الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي يقبل الصحة والفساد ليس من باب الأفعال والتأثيرات التي لا يمكن رفعُ موجبها، فإن الطلاق كالنكاح والعتاق والظهار ونحو ذلك مما إذا تكلم به يقع تارةً ولا يقعُ أخرى، ليس وقوعه من لوازم إيقاعِه.
والطلاق عند أصحابنا وغيرهم ينقسم إلى صحيح وفاسد، كما قالوا - واللفظ لأبي الخطاب في "الانتصار" - في مسألة المكره: إنه قولٌ حُمِلَ عليه بغير حق فلم يلزمه حكمُه كالإقرار بالطلاق. قال: وهذا لأن لفظ
الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ
، وليس نفوذُه أمرًا محسوسًا لا مردَّ له، فإذا كان محمولاً عليه بالباطل كان مردودًا، لأن الشرع يحكم في الرد والقبول، وقرَّر ذلك.
وأما من قال: إن
طلاق المكره
يقع، كما يقول أبو حنيفة، فإنه يقول مالا يقبل الرفع، كالنكاح والعتاق والخلع، فإنه كالفعل يَنْفُذ مع الإكراه، بخلاف ما يقبل الرفع كالبيع والإجارة والهبة. وعندنا الجميع يقبل الرفع، وإذا كان كذلك فمحرَّمُه يقع فاسدًا.
فإن قيل: لو أوقعه سُنيا لغير حاجة؟.
قيل: فإن الإنسان أخبرُ بمصلحة نفسِه، فإذا أوقعه على الوجه المشروع لم يمكن أن نقول: ذلك محرَّمٌ عليه.
فإن قيل: فأنتم تقولون: الطلاق لغير حاجةٍ محرمٌ أو مكروه وإن كان سُنيا.
قيل: هذا كلامٌ مجمل، ولابدّ من تفصيله. قيل: هذا السؤال يَرِدُ على الجمهور الذين قالوا بان الثلاث يحرمُ جمعُها، فإن هؤلاء قالوا: إن الطلاق لغير حاجةٍ محرَّمٌ، والحاجة لا تدعو إلاّ إلى واحدةٍ. ثم لمّا أُورِدَ عليهم هذا السؤال قالوا: العاقل لا يتكلف النكاح والتزام
المهر وحقوق النكاح ثم يُقدِم على الفراق إلاّ لحاجتِه إليه، إمّا لعدم إرادتِه للمرأة وعدم محبتِه لها؛ أو لعدم حصولِ مقصوده بنكاحهِ بها: لكونها ممتنعةً منه، أو لكونها تكلِّفه ما يضره، أو لكون أهلها يكلفونه ذلك؛ أو لبغضِه لها: إما بُغضًا لصورتها أو لخُلُقها أو لدينها أو لِظلمِها له؛ أو لغير ذلك. فأما مع كونه مريدًا لها إرادةً راجحةً على كراهتها فلا يَقصِد إيقاعَ الطلاق أصلاً.
ولهذا لم يقع الطلاقُ إلاّ ممن له قصدٌ صحيح يَقصِد به مصلحتَه، فلم يقع بالمجنون بالاتفاق، وإن كان يتكلم باختياره ويفعل باختياره، فإن البهائم تفعل باختيارها، فكيف المجنون، لكن لمّا تغيَّر عقلُه الذي يُوجب أن لا يُميّز بين قصد ما ينفعه وما يَضُرُّه لم يقع به الطلاقُ باتفاق المَسلمين. وكذلك لا يقع بالنائم والمُبَرسَم ولا بمن زالَ عقلُه بغير فعل محرّم منه كالمغمى عليه، بالاتفاق.
ولكن تنازع المسلمون في السكران، والذي نصرناه في غير هذا الموضع
(1)
أنه لا يقع به أيضًا، كما هو قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وعقبة بن عامر، ولم نعلم أنه ثبت عن صحابي خلافُ ذلك صريحًا، وهو قول طوائف من أئمة التابعين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها أئمة من أصحابه، كأبي بكر الخلال وأبي الخطاب وغيرهما، وهو طرد ما ذكرناه من الطلاق إذا كان إنما أبيح للحاجة، وهي جلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة، فلم يقع إلاّ ممن له قصد صحيح يَجلِبُ به المنفعةَ ويَدفَعُ به المضرَّةَ، وحينئذٍ فإقدامُه عليه دليلُ الحاجةِ.
(1)
انظر "مجموع الفتاوى"(33/ 102 - 109، 38 - 43، 14/ 115 - 118).
