الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في مجمل مواضع الفصل
(1)
من حق الجُمل: إذا ترادفت ووقع بعضها إثر بعض: أن تُربط بالواو لتكون على نسق واحد - ولكن قد يعرض لها ما يُوجب ترك الواو فيها: ويسمى هذا فصلا - ويقع في خمسة مواضع.
الأول - أن يكون بين الجملتين اتحادٌ تام: وامتزاج معنوي، حتى كأنهما أفرغا في قالب واحد، ويسمى ذلك «كمال الاتصال»
الثاني - أن يكون بين الجملتين تباينٌ تامٌ: بدون إبهام خلاف المراد ويُسمى ذلك «كمال الانقطاع»
الثالث - أن يكون بين الجملتين رابطة قوية، ويُسمى ذلك «شبه كمال الاتصال»
الرابع - أن يكون بين الجملة الأولى والثاني (جملةٌ أخرى ثالثة متوسطة) حائلة بينهما
فلو عُطفت الثالثة على «الأولى المناسبة لها» لتوهم أنها معطوفة على «المتوسطة» فُيترك العطف، ويسمى ذلك «شبه كمال الانقطاع»
الخامس - أن يكون بين الجملتين تناسب وارتباط، لكن يمنع من عطفهما مانع: وهو عدم قصد اشتراكهما في الحكم، ويسمى ذلك «التوسط بين الكمالين»
المبحث الثالث
في تفصيل مواضع الفصل الخمسة السابقة
أحياناً: تتقاربُ الجُملُ في معناها تقارباً تاما، حتى تكون الجملة الثانية كانها الجملة الأولى، وقد تنقطع الصَّلة بينهما
إمَّا: لاختلافهما في الصورة، كأن تكون إحدى الجملتين إنشائية والأخرى خبرية.
وإمّا لتباعد معناهما، بحيث لا يكون بين المعنيين مُناسبة، وفي هذه الأحوال يجب الفصلُ في كل موضع من المواضع الخمسة الآتية - وهي:
الموضع الأول - «كمال الاتصال» وهو اتحادُ الجملتين اتحاداً تاماً: وامتزاجاً معنوياً - بحيث تُنزَّل الثانية من الأولى منزلةَ نفسها.
«أ» بأن تكون الجملة الثانية بمنزلة البدل من الجملة الأولى، نحو:(واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين)(2)
«ب» أو: بأن تكون الجملة الثانية بيانا لإبهام في الجملة الأولى كقوله تعالى (فَوَسوسَ إليه الشيطانُ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد) فجملة (قال يا آدم) : بيان لما وسوس به الشيطان اليه.
(1) الفصل: ترك الربط بين الجملتين: إما لأنهما متحدتان صورة ومعنى، أو بمنزلة المتحدتين: وإما لأنه لا صلة بينهما في الصورة، أو في المعنى.
(2)
هذا في بدل البعض - وأما في بدل الكل: نحو قوله تعالى دبل قالوا مثل ما قال الأولون، قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) فجملة (قالوا آئذا متنا وكنا تراباً) كالبدل المطابق - وأما بدل الاشتمال فنحو قوله أقول له أرحل لا تقيمن عندنا وإلا: فكن في السر والجهر مسلماً فجملة لا تقيمن بمنزلة البدل في جملة (ارحل) بدل اشتمال لأن بينهما مناسبة بغير الكلية والجزئية.
«جـ» أو: بأن تكون الجملة الثانية مؤكدة للجملة الأولى (بما يشبه أن يكون توكيدا لفظياً أو معنوياً) كقوله تعالى (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) وكقوله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا) فالمانع من العطف في هذا الموضع اتحادالجملتين اتحاداً تاماً يمنع عطف الشيء على نفسه «ويوجب الفصل» .
الموضع الثاني - «كمال الانقطاع» وهو اختلاف الجملتيت اختلافاً تاماً.
«أ» بأن يختلفا خبراً وإنشاء: لفظاً ومعناً، أو معنى فقط، نحو: حضر الأمير حفظه الله، ونحو: تكلم إني مصغ اليك - وكقول الشاعر:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها فحتفُ كل امرىء يجري بمقدار (1)
«ب» أو: بألا تكون بين الجملتين مناسبة في المعنى ولا ارتباط، بل كل منهما مستقل بنفسه - كقولك: عليّ كاتب - الحمام طائر، فاُنه لا مناسبة بين كتابة عليّ وطيران الحمام.
