المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جمع الطلاق الثلاث محرم عند جمهور السلف والخلف - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌جمع الطلاق الثلاث محرم عند جمهور السلف والخلف

بسم الله الرحمن الرحيم

(قال شيخ الإسلام وبحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني رحمه الله ورضي عنه -، ومن خطّه نقلتُ:).

فصل

‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في آخر الروايتين عنه، واختيار أكثر أصحابه. ثم هل يقع عند هؤلاء أو لا يقع، أو تقع واحدة، أو يُفرَّق بين المدخول بها وغيرِ المدخولِ بها، فيه نزاع

(1)

. والنزاع بين السلف إنما هو هل تقع واحدة أو ثلثٌ. وأما القول بأنه لا يقع شيءٌ فإنما هو منقول عن بعض أهل البدع من أهل الكلام والرافضة.

وقالت طائفة: بل هو مباح.

والكلام في مقامين:

أحدهما: أنه محرَّم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والاعتبار بالأصول المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فمن وجوهٍ:

أحدها: أنه سبحانه قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ

(1)

انظر "مجموع الفتاوى"(33/ 71 - 73،76 - 98،32/ 311 - 312).

ص: 263

لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) إلى قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)

(1)

.

ومعلوم أن هذه السورة هي سورة الطلاق، وقد ذكر الله فيها من أحكام الطلاق والرجعة والعدد ونفقة الحامل والمرضع وغير ذلك مالم يذكره في موضع آخر، وهي تدل على تحريم جمع الثلاث من وجوه:

أحدها: أنه قال (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) إلى قوله (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). ومعلوم أن هذا لا يكون في الطلاق الثلاث، فإن الثلاث لا إمساك بعدهن، وبعد الثلاث لا يُحدِث الله للزوج رجعةً بدون رضاها. ولهذا قال غير واحدٍ من الصحابة والتابعين والعلماء - كابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس - وفقهاء الحديث ومن وافقهم من العلماء: إن هذا في الرجعية.

(1)

سورة الطلاق: 1 - 6.

ص: 264

الثاني: أن قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) إذن في مطلق الطلاق، ليس إذنًا في كل طلاق. ومن ظنَّ أن هذا عام فقد غَلِطَ ولم يُفرِّق بين العامّ والمطلق، فإن قول القائل "كُلْ" و"بعْ" ونحو ذلك إذن في مطلق الأكل والبيع، لاْ يتعرض للعموم لا بنفي ولا إثباتٍ. ولهذا لم يكن تقييدُ هذا المطلق رفعًا لمدلول اللفظِ ولا نسخًا له، وإذا لم يكن فيه عمومٌ فهو لم يأذن إلاّ في الطلاق الذي وصفَه، وهو أن يطلّق للعدة وأن يُحصيَ العدة ويتقي الله، وأنه إذا بلغن أجلهن أمسكَ بمعروف أو فارقَ بمعروفٍ. وهذه الصفة إنما هي في الطلاق دونَ الثلاث، كما أنها إنما هي في الطلاق لاستقبال العدّة، فمن طلَّقها حائضا فلم يُطلِّق كما أمره الله تعالى. كذلك من لم يطلق الطلاق الموصوف بأن صاحبه لا يدري لعلَّ الله يُحدِث بعده أمرًا، وبأنه إذا بلغت المرأة أجلَها فإمًّا أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، فلم يطلِّق الطلاقَ الذي أمر الله به.

الثالث: أنه أمر بإحصاء العدَّة وأن يتقي الله، وأمر إذا بلغن أجلهن أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، وهذا لا يُحتاج إليه في الثلاث، فإن الثلاث إنما يحتاج إلى إحصاء العدة لتَحِلَّ لغيره، لا لأجل إمساكِه وتسريحه.

