الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}
(1)
. فإن الدنيا وإن كان فيها نوع لذة ومنفعة حاضرة فتلك زائلة منقطعة، فهي باطلة، والفعل لمثل ذلك من باب العبث واللعب، والله تبارك وتعالى منزَّه عن ذلك، إنما خلق هذا الذي ينقص ويزول لما يبقى ويدوم، والذي يبقى ويدوم هو الحق، والذي يزول وينقص قد فَسَد وهلكَ. ولهذا قيل في قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}
(2)
: كلُّ عملٍ باطل إلاّ ما أريد به وجهُه. وفي الدعاء المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطلٌ إلاّ وجهك الكريم". وقد قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (27))
(3)
. فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم، وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسدٌ هالكٌ، لا يبقى ولا يدوم.
قالوا لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن فلانًا عَملَ موطَّأ مثلَ موطَّأِك، فقال: وطَّأوا ووطَّأنا، وما كان لله عز وجل فهوَ يبقى
(4)
.
ولما استقر في الفطر أن
كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ
، صار كلٌّ من اَلناس يُسمِّي مالا يبقى نفعُه بالنسبة إلى ما يبقى عبثًا وباطِلاً ولعبًا وباطلاً، فالصبيان إذا لعبوا سمَّى الرجالُ العقلاءُ فعلَهم لعبًا وباطلاً وعبثًا، وإن كان للصبيان فيه لذة ومنفعة حاضرة، لكنها لا تدوم وتبقى، بل إذا فَرَغوا من اللعب احتاجوا إلى أمورٍ لا
(1)
سورة المؤمنين: 115.
(2)
سورة القصص: 88.
(3)
سورة الرحمن: 26 - 27.
(4)
انظر "ترتيب المدارك"(1/ 95) ط. بيروت، و"تزيين الممالك"(ص 44).
تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصِّل له قوتًا وكسبًا ونحو ذلك من المقاصد عندهم صاحب جِدٍّ وحَقٍّ، ليس بصاحب لعب وباطلٍ، فإن هذا يبقى ويدومُ وينفع أعَظم من ذاك؛ ومن كان عَنده أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال، كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرضَ عن ذلك صاحبُ لعب وباطلٍ بالنسبة إلى مطلوبه ومقصودِه، فإن المال لا ينتفع به صاحبُه إلاّ إذا أخرجَه وأنفَقَه، فمنفعتُه في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلَّما قوي وحَصَل كان الانتفاع به أكثر، وصَاحبُه يُمكِنه أن يُحصل به من المال مالا يُمكِنُ صاحبَ المال أن يُحصِّل به من الجاه، فلهذا كان هذا أعقلَ وأكيسَ وأبعدَ عن اللعبِ والباطلِ من ذاك.
ثم إن صاحب الحق الذي قد عَلِمَ أن الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها لا جاهٌ ولا مالٌ، بل هذا وهذا يقول يوم القيامة:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)}
(1)
. وقد روى الترمذي وغيرُه
(2)
عن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفْسَدَ لها من حِرْصِ المرءِ على المال والشرف لدينه". [قال] الترمذي: حديث حسن صحيح. بيَّن صلى الله عليه وسلم أن حِرصَ المرءِ على المالِ والشرفِ والرئاسة يُفسِد الدينَ مثلَ أو أبلغَ من إفسادِ الذئبينِ الجائعينِ إذا أُرسِلا في زريبة غنم. وهذا الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعُه بعد الموتِ، فلو قُدِّر أن الإنسان طلبَ من
(1)
سورة الحاقة: 28 - 29.
(2)
أخرجه الترمذي (2376) وأحمد (3/ 456،460) والدارمي (2733). وللحافظ ابن رجب شرح عليه مطبوع. وانظر كلام المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى"(11/ 107 - 108، 20/ 142 - 144، 28/ 391 - 392).
المالِ والشرف ما لا ينفعه بعد الموت، لكان صاحبَ باطلِ ولعب وعبث، فكيف إذا طلب ماهو صار له بعد الموت يُفسِد ما ينفعُه، كإفسادِ الذئبينِ الجائعين لزريبة الغنم. ولهذا إنما جعل ذلك الحرص على المال والشرف، والحرص يُوجِب الشُحَّ، فإن الشُحَّ أصله شدةُ الحرص.
وفي الصحيحين
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ أهلكَ من قبلكم، أمرَهم بالبخل فبَخِلُوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا".