وكقوله: إنّما المرء بأصغريهِ كل امرىء رهنٌ بما لديه
فالمانع من العطف في هذا الموضع «أمر ذاتي» لا يمكن دفعه أصلا وهو التباين بين الجملتين، ولهذا وجب الفصل، وترك العطف.
لأنَّ العطف يكون للربط، ولا ربط بين جملتين في شدَّة التباعد وكمال الانقطاع.
الموضع الثالث - «شبه كمال الاتصال» وهو كون الجملة الثانية قوية الارتباط
بالأولى، لوقوعها جواباً عن سؤال يفهم من الجملة الأولى فتُفصلُ عنها، كما يفصل الجواب عن السؤال - كقوله تعالى:
(وما أبرىءُ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)(2) - ونحو: قول الشاعر
زعم العوازل أنني في غمرة صدقوا، ولكن غمرتي لا تنجلي
(1) أي أوقفوا السفينة كي نباشر الحرب، ولا تخاافوا من الموت، فان لكل أجل كتابا - أي فالمانع من العطف في هذا الموضع أمر ذاتي لا يمكن دفعه أصلا، وهو كون إحداهما جملة خيرية، والأخرى إنشائية، ولا جامع بينهما.
(2)
الجملة الثانية شديدة الارتباط بالجملة الأولى لأنها جواب عن سؤال نشأ من الأولى، لم لا تبرىء نفسك؟ ؟ فقال «إن النفس لأمارة بالسوء، فهذه الرابطة القوية بين الجملتين مانعة من العطف، فأشبهت حالة اتحاد الجملتين - وبذلك ظهر الفرق بين كمال الاتصال، وشبه كمال الاتصال.
«ط» كأنه سئل: أصدقوا في زعمهم أم كذبوا؟ ؟ فاجاب: صدقوا» (1)
ونحو: السيف اصدق أنباء من الكتب في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعبِ
فكأنه استفَهم، وقال: لمَ كان السيف أصدق؟ ؟ : فأجاب بقوله: في حده: الخ
(1) وبيان ذلك بعبارة أخرى أنه إذا اجتمعت جملتان: فذلك على خمسة أحوال أولا - أن تكون الثانية بمعنى الأولى، أو جزءاً منها، فيجب ترك العطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وكذا الجزء لا يعطف على كله.
فيقال حينئذ: إن بين الجملتين كمال الاتصال - ومواضعه:
«أ» أن تكون الثانية توكيداً للاولى - مثل قوله تعالى (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم)
«ب» أن تكون الثانية بدلا من الأولى - مثل أطعت الله - أديت الصلاة.
«جـ» ان تكون الثانية بياناً للأولى - مثل بثني شكواه، قال إني لا أجد قوت يومي.
ثانياً - أن تكون الثانية مباينة للاولى تمام المباينة، فيجب ترك العطف لأن العطف يكون للربط، ولا ربط بين المتباينين، فيقال بين الجملتين كمال الانقطاع، ومواضع ذلك.
«أ» أن تختلفا خبراً وإنشاء مثل - مات فلان، رحمه الله.
إلا إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود فيجب العطف نحو لا وشفاك الله «ب» أن تنحدا خبرا وإنشاء، ولكن لا يوجد بينهما رابط، مثل القمر طالع - أكلت كثيرا
ثالثاً - أن تكون الجملتان متناسبتين وبينهما رابطة، ويسمى ذلك التوسط بين الكمالين - وذلك على نوعين
«أ» ألا يمنع من العطف مانع فيعطف - مثل اجتهدوا وتأدبوا.
