المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حديث امرأة رفاعة - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌ حديث امرأة رفاعة

والثاني:‌

‌ حديث العجلاني

(1)

، قال أبو بكر بن أبي عاصم لما ذكر اختلافهم في طلاقِ العجلاني: قال مالك بن أنس في حديثه: فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقال إبراهيم بن سعد: ففارقَها، وقال ابن إسحاق: هي طلاق البتة، وقال ابن أبي ذئب: ففارقَها، وقال الأوزاعي: ففارقَها، وقال عقيل: ثمَّ فارقَها. ولم يُنقَل عنه لفظ طلاق، بل قال: كذبتُ عليها إن أمسكتُها، ولكن الراوي عبَّر عن مفارقته إياها بهذه الألفاظ التي تَدُلُّ على أنه فارقَها فراقًا باتًّا قبلَ أن يُؤمَر بذلك، فإن كان الراويَ عبَّر عن مفارقتِه بقوله "طلَّقها ثلاثًا" - لأن مقصوده أنَّه حرَّمَها عليه - فليس فيه حجَّة؛ وإن كان هو تكلَّم بلفظ الطلاق بقوله "طلَّقها ثلاثًا" قد يُراد به مفرَّقَة، كقوله: هي طالق، هي طالق، هي طالق، كما في حديث فاطمة وغيرها أن زوجَها طلَّقها ثلاثًا، وكان المراد ثلاثًا مفرقات، فلا حجَّة فيه أيضًا؛ وإن قال:"هي طالق ثلاثًا" فلا حجة فيه أيضًا، كما سنذكره.

والثالث:‌

‌ حديث امرأة رفاعة

(2)

، وهو أيضًا لفظٌ مُجْمَلٌ، فقد يكون الطلاق الثلاث وقَع مفرَّقًا، كما وقَع في حديث فاطمة بنت قيس.

بل

(3)

وأما حديث البتة

(4)

إن صحَّ ففيه أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه البخاري (5308 ومواضع أخرى) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد الساعدي في قصة عويمر العجلاني.

(2)

أخرجه البخاري (2639، 5260 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) من حديث عائشة. وفي بعض طرقه أنه طلقها ثلاثًا، وفي بعضها أنه بت طلاقها، وفي بعضها أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أنها وقعت مفرقة.

(3)

كذا في الأصل.

(4)

يقصد حديث ركانة الذي سبق ذكرها.

ص: 301

وقال: ما أردتُ إلاّ واحدة، وأنه استحلفَه ما أردت إلاّ واحدةً.

ومنطوقُ هذا لا حجةَ فيه، لأنه إذا لم يُرِدْ إلاّ واحدةً لم يَقَعْ به إلاّ واحدة. وفيه حجة على مسألة النزاع المشهورة بين الفقهاء. وأما مفهومه فمجملٌ، لو قال: أردتُ ثلاثًا حتى كان يغضب عليه ويُؤدّبه لفعلِه المحرَّم الذي نهى عنه، كما غضب على غيرِه، ويؤخر إذنَه له في الرجعة تأديبًا له، أو كان يُوقِعها به. وليس في الحديث بيان لأحدهما، والطريق الآخر الذي هو أصح فإنه أوقعَ ثلاثًا، ولا يجوز أن يثبت تحريمٌ عامٌّ يَلزَمُ الأمَّةَ بمسكوتٍ مجملٍ أو بحديثٍ مضعَّفٍ، قد عارضَه ما هو أصحُّ منه لا بيانَ فيه للوقوع، وإنما فيه الفرق بين أن يُرِيدَ الواحدةَ أو أكثر، والفرقُ ثابتٌ بدون إيقاع الثلاث.

وقد روى مسلم في صحيحه

(1)

عن عائشة قالت: طلَّق رجلٌ امرأتَه ثلاثًا قبلَ أن يدخلَ بها، فأراد زوجُها الأول أن يتزوَّجها، فسُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"لا، حتَّى يذوق الآخر من عُسَيْلتها ما ذاق الأول". وهذه هي قصة تميمة التي تزوجها رفاعة، وكان يدَّعي أنه وطئها.