وأما الهازِلُ فذاك لزمه عند من يقول به، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، كما يلزم الكفر لمن تكلم به مستهزئًا، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، لئلّا يستهزئ أحدٌ بآيات الله. وهذا إذا قيل عوقب به كانت العقوبة تدفع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، كما أن تكفير المسلم بآيات الله هزوًا يمنع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، فكان في إيقاع الطلاق به زوال هذه المفسدة، وكان ما حصل له من الضرر ضررًا بمن يستحق هذا الضرر، بخلاف المكرَه وبخلاف السكران، فإن ذنبه هو الشرب، ليس ذنبه إيقاع الطلاق، والشارع لا يعاقبه على الشرب بالتزام ما يمكن أن يتكلم به، ولو كان ذلك لعاقبَه بالقتل، لأن السكران قد يتكلم بالكفر، كما قد يتكلم بالطلاق.
وعلى هذا فإذا قالوا: الطلاق لغير حاجةٍ محرَّم أو مكروه، قالوا: إن الطلاق الشرعي مباح مأذون فيه. وهذا معنى قوله: "أبغض الحلال إلى الله الطلاقُ"
(1)
، أي أبغض ما أُبيحَ للحاجة وهو محرَّم بَغِيض إلى الله بدونها: الطلاقُ، كما تقول: أبيحت المحرَّمات للمضطر، أي أبيح له عند الضرورة ما كان محرَّمًا بدونها، ليس المراد به أن الشيء في حالٍ واحدةٍ يكون حلالا حرامًا، كذلك الشيء في حالٍ واحدةٍ لا يكون بغيضًا إلى الله مأذونًا فيه من جهته، فإن هذا تناقضٌ.
فصل
ومما يُبين هذا أن الله إذا كان يُحب شيئًا فإنه يأمر به أمرَ إيجاب
(1)
أخرجه أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) عن ابن عمر مرفوعًا. وهو ضعيف موصولاً، والمشهور فيه أنه عن محارب مرسلاً. انظر الكلام عليه في "إرواء الغليل"(2040).
أو استحباب، أمرًا يُيَسر أسبابَه، فإنه ما لا يتم المأمور به إلاّ به فهو مأمور به، وإذا كان يكرهه فهو ينهى عنه نهيَ تحريمٍ أو نهيَ تنزيهٍ، والنكاح في الأصل حسن مأمور به، وأدنى أحوالِه الإباحة، لا ينهى عنه إلاّ لمعارضٍ راجح: كالعجز عن واجباته أو الاشتغال به عما هو أوجبُ منه، كما إذا تعارض الحج المتعيِّنُ والنكاحُ فإنه يُقدّم الحج ونحو ذلك. والطلاق منهي عنه إلاّ لحاجةٍ كما قد عُرِف، فالذي يُناسِب ذلك تيسيرُ حصول النكاح وتشديد حصول الطلاق، كما قال تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)
(1)
، فأمر بالتعاون على ما يحب، ونهى عن التعاون على ما يكره. وطائفة من الناس يعكسون الأمر، فتجدهم يشدّدون النكاح ويُصعِّبون صحتَه، فلا يوقعون ما يحبه الله إلاّ بشرائط كثيرة، وكثير منها لا أصل له في الكتاب والسنة، كاشتراطِ بعضهم لفظَينِ معينَينِ، وهو الإنكاح والتزويج؛ واشتراط بعضهم أن يكون ولي المرأة عدلاً؛ واشتراط بعضهم حضورَ شاهدينِ عدلين مبرزينِ؛ واشتراط بعضهم في صحتِه الكفاءةَ في النسب والدين واليسار والصناعة والحرّية؛ واشتراط بعضهم أن يكون القبول عقب التلقظ بالإيجاب. وهذه الشروط ونحوها لا أصل لها، بل الأصول والنصوص تدلُّ على بطلان اشتراطها.
ثمَّ إن طائفةً من الناس يشدِّدون في انعقاده، ويُعيدون اللفظ على العاميّ مرتين أو ثلاثًا، ويزيدون على ما ذكره الفقهاء أمورًا من جنس الوسواس الذي يزيدونه في نيات العبادات. ثم الطلاق الذي يبغضه الله لغير حاجة تجدهم سِراعًا إلى وقوعِه، فيُوقِعونَه على المكرَه والسكران والحالف الحانث الناسي والمكره والجاهل وغير هؤلاء.
(1)
سورة المائدة: 2.
هذا مع أن الشارع يُضَيق إيقاعَه، فنهى عن إيقاعه في الحيض وفي طهرٍ أصابها فيه، وعن إيقاع الثلاث جملةً، بل أمر أن لا يطلق إلاّ واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ولا يُردِفَها بطلاقٍ حتى تقضي العدة إن لم يكن له غرض في رجعتها. وهذا من الشارع تضييق لوقوعه.
