المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الجزاء من جنس العمل - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌ الجزاء من جنس العمل

بنفسه إلاّ أن يهديه غيره، وهذا يتناول كل مخلوق، فكل مخلوق لا يهتدي إلاّ أن يهديه الله. ففي الآية النهي عن اتباع كل مخلوق، وأنه لا يتبعُ إلاّ الله وحده، الذي يهدي إلى الحق.

فكل هُدًى في العالَم وعلمٍ فهو من هذا وتعليمه، ويمتنع أن يكون غيره هاديًا له ومعلمًا.

وقوله: (أَمن لا يَهدِىَ إلاّ أن يُهدَى) يتضمن نفي اهتدائه بنفسه مطلقًا، وأنه لا يهتدي بحالٍ إلاّ أن يهديه غيره. وهذا حال جميع المخلوقات. وقد بين أن هذا أحق بالاتباع من هذا، لأنه يهدي الحق وهذا لا يهدي، وذلك نهي عن عبادة ما سواه، وعن استهدائه وعن طاعته، لأن كل معبودٍ فهو متبوع، يتبعه عابده، فإذا لم يتبعه لم يكن عابدًا له.

ولهذا يُجْزَون يومَ القيامة بنظير أعمالهم، فإن‌

‌ الجزاء من جنس العمل

، كما في الأحاديث الصحيحة:"ينادي منادٍ ليتبعْ كلُّ قومٍ ما كانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمر القمرَ"، وذكر إتيان الحق في صورة غير الصورة التي يعرفون، يمتحنهم هل يتبعون غير ربّهم، وإنهم يستعيذون بالله منه، ويقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيتجلى لهم، ويخرُّون له سُجَّدًا إلا المنافقين، فإن ظهورهم تصير مثل قرون البقر، ثم ينطلق ويتبعونه. والحديث في ذلك طويل، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد

(1)

. وفي مسلم [من] حديث جابر

(2)

،

(1)

البخاري (7437، 7439 ومواضع أخرى) ومسلم (182،183).

(2)

موقوفًا برقم (191). وأخرجه أحمد (3/ 345، 383) من حديث جابر مرفوعًا.

ص: 139

وهو أيضًا معروف من حديث أبي موسى

(1)

، ومن حديث ابن مسعود

(2)

وهو أطولها.

آخره، والله أعلم، الحمد لله وحده.

***

(1)

أخرجه أحمد (4/ 407،408) وعبد بن حميد وغيرهما. انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 291 - 292).

(2)

روي عنه موقوفًا ومرفوعًا. وقد تكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى"(6/ 401 - 406) وقال: "إسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب". يقصد رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا.

ص: 140

فصل في سورة حم السجدة [فصلت]

ص: 141

فصل

سورة حم السجدة مشتملة على تقرير أمر القرآن بما تضمنه أصول الإيمان، التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه واليوم الآخر، بذلك فُتِحتْ وبذلك خُتِمتْ. كما أنّ سورة الشورى أيضًا بدأتْ بالوحي، وختمتْ بالوحي المتضمن للقرآن والإيمان.

قال تعالى: (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قُرْءَانًا عَرَبيًّا لقوم يَعْلَمُونَ (3))

(1)

في ذكر القرآن ومستمعيه، إلى قوله:(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه)

(2)

يتضمن الإخلاص والتوحيد والنبوة. وجماع الأمر الاستقامة إليه والاستغفار، كما في قوله:(فأعلم أنه لا إله إلا الله وَاَسْتَغفر لِذَنبِك)

(3)

، وكما قال:(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)

(4)

.

وذم المشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فإن الشرك ضد الاستقامة إليه، التي هي الإخلاص، كما فسَّر أبو بكر الصديق قوله:(إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)

(5)

قال: استقاموا إليه، فلم يلتفتوا يمينًا ولا شمالاً. فإن المستقيم ضدّ الزائغ، فالمستقيم إليه ضدّ الزائغ عنه، والزائغُ عنه المشرك به. وعدمُ إيتاء الزكاةِ - وهو ما تزكو به

(1)

سورة فصلت: 1 - 3.