وتطليقُها ثلاثًا قد يكون مفرقةً، وقد يكون طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، ولكن بانت بواحدةٍ إذا لم يكن دخل بها. فليس فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك ثلاثا.

***

(1)

برقم (1433/ 115).

ص: 302

فصل في الطلاق الثلاث

ص: 303

أمكنني

(1)

، وبقيتُ على ذلك مدةً

فلم أجد دليلاً شرعيا يُوجِب إيقاعَ الثلاث بكلمةٍ واحدة، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس.

أما القرآن

إلاّ على طلاق يستلزم الرجعة إذا كان بعد الدخول

الثالثة، كما قال أحمد بن حنبل في آخر الروايتين: تدبرتُ القرآن فلم أجد فيه إلاّ طلاقًا رجعيا، ولا يدل قط إلاّ على طلقةِ واحدة .....

وقد ادعى طائفة من العلماء أنه يدلُّ على وقوع الثلاث، واحتجوا بأنه أمر بالطلقة الواحدة، كما في قوله:(إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً)

(2)

. قالوا: فأمره الله بالطلاق ..... وليكون له سبيل إلى الرجعة بقوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1))، فلو كان لا يقع بالثلاث إلاّ واحدة أو ..... بحالٍ لم يحتج إلى ذلك، بل كان سواء طلَّق واحدةً أو ثلاثًا، فإن له أن يراجعهما.

وهذا الدليل ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولا حجة فيه، لأن التعليل قد يكون للشرع الذي يتناول الأمر والنهي والصحة والفساد، وقد يكون لمجرد الأمر والنهي، أو لنفس المأمور به والمنهي عنه فقط، فعلى قولهم يكون تعليلاً

(1)

هذه الرسالة سقطت منها بعض الأوراق من بدايتها، وفي أثنائها طمس في مواضع أشرتُ إليها بوضع النقط. ولم أجد نسخة أخرى تكمل النقص.

(2)

سورة الطلاق:1.

ص: 305

للمأمور به، أي طلقوا بواحدة ليكون لكم سبيل إلى الرجعة، ولا تطلقوا بثلاث فلا يكون لكم سبيل إلى الرجعة. وهذا إنما يصحّ أن لو كانت الثلاث تقع بكلمة واحدةٍ، فإن كانت الثلاث تقع هكذا صحَّ أنَّه تعليل للمأمور به، لكن لا يثبت أنه تعليل للمأمورِ به حتى يثبت أنه تَقع الثلاث المجموعة؛ فإذا استدلوا به عليه لم يلزم أنه تقع الثلاث المجموعة حتى يثبت أنه هذا تعليل للمأمور به، وهذا دَورٌ يَمنَعُ صحةَ الدلالة.

وذلك أنه يجوز أن يكون هذا تعليلاً لنفس الأمر والشرع، والمعنى أن الله شرع لكم أن تُوقِعوا واحدةً وأمركم بذلك، ولم يشرعْ لكم أن توقعوا الثلاث مجموعةً، فإنه لو شَرع لكم ذلك أفضى

(1)

إلى الندم.

ومعلوم أنه إذا لم يشرع إيقاع الثلاث بكلمة واحدةٍ، بل نهى عن ذلك، ولم يجعل الثلاث ..... في هذا أبلغ في عدم الندم، فإنه لو نهى عنه وأوقعوه إذا تكلموا به فقد يكون فيهم من يعصي النهي، وقد يكون فيهم من لا يَبلغُه، فيقع في الندم، فإذا لم يجعله مشروعًا بحال كان هذا أبلغ في انتفاء المفسدة.

وأيضًا فإن القرآن إنما يُعلِّل شرعَ الله الذي شرعَه لعباده، والشرع المذكور إذا كان تحريمًا للزيادة وإبطالاً لها كان ذلك أبلغَ في تحصيل مقصودِ الشارع في الحكم وفي حكمته، بخلاف ما إذا كان تعليلاً لمجرد النهي. وهذا كما أنه لو نهى أن تُنكَح المرأةُ على عمتها وعلى خالتها، وقال:"إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"

(2)

، كان هذا

(1)

كذا في الأصل.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 372) وأبو داود (2067) والترمذي (1125) عن ابن عباس.

