المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ليس فيها حديث ثابت يدل على وقوع الثلاث بكلمة واحدة - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌ هذه المجموعة

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ

- ‌جميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم

- ‌أولياء الله نوعان:

- ‌ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها

- ‌أولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض

- ‌ أولياء الله نوعان:

- ‌من سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله

- ‌الأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية

- ‌ حكم القراءات الشاذة:

- ‌ الجزاء من جنس العمل

- ‌اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت

- ‌ الصبر ثلاثة أقسام

- ‌ أعمال الحج ثلاثة أقسام

- ‌عباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين

- ‌ مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا

- ‌ يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة

- ‌ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع

- ‌نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر

- ‌نظير هذه المسألة في الإجارة

- ‌ الطلاقَ السنّي المباح

- ‌ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم

- ‌ الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه

- ‌ الخلع ليس بطلاقٍ

- ‌ القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين

- ‌جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف

- ‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ حديث العجلاني

- ‌ حديث امرأة رفاعة

- ‌لا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع

- ‌أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة

- ‌ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ

- ‌ طلاق المكره

- ‌ الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة

- ‌ حديث ركانة

- ‌حديث فاطمة بنت قيس

- ‌ما شرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره

الفصل: ‌ ليس فيها حديث ثابت يدل على وقوع الثلاث بكلمة واحدة

والأحاديث في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم‌

‌ ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ

، بل فيها في الصحيح والسنن ما يدلُّ على أن الثلاث بكلمة واحدة لا تكون لازمة لكل من أوقعها. مثل الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وغيرهما

(1)

عن طاوس عن ابن عباس: أن الطلاق كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدةً، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أنّا أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم.

وهذا الحديث بطرقه وألفاظه مذكورٌ في غير هذا الموضع، والذي رواه طاوس كان يفتي بموجبه كما قد ذُكِر في غير هذا الموضع

(2)

. والمقصود هنا حديثُ ركانة

(3)

، فإنه قد احتج به غيرُ واحدٍ من أهل العلم على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ قال: ما أردتُ إلاّ واحدةً. وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة

(4)

.

وحديث ركانة هذا قد ضعَّفه طائفة

(5)

كأحمد وأبي عبيد وابن حزم،

(1)

أخرجه مسلم (1472) وأحمد (1/ 314) وأبو داود (2200) والنسائي (6/ 145).

(2)

انظر: "مجموع الفتاوى"(33/ 8). وقد أخرجه عن طاوس: عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 302) وابن أبي شيبة في "مصنّفه"(5/ 26).

(3)

أخرجه الدارمي (2277) وأبو داود (2208) والترمذي (1177) وابن ماجه (2051) من طريق علي بن يزيد بن ركانة عن جده. وأخرجه أبو داود (2206، 2207) أيضًا من طريق نافع بن عجير عن ركانة.

(4)

انظر: "الأم"(5/ 277).

(5)

قال الترمذي عقب روايته: "هذا حديث لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، وسألتُ =

ص: 283

مع أنه رواه ابن حبان في صحيحه

(1)

. وقال الشافعي

(2)

: عمّي ثقة، وعبد الله بن علي بن السائب ثقة. وأما نافع بن عُجَير فروى عن علي بن أبي طالب وعن ركانة، وروى له أبو داود والنسائي. وهذا الإسناد مع الإسناد الآخر

(3)

الذي رواه أيضًا أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه يُوجب حُسْنَ الحديث، فإنهما إسنادانِ ليس فيهما مُتَّهم، لكن رواته ليسوا معروفين بالعلم، ولا يُعرَفُ لقاء بعضهم بعضًا، كما سيأتي بيانه.

وفي الجملة لو لم يُعارِضْه غيرُه لأمكنِ أن يقال هو حسن أو صحيح على طريقة بعضهم، وأما إذا عارضه ما هو أرجح منه فإنه يُقدَّم الراجح. وقد يُقال: إنه لم يُعارِضْه غيرُه. وطائفة أخرى عارضوه بأنه قد رُوِي فيه أنه طلَّقها ثلاثا. فأما إذا تدبرنا الروايات في هذا الباب وتتبعناها لم نجد بين الحديثين خلافًا، بل في حديث الثلاث دلالة صريحة على أن الثلاث لا تقع بكلمة واحدة، ونحن نذكر ذلك.

