المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الخلع ليس بطلاق - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌ الخلع ليس بطلاق

فإن قيل: قد يكون الضميرُ في آخرِها أخصَّ منه في أوَّلها، كما قالوا: إن قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) يَعُمُّ البائناتِ والرجعياتِ، وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ) يختصُّ بالرجعيات. وتنازعوا هل يقال: التخصيص في الضمير فقط أو التخصيص في أولها فقط؟ ليتطابق المضمر والمظهر، أو بالوقف؟ على ثلاثة أقوال، وهي أقوال معروفة

(1)

.

قيل: هذا على قول من يقول: إن المطلقاتِ فيهن بانتْ بعد الدخول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، ثمَّ رجعَ أحمد عن هذا، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي. فظاهر مذهبه أن الطلاق بعد الدخول لا يكون رجعيًا. وأما الثلاث فذاك هو الطلاق المحرَّم، وقد بينه بعد هذا بقوله:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)

(2)

، أي الطلاق المذكور في الآية، وهو الرجعي.

وهذه الآية وأمثالُها مما يُستدلُّ به على أنّ الطلاق بعد الدخول لا يكون إلاّ رجعيًا، ولهذا يذكر اللهُ فيه الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهو مما يَدُلُّ على أنّ‌

‌ الخلع ليس بطلاقٍ

(3)

، لأنه لا رجعةَ فيه، فإن الله سماه افتداءً، ولهذا كان لا رجعةَ فيه عند عامة العلماء، وهو في أحد القولين - وهو الثابت عن عثمان وابن عباس وغيرهما - أنها تُستبرأ منه بحيضةٍ، فلا تتربصُ ثلاثةَ قروء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول إسحاق وغيره وقول طائفة من السلف، وإذا كان فسخًا لم يكن له عدد. فهذه خصائص الطلاق المذكورة في الآية،

(1)

انظر "الإحكام" للآمدي (2/ 336) وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 153) و"تيسير التحرير"(1/ 320) و"شرح الكوكب المنير"(3/ 390 - 391).

(2)

سورة البقرة: 229.

(3)

انظر "مجموع الفتاوى"(32/ 289 - 313، 321 - 344، 33/ 9 - 10).

ص: 243

وهي ثلاثة: تربصُ ثلاثة قروء، واستحقاق البعل الرجعةَ، وأنه مرَّتانِ، ثلاثتُها منفيةٌ في الخلع، لأنه افتداءٌ افتدتْ به المرأةُ نفسَها من زوجها كما يَفتدِي الأسيرُ، فقد اشترتْ ذلك وعاوضتْ عليه. وقد يُشبه بالإقالةِ أيضَا، ولهذا قال من قال: ينبغي أن لا يكون بزيادة على المسمى كالإقالة.

وإذا قيل: هو فسخٌ، فهل يصحُّ مع الأجنبي؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد.

أحدهما: لا يَصحُّ، فإنه حينئذٍ يكون كالإقالة، والإقالةُ لا تكون مع الأجنبي. وهذا قول أبي المعالي والرافعي، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره من أصحاب أحمد.

والثاني: يَصحُّ مع الأجنبي، وهو الصحيح المشهور عند أصحاب أحمد، وكذلك ذكره العراقيون من أصحاب الشافعي، كأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، وذلك لأنه كافتداء الأسير، ويجوز بَذْلُ الأجنبيِّ العوضَ في افتداء الأسير. وبسطُ هذا له موضع آخر

(1)

.

والمقصود هنا أن القرآن من تدبره تدبرًا تامًّا تبينَ له اشتمالُه على بيان الأحكام، وأنَّ فيه من العلم مالا يُدرِكه أكثرُ الناس، وأنِّه يُبيّن المشكلاتِ ويَفصِل النزاع بكمالِ دلالتِه وبيانِه إذا أُعطِيَ حقَّه، ولم تُحرَّفْ كَلِمُهُ عن مواضعه.

فقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصٌّ في أنَّ المرادَ ذاتُ الأقراء. وقد تنازعَ الناسُ هل يعمُّ لفظُها لذواتِ الحمل والمتوفى عنها، ثمَّ قد خُصَّ منها ذلك؟ أو لا يَعُمُّ لفظُها لهؤلاءِ؟

(1)

انظر: "مجموع الفتاوى"(32/ 91 - 92،307).

ص: 244

على قولين

(1)

. والأول قاله بعضُ أهلِ التفسير، كما ذكره مقاتل بن سليمان، وكما رُوِي عن الضحاك أيضًا، وهو شيخُ مقاتل. قالوا: إنّ اللهَ استثنى من هذه الآية من لم يُدخَلْ بها، واستثنى منها ذواتِ الحمل، واستثنى الصغيرة والكبيرة.

فأما استثناءُ من لم يُدخل [بها]

(2)

فقد قاله غيرُ هؤلاء، ورواه أبو داود في سننه

(3)

عن ابن عباس، وتقدم القول فيه.

وأما استثناءُ هؤلاءِ وإخراجُهن من الآية فقول ضعيف. والصواب أن الآية لم تشمل هؤلاء:

أما الصغيرة والكبيرة فإنهن لا يحضن، وقوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) هي الحيض التي يكون فيها طُهر، فلابدّ أن يكون ذلك فيمن تحيض وتطهر، ويَمتنع أن يقال لمن لا قروءَ لها: تتربَّصُ ثلاثة قروء. فالآية لم تشمل أولئك.

ولم يقل أحدٌ: إنه استُثنِيَ منها المتوفى عنها، فإنّ لفظ المطلقات لا يتناول من ماتَ عنها زوجُها.

وأما أولاتُ الأحمال فنقول: لو شَمِلَها اللفظُ لكانت تحتاج أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء بعدَ وضع الحمل وانقضاءِ النفاس، فإن العادة الغالبة أن الحامل لا تَرَى دمًا، وقد تراهُ نادرًا، والفقهاء مختلفون هل هو حيض أم لا؟ ولو قيل: هو حيضٌ نزاع أنه لا تَقضي به العدة، ثمّ إنها ترى النفاس، ثمَّ تتربص ثلاثة قروء، فتبقى في العدة أكثر من

(1)

انظر: "زاد المسير"(1/ 262) والقرطبي (3/ 112).

(2)

زيادة على الأصل.

(3)

برقم (2282).

ص: 245

سنة في الغالب، ومعلوم أن الله كما لم يرد ذلك بهذه الآية، فلم يدل لفظها على ذلك، لأنه قال:(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)، والتربص الانتظار، فجعل مدة التربص ثلاثة قروء، كما قال:(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)

(1)

. والتربص في الموضعين من حين السبب، وهو الإيلاء أو الطلاق، فإنه لمّا قال:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) كان أمرًا لهن بالتربص من حين طلَّقهن، وإذا وجب عليها من حينِ الطلاق تربصُ ثلاثةِ قروء حينئذ امتنعَ أن يكون بين الطلاق وهذه القروء عدة أخرى كالحمل، والله تعالى أمر بطلاقها للعدة، فالعدة التي هي القروء، فستعقب الطلاقَ لا تتراخى عنه، ولأن قوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) عددٌ، فعُلِم أنها لا تتربص زيادة على ذلك.

فهذا وغيرُه مما يُبيِّن أنَّ لفظ الآية لم يَشمَل إلاّ المطلقة التي لها قروء عقبَ الطلاق، لم يتناول الصغيرة ولا الكبيرة ولا الحامل، كما لم يتناول المتوفى عنها، وإذا كان كذلك تبيَّن أنها أيضًا لم يتناول من لا تدري أتَعْتَدُّ بالقروء أو بوضع الحمل، فإن هذه ليست مأمورةً من حين الطلاق أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء، والآية قد دلَّت على أن المطلقاتِ المذكورات في الآية مأمورات أن تتربَّصَ كل واحدةٍ منهن ثلاثةَ قروءٍ عقبَ الطلاق، فلم تدخل في الآية الحاملُ، ولا من لا يُعرَف هل هي حاملٌ أو حائل، ولو كانت هذه مطلقة لوجب أن تشملَها الآية على تقدير، فيجب عليها إن لم تكن حاملاً أن تتربص من حين الطلاق ثلاثة قروء، فلما لم تَشْمَلها الآية عُلِمَ أنها ليست مطلقة. والمطلقات المذكورات هنا هُنَّ المطلقات المذكورات في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ

(1)

سورة البقرة: 226.

