الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنَّ العدَّةَ كانت مشروعةً قبلَ ذلك، وأنّ آية العدَّة نزلتْ قبلَ الأمر بطلاقِ السنة، وهذا يحقِّق ما ذُكِر، والحمد لله رب العالمين.
وكذلك إذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهرٌ، فإنّه لا يقع الطلاق.
فهذا كلُّه ما يُبيِّن أن
القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين
، وعليه يَدُلُّ الكتاب والسنة، وهو الموافقُ لمقاصدِ الشرع، وهو الذي يَسُدُّ بابَ الضِّرار والمخادعة والمكر، الذي أراده الله بأمْرِه بطلاق السنة، وبقَصرِه الطلاقَ على ثلاثٍ، وإلاّ فإذا قيل بوقوع طلاقِ البدعة كان الضرر الذي كان في الجاهلية من هذا الوجه باقيًا. فإذا قيل: إنّ الطلاقَ بعد الطهر لازمٌ أمكنَها حينئذٍ أن تكتمَ الحملَ إذا كانت زاهدةً في الرجل لئلا يرتجعها، وأن تكتمَ الحيضَ وتَدَّعي الحملَ إذا كانت راغبةً في الرجل ليرتجعها.
وما ذكره بعض أهل التفسير من أن نهيَها عن كتمان ما خلق الله في رحمها كان في أوَّلِ الإسلام، إن قيل: أرادوا بذلك أنّ النهي كان في أول الإسلام قبلَ قَصْرِهم على الثلاث وأَمْرِهم بطلاق السنة، لأنَّ الحاملَ حينئذٍ كانَتْ تُطلَّق من غير أن يعلم أنها حامل، فاحتاجوا إلى ذلك. وأما بعد أن بيَّن الله أنها لا تُطلق حتى يعلم أنها حائل أو حامل، فلا حاجةَ إلى ذلك. فهذه حجة قوية على من احتج بالآية على وقوع طلاق البدعة كما تقدم. لكن الآية تُبيِّن أنهنَّ نُهِيْنَ عن الكتمان في الحال التي أُمِرَت بها المطلقة أن تتربَّص ثلاثة قروء، وقيل فيها:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)
(1)
، وهذا هو آخر الأمر، فيكون النهي يشمل هذه الحال وغيرها بطريق الأولى كما تقدم، وإذا نُهِيْنَ عن
(1)
سورة البقرة: 229.
الكتمان لم يدلّ ذلك على أنّ كتمانها ينفعها إذا علم بها، بل قد لا يعلم كتمانها، فتكتمه الحمل، فيطلِّق يَظُنُّها طاهرًا، ويستمرّ الأمر إلى أن تَضَعَ الحملَ، فربَّما غيبت الولد وكتمت الولادة. كما رُوي أن امرأة لعمر فعلتْ ذلك، وأنّ عمر عاقبها بمنعها من الأزواج. وربما مات الولدُ أو قتلته، وربّما كَرِهَ الزوجُ مراجعتها بعد ذلك. هذا مع العلم بأن طلاقها لا يقع، فكيف وأكثر الناس يَظنُّون أنّ طلاقَها يَقَعُ، فيكون كتمانُها مَضَرَّةً في هذه الحال. والزوج قد يعتقد أن طلاقَها يَقَعُ كما يَعتقده غالبُ الناس، فيتضرَّرُ حينئذٍ بمكرِها وكيدِها، فنَهْيُ اللهِ لها عن الكتمانِ فيه كمالُ المصالحِ للعالِم والجاهل في مسائل الإجماع والنزاع. ثمَّ من كان أَبْصَرَ وأخبرَ بحكمة الربِّ ورحمتِه ومحاسنِ الإسلام تبيَّنَ له أنّ الربَّ لم يجعل لها طريفا إلى أن تُضارّ الرجل، حتى تُوقِعَه في طلاقٍ أو تمنعَه من رجعةٍ، إلاّ إذا كان حكم الله ورسوله خَفِيًّا عليه، فيُؤتَى من عدمِ علمِه، لا مِن نقصٍ في حكمِ الله ورسوله.
والله أعلم وأحكم، ولا حولَ ولا قوة إلاّ بالله.
آخره، والحمد لله رب العالمين.