قال أبو داود في السنن

(4)

: باب في نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ

= محمدًا (يعني البخاري) عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب". وانظر بيان ضعفه واضطرابه في "إرواء الغليل" (7/ 140 - 143).

(1)

كما في "موارد الضمآن"(1321).

(2)

كما في "تهذيب التهذيب"(9/ 353).

(3)

أشرت إليه عند تخريج الحديث.

(4)

2/ 259 رقم (2195)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 339).

ص: 284

مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)

(1)

الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأتَه فهو أحق برجعتها وإن طلَّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)

(2)

الآية.

قلتُ: هذا مروي عن عائشة وغيرِ واحدٍ من السلف

(3)

. ثم ذكر أبو داود

(4)

حديث طاوس، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتَعلَمُ إنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وثلاثِ من إمارةِ عمر؟ قال ابن عباس: نعم.

وكأنه - والله أعلم - ذكره أبو داود هنا لقولِ من قال: إن هذا الحديث منسوخ، وإنه كان هذا حكمه لمَّا كان الطلاق بغير طلاق.

وهذا من جملة ما حُمِل عليه هذا الحديث، وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا. لكن من المعلوم أن ذلك المنسوخ لم يكن محصورًا بثلاثٍ، بل كان إذا طلقها أكثر من ثلاث راجعَها بغير اختيارها، وكان إذا طلقها ثلاثًا مفترقاتٍ، كلّ واحدةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ جديدٍ، له أن يُراجعَها. وهذا هو المنسوخ بلا ريب، وأما كون الثلاث تُجعَل واحدةً فهذا حكمٌ غيرُ الحكم المنسوخ، إذ المنسوخ لم تُجعَل الثلاث فيه واحدةً، ولا كان الطلاقُ مقصورًا على ثلاثٍ، بل الثلاث والخمس والعشر والواحدة كانت فيه سواءً.

ثم إن ذلك المنسوخ لم يُعمَل به لعدَ نسخِه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

سورة البقرة: 228.

(2)

سورة البقرة: 229.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2/ 273،276) وابن كثير (1/ 279).

(4)

رقم (2200). وسبق تخريجه في أول الرسالة.

ص: 285

ولا أبي بكر ولا خلافةِ عمر، بل قد نزلَ القرآنُ بأنها بعدَ الثالثة تَحرُم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وتواترت بذلك السنة، وشاع ذلك في المسلمين. ولم يكن هذا من جنس تحريم نكاح المتعة الذي خفي على بعضهم، فإن هذا لم ينزل نَسْخُه صريحًا في القرآن، ولا ظَهَرَ أمرُه كظهورِ الطلاق الثلاث، فإن طلاق الرجلِ المرأةَ الطلقةَ الثالثة بعد ثنتين ممّا تكرر وقوعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتَيه، مثل فاطمة بنت قيس لما أرسل إليها زوجها أبو حفص بن المغيرة بآخر ثلاث تطليقات، وكان قد ذهبَ مع علي إلى اليمن

(1)

، وكان هذا في آخرِ الأمر قريبًا من حجة الوداع. وكذلك امرأة رفاعة القُرظي تميمة بنت وهب، لما طلَّقها رفاعة، فأبتّ طلاقَها بالثلاث، ونكحتْ بعده عبد الرحمن بن الزَّبير، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسألُه العودَ إلى رفاعةَ، فقال:"لا، حتى تذوقي عُسَيلتَه ويذوقَ عُسَيلتك"

(2)

.

وكلا القصتين مشهورة ثابتة في الصحيح والمساند والسنن من غيرِ وجه، وهذا بخلاف سِرّ المتعة. فلو كان أحدٌ يُمسِك امرأتَه بعد الطلقة الثالثة لكان ذلك مما يَظهر للمسلمين. وأما المتعة فلما حُرِّمت تركَها مَن علم التحريمَ، ومن لم يَعلَمْه فعلَها قليل منهم وهي تُفْعَل سِرًّا. ولم يَنْقُل أحدٌ أن أحدًا بعد النسخ أمسكَ امرأتَه بعد ثلاثِ تطليقاتٍ، كل طلقةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ، ولا أنه طلَّق بغيرِ عددٍ، مع

(1)

أخرجه مسلم (1480/ 41) وأحمد (6/ 414) وأبو داود (2290) والنسائي (6/ 62،210) من طرقٍ عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة به، وللحديث طرق أخرى في الصحيح والمسند والسنن.