ص: 246

فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)

(1)

، والطلاق للعدة لا تَدخُلُ فيه هذه، فإنها ليست مطلقة للعدة، فعُلِمَ أنها لا تكون مطلقة.

وأما الجواب عمّا احتجوا به فيقال: الآية سواءً شَمِلَت الولدَ والحيضَ، أو قُدِّرَ أنها مختصّة بالولد، فلا يمتنع أن يطلّق للسنة وتكتم الحمل والولد، تارةً تكرهُ الزوج فتكتمه، لئلا يعلم به فيراجعها، وتارةً تكتمه لتطول العدةُ فتأخذُ النفقة، وقد تكتُمه لتَنفِيَه عن أبيه، وذلك أنه إذا طلَّقها وقد رأت الطهر، فقد تكون مع ذلك حاملاً، فإن الحاملَ قد ترى الدمَ باتفاق الناس، وهل يكون حيضًا؟ على قولين، والطُهرُ دليل ظاهرٌ على براءةِ الرحم وليس قاطعًا، فقد تكون حاملاً لاسيما في أوائل الحمل، وترى الدم [في] الطهر، فيطلِّقها يَظُنها حائلاً، وتكون حاملاً تكتُم ذلك. وقد يكون في ابتداء الخبر، فتُخبِر أنها حاضت وطهرت، ليطلَّقها، رغبةً منها في الطلاق وكراهة التزوج.

وقوله (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)

(2)

يقتضي تحريمَه في هذه الحال أيضًا، فإنه إذا حرم عليها الكتمان بعد الطلاق، فقبلَ الطلاقِ أولَى أن يحرم عليها الكتمانُ، لأنه حينئذٍ يحتاج أن يَعرِف هل هي طاهر فيُباحُ له الطلاق، أم لا؟ وهل هي حاملٌ لئلا يُطلقها، أم لا؟ فإذا كتمت الحملَ وزعمت أنها طاهر ليطلقها، كانت أولى بالإثم من أن تكتم ذلك في آخر العدة، فإن هذه قصدتْ أن تُوقِعَه في طلاقٍ محرم، وأن تُخرِجَ نفسَها من ملكِه بالحيلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن المنتزعات والمختلعات هنّ المنافقات"

(3)

، وقال: "أيما امرأةٍ سألتْ

(1)

سورة الطلاق:1.

(2)

سورة البقرة: 228.

(3)

أخرجه أحمد (2/ 414) والنسائي (6/ 168) والبيهقي (7/ 316) من حديث =

ص: 247

زوجَها الطلاقَ في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة"

(1)

. فإذا كان هذا بسؤالها واختيارِه فكيفَ باحتيالها ومَكْرِها. وهذا مما يَدُلُّ على بطلان الطلاق، فإنّ الشارع حكيم ينبغي أن يعاقبها بنقيضِ قصدِها، فلا يَحصُل لها ما طلبته من المكر والخداع المحرَّم. فإذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهر، حتى طلَّقها، ولم تكن طاهرًا بل كانت موطوءةً، ولم يتبين حملُها فهذه لا يقع بها الطلاق، على هذا القول الذي نصرناه، وقد وقع مثلُ هذه القضية، وإذا تبين أنها قد تكتم الحبل بعد الطلاق وقبل الطلاق، مع أن المطلقة مأمورة بثلاثة قروء، تبيَّن أنَّ هذا القول هو المتضمن للعمل بالآية دُون ذاك.

