزيادةِ في قدرِ الصَّداق على ما فعلَه النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجِه وبناتِه، ويجعل فِعلَه شرعًا لازمًا لهم لا يزدادون عليه، وأن يعاقب من جاوزَ فِعلَ النبي صلى الله عليه وسلم بجَعْلِ الزيادة في بيت المال، حتّى تبيَّنَ له أن ذلك مما أباحه الله لهم، فلا يُمنَعون منه ولا يُعاقَبون عليه.

وإلاّ فهل يَظنُّ من يؤمن بالله واليوم الآخر ويَعرِف حالَ السابقين الأولين أن عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين كان يَعمِد إلى نَسْخِ شرع النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأن المسلمين يُقِرونه على ذلك مع علمه وعلمهم بأن هذا نسخ لشرعِه! نعم، الأمور الاجتهادية التي يفعلها أحد الخلفاء تارة يوافقُه عليها جماعتهُم، وتارة يوافقه عليها بعضُهم وينكرها بعضُهم إنكارَ مجتهدٍ على مجتهدٍ، كما أنكر عمران بن حصين وغيره على عمر ما قاله في متعة الحج

(1)

، مع أنه قد ثبت عن عمر أنه لم يُحرِّمها، وأنه كان له فيها اجتهادٌ متنوع.

(1)

أخرجه البخاري (1571) ومسلم (1226) عن عمران بن حصين.

ص: 322

وإذا كان هذا مخرجَ ما فعلَه عمر فيقال: من كانوا عالمين بالتحريم وأقدموا عليه بعد علمهم بالتحريم، واستكثروا منه بعد علمهم بالتحريم، فمن ألزمَهم به فقد اقتدى بعمر في ذلك وبمن وافقه من الصحابة.

وأمّا من لم يعلم أن ذلك محرَّم أو اعتقدَ أنه مباح وفَعَلَه، فهذا لا يستحق أن يُعاقَب، ولا يمكن إلزامُه به على وجه العقوبة، إلاّ أن يكون الشارع ألزمَه بالثلاث. وظهر مقصودُ عمر، فإنهم إذا كانوا يعتقدون تحريمَه، والشارع نهاهم عنه، وإذا أوقعوه جعله واحدة، فإذا صاروا يوقعونه قاصدين للثلاث صاروا يقصدون ما نُهوا عنه، وقد يعتقد عامتُهم وقوعَ الثلاث به، فعاقبهم عمر على ذلك بإلزامِهم ما قصدوه وما اعتقدوه.

فإن قيل: فقد تقدم أن الشارعَ لم يُعاقِب بوقوع الطلاق.

قلنا: نعم، ليس في الكتاب والسنة عقوبةٌ بوقوع الطلاق، ولكن جَعْل هذا عقوبةً هو مما يقوله كثير من السلف والخَلف بالاجتهاد، كما يقول كثير من الفقهاء: إنما يُوقَع الطلاقُ بالسكران عقوبة له، ونحن ذكرنا مقاصد اجتهاد عمر رضي الله عنه.

وأيضًا فعمر رضي الله عنه رأى أن في إلزامهم به منعًا لهم من إيقاعِه، فرأى أن ما يَنتفِي من وقوع الطلاقِ البغيض إلى الله أكثرُ مما يقعُ منه، فدَفَعَ أعظم الفسادَين بالتزامِ أدناهما، فإنهم إذا كانوا يوقعون الثلاث المحرَّمة ولا يرونها إلاّ واحدةً، وكانوا يَقصِدون الثلاث أولاً بالقول المحرّم مع علمهم أنه لا يلزمهم ذلك، يكثر منهم تكلُّمهم بالثلاث وقصدُهم إيقاعَها، وذلك بغيض إلى الله، ووقوعُه أيضًا بغيض، لكن ما فعله أوجب دفع أكبر البغيضَينِ وقوعًا بأدناهما وقوعا، فإنهم إذا علموا أنه يُلزمهم بالثلاثِ الثلاثَ امتنعوا عن التكلم بالثلاث،

ص: 323

فكان في ذلك دَفعُ أمور كثيرة بغيضة إلى الله بإلزام أمور أقل منها، ولمّا رأى أنهم لا ينتهون إلاّ بذلك فَعَلَ ذلك.