والنكاح يُشرَع وقتَ حيضِ المرأة ونفاسِها وصومِها واعتكافِها وصومِ الرجلِ واعتكافِه، وإن كان الوطء متعذرًا، ويُشرَع في الأوقات الفاضلة. فالواجب منعُ وقوع ما يُبغِضه الله إلاّ حيث يكون في وقوعه مصلحة راجحة، وتيسيرُ وقوع ما يحبه الله إلاّ إذا كان في وقوعه مفسدة راجحة، وحيث لا تكون مصلحة وقوعِه راجحةً فالأصول تقتضي أنه لا يقع، لأن الشارع لا يُوقع إلاّ ما تكون مصلحته محضة أو راجحةً، وما كان مفسدتُه محضةً أو راجحةً فإنه يَرفعُه ولا يُوقِعه.
والله أعلم.
(نقلته من خط مصنفه شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله.
قُوبل بالأصل بعد نقله منه).
***
فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة
سئل شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني - قدَّس الله روحَه ونوَّر ضريحَه - عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة، فهل يقع به واحدة أم ثلاث؟.
فأجاب:
أما جمع الطلقات الثلاث فمحرَّم عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه واختيار أكثر أصحابه، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي - يعني طلاقَ المدخولِ بها - غير قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)
(1)
.
وعلى هذا القول فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة، بأن يفرِّق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلّقها في كل طهرٍ طلقةً؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة.
والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه، كأبي بكر عبد العزيز والقاضي أبي يعلى وأصحابه.
والقول الثاني: إن جمع الثلاث ليس بمحرَّم، بل هو ترك الأفضل، وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، واختارها الخِرقي.
واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلَّقها زوجها أبو حفص بن المغيرة
(1)
سورة البقرة: 230.
ثلاثًا، وبأن امرأةَ رفاعة طلَّقها زوجُها ثلاثًا، وبان الملاعن طلق امرأته ثلاثًا ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك
(1)
.
وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة فيه أنه طلقها ثلاثًا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة كانت آخر ثلاثِ تطليقات، لم يطلق ثلاثًا لا هذا ولا هذا. وقول الصحابي "طلَّقَ ثلاثًا" يتناول ما إذا طلَّقها ثلاثًا متفرقات، بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها. وهذا طلاق سنّي واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثًا. وأما جمعُ الثلاث بكلمةٍ فهذا كان منكرًا عندهم، إنما يقع قليلاً، فلا يجوز حملُ اللفظِ المطلقِ على القليل المنكر دون الكثير المحق، ولا يجوز أن يقال طلق ثلاثًا مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قولٌ بلا دليل، بل بخلاف الدليل.
وأما الملاعن فإن طلاقه وَقَع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة، التي تحرم بها المرأة أعظم ما تحرم بالطلقة الثالثة، فكذا مؤكدًا لموجب اللعان. والنزاعُ إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، ولاسيما النبي صلى الله عليه وسلم قد فرَّق بينهما، فإن كان قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها فدلَّ على بقاء النكاح.
واستدلَّ الأكثرون بأنّ القرآن يدلُّ على أن الله لم يُبِح إلاّ الطلاق الرجعي وإلاّ الطلاق للعدَّة، كما في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)
(2)
،
(1)
سبق ذكر هذه الأحاديث وكلام المؤلف عليها بتفصيل.
(2)
سورة الطلاق: 1 - 2.
وهذا إنما يكون في الرجعي. وقوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يدل على أنه لا يجوز إردافُ الطلاق الطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، وإنما أباح الطلاق للعدة، أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية أو الثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، فلنم تستأنفها باتفاق المسلمين، وإن كان فيه خلاف شاذ عن خِلاس وابن حزم قد بيّنا فساده في موضع آخر. فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة.
ولأنه قال: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، فخيَّره بين الرجعة وبين أن يدعها حتى تنقضي العدة، فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان، وقد قال:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ)
(1)
، فهذا يقتضي أن هذا حال كلّ مطلقة، فلم يشرع إلاّ هذا الطلاق. ثم قال:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) أي هذا الطلاق المذكور مرتان، وإذا قيل: سبّح مرتين أو ثلاث مرات، لم يجز أن يقول:"سبحان الله مرتين"، بل لابدّ أن ينطق بالتسبيح مرةً بعد مرة، وكذلك لا يقال: طلق مرتين إلاّ إذا طلق مرةً بعد مرة. فإذا قال: أنت طالقة ثلاثًا أو طلقتين لم يجز أن يقال: طلَّق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلَّق ثلاثَ تطليقاتٍ أو طلقتين، لكن يقال: طلَّق مرةً واحدة.
وقال بعد ذلك: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)
(2)
، فهذه الطلقة الثالثة، فلم يشرعها الله إلاّ بعد الطلاق الرجعي مرتين، وقد
(1)
سورة البقرة: 228.
(2)
سورة البقرة: 230.