(2)

أخرجه البخاري (2639 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) وغير هما. وللحديث طرق كثيرة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد.

ص: 286

أن الآثار التي فيها أن الطلاق كان بغيرِ عددٍ آثارٌ قليلةٌ خفيةٌ لا يَعلمها جمهورُ الناس، ولم يَروِ أهلُ الصحيح منها شيئًا، وإنما رواها طائفةٌ من أهل السنن والتفسير والفقه.

وأما الآثار بتحليل المتعة في أول الإسلام فهي مشهورة صحيحة معروفةٌ عند المسلمين، فكانت شبهة من اعتقد بقاءَ حِلِّ المتعة من هذه الجهة، ولهذا ذهبَ إلى ذلك طائفة من السلف من أصحاب ابن عباس وغيرهم، إذْ كان ابن عباس أفتى بها. وقد قيل: إنه رجع عنها، وقيل: إنه إنما أفتى بها عند الضرورة، حتى رَوى له علي بن أبي طالب نَهْيَ النبي صلى الله عليه وسلم عنها، كما أخرج ذلك أهلُ الصحيح وغيره

(1)

.

وأما جواز التطليق بغير عددٍ فلم يذهب إليه مسلم، بل هو مما يُعلَم فسادُه بالضرورة من دين الإسلام، فكيف يُقال: إنّ هذا كان بعد النسخ موجودًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؟.

وأيضًا ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أَناة، فلو أنَّا أنفذناه عليهم، فأنفذَه عليهم. فدلَّ ذلك على أنه أنفذَ عليهم ما كانت لهم فيه أناة، فلو كان ما فعلوه هو المنسوخ المحرَّم لم تكن لهم أناة في شيء قد ظهرَ تحريمُه بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع، ولم يكن إنفاذُه عليهم مما يتعلق باجتهاد الأئمة.

ثمَّ ذكر أبو داود في سننه حديثًا ثابتًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أن جَمْعَ الثلاث بكلمة يكون واحدةً، كما في حديث أبي الصَّهباء.

(1)

أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1407).

ص: 287

وذكر ما يُعارِضُه، فقال

(1)

: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، قال: أخبرني بعضُ بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلَّقَ عبدُ يزيدَ - أبو رُكانةَ وإخوتِه - أمَّ رُكانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، فجاءت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يُغْنِي عَنّيْ إلاّ كما تُغني عني هذه الشعرةُ - لشَعرةٍ أخذتْها من رأسِها -، ففَرِّقْ بيني وبينه، فأخَذتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حميَّةٌ، فدعا بركانةَ وإخوتِه، ثم قال لجلسائه:"أتَرون فلانًا يُشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان منه كذا وكذا؟ ". قالوا: نعم، قَال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيدَ:"طَلِّقْها"، ففَعلَ. [ثم] قال:"راجعْ امرأتَك أمَّ ركانَةَ وإخوتِه"، فقال: إني طلَّقتُها ثلاثًا يا رسولَ الله، قال:"قد علمتُ، راجعْها". وتَلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)

(2)

.

قال أبو داود: وحديثُ نافع بن عُجَير وعبد الله بن علي بن يزيد ابن ركانة عن أبيه عن جدّه: أن ركانةَ طلَّق امرأتَه، فردَّها إليه النبي صلى الله عليه وسلم - أصحُّ، لأنهم ولدُ الرجلِ، وأهلُه أعلمُ به

(3)

، إنّ رُكانةَ إنما طلَّق امرأتَه البتَّةَ، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدةً.

ثم روى هذا الحديثَ أبو داودَ

(4)

من طريقِ الشافعي: حدثني عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله

(5)

بن علي بن السائب،

(1)

برقم (2196). وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 390 - 391) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 339).

(2)

سورة الطلاق:1.

(3)

كذا في الأصل و"الإصابة"(2/ 432)؛ وفي السنن: "لأن ولد الرجل وأهله أعلم به".

(4)

برقم (2206).

(5)

في مطبوعة السنن: "عبيد الله"، وهو تصحيف، انظر "التقريب"(3509).