وكان عمر ينهى عن التحليل ويقول: لا أُوتَى بمحلِّل ومحلَّل له إلاّ رجمتُهما، فلو رأى عمر أن إيقاع الثلاث يُفضِي إلى التحليل الذي حرَّمه الله ورسولُه وإلى كثرته العظيمة لم يَنْهَ عنه، لعلمِه بأن القول بأن الثلاث لا تقع إلاّ واحدة خير من التحليل، وأن المفسدة في التحليل أضعاف المفسدة في أن يتكلموا بالثلاث فلا يقع بهم إلاّ واحدة. فمتى دارَ الأمر بين أن تقع الثلاثُ ويحلل، وبين أن لا تقع الثلاث، كان أن لا يقع أولى. ولا يرتاب في هذا من نوَّر الله قلبَه بالإيمان، فإن التحليل فيه شرٌّ كبيرٌ ليس في عدمِ إيقاع الثلاث جملةً منها شيء.

وكان نكاح التحليل قليلاً جدًّا في زمن الصحابة، ولهذا سُئِلوا عنه في وقائعَ مخصوصة، وقال عمر بن الخطاب: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّل له إلاّ رجمتُهما. وقد لعنَ النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّلَ والمحلَّلَ له

(1)

.

ولم يكن على عهده من يُظاهِرُ بذلك، لكن قد يكون من يفعل ذلك باطنًا ومن يقصده، فلعنَه كما لعنَ آكلَ الربا ومُوكِله وشاهدَيْه وكاتبَه، لتنزجر النفوسُ بذلك عن قصد التحليل، فلا يقع منه شيء لوجهين: أحدهما: لتتمَّ عقوبة الله للمطلّق الذي طلَّق الثالثةَ بعد طلقتين، فلا يَقصِد أحدٌ إعادةَ امرأتِه إليه، فينزجر بذلك عن إيقاع الثلاث مفرقة.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 448،462) والدارمي (2263) والترمذي (1120) والنسائي (6/ 149) عن ابن مسعود، وأخرجه أحمد (2/ 323) عن أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه (1934) عن ابن عباس، وفي الباب عن آخرين، وهو حديث صحيح. انظر "إرواء الغليل"(1897).

ص: 324

والثاني: لأن التحليل من جنس السفاحِ لا من جنس النكاح، فإنه غير مقصود. ولهذا كان الزوجُ مُشبهًا فيه بالتيس المستعار، الذي يقصد استعارتَه لا مصاحبتَه.

فلما كان مفسدةُ وقوع الثلاث قليلةً لقلَّةِ التحليل، وكان الناس قد أكثروا مما نُهُوا عنه منَ إيقاع الثلاثِ جملةً، رأى عمر أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم، لئلا يفعلوا ذلك، فالشارع حرَّم عليهم المرأة بعد الثالثة عقوبةً لهم، فرأى عمر وغيرُه أنهم إذا أكثروا من إيقاعها مجتمعة استحقوا هذه العقوبة. بخلاف ما كان على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأول خلافته، فإنها كانت قليلةً في الناس، وكانوا ينتهون بنهي الشارع، فلم يكن في وقوعها قليلاً حاجة إلى عقوبة. ولا ريبَ أنه إذا كثر المحظور احتاجَ الناسُ فيه إلى زجرٍ أكثر مما إذا كان قليلاً.