الرابع: أنه قال (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، وهذا حكم المطلقة الرجعية، فإن زوجها أحق بها ما دامت في العدة، فليست كالزوجة من كل وجه، ولا كالبائن من كل وجه، بخلاف الزوجة فإن لها أن تخرج بإذن زوجها، والبائن لزوجها أن يُخرجَها بلا إذنها، فإنها لا تستحق عليه السكنى ولا النفقَة، إلاّ أن يختار هو أن يُحصِنَها، فله إلزامُها بالسكنى لحقه في

ص: 265

العدة. وقد دلَّ على ذلك سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة في فاطمة بنت قيس حيث قال لها: "ليس لكِ سكنى ولا نفقة"

(1)

. ولم يعارِضْ ذلك أحدٌ بمعارضةِ صحيحة، فإنّ القرآن لا يخالف ذلك بل يوافقه، فإنّ الله قال:(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

(2)

، والضمير عائد على ما تقدم، وهي الرجعية. وما ذكره في الحامل والمرضع فبيّن فيه أن النفقة حينئذ لأجل الحمل، لا لأجل النكاح، ولهذا قال:(حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، فهذا ذكره لغاية نفقة الحمل، وإلاّ فقد بين عدة الحامل بقوله (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

(3)

، وقوله بعد ذلك:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)

(4)

. وقد ثبت بالإجماع أن أجرة الرضاع نفقة الولد، وهي تجب للنسب لا للنكاح، فدل ذلك على أن نفقة الحامل لذلك.

ولهذا كان أصح القولين أن نفقة الحامل تجب للحمل

(5)

، وحكمُها حكمُ نفقة الولد التي تجب على والده، وهذا مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والشافعي في أحد قولَيْه، ومن قال: إنها تجب للزوجة من أجل الحمل، فكلامه متناقض لا يُعقَل.

الخامس: أنه قال (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1))، وهو كما قال غيرُ واحدٍ من الصحابة، فأيّ أمرٍ يحدث بعد الثلاث، فإن

(1)

أخرجه مسلم (1480) من طرقٍ عن فاطمة.

(2)

سورة الطلاق: 6.

(3)

سورة الطلاق: 4.

(4)

الآية 6.

(5)

انظر "مجموع الفتاوى"(34/ 72 - 75، 105 - 106).

ص: 266

الله ذكر هذا ليبين أنه قد يَحدثُ بعدُ رغبةٌ في الزوجة ونَدَمٌ على الطلاق، فيكون له سبيل إلى رجعتها.

السادس: أنه قال في سياق الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2))، وقد قال الصحابة لمن طلق ثلاثًا

(1)

: لو اتقيتَ اللهَ لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، فعُلِمَ أن جامعَ الثلاثِ لم يتقِ الله.

السابع: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، والإشهاد إنما يؤمَر به في حكم الطلاق الرجعي، وهو واجب على الرجعة في أحد القولين، ويُستحبّ في الآخر.

الثامن: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي وصلن إلى آخر المدة، فإن الأجل هو آخر المدة، والعدة مجموعها، ولهذا قال تعالى في الآيسات:(فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)، وقال:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، فجعل الأجل وضع الحمل، ولم يجعل ذلك عدة، لأن العدة ما يُعدُّ، وهي المدة التي تُعَدُّ. وأما الأجل فهو آخر المدة.

ولهذا دلَّت هذه الآية على أن الحامل لا أجل لها إلاّ وضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أو مدخولاً بها، ولهذا قال ابن مسعود

(2)

: أشهد أن سورة النساء القُصْرَى نزلتْ بعد الطولَى، (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وقال سبحانه:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)، لأنه إنما يُخير بين الإمساك والتسريح عند آخر المدة، بخلاف أثنائها، فإنه لا

(1)

هذا مروي عن ابن عباس، أخرجه أبو داود (2197).

(2)

كما في "صحيح البخاري"(4910). قال الحافظ في "الفتح"(8/ 655،656): مراد ابن مسعود إن كان هناك نسخ فالمتأخر هو الناسخ، وإلا فالتحقيق أن لا نسخ هناك، بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق.

ص: 267

يسرحها حينئذٍ، وهذا إنما يكون في الرجعية.