ورئيَ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يَطوف وهو يقول: "رَب قِنِيْ شُحَّ نفسي، رب قِنِي شُحَّ نفسي"، فقيل له: ما أكثرَ ما تدعو بذلك! فقال: إذا وُقِيتُ الشحَّ وُقِيتُ البخلَ والظلمَ والقطيعةَ
(2)
.
وذكر رجلٌ لابن مسعود رضي الله عنه أنه يكره إخراجَ المال، أفشحيحٌ هو؟ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ذلك البخيل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشُّحَّ أن تُحِبَّ أخذَ مالِ أخيك
(3)
.
ولهذا الشحُّ كان أعظمَ من البخل، فإن البخيل يَبخَلُ بما عنده، والشُّحُّ هو شدَّة الحرص، فهو عمل على الحسد حتى يكره أن يُعطِيَ الله تعالى غيرَه من فضلِه، وعمل على الظلم والقطيعة حتى يأخذ مالَ غيرِه بغير حق. ولهذا قال الله تعالى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
(1)
لم أجده في الصحيحين، وقد أخرجه أحمد (2/ 159، 191، 193، 195) والدارمي (2519) وأبو داود (1698) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2)
أخرجه الطبري (28/ 29) وغيره، انظر "الدر المنثور"(8/ 108).
(3)
أخرجه الطبري (28/ 29) وغيره، انظر "الدر المنثور"(8/ 107).
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(1)
. فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبًا لما أنعمه الله عليهم، بل نفوسهم غنية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الغِنَى عن كثرة العَرَضِ، وإنما الغِنَى غِنَى النفس"
(2)
. والحاسد والحريصُ أنفُسُهم فقيرة محتاجة لا غِنًى فيها، فالحاسد شر من البخيل، والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني الذي لا يُحسِنُ. ولهذا جاء في الحديث
(3)
: "الصدقة تُطفِئُ الخطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النارَ، والحسدُ يأكُلُ الحسناتِ كما تأكُلُ النارُ الحطبَ".
والحسدُ يكون على المال والجاهِ جميعًا، كما قد يكون على الدين والعلم، قال الله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)}
(4)
(5)
. وإذا أحب أن يحصل له من الخير الذي حَبَاه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك النعمة عنه، فهذا غبطة، ويُسمَّى حسدًا لكنه حسن. كما في الصحيحين
(6)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
(1)
سورة الحشر: 9.
(2)
أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) عن أبي هريرة.
(3)
أخرجه ابن ماجه (4210) عن أنى. وفي الباب عن معاذ بن جبل وجابر وغيرهما.
(4)
سورة النساء: 54.
(5)
سورة البقرة: 109.
(6)
البخاري (7141) ومسلم (816) عن ابن مسعود.
قال: "لا حَسَدَ إلا في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق". فإن هذا وهذا مما يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسيجازى صاحبهما في الآخرة، فإذا أحب الرجل أن يكون له مثلُ ما لغيره من ذلك فهذا حسن، وهو من المنافسة التي رُغِّبَ فيها بقوله تعالى وتبارك:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}
(1)
. وأما إذا تمنى زوالَ النعمة عنه فهذا مذموم مَعِيْبٌ، وإن أحب أن يكون له مثلُها من المال والرئاسة من غير زوال لذلك عنه فهذا من جنس حبّ المال والرئاسة ابتداءّ، فهو باطلٌ وعبثٌ ولعبٌ، إلاّ ما يُنتفع به في الآخرة، والحرصُ عليه يُفسِد الدينَ كما تقدم.
وقال شداد بن أوس رضي الله عنه
(2)
: يا بقايا العرب! إن أخوفَ ما أخافُ عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حبُّ الرئاسة. وقال سفيان الثوري رحمه الله: رأيناهم يزهدون في الطعام والشراب واللباس، فإذا نُوزعَ أحدُهم الرئاسةَ نَاطَحَ نِطاحَ الكِباش.
فطُلَاّب الرئاسة عند الذين يريدون ما أحبَّه الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم أولى بالذمّ والنقص والعيب، من طلّاب المال عند طُلَاّب الرئاسة، حيث أرادوا مالا يدوم نفسُه ولا يبقى، بل يزول ويفنى، فطلبوا الباطلَ الذي يفنى، وتركوا الحق الذي يبقى. وقد قال بعضهم: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى، فكيف والدنيا خَزَفٌ يَفنى، والآخرة ذهبٌ يَبقَى! ولهذا قال السحرة لما آمنوا وتبيَّن لهم الحق، وقال لهم فرعون
(1)
سورة المطففين: 26.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 123،125) عن شداد بن أوس مرفوعًا بنحوه.
(1)
.