ص: 306

تعليلاً للنهي والفساد المنهي عنه بحيث لا يحلُّ له الجمع، ولو جمعَ لكان العقد فاسدًا، لأنه لو وقع المنهيُّ عنه لَزِم الفسادُ، بل الفسادُ يَنْشَأُ من صحةِ المنهي عنه أكثر من فعله، فإنه إذا جمع ولم يصحَّ العقدُ كان الفسادُ أقلَّ منه إذا انعقد المنهي عنه وصحَّحه الشارع، فكذلك هاهنا الفساد إذا صحَّ المنهيُّ عنه أكثر منه إذا فعله ولم يصح.

وهذا يُقرِّر أن النهي يُوجبُ فساد المنهي عنه، فإن الشارع إنما نهى عن الشيء لرجحان المفسدَة فيه على المصلحة، فإذا جعله صحيحًا بحيثُ يترتب عليه حكمه ويحصُل به مقصودُه لَزِمَ وقوعُ المفسدة، فأما إذا أبطلَه فلم يترتَّب عليه مقصود المنهي الذي ارتكبه انتفتِ المفسدةُ بالكلية.

ولهذا إنما يُحكَم بالفساد فيما إذا أمكن أن لا يَحصُل به مقصوده، فأما الأفعال التي حصل المنهي عنها مقصوده بها فلا يقال إنها باطلة أو غير منعقدة، كالمنهي عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإنه إذا فعل ذلك فقد فعل مقصوده من المنهي عنه، فلا يمكن إبطاله. وأما المنهي عن الصلاة بلا طهارة والطواف عريانًا فمقصوده براءة ذمته وحصول الأجر، فيمكن إبطال ذلك بأن لا تبرأ ذِمتُه ولا يحصل الأجر؛ وكذلك المنهي عن البيع المحرم والنكاح المحرم مقصودُه حصولُ الملك وحِل الانتفاع، فيمكن أن لا يحصل مقصودُه من الملك وحلّ الانتفاع، فيكون البيع باطلاً، كما اتفق عليه المسلمون من بطلان نكاح ذوات المحارم وبطلان بيع الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك.

وأما الظهار فنُهِي عنه لأنه منكر من القول وزور، لا لمجرد كونهِ مُزِيلاً للملك أو مُوقِعًا للتحريم الذي تُزِيلُه الكفارة، فإن الزوج له أن

ص: 307

يُزِيل الملك بالطلاق، والتحريمُ الذي تزيله الكفارة لا ينافي الشرع، فإن المرأة قد تحرم على زوجها إلى غايةٍ، كتحريم المُحرِمة والصائمة والمعتكفة، وتحريمُ الحلال يُوجب كفارةً على ظاهر القرآن، وهو أحد قولَي العلماء. وإنما نُهِي عَن الظهار لاشتماله في نفسه على القول المنكر والزور، وهذا المعنى لا يمكن إبطالُه بعد وقوعه، كما أن من نُهِيَ عن الكذب وشهادةِ الزور فكذَب وشَهِد بالزور لا يمكن أن يقال: ما كذَبَ ولا شهد بالزور، وكذلك من نُهِيَ عن الكفر والقذفِ فكَفَر وقذفَ لا يمكن أن يقال: إنه ما وَقَع منه كفر ولا سب، فكذلك الظهار، لكن كانوا في الجاهلية وأول الإسلام يجعلونه طلاقًا مُزِيلاً للملك، فرفع الله ذلك، ولم يجعله مزيلاً للملك، بل للرجل أن يمسك المرأة إن شاء ويطأها إذا كفر.