(2)

الآية: 6.

(3)

سورة محمد: 19.

(4)

سورة هود: 3.

(5)

سورة فصلت: 30.

ص: 143

النفوسُ من الذنوب فتصير زكيَّةً - ضِدُّ الاستغفار الذي يمحو الذنوب، فتزكو النفوس. ففي ذلك جمعٌ بين الإخلاص والعمل الصالح، وهو الإيمان والعمل الصالح وإسلام الوجه لله مع الإحسان.

وكل واحد من التوبة والصدقة يمحو الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الصدقةُ تُطفِئ الخطيئةَ كما يُطفِئ الماءُ النارَ"

(1)

. ولهذا قال سبحانه: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات)

(2)

، وقال في التوبة:(إنَ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)

(3)

، وفي الصدقة:(خُذ مِن أموالهم صدقة تطهرهم تزكيهم بِهَا)

(4)

.

ثمَّ ذكر تقرير الربوبية بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وبدء العالم. ثم ذكر أخبار الأشقياء والسعداء في الدنيا والآخرة، فذكر الوعيد في الدنيا بقصّ الأمم المتقدمة، وفي الآخرة بذكرِ ما يكون في القيامة، فقال:(فَإِنْ أَعرَضوْا فَقُل أَنذَرتُكمُ صاعِقَة)

(5)

إلى قوله: (وَيومَ يُحشَرُ)

(6)

، فيشبه والله أعلم أي "وأنذرتكم يومَ يُحشَر"، وقد يقال:"واذكرْ يوم يحشر"، إلى قوله:(إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)

(7)

، فإنه ذكر حشر حالهم في الدنيا والآخرة، كما ذكر سوء مُنقلَبِ أولئك في الدنيا والآخرة.

(1)

أخرجه أحمد (5/ 231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) من حديث معاذ بن جبل. وهو حديث صحيح.

(2)

سورة التوبة: 104.

(3)

سورة البقرة: 222.

(4)

سورة التوبة: 103.

(5)

سورة فصلت: 13.

(6)

الآية: 19.

(7)

الآية: 30.

ص: 144

ثمَّ ذكر الدين المأمور به، وهو الخلق العظيم، وهو دين الإسلام، ليجمع بين إسلام الوجه لله وبين العمل الصالح بين القصد والعمل، ملة إبراهيم ودين محمد صلى الله عليه وسلم تسليمًا. ثم قرَّر البعث بالدليل.

ثمَّ عاد إلى مخاطبةِ الكافرين بالذكر وتقرير أمره، فقال:(إِنَّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)

(1)

إلى قوله: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41))

(2)

إلى قوله- وهو كان المقصود بالكلام هنا -: (قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به مَن أَضَل مِمَّن هُوَ في شِقَاق بَعِيد (52))

(3)

، فإن الضمير عائد إلى الكتاب، وهو القرآن.

ثم قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53))

(4)

، فالضمير في قوله (أنه الحق) هو الضمير في قوله (إن كان من عند الله ثم كفرتم بِه)، وذلك هو القرآن، أي حتى يتبين لهم أن الكتاب هو الحق لا ما خالفه.

ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53))

(5)

أي أولم يكفِ بشهادته عليه أنه منزل من عند الله، من الآيات المرتبة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال:(لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً (166))

(6)

. وشهادة الله تعالى

(1)

الآية: 40.

(2)

الآية: 41.

(3)

الآية: 52.

(4)

الآية: 53.

(5)

الآية السابقة.

(6)

سورة النساء: 166.

ص: 145

يعلم بما به يعلم أن هذا كلامه، وأن المبلغ صادق، مثل كونهم لا يقدرون على الإتيان بمثله ولا بمثل عشر سورٍ منه ولا سورة واحدة، وما امتاز به من الوصف الذي باين به كلام المخلوقين مما هو معلوم بالعقل والفطرة. كما أصاب عتبة بن ربيعة ونحوه من أكابر عقلاء قريش لمّا سمعوا منه (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2))

(1)

، وكما قال فيه عاقلُهم وفيلسوفُهم ورئيسُهم الوليد بن مغيرة

(2)

، وغير ذلك.