ص: 288

عن نافع بن عُجَير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة طلَّق امرأتَه. وفي لفظِ: عن ركانة بن عبد يزيد أنه طلَّق امرأتَه سُهَيْمةَ البتَّهَ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: واللهِ ما أردتُ إلاّ واحدةً، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"والله ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ " فقال ركانةُ: والله ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فطلَّقها الثانيةَ في زمان عمر، والثالثةَ في زمان عثمان.

ورواه أبو داود

(1)

أيضَا وابن ماجه

(2)

وأبو حاتم بن حِبّان في صحيحه

(3)

من حديث جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جدّه أنه طلَّق امرأتَه البتَّهَ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:"ما أردتَ"؟ قال: واحدة، قال:"آلله"؟ قال: آلله!

قال: "هو على ما أردتَ".

ورواه الترمذي

(4)

: فقلت: يا رسولَ الله! إني طلَّقتُ امرأتي البتَّهَ، فقال: ما أردتَ بها؟ قلتُ: واحدة، قال: والله؟ قلت: والله! قال: فهو ما أردتَ. وقال: لا نَعرِفُه إلاّ من هذا الوجه.

وقال ابن ماجه

(5)

: سمعتُ أبا الحسن الطَّنافسي يقول: ما أشرفَ هذا الحديثَ! قال ابن ماجه: أبو عبيد تركَه ناحيةً، وأحمد جَبُنَ عنه.

(1)

برقم (2208).

(2)

برقم (2051).

(3)

كما في "موارد الظمآن"(1321). وأخرجه أيضا الدارمي (2277) والترمذي (1177) والدارقطني (4/ 33) والحاكم (2/ 199 - 200) والبيهقي (7/ 339).

(4)

برقم (1177).

(5)

برقم (2051).

ص: 289

قال أبو داود

(1)

: وهذا أصحُّ من حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، لأنهم أهلُ بيته، وهم أعلمُ به. وحديثُ ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس.

قلتُ: فجعلَ أبو داود رضي الله عنه القصتينِ واحدةً، وهو كما قال: ويَرِدُ عليه أنه في حديث ابن جريج أنَّ ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، وليس هذا في حديث ابن جريج الذي رواهُ هو، وإنما فيه أن عبدَ يزيدَ - أبَا ركانةَ وإخوتِه - طَلَّقَ أمَّ ركانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، وأنها اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكرتْ أنه عنّين، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن كَذِبَها بأن أولادَها يُشبِهونَه، فدَلَّ على أنهم منه، وأنه ليس بعنّين. ثمَّ إنه أمر عبدَ يزيدَ أبا رُكانةَ أن يُطلِّق هذه المزنية المشتكية، وإنه أمرَه أن يُراجعَ أمَّ رُكانةَ التي طلَّقها ثلاثًا.

هذا هو الذي في حديث ابن جريج، ليس في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا. لكن قد يُقالُ: إن القصة واحدة، وإن هذا الراوي غَلِطَ في بعض ألفاظ القصة في المطلِّق والمطلَّقة، كما يقول من يقول: إنه غَلِط في عدد الطلاق. وقد يقال: من قال هذا لم يكن له أن يقول في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق ثلاثًا، بل هذا يُبيِّن أن قائلَ ذلك لم يتأمَّل الحديثَ حقَّ التأمل، فإذا تأمَّلَهما عَلِأن المنقولَ في هذا الحديث قصة غير المنقول في الآخر، فلا المطلقُ المطلِّقَ، ولا المطلَّقةُ المطلَّقة، فإن المطلقةَ في هذا سُهَيْمةُ امرأةُ رُكانةَ، وهناك أمُّه؛ ولا لفظُ التطليق لفظَ التطليق. وفي هذا من تزويج عبد يزيد لامرأةٍ مُزَنيةٍ، ودعواها عنَّتَه، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم بشَبَهِ أولادِه له، مالا

(1)

2/ 263.

ص: 290

يمكن أن يكونَ في حديثِ رُكانةَ، فإن ركانةَ لم يكن له أولاد أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم يُعَدُّون من الصحابة، وإنما المعدودُ من الصحابة هو وإخوتُه وأبوه، كما في حديث ابن جريج.