ثمَّ قال الشافعي: موجبه إما إزالة الملك بالطلاق، وإما التكفير. وقال الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد: بلْ موجبُه الامتناع من الوطء أو التكفير، فجعلوه يشبه اليمين التي يكون موجبُها إمّا الامتناع من فعل المحلوف عليه وإما التكفير، لكن الكفارة في الظهار تجب قبل العَود، لأن الظهار محرَّم، لاشتماله على منكرٍ من القول والزور، فلم يكن له أن يطأها حتى يأتي بالتَحِلَّة التي فرضها الله له، وكان ما رفعه الله من إيقاع الطلاق بالظهار كما كانوا عليه في أول الأمر دليلاً على أنه ليس كل لفظٍ قُصِدَ به الطلاق يَقعُ به الطلاقُ، فإن هذا اللفظ كانوا يقصدون به الطلاق، ثم لم يُوقع الله به الطلاقَ، بل نَسخَ ما كانوا عليه. ولابدَّ لهذا من سبب يُوجبُ الفرق بينَه وبين لفظ الطلاق. فلما كان مَن أوقعَ الطلاقَ بلفظه يَقعُ ومن أوقعَ بلفظ الظهار لا يقعُ-: لم يكن بدٌّ من الفرق بينهما في نفس الأمر.

ص: 308

ولا يسوغ أن يعلل الشرع بما يقوله من يقول من الفقهاء: لفظ الظهار صريحٌ في حكمه، وقد وجد نفاذًا فيه، فلا يكون كنايَةً في غيره.

فإنه يقال له: السؤال هو عن علة هذا الحكم: لِمَ جعلَ هذا القول صريحًا في غير الطلاق بحيث لا يقع به الطلاق وإن نواه، فإن هذا يقتضي أن الأقوال عند الشارع نوعان: نوع إذا نوى به الطلاق وقعَ؛ ونوع إذا نوى به الطلاق لم يقع، فلابدّ لأحد القولين من أن يختصّ بمعنى يوجب اختصاصه بذلك الحكم، فما هو الفارق عند الشارع بين هذا القول وهذا القول حتى جعل الطلاق يقع بهذا ولم يجعله يقع بهذا، بل عدل به عن الطلاق الذي كانوا يوقعونه، إلى أن أوجب فيه الكفارة. وهذا أمرٌ ثابت في نفس الأمر لابدَّ منه.

فلقائلٍ أن يقول: العلَّة في ذلك أن هذا القول منكر من القول وزُور، فلا يقع الطلاق بمنكر من القول وزور، فيكون هذا حجة لمن قال: إن الطلاق المنهيَّ عنه لا يقع، لأنه أيضًا محرَّم كما أن هذا محرَّم؛ فإن كون الكلام منكرًا من القول وزورًا يُوجب النهيَ عنه وتحريمَه. ويشاركه في ذلك كل كلام محرَّم، فإنَّ جميعها أقوال محرَّمة ينهى الله عنها ورسولُه. فإن كان المتكلم بالكلام الحرام إذا نوى به الطلاق وَقَع، فما الفرق بين هذا الكلام المحرم وغيره؟.

وقد شدَّ بعض متأخري الفقهاء فزعَم أن الظهار ليسَ بمحرَّم. لكن هذا خلاف النصّ والإجماع القديم، فإنه قد حَكَى الإجماعَ على تحريم ذلك غيرُ واحدٍ من العلماء، ولم يُعلَم نزاعٌ قديم يقدم في ذلك كما عُلِمَ في غيرِه. والذي نقطع به أنّا لا نعلم فيه خلافا قديمًا.

وقد يقال: بل هذا القول لا يتضمن إزالة الملك، بل هو كذب

ص: 309

في نفسه، وهو منكر لكونه جعل امرأته بمنزلة أمّه. والأقوال التي بها يقع الطلاق لابدّ أن يتضمن إزالة الملك، ولهذا جعل أحمد التحريمَ صريحًا في الظهار، لأنه أيضًا بمنزلته في كونه منكرًا وزورًا. لكن يَرِدُ على هذا أنه إذا قصدَ التشبيهَ ونَوى أنكِ إذا وقعَ بكِ الطلاقُ صرتِ مثلَ أُمِّي، فإن هذا الوصف لازم لو زال الملك. وليس من شرط التشبيه التساوي من كلّ وجه، فقوله "أنتِ مثلُ أمّي" أي طلقتكِ فصرتِ مثلَ أمّي، كقوله "أنتِ خلية وبريَّه وبائن"، فإن المعنى: طلَّقتك فصِرتِ كذلك. وقوله "أنتِ طالق" معناه طلقتكِ فصرتِ طالقًا، فإذا قال "مثل أمّي" أي جعلتك مثلَ أمّي في كونكِ لا تبقي

(1)

زوجةً.