التاسع: أنه خيَّره بين الإمساك والتسريح، وليس المراد بالتسريح هنا تطليقًا بائنًا باتفاقِ المسلمين، فإن ذلك لا يختص ببلوغِ الأجل، بل المراد به تخلية سبيلها، كما قال:(إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49))

(1)

، فأمر بتسريح المطلقة قبل المسيس، وتلك ليست رجعية، ولا يلحقها الطلاق الثاني، وإنما المراد تخلية سبيلها وإزالة يده عنها، فإنّ له يدًا على الرجعية، فإذا بانت لم يكن له عليها بُدٌّ.

الموضع الثاني من كتاب الله قوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ

(1)

سورة الأحزاب: 49.

ص: 268

أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232))

(1)

.

وهذه الآيات تدلُّ على أن المشروع هو الطلاق الرجعي دون الثلاث، من وجوه:

الأول: أنه قال (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)، وهذا يدل على أن كلَّ مطلَّقة فإنها تتربَّص ثلاثة قروء، وأن بعلَها أحق بردّها في ذلك، فلو كان المطلِّق مخيَّرًا بين إيقاع واحدة وثلاثٍ لم تكن كل مطلَّقةٍ كذلك، بل كان هذا وصفَ بعضِ المطلقات.

فإن قيل: فهذا يرد عليكم فيمن طلقت الطلقة الثالثة.

قيل: قد بيّن ذلك بقوله فيما بعدُ (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، تبين أن هذا الطلاق هو مرتان فقط، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). وقبلَه قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، فكان تمام الكلام يُبيّن المرادَ، ولم يكُ في ذلك خروج عن مدلولِ القرآن ومفهومه وظاهرِه، بخلاف ما إذا قيل: إن المطلق مخير بين الواحدة والثلاث.

وأيضا فالآية عامة في كل مطلقة، والمطلقة طلقة ثالثة قد خصّها في تمام الكلام بقوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)، فيبقى ما سواها على ظاهر القرآن وعمومِه.

(1)

سورة البقرة: 227 - 232.

ص: 269

الوجه الثاني: أن الله ذكر حكم الطلاق الذي أذنَ فيه وشرعَه، فإنه لما قال:(فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227))، وقال:(إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، وقال:(إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) ونحو ذلك، دَلَّ على أنه أَذِنَ في الطلاق وأباحَه في الجملة، وهو سبحانه لم يأذن في كل طلاق ولا أباحَه، بل الطلاق ينقسم إلى مباح ومحظور بالكتاب والسنة والإجماع. وإنما الكلام هنا في جمع الثلاث هل هو من المباح أو المحظور، فإذا قيل: إن الله بيَّن حكم الطلاق الذي أباحَه، ولم تكن الثلاث مباحة، كان القرآن على ظاهره وعمومِه؛ وإذا قيل: هو من المباح، والقرآن يعمُ الطلاقَ المأذونَ فيه والمحظورَ، كان ذلك مخالفًا لظاهر القرآن.

الوجه الثالث: أنه قال (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ)، وهذا صفة الطلاق الرجعي، فدَلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق الموصوف في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ)، فالمطلّق ثلاثًا ابتداءً لا رجعةَ له، ومن لم يُوقع إلاّ طلاقًا لا رجعةَ فيه فقد خالفَ كتابَ الله.

الوجه الرابع: أنه قال بعد ذلك (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، ثم قال:(فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). وفي الحديث المرسل عن أبي رزين الأسدي الذي رواه الإمام أحمد وغيره

(1)

أنه قيل: يا رسولَ الله! فأين الطلقةُ الثالثة؟ قال: في قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). وهذا معناه أنه جوّزَ إمساكها بعد الثانية، فعلم أنها تكون زوجة بعد الثانية، لا

(1)

أخرجه الطبري (2/ 278) وابن أبي حاتم (9/ 412) والبيهقي (7/ 340)، وانظر تفسير ابن كثير (1/ 279 - 280) و"الدر المنثور"(1/ 664).

ص: 270

تحرم بالثانية. ثم ذكر حكمه إذا أوقع الثالثة بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). وقد فسَّر بعضهم

(1)

معناه بانَّ قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) هو الطلقة الثالثة، وهذا غلط من وجوهٍ كما قد ذُكِر في موضع آخر. ومعلومٌ أن هذا لا يتناول الثلاث المجموعة، فإنه ليس بعد وقوع الثلاثِ إمساكٌ بمعروف.