لكن يُجَابُ عن هذا بأن عبدَ يزيد أبا ركانةَ لم يذكره في الصحابة الزُبيرُ بن بكّار ولا ابنُ عبد البر ولا غيرهما من المصنفين في الصحابة فيما علمنا

(1)

، بل قال الزبير بن بكار في كتاب "نسب قريش وأخبارها"

(2)

: وولد هاشم بن المطلب بن عبد مناف: عبد يزيد، وأمُّه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف. فولد عبد يزيد بن هاشم: رُكانة وعُجَير وعُبَيد وعُمَير بني عبد يزيد، وأمُّهم العَجِلَة بنت العجلان ونسبها إلى كنانة.

قال: وركانة بن عبد يزيد الذي صارِعَ النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، وكان أشدَّ الناس، فقال: يا محمد! إن صرَعْتَني آمنتُ بك، فصرَعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك ساحر. ثمَّ أسلمَ بعدُ، وأَطْعَمَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسين وَسَقًا بخيبر. ونَزلَ ركانة المدينةَ، وماتَ بها في أول خلافة معاوية

(3)

.

قال: وعُجَير بن عبد يزيد أطعمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين وسقًا

(4)

.

(1)

ذكره الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة"(1/ 360)، وعلَّم له علامة أبي داود، وقال: أبو ركانة طلق امرأته، وهذا لا يصح، والمعروف أن صاحب القصة ركانة.

(2)

لا يوجد في المطبوع منه، ونقله الحافظ في "الإصابة"(2/ 432). وانظر "نسب قريش" للمصعب ص 95 - 96.

(3)

انظر "نسب قريش" للمصعب (ص 96) و"الإصابة"(1/ 521).

(4)

انظر "نسب قريش"(ص 96) و"الإصابة"(2/ 466).

ص: 291

قال: وولد عُبيد بن عبد يزيد: السائب، أُسِرَ يَومَ بدرٍ، وكان يُشبِه بالنبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فقد بيَّن أنَّ ركانة وابنَه كانا من الصحابة، بخلاف أبيه عبد يزيد. وأيضًا فلا يجوز أن يكون في الصحابة من يُسمَّى بهذا الاسم، فتبيَّنَ أن المطلِّقَ ركانةُ لا أبوهُ.

وإذا قال القائل: ما في حديث ابن جريج من قصَّة عبد يزيد أبي ركانة لا يعارضه حديثُ ركانة بوجه من الوجوه، [و] لم يجز دفعُ أحدهما بالآخر، بل يبقى النظر في رواة هذا الحديث، وهم ثقات معروفون إلاّ بعض بني أبي رافع، فإنه يُحتاج إلى معرفتهم، فإنهم ليسوا من ولدِه لصلبه، إذْ ولدُه لصُلبِه عبد الله وعبيد الله كاتب علي رضي الله عنه، وهذان قديمان لا يرويان عن عكرمة، ولا يَروي عنهما ابن جريج.

قيل: هذا الحديث قد رُوِي بإسنادٍ آخر معروفِ الرجال، وهو يُبيِّن أن القصة واحدة، رواه أحمد والبيهقي وغيرهما

(2)

من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، فجَعَل المطلِّق رُكانة. ورواه القاضي الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم من حديث يونس بن بكير، فقال في "كتاب الطلاق": ثنا محمد بن الحسين، ثنا ابن

(3)

، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ركانة طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر "نسب قريش"(ص 96) والإصابة (2/ 11).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 265) والبيهقي (7/ 339). وانظر "الفتح"(9/ 362).

(3)

بياض في الأصل، ولم أتمكن من تحديده، فالمصدر الذي نقل عنه مفقود.

ص: 292

فقال: يا رسولَ الله! طلقتُ امرأتي ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وإني قد وَجَدتُ عليها وَجْدًا شديدًا، فقال:"أتُريد أن ترتجعها"؟ قال: قلت نعم يا رسولَ الله، قال:"فإنما هي واحدة".

وقد رواه البيهقي فقال في "السنن الكبير"

(1)

: وقد رَوى محمد ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزن عليها حُزنًا شديدًا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفَ طلَّقها، قال: طلَّقتُها ثلاثًا، فقال: في مجلسٍ واحد؟ قال: نعم، قال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شِئتَ، فراجعَها. وكان ابن عباس يَرى أنما الطلاق عند كل طُهْرٍ، فتلك السنّة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)

(2)

.