وهذا هو الذي كانوا يقصدونه، وإلاّ فهم يعلمون أن المرأة لا تصير مثلَ أمّه محرَّمةً على التأبيد، فإذا كان ما قصدوه مما يمكن أن يُقصَد بهذا اللفظ وأمثالِه ولم يعتبره الشارع عُلِمَ أنه أبطلَ ذلك لكون القول في نفسه منكرًا وزُورًا، فيشاركه في ذلك ما كان كذلك.

فقول القائل "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" منكر من القول، لأن الله حرَّمَه، وكل واحدٍ من كون القول منكرًا يوجب إبطاله. وقوله تعالى (وَزُوراً (4))، الزور: هو نوع من المنكر، فإن كل زور منكر، فيمكن أن يكون هذا وجه كونه منكرًا.

وإن قيل: هو جزء علة.

قيل: كل ما كان منكرًا فإن الله ينهى عنه، سواء كان زورًا أو لم يكن.

وكذلك إن قيل: هو علة ثانية، وحينئذٍ فالقول المحرم لا يكون

(1)

كذا في الأصل بحذف النون.

ص: 310

سببًا لنقلِ الملك، فلا يزول ملكه ويُبَاحُ لغيره بقول محرَّم. فهذا قد يحتجُّ به من يقول: إن الطلاق المحرَّم لا يصح، كما أن النكاح المحرَّم لا يصح، وهذا موجبُ الأصول على قول الجمهور الذين يقولون: النهي يقتضي الفساد، لاسيما والطلاقُ في الأصل مكروه بل محرَّم يُبغِضه الله، وإنما أباح منه قدرَ الحاجة، فيكون ما أبيح من قدر الحاجة إنما أُبيح لمن تكلم به بكلامٍ مباح، وأوقعه على الوجه المأذون فيه، أَمّا من تكلَّم به بكلام محرَّم وفعلَه على الوجه الذي نُهِيَ عنه، فالشارع لم يُبِح له ذلك الطلاقَ، فيكون باقيًا على الحظر، فلا يكون من الطلاق المشروع، كطلاق الأجنبية والطلاق قبل النكاح.

يوضّح ذلك أن ما كان محظورًا وأُبيح للحاجة كان رخصةً، والرُّخَصُ لا تُستباحُ على الوجه المحرم، فيكون من طلَّق طلاقا لم يُؤذن له به - كمن طلَّق بلفظ الظهار - فلا يقع الطلاق بذلك.

يُوضِّح ذلك أن إيقاع الطلاق ممّن أوقعه على الوجه المحرَّم إما أن يكون عقوبة له، وإما أن يكون رخصة له. والثاني ممتنع، لأن فعلَ المحرَّم لا يناسب النعمة بالرخصة. وإن قيل: هو عقوبة، فيقال: فكان ينبغي أن يعاقب المتظاهر بوقوع الطلاق به، فلمّا لم يعاقبه الشارع بذلك عُلِمَ أن الشارع لم يجعل نفس وقوع الطلاق عقوبةً للخلق، بل إنما عاقبهم بالكفّارات، لأن الكفّارات من جنس العبادات، والله يحب أن يُعبَد، فإذا فعلوها فعلوا ما يُحبه الله ورسوله، كما إذا أقاموا الحدود لله، التي جُعِلتْ عقوباتٍ، فإن الله أمر بها وجعلها واجبةً، وما تقرَّبَ العبادُ إلى الله بأفضلَ من أداءِ ما افترضَ عليهم.

فالعقوبات التي يشرعها الشارع هي مما يُجب وقوعه ويرضاه ويأمر به، وهو لا يحب وقوعَ الطلاق ولا يأمر به ولا يَرضاه لغير حاجة،

ص: 311

فكيف يَشرَع وقوعَه ويجعله عقوبة؟!