الوجه الخامس: أن قوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) لفظ معرف باللام، فيعود إلى الطلاق المعهود، وهو الطلاق الذي تقدم ذكره في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ)، وهو الطلاق الرجعي، فدلَّ ذلك على أن الطلاق المشروع في كتاب الله هو الطلاق الرجعي الذي يقع مرةً بعد مرةٍ، وبعدهما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا).

الوجه السادس: أن قوله (مَرَّتَانِ) إمّا أن يُريد به مرةً بعد مرة، كما في قوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)

(2)

، وكما في قوله تعالى:(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)

(3)

الآية. ومعلومٌ أن الثلاث في الاستئذان لا تكون بكلمةٍ واحدةٍ، فلو قال:"سلامٌ عليكم، أأدخل ثلاثًا" لم يكن قد استأذنَ ثلاثًا. وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال في يومٍ مئة مرة سبحانَ الله وبحمده حُطَّت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر"

(4)

؛ وفي مثل قوله: "سبّح ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر ثلاثًا وثلاثين"

(5)

؛ وقوله: "كان إذا سلَّم

(1)

انظر "زاد المسير"(1/ 263) والقرطبى (3/ 127 - 128).

(2)

سورة الملك: 4.

(3)

سورة النور: 58.

(4)

أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2691) عن أبي هريرة.

(5)

أخرجه مسلم (597) عن أبي هريرة.

ص: 271

سلَّم ثلاثًا"

(1)

، وأمثال ذلك مما يقتضي لفظُ العددِ فيه تكريرَ القول. لاسيَّما وهو لم يقل:"الطلاق طلقتان"، وإنما قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ). وإذا قال:"هي طالق ثلاثًا" قد يقال: إنه طلَّقها ثلاثًا، لكن لا يقال: طلَّقها ثلاث مرات، بل إنما طلَّقها مرةً واحدةً. وكذلك لو قال:"هي طالقٌ طلقتَينِ" إنما يقال: طلَّقها مرةً واحدةً، لا يقال: طلَّقها مرتين.

وإمَّا

(2)

أن يريد به "طلقتان" سواء كان بكلمة أو كلمتين، ولو أريد هذا لقيل:"الطلاق ثلاث"، لم يقل:"الطلاق مرتان"، بخلاف ما إذا أريد الأول، فإن المراد الطلاق المذكور، وهو الطلاق الرجعي مرتان: مرةً بعد مرة؛ والثالثةُ الطلاقُ بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)، ولو أريد هذا لقيل:"الطلاق طلقتان"، ولم يقل "الطلاق مرتان". وقوله تعالى (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ)

(3)

هو على مقتضاه، أي مرةً ومرةً، وليس المرادُ إيتاءً واحدًا، بل إيتاء مرتين.

الوجه السابع: أن الطلاق اسم مصدر طلَّقَ تطليقًا، ومعلومٌ أن التطليق فعلٌ يفعله المطلِّق بكلامه الذي يتكلم به، وهذا لا يُعقل أن يكون مرتين، إلاّ إذا قيل مرَّةً بعد مرّةٍ، فأما إذا طلَّقها بكلمة واحدةٍ فهذا لم يصدر منه الطلاقُ إلاّ مرةً واحدةً لا مرتين. وإن جاز أن يقال: إنه طلَّقها طلقتين، فلا يجوز أن يقال: إنه طلَّقها مرتين، ولا يُفهَم لفظ "طلَّقها مرتين" بدون تكرير التطليق.

يدلُّ على ذلك أن قوله "الطلاق مرتان" يدلُّ على ما يدلُّ عليه

(1)

أخرجه البخاري (94،95،6244) عن أنس.

(2)

عطف على قوله "إما أن يريد به مرة

" في أول الوجه السادس.

(3)

سورة الأحزاب: 31.