ولهذا لما رأى الصحابة رضي الله عنهم كثرةَ شُرْب الناسِ الخمرَ واستخفافَهم بالعقوبة التي هي أربعون جَلَدوا ثمانين، وَكان عمر مع ذلك يَنفِي ويَحلِق الرأسَ، لأن عقوبة الشارب لم يُقدِّر النبي صلى الله عليه وسلم فيها قدرًا مؤبدًا كما قدَّر في القذف، لا عددًا ولا صفةً، بل أقل ما ضرَب أربعين، وكان يضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقد أمر بقتل الشارب في الرابعة

(1)

، فكان صفةُ عقوبتِه وقدرُها مُفوَّضًا إلى اجتهاد الأئمة، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ فيها حدًّا حرَّمَ ما زاد عليه لامتنعَ عليهم أن يُبدِّلوا شريعتَه، فإنهم لا يتفقون على ضلالةٍ.

وإذا كان هذا فعلَه عمر على وجه العقوبةِ والتعزير بذلك لكثرة إقدام الناس على المحظور، لا لأنه شرع لازم لكل من تكلَّم بذلك،

(1)

سبق ذكر هذا الحديث وتخريجه.

ص: 325

سواءً كان عالمًا بالتحريم أو جاهلاً، وسواء كان الناس يحتاجون إلى العقوبة بذلك أو لا يحتاجون، لم يكن على أن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة لكل من تكلم بها دليل شرعيٌّ أصلاً. وإذا كان كثير من الفقهاء يُوقِعون الطلاقَ بالسكران، ويقولون: نُوقِعه عقوبة ونَجعلُ ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أن هذا لا يُوجب انتهاء الناس عن الشُكر، فكيف لا يكون ما فعلَه عمر رضي الله عنه من العقوبة مما يسوغ فيه الاجتهاد؟ مع أن ذلك أقرب إلى الأدلةِ الشرعية ومقصودِ المعاقب من هذا.

ولو قُدِّر أن بعضَ الصحابة رأى وقوع الثلاث جملةً بكل من تكلَّم بها، ورأى هذا شرعًا عامًّا لازمًا، فقد نازعَه في ذلك غيرُه، مع أن هذا بعيد، فإن الذين رُوِيَ عنهم إيقاعُ الثلاث جملةً رُوِيَ عنهم نَفْيُ ذلك، كعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس

(1)

، فَحَمْلُ كلامِهم على اختلاف حالين أولى من حَمْلِ كلامِهم على التناقض، واعتقادهم فساد أحد القولين

(2)

. وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).

فإن قيل: فإذا لم يكن الطلاق المحرَّم لازمَ الوقوع، فيلزم أن المطلقة في الحيض أيضًا لا يجب أن يلزم فيها الوقوع. وحديث ابن عمر قد ثبت في الصحيحين

(3)

أنه لمَّا طلَّق امرأته في الحيض غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "مُرْه فيراجعها، حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم

(1)

انظر تفسير القرطبي (3/ 132) و"مجموع الفتاوى"(33/ 83) و"إغاثة اللهفان"(1/ 329 - 330)، حكى ذلك عنهم ابن وضاح.

(2)

بعده سبعة أسطر في الأصل وكتب في الهامش: "مكرر يأتي في موضعه".

(3)

البخاري (5252، 5332 ومواضع أخرى) ومسلم (1471).

ص: 326

تطهر، ثم إن شاء بعدُ أمسكها، وإن شاء طلَّقَها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". وقد رُوِي عن ابن عمر

(1)

أنه قيل له: أتعتدُّ بها؟ قال: أفرأيت إن عجز واستحمق. وقال: إن طلقتها ثلاثًا عصيتَ ربَّك وبانت منك امرأتك.

قيل: أولاً حديث ابن عمر قد رُوِي فيه أنه حَسَبَها من الثلاث، ورُوِيَ أنه لم يَحْسُبْها، وكلا الإسنادين جيد. وقوله "راجعْها" مثل قوله "رُدَّها" ونحو ذلك، وهذه الألفاظ تُستَعمل في العقدَ المبتدأ، وتُستَعمل في إمساك المطلقة، وتُستَعمل في إمساك من لم يقع بها طلاق، قال تعالى:(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)

(2)

، فهذا عقد جديد. وقال تعالى:(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ)

(3)

، فهذا رجعة المطلقة. وقال: فردها علي.