والمقصود هنا ذكر معنى الزوال، وقد تقدم أن لفظ "زال" يستعمل لازمًا تامًا، ويُستعمل ناقصًا من أخوات كان، وهو كثير، كقوله تعالى:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}
(2)
، وقوله تعالى:(وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118) إلا من رحم)
(3)
، وقوله تعالى:{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}
(4)
. ويقال: "لم يزل كذلك"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، (سميعًا بَصِيرًا (58)) فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله عنهما:(وَكاَنَ اللهُ غَفُورًا رحِيمًا (96)) تَسمَّى بذلك، وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك. رواه البخاري في صحيحه
(5)
عنه. وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لم يزل الله عز وجل عالمًا متكلمًا غفورًا.
وقال رضي الله عنه أيضًا: لم يزل متكلمًا إذا شاءَ. ذكره في رواية عبد الله فيما كتبه في "الردّ على الجهمية والزنادقة فيما شكّت فيه من متشابه القرآن وتأؤَّلَتْه على غير تأويله"
(6)
.
(1)
سورة طه: 71 - 73.
(2)
سورة التوبة: 110.
(3)
سورة هود: 118.
(4)
سورة المائدة: 13.
(5)
8/ 556 (مع الفتح).
(6)
انظر ص 48.
وهذا يقال فيه: ما زَال، ولم يَزَل؛ والأوَّلُ يقال فيه: زال يَزُول، ذاك بالواو، وهذا بالألف، لأن معنى الواو أكمل، وذاك فعل تام يُراد به لم يَزُلِ المذكور، وهنا يُراد به: لم يَزَلْ أو لا يَزَال على هذه الصفة وهذه الحالِ. فالمراد هناك دوامُ نفسِه وبقاؤها، والمراد هنا دوامُ صفتِه المذكورة وبقاؤها. ودوامُ نفسِه وبقاؤها من غير زوالٍ ونقصٍ يَستلزِمُ دوامَ صفاتِ الكمال وبقاءَها. وأما إذا قيل: لم يَزَلْ كذلك، فقد يكون المذكور صفةَ نقصٍ، كقوله تعالى:(وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118))
(1)
، وقد يكون صفةَ كمالٍ، وإذا كان صفةَ كمالٍ فهو داخلٌ في الأول.
فلهذا كان اسمه "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كمالِه، ويتضمن أنه لم يزل ولا يزال دائمًا باقيًا أزليًّا أبديًا موصوفًا بصفاتِ الكمال، من غيرِ حدوثِ نقصٍ أو تغيرٍ بفسادٍ واستحالةٍ ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، فإنه سبحانه وتعالى "القيوم". ولهذا كان من تمام كونه قيومًا لا يزولُ أنه لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فإن السنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمالِ الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنة: أينامون؟ فقال: "لا، النوم أخو الموت"
(2)
.
(1)
سورة هود: 118.
(2)
أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 366) وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 90) والطبراني كما في "مجمع الزوائد"(10/ 415) من حديث جابر، وله طرق مختلفة تكلم عليها الألباني في "الصحيحة"(1087).
والنوم جُعِلَ للناس في الدنيا سُباتًا، كما قال تعالى
(1)
. جعل الليل لباسًا والنوم سباتًا، ليسكن الإنسان فيه ويستريح بدنُه من الحركات التي لو دامت عليه لأهلكته
(2)
، ولهذا يغتذي الإنسان بالنوم لاحتياجه إليه، ويقوم من نومه كأنه خُلِقَ جديدًا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من نومه يقول:"الحمد لله الذي أحيانَا بعدما أماتنا وإليه النشور"
(3)
.
والرب تبارك وتعالى منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ، قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}
(4)
، وقال تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
(5)
قالوا: لا يكرثه ولا يثقل عليه.
وإذا كان القيوم الذي لا يزول فقد دخل في ذلك أنه لا يأفل، كما قال الخليل صلى الله عليه وسلم:{لَا أُحِبُّ الْآفِلِين}
(6)
، فإنه من المعلوم أن أفولَ الشمس والقمر والكواكب أبلغُ في النقص من زواله إذا كان الآفل غابَ واحتجبَ، ولم يبقَ له في عابدِه فِعلٌ ولا نفعٌ، ولا يمكن عابدَه أن يُوجهَ وجهَه إليه، بخلاف زوال الشمس، فإنه فيه نقصٌ لها وانخفاض وانحطاط عن حالِ كمالِ ارتفاعِها. والزوالُ بدءُ حصولِ الأفْياءِ المُزِيلة لشعاعها، فإن الظل يكون ممدودًا قبل طلوعها، كما
(1)
في سورة النبأ: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)} .