قال البيهقي: أخبرناه أبو بكر بن الحارث، ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا سلم

(3)

بن عصام، ثنا عبيد الله

(4)

بن سعد، ثنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، فذكره.

قال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به حجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس فُتْياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولادِ ركانة أن طلاق ركانة كانت واحدةً.

قلتُ: أما المعارضة بفُتيا ابن عباس ففيها كلامٌ مذكور في موضع آخر

(5)

. وأما حديث أولاد ركانة فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله،

(1)

7/ 339.

(2)

سورة الطلاق:1.

(3)

في البيهقي: "مسلم" وهو تصحيف، انظر:"ذكر أخبار أصبهان"(1/ 337).

(4)

في البيهقي: "عبد الله" وهو تصحيف. انظر: "التقريب"(4323).

(5)

وسيأتي الكلام عليها.

ص: 293

لكن البيهقي ذكر في حديث أن المطلق ركانة، وهو الصواب. وقد رواه أحمد في المسند

(1)

من هذا الوجه فقال: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلَّق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزِن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كيف طلَّقتَها؟ قال: طلَّقتُها ثلاثًا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شئتَ، قال: فرَجَعَها. فكان ابن عباس يرى أنّما الطلاق عند كل طُهر.

وهذا الحديث خرَّجه أبو عبد الله المقدسي في صحيحه

(2)

الذي هو خير من صحيح الحاكم. فقد اتفق يونس بن بكير وإبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق على هذا الحديث، لكن قال أحدهما: إن المطلِّق ثلاثًا أبو ركانة، كما في حديث ابن جريج، وقال الآخر: إنه ركانة. فإن كان المطلق أبا ركانة فلا منافاةَ بينه وبين حديث ركانة في البتةِ، وإن كان المطلق ركانة فهذه الرواية من هذين الوجهين تُعارِض مَن روى أنه قال: لم أطلِّق إلاّ واحدة. ورواة هذا الحديث مشهورون بحمل العلم، بخلاف ذاك، لكن ذاك من روايةِ أهل بيتِه.

ويَعضُد روايةَ من روى أن الطلاق كان ثلاثًا حديثُ ابن عباس الذي في صحيح مسلم

(3)

أن الثلاث كانت تجعل واحدةً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. فهذا يوافقُ رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس من وجهين عن عكرمة يصدق أحدهما صاحبه، فإن عكرمة عن

(1)

1/ 265.

(2)

يقصد به "الأحاديث المختارة"، طبعت منه بعض الأجزاء.

(3)

برقم (1472).

ص: 294

ابن عباس أثبتُ من عبد الله بن علي بن [يزيد بن]

(1)

ركانة عن أبيه عن جدّه. وقد قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء

(2)

. وابن إسحاق يُدخِله أبو حاتم وابن خزيمة وابن حزم في الصحيح.

والبيهقي اعتقد أن القضية واحدة، كما اعتقدها أبو داود، ولكن ما رووه يخالف ذلك، فإما أن يكون الغلط فيما رووه، أو الغلط منهم في فهم ما رووه، ولا ريبَ أنهم صادقون فيما رووه رضي الله عنهم.

وهذا الحديث عَمِلَ به رُواتُه، فكان ابن إسحاق يعمل به، ويقول: إن الثلاث بكلمة واحدةٍ واحدةٌ

(3)

. وكذلك عكرمة راويهِ عن ابن عباس. ورُوِي ذلك عن ابن عباس أيضًا، كما قال أبو داود في سننه

(4)

: وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا بفمٍ واحدٍ فهي واحدة. قال: وروى إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعلَه قولَ عكرمة.

وذكر أبو داود

(5)

عن ابن عباس من ستة أوجهٍ أنه أوقع الثلاث بمن أوقعَها بكلمة واحدةٍ، من رواية مجاهد وسعيد بن جبير ومالك ابن الحويرث وعطاء وعمرو بن دينار ومحمد بن إياس بن البكير.

(1)

زيادة على الأصل لتصحيح الاسم.

(2)

ذكر الخطابي في "معالم السنن"(3/ 122) وعنه المنذري في "مختصر السنن"(3/ 122، 134) أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها.