فالكفاية هنا تُشبِه الكفاية في قوله: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله) إلى قوله: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم)

(3)

. فنزولُ الكتاب يتلَى عليهم آية كافية، وهو شهادة الله بما أخبر فيه، وبأن الرسول رسولُه، ((أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)). فهذا ونحوه طرق يُعلَم بها شهادةُ الله.

وثَمَّ طرقٌ أخرى، وهي إخبار رسل الله المتقدمين، وإخبار أممهم عنهم بمثل ما أخبر به هذا الرسول، فلذلك قال:(قُل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم وَمَن عِندَه عِلْمُ اَلكِتَبِ)

(4)

، وقال:

(1)

سورة فصلت: 1 - 2. وخبر عتبة رواه ابن إسحاق باسناد منقطع، انظر "سيرة ابن هشام" (1/ 293،294). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14/ 295 - 297) وأبو نعيم في "الدلائل"(1/ 234) والبيهقي في "الدلائل"(2/ 202 - 203) موصولاً من حديث جابر. وهو حديث حسن.

(2)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 506 - 507) والبيهقي في "الدلائل"(2/ 198 - 199) من حديث ابن عباس. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال البيهقي بعد إيراده من عدة طرق:"كلّ ذلك يؤكد بعضه بعضًا".

(3)

سورة العنكبوت: 50 - 51.

(4)

سورة الرعد: 43.

ص: 146

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ)

(1)

، وقال:(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ)

(2)

، وقال:(أَم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى قوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله)

(3)

.

فالقرآن قد أخبر الله فيه بأمور، وإخباره بها شهادته بها، وكفى بالله شهيدًا، فنفسُ إخباره وشهادته بما شهد به من أمر الربوبية والرسالة والثواب والعقاب وأحوال أوليائه وأعدائه كافٍ، وهو الطريق السمعية. وقد قال:(سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)

(4)

. فهذه الطريق البصرية التي قد تُسمَّى العقل، وهو أن يرد في أنفسهم وفي الآفاق ما يدلُهم على مثل ما دلَّ عليه القرآن، فيروا حالَ المؤمنين بمحمدٍ وحالَ الكافرين به كما أُخْبِروا به عن المتقدمين، ويروا أيضًا حالَهم إذا آمنوا أو كفروا، ويروا أيضًا الدلائل الدالة على وحدانية الخالق وصفاته التي شهد بها الرب.

فالكلام في شيئين: في أن القرآن منزل من عند الله، وهذا قد شهد به الله بما أتى به، وسيُريهم آياتٍ يعاينونها تُبيِّن أنه منزل من عند الله. والثاني: الكلام فيما أخبر به القرآن أيضًا كما تقدم، وأن الحق يتناول نسبته إلى الله، ويتناول أنه صدق في نفسه، واللهُ شهيد بالأمرين، وقد أرى آياتِه على الأمرين.

(1)

سورة الأحقاف: 10.

(2)

سورة الشعراء: 197.

(3)

سورة البقرة: 140.

(4)

سورة فصلت: 53.

ص: 147

مسألة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ "

ص: 149

مسألة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟ "

(1)

، وفي قوله: وما حق العبادِ على الله"، فهل حَقُّهم واجبٌ عليه كما حقُّه واجبٌ عليهم على ظاهرِ اللفظ أم مجازٌ؟.

أجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابنُ تيمية أيَّده الله:

الحمد لله ربّ العالمين. هذه المسألة ونحوُها للناس فيها ثلاثة أقوال، طَرَفانِ ووَسَط

(2)

:

طائفة تقول: إنّ الله يجب عليه أشياء، ويَحْرُمُ عليه أشياء، بالقياس على المخلوقين، وإنّ العباد بقياسِ عقولهم يُوجِبون عليه ويُحرِّمون عليه، كما يَجبُ على العبادِ ويَحْرُمُ عليهم، فيقولون: يجب عليه أن يَفعَلَ في حقِّ كلِّ عبدٍ ما هو الأصلح له في دينه، ولهم في الصلاح الدنيوي نزاع. ويقولون: إنه لا يَقدِر على أن يفعلَ غيرَ ما فَعَلَ، وإن العبادَ يَقدِرون على مالا يَقدِرُ عليه اللهُ، وإنَّه لا يَقدِرُ أن يَهدِيَ ضالاًّ ولا يُضِلّ مُهتديًا. وهذا قول القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرِهم.

والقول الثاني: قول من يقول: إنّ الله سبحانه وتعالى لا يُوجبُ هو على نفسِه شيئًا، ولا يُحَرِّمُ على نفسِه شيئًا، ولا يُنَزَّه عن فعلٍ من الأفعال، ويجوز أن يقع منه كل ما هو مقدور، فلا يَقدِرُ أن يَظْلِمَ أحدًا، بل الظلمُ ممتنع لذاته، وإنّه ليس في أسمائه الحسنى وصفاتِه

(1)

أخرجه البخاري (7373 ومواضع أخرى) ومسلم (30).

(2)

انظر "مجموع الفتاوى"(18/ 147 وما بعدها).

ص: 151

العُلَا ما يَدُلُّ على تنزُّهِه عن أفعالٍ مذمومة، ولا عن اتخاذِه ولدًا، ولا عن أمرِه بأن يُشْرَكَ به. وخالفوا قولَه:(قَالُوا أتَّخَذَ الله وَلَدًا سبحانه)

(1)

، وقالوا: إنه يجوز أن يأمر بالفحشاء والمنكر، وقالوا: لا يُنَزَّهُ قَطُّ عن فعل من الأفعال، ولا أمر من الأمور، وإنْ كان أمرًا بالشركِ والكذِب والظلم، وإن كان نهيًا عن الصدق والعدل والتوحيد، ولا يميز بين ماَ يفعلُه وما لا يفعلُه إلاّ بما جَرتْ به العادةُ، مع أنّ العاداتِ يمكنُ خَرْقُها، أو أخبار الأنبياء، مع أنّ خبرهم عند طائفةٍ منهم لا يُفيد اليقينَ، وخبرهم بالوعدِ والوعيد عند أكثرهم لا يُعلَمُ منه شيء. ويقولون: إنه يَخلُق ما يَخلُق لا لسببٍ ولا لحكمةٍ. وهذا قول الجهمية الجبرية ومَن اتبعهم من المتأخرين.

والطائفتان تقولانِ: إن القادرَ يُرجح أحدَ المتماثلَينِ لا لمرجِّحٍ، لكن هؤلاء يجعلون فعلَه كلَّه كذلك، وأولئك يجعلونه كذلك في الابتداء. وقد ذهب إلى كل من القولين طوائفُ من أعيانِ الناس، وإن كان القولانِ ضعيفينِ

(2)

.

والقول الثالث ما دلَّ عليه الكتابُ والسنَّة، وكان عليه سلفُ الأمّة وأئمَّتُها، كالأئمة الأربعة وغيرهم: إنه سبحانَه عليم حكيم رحيم، وإنّه كتبَ على نفسِه الرحمةَ كما أخبرَ في كتابه

(3)

، وحَرَّم على نفسه الظلم، كما ثبتَ في الحديث الصحيح الإلهي عن أبي ذرّ الغِفَاري

(4)

عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُخبِر به عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي، إني

(1)

سورة يونس: 68.

(2)

في الأصل: "ضعيفان".

(3)

سورة الأنعام: 12.

(4)

أخرجه مسلم (2577).