(2)
في الهامش: "لأفسدته".
(3)
أخرجه البخاري (7395،6325) عن أبي ذر، ومسلم (2711) عن البراء بن عازب.
(4)
سورة ق: 38.
(5)
سورة البقرة: 255.
(6)
سورة الأنعام: 76.
(1)
. فإذا طلعتْ انبسطَ شعاعُها على وجهِ الأرض، ونسخ الظلّ الذي يقع عليه، فنسخ الظلال الشرقية كلها، ولا يزال ينسخ الغربيَّةَ شيئًا بعد شيء حتى تستويَ الشمسُ، فيكون قد نسخ الظلال الشرقية والغربية جميعًا، وهذا غايةُ نسخِ الشمسِ الظلالَ. فإذا زالت انحطت وانخفضت، ففَاءتِ الأفْيَاءُ. والفيءُ اسمٌ للظلّ الذي بعد الزوال، والظل يعمُّ ما قبله وما بعده، لأنه يفيء الفيءُ ويعود، فيعودُ الفيء إلى ناحية المشرق، بعد أن كان قد نسخ عنها، ولا يزال الفيء يَمتدُّ ويَطُولُ كلما انخفضت الشمس إلى أن تغرب، فيعود الظل ممدودًا بأفولها، كما يكون ممدودًا قبل طلوعها، فكان أفولُها غايةَ بطلانِ أثرِها في ذلك الزوال، مبدأ ذلك بالأفول، كما نقصها الذي ابتدأ من الزوال، وكأنه كمالُ زوالِها. ولهذا فُسر دلوكُها بهذا وبهذا في قوله عز وجل:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}
(2)
، فطائفة من السلف قالوا: دلوكها غروبُها، والتحقيق أن الزوال أول دُلوكها، والغروب كمالُ دُلوكها، فمن حين الزوال إلى الغروب دالكة، كما هي زائلة بارحة، ولهذا سُميت "بَرَاح"، ويقال: دلكتْ بَرَاحِ. ولهذا قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ، فالدلوك يتناول الظهر والعصر، وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء، وصلاة العشي
(3)
فيها مشترك عند الحاجة. وكذلك صلاة العشاء، فإن ذلك كلُّه دلوك، وهذا كله
(1)
سورة الفرقان: 45 - 46.
(2)
سورة الإسراء: 78. وانظر: "زاد المسير" (5/ 72) والقرطبي (10/ 303).
(3)
في الهامش: "صلاة الظهر والعصر".
غسق، ولا يجوز تفويت صلاة غسق الليل إلى الفجر لدلوك الغسق الليل، كما لا يجوز تفويت صلاة الفجر إلى غسق الليل
(1)
. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وُترَ أهله وماله"
(2)
. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عملُه"
(3)
. وهي الصلاة الوسطى، كما دلَّ على ذلك الأحاديث الصحيحة
(4)
، وهي بين صلاتَيْ ليلٍ وصلاتَيْ نهارٍ.
فالحيّ القيوم سبحانه وتعالى الذي لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعًا، واسم "القيوم" تضمن أنه لا يزول، ولا ينقصُ شيءٌ من صفاتِ كمالِه، ولا يفنَى ولا يُعدَم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفاتِ الكمال. وهذا يتضمن كونه قديمًا، فالقيوم يتضمن معنى القديم، وزيادات صفات الكمال دوامُها الذي لا يدلُّ عليه لفظ القديم. ويتضمن أيضًا كونَه موجودًا بنفسه، وهو معنى كونه واجبَ الوجود، فإن الموجودَ بغيره كان معدومًا ثم وُجِدَ، وكل مفعولٍ فهو مُحدَثٌ، وتقديرُ قديمٍ أزلي مفعولٍ كما يقوله بعض المتفلسفة باطلٌ في صريح العقل، وهو خلاف ما عليه جماهير العقلاء المتقدمين والمتأخرين.
فالقيوم الذي لم يزل ولا يزال لا يكون إلاّ موجودًا بنفسه،
(1)
في الأصل: "صلاة غسق الليل إلى الفجر"، وهو تكرار لما سبق.
(2)
أخرجه البخاري (525) ومسلم (626) عن ابن عمر، بلفظ "الذي تفوته
…
".
(3)
أخرجه البخاري (594) من حديث بريدة، بلفظ "من ترك صلاة
…
".
(4)
منها حديث علي عند البخاري (2931) ومسلم (627)؛ وحديث ابن مسعود عند مسلم (628)؛ وحديث عائشة عند مسلم (629)؛ وحديث البراء بن عازب عند مسلم (630).