وابن عمر رضي الله عنه إما أن يكون كان يعلم أن الطلاق في الحيض لا يجوز، بل يجب إذا طلق المرأة أن يطلقها لعدَّتها كما أمر الله بذلك؛ وإما أنه لم يكن يعلم هذا، فإن كان يعلمه وألزم بما أوقع فقد يكون من جنس إلزام عمر لهم بالثلاث، وإن لم يكن عَلِمَ بالتحريم وألزم بها فهو دليل على أنها تلزم، فيحتاج الاستدلال بحديثه إلى مقدمتين:

إحداهما: أنه أمر بمراجعةٍ هي مراجعةُ من وقع بها الطلاق.

والثانية: أن وقوع الطلقة لم يكن عقوبة عارضةً على ذنبٍ، بل

(1)

كما في بعض الروايات للحديث السابق.

(2)

سورة البقرة: 230.

(3)

سورة البقرة: 228.

ص: 327

هي شرع لازم لكل من طلَّق في الحيض.

وكلا المقدمتين تحتاج إلى دليل.

ثم قد يُستَدلّ على نقيض ذلك بأن علة تحريم الطلاق في الحيض هي إطالة العدَّة عليها عند كثير من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وعلَّله آخرون من أصحاب أبي حنيفة وأحمد بأن الحيض زمن النفرة عن المرأة والزهد فيها، والطهر زمن الميل إليها والرغبة فيها. وبالجملة فلا بُدَّ لهذا الحكم من علَّةٍ، وقد بحثوا عن الأوصاف الثابتة في محل الحكم، فلم يجدوا وصفًا مناسبًا إلاّ هذا أو هذا، والسَّبْرُ مع المناسبة والاقتران من أقوى الطرق التي تثبت بها العلَّة.

وإذا كانت العلَّة ما ذكره الأولون، فإذا وقع الطلاق فإنما يُؤمر به لإزالة تلك المفسدة، والأيمان كانت لا تزول، فلا فائدة في الأمر بالمراجعة.

والفقهاء لهم في وجوب المراجعة قولان هما روايتان عن أحمد، ولهم في ارتجاعها في الحيضة التي تلي ذلك الطهر قولان هما روايتان عن أحمد

(1)

. ومن قال: إن الرجعة لا تجب، وإنها تُشْرَع في الطهر الذي يلي الحيضة، لم يكن في الأمر بالرجعة عنده فائدة، ولا زال بها مفسدة طلاق الحيض، بل ذلك أشدُّ في الضرر عليها، فإنه يرتجعها وهو في الحيض لا يطأها، ثمّ يُطلّقها في الطهر الأول، فيحتاج إلى استئناف العدَّة عليها، فيزداد الطول والضررُ. وهذا أشهر القولين. ومن قال: إنها تبني لم يكن في الارتجاع عنده فائدة؛ ومن قال: لا يطلّقها إلاّ في الطهر الثاني فإنه لا يُوجِب وطئها في الطهر

(1)

بعده في الأصل بياض بقدر ثلاث كلمات، ومكتوب عليه:"كذا".

ص: 328

الأول، فإذا أمسكها ولم يطأها وطلَّقها في الطهر الثاني استأنفت العدة أيضًا عند الجمهور، فكان ارتجاعها زيادةَ شر. وإن بَنَتْ على العدَّة فلا فائدة في الرجعة.

وهذا بخلاف ما إذا لم يقع الطلاق، فإنه لا عدَّة عليها فيردها، لأنها امرأته، ولا يطلّقها في الطهر الأول لأنه لم يتمكن بعدُ من وطئها، فالنفور بينهما قد لا يزول، فإذا تركها إلى الطهر الثاني تمكن من وطئها، فربما بسبب ذلك تَفْتُر رغبتُه عن الطلاق.