وقد ذكر بعض أهل التفسير

(2)

أنهن في الجاهلية كنّ يفعلن ذلك، فقال ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كانت المرأة إذا كانت راغبةً في زوجها قالت: أنا حُبلَى، وليست حبلى، لكي يُراجعَها.

وإن كانت حُبلَى وهي كارهة قالت: لستُ بحبلى، لكي لا يَقدِرَ على مراجعتها، أو لكيلا يُراجعَها. فلمّا جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قولُه، فقال:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)

(3)

.

ثم نزلت: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)

(4)

.

قلت: وهذا يقتضي أنهم كانوا يُطلِّقون الموطوءة قبلَ نزول آية

= أبي هريرة. وله شواهد، راجع "السلسلة الصحيحة"(632).

(1)

أخرجه أحمد (5/ 277،283) وأبو داود (2226) والترمذي (1187) وابن ماجه (2055) من حديث ثوبان.

(2)

انظر تفسير القرطبي (3/ 118) و"الدر المنثور"(1/ 275 - 276).

(3)

سورة الطلاق:1.

(4)

سورة البقرة: 228.

ص: 248

الطلاق، وحينئذٍ فقد تقول: أنا حبلى، فيراجعها، وقد تقول: لستُ حبلى، فلا يُراجعُها. فلمَّا أنزل الله آيةَ الطلاق أمر بالطلاق للعدة أن تكون طاهرًا أو حاملاً قد تبين حملُها، وأنزلَ آية البقرة، فصارَ الطلاقُ وهي طاهر، والغالب أنها لا تكون حُبلَى، فما بقيت تتمكن مما كانت تتمكن منه في الجاهلية.

وقد ذكر بعضُ أهلِ التفسير أنهم كانوا يُراجعون الحاملَ بعد الطلاقِ الثلاث، وأنّ الآية نزلت في ذلك، ففي "تفسير الخمس مئة" لمقاتل قال:(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) يعني من الولد، (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني أزواجهن أحقُّ بردّهن يعني برجعتهن في ذلك، يعني في الحمل. كان هذا في أول الإسلام، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما دامت في العدة، ثم نزلت:(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) في الحبل بعدما طلَّقها ثلاثًا معلومة في كتاب الله ممكنة. وفسَّر الآياتِ إلى قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يعني ما بُيِّن من الزوج والمرأة في الطلاق والرجعة (يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)). فمن طلق امرأته ثلاثًا وهي حُبلَى أو غير ذلك، فقد بانت منه، ولا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيرَه.

وفي تفسير عاصم بن سليمان الكُوزي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني في الحامل، في أول الإسلام كان الرجل إذا طلق امرأتَه ثلاثًا وهي حاملٌ أو غيرُ حاملٍ، فهو أحقُّ برجعتها ما دامت حاملاً. ثمَّ نزلت في امرأةِ رجلٍ لم يعلم بحملها، فطلَّقها زوجُها، ولم تُخبِره المرأة بحملها. فذلك قوله:(إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) إذا تراجعا ما بينهما، ثمَّ نسخَتْ هذه الآية التي بعدها، فقال:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) يقول: بحسن

ص: 249

الصحبة، إلى أن قال:(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) التطليقة الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حاملاً كانت أو غيرَ حاملٍ.

قلتُ: أما كونُ الطلاق في الجاهلية وفي أول الإسلام كان بغير عددٍ، يُطلِّق الرجلُ المرأةَ ما شاءَ ثمَّ يراجعُها، فهذا مشهور معروف، قد ذكره عامة العلماء، ولا فرق في ذلك كان بين الحامل وغيرها.