ص: 152

حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا". وإنّه أوجبَ على نفسه نَصْرَ المؤمنين، كما قال تعالى:(وكان حقًا علينا نَصرُ اَلْمُؤمِنينَ (47))

(1)

. فليس للمخلوق بنفسه على اللهِ حقٌّ، ولا يُقاسُ الخالقُ بالمخلوق فيما يفعلُه، كما لا يقاسُ بالمخلوقِ في صفاتِه وذاتِه، بل ليس كمثلِه شيء، لا في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه، ولكن هو كتبَ على نفسِه الرحمةَ، [وحرَّم على نفسه] الظلمَ كما تقدَّم.

وقد اتفق المسلمون على أنه أخبرَ بما أخبَر به من ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين، وأنه صادقٌ لا يُخلِفُ الميعاد، فاتفقوا على ثبوتِ الخبر، وإنما النزاعُ في كتابتِه على نفسِه وتحريمِه على نفسه، لكن النصوصَ دَلَّتْ على ذلك.

وكذلك حَلفُه "لَيفعلَنَّ" كقوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تَبِعَكَ منهم أجمعين (85))

(2)

، وقوله:(ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من اَلجِنَّةِ والناس أجمعين (13))

(3)

. ومثلُ هذا القسم ليسَ خبرًا محضًا، بل فيه معنى الإرادة والعهد، كما في الوعد.

ومن قال بالقولِ الثاني يتأوَّلُ كتابتَه على نفسِه الرحمةَ وتحريمَه على نفسِه الظلمَ، بأن المرادَ إخبارُه بوقوع ذلك وعَدَمِ وقوع هذا. والظلم عندهم هو ما يَمتنع أن يكون مقدوَرًا، وما يمتنع أنَ يكون مقدورًا لا يَحْرُم، وقد علمَ الناسُ أنه لا يكون، فلا فائدةَ بالإخبارِ أنه لا يكون.

(1)

سورة الروم: 47.

(2)

سورة ص: 85.

(3)

سورة السجدة: 13.

ص: 153

وأيضَا فإنه ذكر ذلك مقدّمةً لنهيِه عبادَه عن الظلمِ بقوله: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالموا".

فلو أرادَ به مالا يكون مقدورًا كان المناسبُ لهذا أن يحرم على عبادِه مالا يقدرون عليه.

وهذا يناسبُ قولَ من قال: الاستطاعةُ لا تكون إلاّ مع الفعل، فيكون قد حرَّمَ عليهم ما يفعلونه من ظلمِ بعضهم بعضًا، ولا حَرَّم عليهم الشركَ الذي هو ظلمٌ عظيم، ولا حرَّمَ عليهم ظلمَ أنفسِهم.

وإذا قيل: أراد بالظلم الذي حرَّمَه على نفسِه مالا يكونُ مقدورًا، وبالظلم الذي حَرَّمَه على عبادِه ما يَقدِرون عليه، لم يكن ذكر هذا مناسبًا لذكرِ هذا، وهو قد قال:"يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالَموا". الضمير [عائد] إلى الظلم، فلو كان الأول مالا يُقْدَر عليه، لقيل: لا معنى لتحريمه هذا على نفسِه.

والمناسب إذا لم يُحرِّم إلاّ ما يكون مقدورًا لهم، وإلاّ فالمعنى على قولِ هؤلاء: حرَّمتُ على نفسيْ إذْ أَجعلُ الشيءَ موجودًا معدومًا، وأَجعلُ الجسمَ متحركًا ساكنًا، وأجعلُ المحدَثَ قديمًا والقديمَ مُحدَثًا، ونحو ذلك من الأمور التي ليست شيئًا باتفاق العقلاء، ولا يَتصوَّرُ العقلُ وجودَها في الخارج، وحَرَّم عليهم ما يَقدِرون هم عليه، وهو إنما ذكر هذا ليُقِيمَ الحجةَ على خلقِه بقوله: يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نَفْسِي، فأنتم أولى أن يكون الظلم محرَّمًا عليكم، لأنه سبحانَه على كلِّ شيء قدير، ورب كلِّ شيء وخالقُه، ولا يتصرَّفُ إلاّ في مُلكِه، لا [يتصرف] في ذلك غيرُه، وليس فوقَه آمر يأمره، فإذا كان مع كمالِ قدرته وعِزَّتِه ووحدانيّتِه قد حرَّمَ الظلمَ على نفسِه، فكيف بالمخلوقِ الذي فوقَه آمر

ص: 154

يأمرُه، ومُجَاز يُجازيه، وقد يَتعدّى فيتصرفُ فيما لا يملكه.