ص: 272

قول القائل "طلَّقها مرتين"، ولو قال ذلك لم يفهم منه إلاّ أنه طلَّقها مرةً بعد مرةٍ، فكذلك قوله "الطلاق مرتان". وإذا قال القائل:"سبّح مرتين أو ثلاثًا" و"هلّل مرتين أو ثلاثًا" ونحو ذلك، فُهِمَ منه أنه قال ذلك مرةً بعد مرةٍ، وكذلك إذا قيل "كَلّمهُ مرتين أو ثلاث مرات". ومنه قوله تعالى:(إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)

(1)

، وقوله تعالى:(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) إلى قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ)

(2)

، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح

(3)

: "من قال في يومٍ مئةَ مرة سبحان الله وبحمده، حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال في يومٍ مئةَ مرةٍ لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له مئةَ حسنة، وحطَّ عنه مئةَ سيئةٍ، وكانت له حرزًا من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاءَ به إلاّ رجلٌ قال مثلَما قال أو زاد عليه".

وقوله في الحديث الصحيح

(4)

: "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئةَ مرةٍ"، وقوله في الحديث الصحيح

(5)

: "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

الوجه الثامن: أنه قال بعد قوله "الطلاق مرتان": (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، فأمره بعد الطلاق مرتين أن يمسك بمعروف

(1)

سورة التوبة: 80.

(2)

سورة النور: 58.

(3)

سبق ذكر الحديث وتخريجه قريبًا.

(4)

مسلم (2702) عن الأعز المزني.

(5)

ضمن الحديث السابق.

ص: 273

أو يسرح بإحسان، وهذا لا يكون إلاّ فيما إذا أخر الطلقةَ الثالثةَ عن الطلقتين، لا إذا جمعَ الجميعَ.

الوجه التاسع: أنه قال بعد ذلك (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)، ومعنى ذلك باتفاق المسلمين: فإن طلَّقها الذي طلَّقها مرتين فلا تحل له من بعدِ هذا الطلاق الثالث حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلَّقها هذا الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، أي ينكحها نكاحًا ثانيًا إن ظنَّا أن يقيما حدود الله، وحينئذٍ فالله تعالى إنما حرَّمها في القرآن بطلقة وقعتْ بعد الطلاقِ مرتين.

الوجه العاشر: أنه قال (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، فقوله "وإذا طلقتم" عام في كل تطليق، فإنه نكرة في سياق الشرط، فأمر عند بلوغ الأجل بالإمساك أو التسريح، وهذا لا يكون مع جمع الثلاث، فعُلِم أن جمعَ الثلاث لم يدخل في ذلك. فلا يكونْ داخلا في مسمَّى التطليق، فلا يكون مشروعا، فإنه لو دخل في مسمَّاه لزِمَ مخالفةُ ظاهرِ القرآن وتخصيصُ عمومِه.

فإن قيل: فهذا يرد عليكم في الثالثة إذا أوقعها بعد ثنتين.

قيل: قد بين ذلك بقوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) إلى قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا)، فقد بين أن الطلاق الذي ذكر فيه الإمساك إنما هو مرتان فقط.

الوجه الحادي عشر: أنه قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، ولم يقل "ثلاثًا"، مع العلم بأنه يملك أن يُطلقها ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، فعُلِم أنه أراد أن يُبين أن الطلاق الذي هو أحقُ برجعتها فيه مرتان، ولو

ص: 274

قيل: أراد: الطلاقُ الرجعي طلقتان، لم يستقم ذلك إذا جمعَها، فإن الرجعي حينئذ يكون طلقة واحدة، وطلقة بعد طلقة، وطلقتان مجموعتان، بخلاف ما إذا قيل "مرتان"، فنه لا يكون إلاّ مرة بعد مرة.

فن قيل: فإذا كان المراد أن الطلاق الرجعي مرتان عُلِمَ أن لنا طلاقًا رجعيًّا وطلاقًا غير رجعي، وذلك يتناول البائن والمحرّم، وهو الثلاث.

قيل: لفظ الطلاق إمّا أن يَعُمَّ كل طلاقٍ أو يعود إلى الطلاق المتقدم، وهو المعهود، وعلى التقديرين فنه يقتضي أن كل طلاق إنما يكون مرة بعد مرةِ، ولا يكون إلاّ رجعيا، فمن أثبت طلاقًا بكلمة توجب البينونةَ فقد خالفَ دلالةَ القرآن، فضلاً عن طلاقٍ واحدٍ يوجب التحريمَ.