(3)

حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم كما في "إغاثة اللهفان"(1/ 324)؛ والجصاص في "أحكام القرآن"(1/ 388). وانظر "مجموع الفتاوى"(33/ 8).

(4)

2/ 260.

(5)

في الموضع المذكور قبل قول عكرمة.

ص: 295

وكان عطاء ونحوه يدخلون على ابن عباس مع العامة، وكان طاوس يدخل عليه مع الخاصة، وكذلك عكرمة مولاه كان من خاصَّته. فلهذا حَمَل من حَمَل قول ابن عباس على مثل فعل عمر، من أن هذا من العقوبات التي يجتهد فيها الأئمة، ليس شرعًا لازمًا، وهو عقوبة لمن لم يتقِ الله. ولهذا كان ابن عباس يقول لمن يُفتيه: لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فرجًا ومخرجًا

(1)

.

وأبو داود

(2)

روى حديث حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحدٍ عن طاوس أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثيرَ السؤال لابن عباس قال: أما علمتَ أن الرجلَ كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً، على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى! كان الرجل إذا طفَق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسولِ الله وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى - يعني عمر - الناسَ قد تتايَعُوا فيها قال: أُجِيزُهن عليهم.

ثم روى

(3)

من حديث ابن عُليَّة عن أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهدٍ قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، قال: فسكت حتى ظننتُ أنه رادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2))

(4)

، وإنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتُك، وإن الله قال:

(1)

أخرجه أبو داود (2197).

(2)

برقم (2199).

(3)

برقم (2197)، وهي قبل رواية حماد بن زيد لا بعدها.

(4)

سورة الطلاق: 2.

ص: 296

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ)

(1)

في قُبُل عدتهن.

قلت: لا يُقال مثل هذا الكلام إلاّ لمن علم أن جمعَ الثلاث محرَّمٌ، ثمَّ فَعَلَه عامدًا لفعل المحرَّم، فإنّ هذا لم يتق اللهَ بل تعدَّى حدودَه. أمَّا من لم يعلم أن ذلك محرم، ولا قامتْ [عليه] حجة بتحريم ذلك، ولو عَلِم أنه محرَّم لم يفعله، فن هذا لا يخرج عن التقوى بذلك، ولا يقال له: إنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، ولا يقالُ له: عصيتَ ربك.

ففي فُتيا ابن عباس هذه ونحوها إيقاعُ الثلاث بمثلِ هذا لمَّا تتايَعَ الناسُ فيما نُهُوا عنه، فأجازه عليهم عمر ومن رُوِي أنه وافقه، كعثمان

(2)

وعلي

(3)

وابن مسعود

(4)

وزيد بن ثابت

(5)

وابن عباس

(6)

وابن عمر

(7)

وأبي هريرة

(8)

وعبد الله بن عَمْرو

(9)

وغيرهم الذين أجازوا الثلاث على

(1)

سورة الطلاق:1.

(2)

كما في "مصنف" عبد الرزاق (6/ 394) و"المحلى"(10/ 172).

(3)

أخرجه عنه عبد الرزاق (6/ 394) وابن أبي شيبة (5/ 22) والبيهقي في "الكبرى"(7/ 334 - 335) وابن حزم في "المحلى"(10/ 172).

(4)

أخرجه عنه عبد الرزاق (6/ 394 - 395) وابن أبي شيبة (5/ 22 - 23) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 58 - 59) والبيهقي (7/ 335) وابن حزم (10/ 172).

(5)

لم أجد ذلك مرويًا عنه في المصادر التي رجعت إليها.

(6)

أخرجه عنه مالك في "الموطأ"(2/ 570) وعبد الرزاق (6/ 396 - 397) وابن أبي شيبة (5/ 25) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/ 57 - 58) والدارقطني (4/ 58 - 61) والبيهقي (7/ 335) وابن حزم (10/ 172).

(7)

رواه عنه عبد الرزاق (6/ 395) والدارقطني (4/ 45) والبيهقي (7/ 336).

(8)

أخرجه عنه أبو داود (2198) والطحاوي (3/ 57،58) والبيهقي (7/ 335).

(9)

أخرج ذلك عنه مالك في "الموطأ"(2/ 570) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/ 58) والبيهقي (7/ 335).