ولم يكن في الجاهلية عِدَّة ولا عدد للطلاق، وأنزلَ الله العدَّةَ أولاً، فكان الرجل المضارّ يُطلِّقها، حتى إذا لم يَبقَ من العدّة إلاّ قليلٌ راجعَها، ثمَّ يُطلِّقها، فتَستأنِفُ العدة، فيُمهِلها، حتى إذا بقي منها قليلٌ طلَّقها، ثمَّ كذلك يفعل، حتى يبقَى دائمًا يُطلّقها ثمَّ يراجعها، فأنزل الله الثلاثَ. وكان له أن يرتجعَها بعد الطلاق الثلاث إذا كانت في العدة، سواءً كانت العدة حملاً أو قروءًا، كما ذكر هؤلاء. ولم يكونوا إذ ذاك أُمِرُوا بالطلاقِ للعدة، فإنه إذا كان يملك أكثر من ثلاث أمكنَه تطويلُ العدَّةِ وإضرارُها وإنْ طلَّقها للعدَّة، ولكن لمّا قُصِروا على الثلاث أُمِروا أن لا يطلقوا إلاّ للعدة، لتكون العدة عَقِبَ الطلاق، فلا يقع ضررٌ أصلاً.

وما ذكر من أن المرأة كانت تكتم الحمل تارة لبُغضِها للرجل، وتارة لئلاّ يُراجعها، وتقول: إني حبلى، وتكتم الحيض تارةً لحبّها له، ليمسكها، وأنّ رجلاً طلق امرأته ولم تُعلِمْه أنها حاملٌ، فهو يوافق ما ذكرناه من أنها قد تكتم الحمل حين الطلاق.

وقولهم: "إن هذا في الحمل، وكان هذا في أول الإسلام"، فمعناه أنه في أول الإسلام لما كان الطلاق بغير عدد، ولم تكن هناك سنة وبدعة، كانت المرأة تتمكَّنُ من كتمان الحمل تارةً وكتمان الحيض، ودعوى الحمل تارةً، لهواها في الحالين. فلمّا صار الطلاق

ص: 250

ثلاثًا ما بقي يتمكن من المراجعة إلا في الطلقتين، وأُمِرَ أن لا يُطلِّقها حتى يعلم أنها حامل أو غير حامل، فإن كانت حاملاً كانت عدتها الحمل، وأَقْدَمَ على علمٍ فلا يندمُ، ولا تَغُرُّه وتكتُمه وتكذِبُ عليه. وإن ظهر أنها ليست حاملاً، لكونها في طهرٍ لم يصبها فيه، كان كذلك، وما بقي الكذب الذي يضرُّه يمكنها إلاّ في صُوَرٍ نادرةٍ، إذا طَهُرت ثمَّ تبيَّن أنها حامل، أو فيما إذا كتمتِ الحمل أولاً وقالت: إني طاهر، وهو مع ذلك وفي كلا الموضعين إنما يُمكنُها الخِداعُ على قول من يُوقع الطلاق. ومَن لا يُوقع إلاّ طلاقَ السنة يقول: إذا تبيَّن أنها كانت حاملاً ولم يعلم، لم يَقع الطلاقُ، فإنها لم تكن طاهرًا، ولا كان ذلك دَمَ حيضٍ.

وأيضًا فقد يكون مرادُهم أنّ هذه الآية - آية القروء - نزلت قبلَ الأمر بالطلاق للعدة، فكانوا في تلك الحال لهم أن يطلقوا المرأة حائضًا وموطوءةً، وحينئذٍ فقد تكون حاملاً وتكتم الزوجَ ذلك، أو حائلاً وتكتم ذلك، فكان النهي عن الكتمان في تلك الحال عامًّا. ثمّ إنه بعد ذلك أمر بالطلاق للعدة، ونُهِيَ الرجلُ أن يُطلّق امرأة بمرة إلاّ إذا تبين حملُها، فزال هذا الفساد، كما قيل لهم:(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا)

(1)

، لما كان الطلاق بلا عددٍ فأمر بالعدة أولاً، ثم قُصروا على الثلاث ثانيًا، ثمَّ أُمِروا بطلاق السنة ثالثًا.

وهذا يُبين حقائق الأمور، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. ولهذا قال في سورة الطلاق

(2)

: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، فدلَّ على

(1)

سورة البقرة: 231.

(2)

الآية 1.

ص: 251