الوجه الثاني عشر: أنه قال (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا)، وهذا لا يتأتى في جمع الثلاث.

الوجه الثالث عشر: أنه قال (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً)، وقد رُوِي أن جمع الثلاث من اتخاذ آيات الله هزوا، كما رواه النسائي

(1)

من حديث ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه سمعتُ محمود بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلق امرأتَه ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: أَيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! أفلا أقتله؟

الوجه الرابع عشر: أنه قال (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، وهذه النعمة تظهر فيما إذا وقع للعبد أن

(1)

6/ 142.

ص: 275

يطلقها مرةً بعد مرةٍ، وأن يراجعها بعدَ التطليق، فأما إذا حرَّمَها عليه في أول تطليق يُطلِّقه فهذه حرمت عليه في أول مرة، وتحريم الطيبات ليس من باب النعم، بل قد جعله عذابًا بقوله:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)

(1)

، وقوله:(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ)

(2)

.

الوجه الخامس عشر: قوله (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، والوعظ هو الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله:(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ)

(3)

أي يؤمرون به، وقوله:(يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ)

(4)

أي ينهاكم الله. فدلَّ عل أنه سبحانه أمرهم ونهاهم في الطلاق الذي ذكره، ولو كان قد أباح لهم الثلاث جميعًا لم يكن فيما ذكره من الطلاق أمر ولا نهي، فإنه بعد الثلاث لا إمساك ولا تسريح ولا وعظ، وفاعلُها إذا كان لم يُذنِب فلا يُوعَظُ قبل التطليق ولا بعده، والقرآن يدلُّ على أنه وعظهم فيما ذكره من الطلاق.

الوجه السادس عشر: قوله (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، فإن هذا عامٌّ في الطلاق الذي ذكره الله في كتابه، وجَعله مرتين، فلو كان قد أذِنَ في جمع الثلاث لم تكن الآية على عمومها، بل كان هذا في بعض التطليق المذكور دون بعض، وهو خلافُ ظاهرِ القرآن وعمومِه.

الوجه السابع عشر: أن القرآن خطاب للصحابة ابتداءً، ثم للأمة بعد الصحابة، ومعلومٌ أن الخطابَ بالطلاق الذي ذكر الله أحكامَه،

(1)

سورة النساء: 160.

(2)

سورة الأنعام: 146.

(3)

سورة النساء: 66.

(4)

سورة النور: 17.

ص: 276

كقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً)، وقوله:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، وقوله:(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، وقوله:(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) لا يتناول جمعَ الثلاث، وإنما يتناول من طلَّق مرةً بعد مرة، فدلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق المعروف عند المخاطَبين بالقرآن ابتداءً.

ودلَّ ذلك على أن جمعَ الثلاث لم يكن من الطلاق الذي يعرفونه، إذ لو كان كذلك لكان يستثنيه ويُبيِّنه، وإلاّ كان القرآن قد أريد به خلافُ ظاهرِه وعمومِه بلا بيانٍ من الله ورسوله.

الوجه الثامن عشر: أن يقال: معلومٌ أن ظاهر القرآن وعمومَه يَدُلُّ على أن الطلاق المشروع طلقة بعد طلقة، فإذا أريد خلافُ ظاهرِه فلابُدَّ من بيانٍ من الله أو رسولهِ لذلك. ومعلومٌ أنه ليس في القرآن آية تَدُلُّ على إباحة جمع الثلاث، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على ذلك، فإن حديث فاطمة بنت قيس إنما فيه أن زوجها طلَّقها آخر ثلاثِ تطليقاتٍ، وحديث الملاعنة لما طلَّقها ثلاثًا إنما فيه طلاق من لا سبيل له إلى المقام معها، وهذا كما لو طلَّق من حرمت عليه بغير الطلاق ثلاثًا، وطلاق هذه زيادة توكيدٍ في مفارقتها، بل هو لغوٌ لم يُوجبِ الفرقةَ التي يُوجبها الطلاق، بل وجوده كعدمه. والطلاق الثلاث حرمت عليه ليكون له سبيل إلى رجعتها، وهذا المعنى منتفٍ في حقّ هذه. ولو قُدِّر أنه فعلَ منكرًا، فالمنكر إذا بين الله ورسولُه أنه منكر لم يَجِبْ بيانُ ذلك في كل مجلس. وهذا جوابٌ ثانٍ عن حديث فاطمة بنت قيس، فليس معهم إلاّ مجرد سكوت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إذا بيَّن تحريم الشيء لم يكن سكوتُه عن إنكارِه كلَّ وقتٍ دليلاً على الجواز.