ص: 297

الناس المتتايعين فيما نهوا عنه من ذلك، كما وافقوا عمر على أن حَدَّ في الخمر بثمانين لما كثر شُربُ الناس لها واستقلُّوا العقوبةَ بأربعين

(1)

. وكان عمر رضي الله عنه أحيانًا ينفي في الخمر ويحلق الرأس فيُغلظ عقوبتها بحسب الحاجة، إذْ لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم فيها حدّ مقدَّرٌ موقَّتُ القدر والصفة لا يُزاد عليه ولا يُنقَص منه، كما في حدِّ القذف، بل كان قدرُ العقوبة فيها وصفتها موكولةً إلى اجتهاد الأئمة بحسب الحاجة، فمن أدناها أربعون بالجريد والنّعالِ وأطرافِ الثياب، وهذا من أخفّ العقوباتِ قَدْرًا وصفةً، ثمَّ أربعون بالسياط، وهذا أعلى في الصفة دون القدر، ثم ثمانون بالسياط، وهذا أعلى منهما. وهل يُعاقَب فيها بالقتل بعد الثالثة أو الرابعة إذا لم ينتهوا إلاّ بذلك؟ فيه أحاديث ونزاعٌ ليس هذا موضعه

(2)

.

فحديث عبد يزيد أو ركانة مَرويٌّ من هذين الوجهين، وأقلُّ أحوالِه حينئذٍ أن يكون حسنًا، فإن الحسن عند الترمذي هو ما رُوِي من وجهين ولم يُعلَم في رُواتِه متَّهم بالكذب، ولم يُعارِضْه ما يَدُلُّ على غلطه، وهو من أحسنِ ما يحتج به الفقهاء. وقد يقال: هو صحيح، وابن. حبان وإن كان قد صحَّح حديث البتةِ فإنه يصحّح حديث ابن إسحاق هو وغيره كابن خزيمة وابن حَزم وغيرهما،

(1)

انظر "المغني"(12/ 498 - 499).

(2)

أخرجه أحمد (4/ 95،96،100) وأبو داود (4482) والترمذي (1444) وابن ماجه (2573) والحاكم (4/ 372) عن معاوية. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وقبيصة بن ذؤيب وعبد الله بن عمرو وجرير بن عبد الله والشريد وشرحبيل وأبي سعيد الخدري، كما في المصادر السابقة. وقد قيل: إنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو محكم غير منسوخ كما حقق ذلك الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند"(9/ 49 - 92).

ص: 298

وابنُ حزم وغيرُه يُضعِّفون حديث البتّة كما ضعَّفه أحمد رحمه الله. وابن إسحاق إمام حافظ، لكن يُخاف أن يُدَلِّس ويخلط الأحاديث بعضَها ببعض، فإذا قال "حدثني" زالت الشبهة. وقد ذُكِر أن داود بن الحصين حدَّثه وعمل بما حدثه به.

ولا يَسْترِيبُ أهلُ العلم بالحديث أن هذا الإسناد أرجحُ من إسناد البتة، هذا لو انفرد، وأما مع موافقته لحديث أبي الصهباء الذي في صحيح مسلم فإن ذلك ممّا يُؤكِّد الاحتجاج بذلك الحديث، ويردُّ على من عَلَّلَه بما لا يَقدح في صحته، كقولِ من قال: إن ابن عباس رُوِي عنه بخلافِه، فصارَ حديثُ عكرمة يُروَى عن ابن عباس من وجهين، وجهالة الراوي في أحدهما كجهالة أولاد ركانة، فإنهم لا يُعرَفون بعلمٍ ولا حفظٍ. والإسناد الآخر رجالُه من مشاهير أهل العلم والفقه والصدق. وحديث طاوس عن ابن عباس الذي لا ريب في صحته موافق، فصارت الأحاديث بأن الثلاث كانت واحدةً يُصدِّق بعضُها بعضًا، ولم يَروِ أحدٌ من أهلِ العلم حديثًا ثابتًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزَمَ بثلاثٍ مُفَرَّقة.

وقد جاءَ حديث ثالثٌ في الثلاث مجتمعةً، رواه النسائي

(1)

فقال: أخبرنا سليمان بن داود، أبنا ابن وهب، أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعتُ محمودَ بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثَ تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال:"أيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهرِكم"؟! حتى قام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله! أفلا أقَتلُه؟.

(1)

6/ 142.

ص: 299