يُوضِّح ذلك أنه تعالى يُبغِض وقوعَ الطلاق، فكيف يشرع العقوبةَ بوجود ما يبغضه؟ وهو إنما يشرعُ العقوبةَ لئلاّ يُوجَد ما يُبغِضه، فيمتنع أن يَحكُم بوجود ما يُبغِضُه لئلَّا يُوجَد ما يُبغِضه، فإن هذا جمعٌ بين النقيضين، لاسيّما إذا كان الذي عاقب به هو نفس ما يُبغِضه.

فهو مثل أن يُقال: اسقوه الخمرَ لئلا يشرب الخمر! وهذا ممتنع.

فإن قيل: فقد حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة عقوبةً له.

قيل: هناك لما استوفوا الطلاقَ الذي أباحَه لهم للحاجة حرَّمها عليهم بعد الثالثة، فكانت العقوبة بالتحريم عليه لا بوقوع الطلاق عليه، فلم يعاقبهم بوقوع طلاقٍ قطّ. والعقوبة بالتحريم إلى غايةٍ مما جاءت به الشريعة، كما حرَّم الله على المظاهر المرأةَ حتى يكفّر، والعقوبة بالتحريم المؤبَّد كان من شرع من قبلَنا، كما قال تعالى:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)

(1)

، وكما قال:(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146))

(2)

. فإن قيل: فهلَاّ منعَ وقوعَ الطلاق الثلاث إذا كان يُبغِضه؟ وقال: لا يقع الطلاق الثلاث وإن فرَّقَها.

قيل: هذا كان يقتضي المنع من الطلاق بالكلية كدين النصارى، وفي ذلك حرجٌ عظيم، لحاجة الناس إلى الطلاق بعض الأوقات إذا كان يبغضها أو كانت تُبغِضه. ولهذا أباح الله الافتداء إذا خافا أن لا

(1)

سورة النساء: 160.

(2)

سورة الأنعام: 146.

ص: 312

يقيما حدودَ الله، فلم يُبح الله الخلعَ إلاّ عند الحاجة. وكذلك الطلاق، لكن لما أبيح الطلاقُ للحاجة لم يُبَح منه إلاّ الثلاثُ، فإنها قدر الحاجة، وحرَّمها عليه بعد الثالثة، لئلا يكون ذلك مانعًا من استيفاء العدد الذي أبيح رخصةً مع قيام السبب الحاظِر. كما أنه لم يُرخَّص في اقتناء الكلاب إلاّ للحاجة.

فإن قيل: فهلاّ أبيح له بعد الثالثة أن يتزوَّجها بعقدٍ جديد قبل أن تنكح زوجًا غيرَه؟.

قيل: كانت النفوس تطمع في عودها بعد الثالثة باختيار الزوجين، فلم يكن هذا وحده زاجرًا للنفوس عن استيفاء الثلاث، كما بسطناه في موضع آخر. وعلى هذا فيظهر حكمة الشارع في أحكامه، ويتبين تناسب الأصول الشرعية، وما في ذلك من الرحمة والعدل والحكمة، وإلاّ فلماذا جُعِلَتْ هذه الكلمةُ يقع بها الطلاق وهذه لا يقع مع قصد الإنسان للوقوع في الحالين؟ ولماذا حرمت عليه بعد الثالثة؟ ولماذا جُعِل في الظهار الكفارة؟ وقولنا "لماذا" تنبيه على حكمة الشارع وعدله ورحمته، وإن الأقوال التي توافق ذلك هي التي توافق شرعه، دون ما يخالف ذلك من الأقوال المتناقضة.

والمقصود في هذا المقام أن القرآن ليس فيه ما يدل على وقوع الثلاث جملةً. وأما السنة فليس فيها أيضًا شيء من ذلك، بل لا يُعرَف أن أحدًا أوقعَ الثلاثَ جملةً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنها وقعتْ به. وما رُوِيَ في ذلك من الأحاديث فهي ضعيفة بل موضوعة كَذِب عند أهل العلم بالحديث، بل قد نُقِل نقيضُ ذلك.