الوجه التاسع عشر: أن الله حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة حتى

ص: 277

تنكح زوجًا غيره، ولم يُبِح له أن يُطلَّقها رابعةً، وهذا عقوبة له، كما قال تعالى:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)

(1)

، وقوله:(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ)

(2)

. فنها إذا حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره لم يكن قادرًا على تزوُّجِها ولو رضيتْ به، بل من الممكن أنها لا تتزوج بغيره، أو تتزوج بمن لا يُطلقها، ومن طبع الإنسان أنه يكره أن تتزوجَ امرأتُه بغيره. ولهذا حُرِّم على غير النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح أزواجه من بعده، إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم. فدلَّ على أن تحريمَها حتى تنكح زوجًا غيرَه إهانة له، فإنه إذا كان منعُ غيرِه من التزوُّج بامرأته إكرامٌ، فاشتراطُ تزويج غيره في الحلّ وجَعْلُ ذلك واجبًا في عودِها إليه إهانةٌ له، والإهانةُ لا تكون إلاّ لمذنب.

فإن قيل: فالله أباحَ الطلاقَ.

قيل: لم يُبحْه مطلقًا، لكن أباحه بعددٍ محصورٍ، وأن تحرم عليه امرأته بعد الثالثَة، والأمرُ الذي لم يُبَحْ فيه إلاّ مقدارٌ معين وحرمت عليه بعد ذلك المقدار - لا يكون مباحًا مطلقًا، بل هو بمنزلة ما أُبِيح من الحرير، فإنه أُبِيحَ للنساء، وأُبيح منه عَرْضُ كف للرجال؛ وبمنزلة الهجرة والإحداد ومقام المهاجر بمكة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوقَ ثلاثٍ، يلتقيانِ فيصدّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام"

(3)

. وقال: "لا يحل لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميّتٍ فوقَ ثلاثٍ"

(4)

. وأذن للمهاجر أن

(1)

سورة النساء: 160.

(2)

سورة الأنعام: 146.

(3)

أخرجه البخاري (6077،6237) ومسلم (2560) عن أبي أيوب الأنصاري.

(4)

أخرجه البخاري (5334،5335) ومسلم (1486،1487) عن زينب بنت أبي سلمة.

ص: 278

يقيم بمكة بعد قضاء نُسُكهِ ثلاثًا. فكان الأصل في هجرة المسلم والإحداد على غير الزوج ومُقام المهاجر بما هاجر عنه أن يكون منهيا، لكن رخّص في الثلاث منه للحاجة إلى ذلك.

كذلك الطلاق، لما لم يُبح منه إلاّ الثلاث دلَّ على أن الأصل فيه الحظر، والمعنى أن الرجل خُير بين أن يطلقها فتحرم عليه، وبين أن لا يطلقها، ومعلوم أنه إذا أُبِيْحَ مجموعُ التطليق وتحريمها عليه لم يكن. الطلاقُ وحدَه مباحًا، فمن ظنَّ أن الطلاق مباح مطلقًاْ كما يُباحُ الأكل والشربُ فقد غَلِطَ، بل إذا اقتصر على ثلاث تطليقاتٍ وحرمتْ بعد الثالثة دلَّ على أنه أبيح منه قدر الحاجة، ومعلوم أن جمعَ الثلاث لا حاجةَ إليه، فلا يُباح

(1)

.

***

(1)

انتهى الكلام هنا في الأصل، ولعل المؤلف لم يكمله.

ص: 279

فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث

ص: 281