والشارع نهى الرجالَ أن يطلقوا إلاّ لاستقبال العدة، لئلا تطول بذلك العدة. فهذا حكمة نهي الشارع، لكن إذا فعلوا ما نُهُوا عنه، فإن أوقع الطلاق لغير العدة فقد حصلَ الشرُّ الذي كرهَه الله ورسولُه، وحَصَلَ طولُ العدَّة لا مَحالةَ، لأن هذا الطلاق إذا وقعَ أوجبَ عدةً، فتكون طويلةً، ومراجعتُها بعد ذلك - إذا قيل: إن الطلاق قد وقعَ - لا تَرفعُ هذه العدة الطويلة، ولا تُزيل هذا الضرر، بل إما أن تَزيده ضررًا وطولاً آخر، كما هو قول الجمهور الذين يُوجبونَ على المرتجعة إذا طلقت قبل الدخول عدةً أخرى، وقد ذكر الثوري أن هذا إجماع الفقهاء. وإما أن تبقى العدةُ طويلةً مُضِرَّةً كما كانت، كما هو قولٌ للشافعي ورواية عن أحمد.

فإن قيل: بل في الرجعة في الحيض تُمكنه من الاستمتاع بغير الوطء، وفي تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني تُمكنه من وطئها في ذلك الطهر.

قبل: هذا الذي لا يزول الضررُ إلاّ به لا يأمرون به، ولم يأمر الشارع به، وإنما أمر على قولكم بمجرد رجعة للمطلقة، وهذا المأمور

ص: 329

به على قولكم يزيد الضرر، فإنه يكون قد طلَّقها واحدةً، فيطلقها ثنتين. وهذا أيضًا دليل آخر، وذلك أن مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايات أن تفريق الثلاث في ثلاثة أطهار بدعة، وهو الصحيح، وأن السنة أن يطلقَها واحدةً، ثم يدعَها حتى تنقضيَ عدتُها، فإذا كانت الأولى قد وقعت ثم أبيح له الثانية في الطهر الأول أو الثاني، كان في هذا. خلاف للسنة بأن طلقها ثانيةً بعد أولى.

فإن قيل: لكن طلّقها الثانية بعد أن راجعَها، وهذا سنة بالاتفاق.

قيل: بل في هذا وجهان ذكرهما أبو الخطاب، أحدهما: أنه بدعة، وعلى هذا التقدير فالحديث حجة عليهم صريحة. والثاني - وهو الأظهر -: هو سنة لمن طلَّقها ثم راجعها ثم اختار طلاقها أن يطلقها، أما من كان غرضُه طلاقَها، وقد طلَّقَ واحدةً، فيؤمر بما يلزم أن يُوقع ثانيةً.

وأيضًا فإن تطويل العدة وضررها يزولُ بذلك.

وأيضًا فالاعتداد بتلك الطلقة من الثلاث أعظم ضررًا على الزوجين من تطويل العدة عليها، ولو خُيرت المرأةُ بين هذا وهذا لاختارت طولَ العدَّة على أن تُحسَب من الثلاث. فكيف تقصد مصلحتها بما هو عليها أشدُّ ضررًا.

وأما ما ذكره الآخرون فإنهم قالوا: أراد بذلك تقليلَ الطلاق، فإنه منع منه زمنَ الزهدِ فيها، وأذِنَ فيه زمنَ الرغبة فيها. وإذا كان هذا مقصود الشارع فهذا المقصود لا يحصل إذا أُمِرَ المواقع له بالرجعة، وقيل له: طَلقْ بعد ذلك، لأنه حينئذٍ لا يكون في الرجعة إلاّ تكثير الطلاق، لأنّ الأول لا يرتفع، والثاني قد يحصل، بل هو

ص: 330