وأما كونُه يقول: حرَّمتُ على نفسي ماليسَ مقدورًا لي، كالجمع بين الضدَّين ونحو هذا، ولا يَقدِرُ أحدٌ على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، لا مُعقَّب لحكمِه، ولا رادَّ لأمرِه - فهذا مما يُعلَم يقينًا أن الرسولَ لم يَقصِدْ هذا، بل تحريم ماهو مقدور، كما قصدَ تحريمَ الظلم الذي يقدرون عليه.

وهو سبحانَه لا يَظلِمُ مثقالَ ذَرةٍ، (ولا يظلم ربك أحداً (49))

(1)

، ويقول لعبده إذا حاسَبَه يوم القيامة: لا ظلمَ عليك، فلا يَنْقُصُ أحدًا من حسناتِه شيئًا، ولا يَحمِلُ عليه سيئاتِ غيرِه، كما قال تعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112))

(2)

. قال غير واحدٍ من السلف: الظلم أن يَحمِل عليه سيئاتِ غيرِه، والهَضْمُ أن يَهْضِمَ من حسناتِه

(3)

. فهذا مما حرَّمَه على نفسِه وهو قادرٌ عليه، لكنه منزهٌ قُدُّوسٌ سَلامٌ، لا يجوز أن يَظلِمَ أحدًا، ولا يجوز أن يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، بل هو حكيم عليمٌ رحيمٌ، لا يَفعلُ إلاّ بموجب رحمتِه وحكمتِه وعدلِه. وهو سبحانَه خالقُ كلَّ شيء وربُّه ومليكُه، ما شاءَ كانَ، ومالم يَشَأ لم يكن.

فكل واحد من قولِ القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطلٌ، والصواب فيما جاء به الكتابُ والسنة، وما كان عليه سلفُ الأمة وأئمتها.

(1)

سورة الكهف: 49.

(2)

سورة طه: 112.

(3)

انظر: "زاد المسير"(5/ 324) والقرطبي (11/ 249).

ص: 155

وهذه المسألة فرعٌ على هذا الأصل، والكلامُ على هذا مبسوط في مواضعَ غيرِ هذا، وهذا مقدارُ ما احتملتْهُ الورقةُ من الجواب.

فعلى هذا فقوله: "أتَدريْ ما حقُ اللهِ على عبادِه؟ " قال: اللهُ ورسوله أعلم. قال: "حقُّه عليهم أن يَعبُدوه، لا يُشرِكوا به شيئًا"، هو حق استحقهُ بنفسِه على عبادِه. وقوله:"أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك؟ أَنْ لا يُعذبَهم"، هو حق أَحَقه على نفسِه لعبادِه، كما قال تعالى:(وكان حقا علينا نصر المُؤمنِينَ)

(1)

، فهو أَحَقه بنفسِه على نفسِه، لا لأنَ العبادَ بأنفسِهم يستحقون عليه شيئًا، ولا يُقاس على خَلقِه فيما يستحقُّه المخلوقُ على المخلوق، فإنه خلقَ عبادَه، ولم يكونوا قبلَ وجودِهم شيئًا، بل عدمًا محضًا لا يستحقون شيئًا، ثمَّ لما خلقَهم فكل ما فيهم من الأمور الوجودية هي مخلوقة له، فيمتنع أن يكون مُوجَبًا على الربِّ عز وجل محرمًا عليه، وهذا هذا. والله أعلم.

(هذا مختصر جواب الشيخ تقي الدين أثابه الله تعالى).

***

(1)

سورة الروم: 47.

ص: 156