وحديث فاطمة بنت قيس لمَّا طلَّقها زوجُها ثلاثًا إنما كانت الثالثة

ص: 313

آخر ثلاث تطليقات، كما جاء ذلك مُفسَّرًا في الصحيح

(1)

. وحديث المتلاعنين طلَّقها ثلاثًا بعد اللعان، واللعانُ حرَّمَها عليه أشدَّ من تحريم الطلاق، فكان وجودُ الطلاق كعدمِه.

وإذا قيل: فلماذا لم يَنْهَه عن التكلُّم بالثلاث إن كانت لا توجب طلاقًا في هذه الحال؟

قيل: كما أنه لم ينهه عن أصل التطليق في هذه الحال مع أنه عندهم لا يفيدُ ولا يقع بها طلاقٌ، وذلك لأن النهي إنما كان لمفسدة الوقوع، فلما لم يكن هنا محلٌّ يقع به الطلاق لم تكن هنا مفسدة، كما لو طلَّق أختَه التي تزوَّجها، فإذا تزوَّج من تحرمُ عليه على التأبيد وطلَّقها كان هذا توكيدًا للتحريم، فكذلك طلاق الملاعنة توكيد لمقصود الشارع، فإنِّه بيَّن أن مقصوده تحريمها عليه، والشارع قصد ذلك أيضًا. بخلاف من قَصدَ الشارعُ أن لا يحرِّمها عليه بالثلاث، بل نهاه عن إيقاع الثلاث جملةً بها، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من أوقع الثلاث في غير الملاعنة، دون من أوقعه في الملاعنة.

وأما حديث رُكانة بن عبد يزيد

(2)

فقد رُوِي أنه طلَّقها ثلاثًا فردَّها عليه بعد الثلاث، ورُوِي أنه طلَّقها البتة وأنه حَلَّفَه ما أراد إلاّ واحدة، فقال: ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها. وقد روى أهل السنن أبو داود وغيرُه هذه وهذه، ورجَّحوا الثانية لأنها من رواية أهل بيته، لكن أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم من العلماء ضَعَّفوا حديثَ ركانة، وذلك أنَّ رواتَه قومٌ لم يُعرَفوا بحملِ العلم، ولا يُعرَف من عَدْلِهم

(1)

سبق ذكر هذا الحديث وحديث المتلاعنين فيما مضى، وتكلم عليهما المؤلف.

(2)

سبق ذكره وكلام المؤلف عليه فيما مضى، فلا نعيد التعليق عليه.

ص: 314

وضبطهم ما يوجب أن تثبتَ بمثل نقلهم سنة للمسلمين تُوجبُ حكمًا عامًّا للأمة.

وأيضًا فالرواية الثانية لا تدلُّ بمنطوقها، بل غاية ما تدلُّ بمفهومها، وهو لو قال "أردت ثلاثًا" كان يحتمل أن يؤدِّبه على ذلك ويعاقبه لكون ذلك محرَّمًا، ويحتمل أنه كان يُوقِعها به، فاستفهامُه له يدلُّ على اختلاف الحكم بين إرادة الواحدة وإرادة الثلاث. لكن هل كان الإحلاف لأجل التحريم والمعصية أم لأجل الوقوع؟ هذا ليس في الحديث ما يبينه.

وفي سنن النسائي

(1)

أن رجلاً طلَّق امرأتَه ثلاثًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فغَضبَ عليه وقال: أتتلاعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقال الرجل: أفأقتلُه يا نبيَّ الله؟

فهذا فيه غضبُه عليه حتى استأذنه بعضُ المسلمين في قتلِه، وليس فيه أنه أوقع به الثلاث، فدلَّ ذلك على أن هذا كان منكرًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وفاعله مستحق للذمّ والعقاب، وليس فيه أنه أوقعه به، فقد يكون استفهام ركانة لهذا. فهذا الحديث لا يدلُّ على وقوع الثلاث بل على تحريمها، ودلالته على أنها لا تقع أقوى.

ثمَّ قد ثبت في صحيح مسلم

(2)

وغيره عن ابن عباسٍ أن الثلاث كانت واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، ثم قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم [فيه] أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم، فأَمْضاه عليهم.

(1)

6/ 142. وفيه: "أيُلعَب

".

(2)

برقم (1472)، وقد سبق كلام المؤلف عليه فيما مضى.

ص: 315