(بلغَ مقابلةً بالأصلِ خطِّ المؤلف، ومنه نُقِل. والحمد لله رب العالمين).
***
فتوى في طلاق السنة وطلاق البدعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
سُئِل شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه، ومن خطِّهِ نقلتُ:
ما تقول السَّادة الفقهاء أئمةُ الدين رضي الله عنهم أجمعين - في طلاقِ السنة وطلاقِ البدعة ما هو؟ وهل طلاقُ البدعةِ حلالٌ أو حرام؟ وهل طلاقُ الثلاث بكلمة واحدةٍ من السنة أو البدعة؟ وهل هو حلالٌ أو حرامٌ؟ بيِّنُوا لنا هذه المسألةَ، رحمكم الله وهداكم.
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله. طلاقُ السنة الذي أباحه الله ورسولُه أن يُطلق الرجلُ امرأتَه طَلْقةً واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ثُمَّ يَدَعَها حتى تَقضِيَ العدةَ، فإن كان له فيها غَرَضٌ راجعَها في العدة، أو يراجعُها بعَقْدٍ جديد بعد انقضاء العدة، وإن لم يكن له فيها غرضٌ تركَها. فإذا فعل ذلك فقد طلَّق للسنة، وهذا الطلاق الذي أباحه الله بالكتاب والسنة والإجماع.
فأما إذا طلَّقها في الحيض فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا باتفاق الأئمة، وكذلك إذا طلقها بعد أن وَطِئَها قبلَ أن يستبينَ حملها، فإنه طلاق بدعة. وكذلك إذا طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ أو بكلماتٍ في طُهرٍ واحدٍ فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا عند جماهير السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه، بل لو
طلَّقها واحدةً ثمَّ أَتْبَعَها بطَلْقتينِ قبلَ أن تنقضيَ العدةُ فانه يكون أيضًا مبتدعًا في مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
والقرآن والسنة يدل على أن الله إنما أباح للرجل أن يطلق طلقةً واحدةً، فإذا راجعها ثمَّ أرادَ أن يُطلق الثانيةَ فله ذلك، وكذلك الثالثة، فإذا طلَّقها ثلاثًا كذلك لم يكن مبتدعًا. وإذا وَقَعَ به الطلاق الثلاث حَرُمَتْ عليه حتى تنكحَ زوجًا غيرَه. فإذا طلَّقها على الوجه المشروع لم يندم. وهو قول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إلى قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)
(1)
.
فهذا إنما يكون لمن طلَّق أقل من ثلاث، فيمسك بمعروف، أو يفارق بمعروف، وفي مثل هذا يقال:"لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا"، وهو أن يبدو له فيراجعها. فأما إذا وقع الثلاث فأيُّ أمرٍ يَحدُث بعدَ الثلاثِ؟ وأيُّ رجاءٍ يكون بعدها؟ فلهذا قال جمهور السلف والخلف: إن جمعَ الثلاثِ بدعةٌ منهيٌّ عنها، والمطلِّق ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ مبتدعٌ عاصٍ.
ولم يثبت أن أحدًا أوقعَ الطلاقَ الثلاث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدةٍ، بل زوجُ فاطمةَ ابنةِ قيسٍ طلَّقها زوجُها آخرَ ثلاثِ تطليقاتٍ. والمُلاعِن كان باللعانِ قد ثبت حكمُ الفرقة بينه وبين
(1)
سورة الطلاق: 1 - 3.
امرأتِه، فطلَّقَ ثلاثًا، ولو لم يُطلِّقها لكانتْ محرَّمةَ عليه. فالطلاقُ لم يُفِدْ شيئًا.
فأما أن يكون المسلمون يُطلِّقون ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - كما يفعل الناسُ في زمانِنا - فهذا لم يَثبُت فيه حديثٌ صحيح، ولهذا كان الصحابة يذمُون من يُطلِّق ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، ويقولون: إنه عاصٍ لله، والطلاقُ إذا وقعَ لم يرتفع بالكفارة بإجماع المسلمين، وإنما الكفارة في الأيمان، لا في إيقاع الطلاق. والله أعلم.
(صورة خطه) كتبه أحمد بن تيمية.
(بلغ مقابلةً بأصلِه، ومنه نُقِل).
***
فصل في جمع الطلاق الثلاث