«ب» أن يمنع من العطف مانع وهو عدم قصد التشريك في الحكم، فيمتنع العطف مثل قوله تعالى (وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مشتهزئون الله يستهزىء بهم)
رابعا - أن تكون الثانية قوية الرابطة بالاولى، لانها جواب عن سؤال يفهم من الاولى، فهذه الرابطة القوية تمنع العطف، لأنها أشبهت حالة اتحاد الجملتين (ويسمى ذلك (شبه كمال الاتصال) - مثل رأيته مبتسما، أظنه نجح)
خامساً - أن تكون الأخيرة مناسبة للاولى، ولا مانع من عطفها عليها، ولكن يعرض حائل بينهما، وهو جملة أخرى ثالثة متوسطة، فلو عطفت الثالثة على الأولى لمناسبة لها، لتوهم أنها معطوفة على المتوسطة، فامتنع العطف بتاتا، وأصبحت الجملتان كأنهما منقطعتان بهذا الحائل - ويسمى ذلك (شبه كمال الانقطاع)، نحو: قول الشاعر
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها فيِ الضلال تهيم
واعلم أن التركيب الذي تجاذبت فيه أسباب الوصل وتعاضدت دواعيه قد يفصل إما لمانع من تشريك الجملة الثانية مع الأولى ويسمى قطعا كما سبق، وإما لجعله جواب سؤال مقدر لأغناء السامع عنه، أو لكراهة سماعه له لو سأل، أو لكراهة انقطاع كلامه بكلام السائل، أو للاختصار، ويسمى الفصل لذلك استئنافا - كقوله:
في المهد ينطق عن سعادة جده أثر النجابة ساطع البرهان
على تقدير أنه جواب - كيف ينطق؟ ؟ وهو رضيع لم يبلغ أوان النطق!»
فالمانع من العطف في هذا الموضع وجود الرابطة القوية بين الجملتين فأشبهت حالة اتحاد الجملتين - ولهذا (وجب أيضاً الفصل)
الموضع الرابع «شبه كمال الانقطاع» وهو أن تُسبق جملة بجملتين يصحُ عطفها على الأولى لوجود المناسبة، ولكن في عطفها على الثانية فساد في المعنى، فيُترك العطف بالمرَّة: دفعاً لتوهّم أنه معطوف على الثانية - نحو
وتظُن سلمى أنَّني أبغى بها بدلاً أراها في الضلال تَهيمُ
فجملة «أُراها» يصحّ عطفها على جملة «تظنُ» لكن يمنع من هذا توهّم العطف على جملة «أبغي بها» فتكون الجملة الثالثة من مظنونات سلمى مع أنه غير المقصود - ولهذا امتنع العطف بتاتاً (ووجب أيضاً الفصل) .
والمانع من العطف في هذا الموضع «أمر خارجي احتمالي» يمكن دفعه بمعونة قرينة» - ومن هذا: وممّا سبق، يُفهم الفرق بين كل من «كمال الانقطاع - وشبه كمال الانقطاع»
«الموضع الخامس - التَّوسط بين الكمالين مع قيام المانع» وهو كون الجملتين مُتناسبتين: وبينهما رابطة قوية - لكن يمنع من العطف مانع، وهو عدم قصد التشريك في الحُكم - كقوله تعالى (وَاذا خَلَوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معَكم إنّما نحنُ مُستهزئون الله يستهزىء بهم»
فجملة «الله يستهزىء بهم» لا يصح عطفها على جملة إنّا معكم» لاقتضائه أنه من مقول المنافقين: والحال أنه من مقولة تعالى «دعاء عليهم» ولا على جملة «قالوا» لئلا يُتوهم مشاركته له في التقييد بالظرف - وأن استهزاء الله بهم مقيد بحال خُلوّهم إلى شياطينهم «والواقع أن استهزاء الله بالمنافقين غيرُ مقيد بحال من الأحوال - ولهذا (وجب أيضاً الفصل)
تنبيهان
الأول - لمّا كانت الحال تجىء جملة، وقد تقترن بالواو، وقد لا تقترن فأشبهت الوصل والفصل، ولهذا يجب وصل الجملة الحالية بما قبلها بالواو إذا خلت من ضمير صاحبتها - نحو جاء فؤاد والشمس طالعة (1)
ويجب فصلها في ثلاثة مواضع
(1) بيان ذلك أن الحال إما مؤكدة - فلا واو: للاتحاد بين الجملتين لأنها مقررة لمضمونها نحو سعد أبوك كريم وإما متنقلة - لحصول معنى حال النسبة (أي نسبة العامل إلى صاحب الحال) فلزم فيها أمران، الحصول والمقارنة: فالحال المفردة صفة في المعنى، فلا تحتاج لواو للاتحاد وأما الحال الجملة - فالمضارع المثبت لا يؤتى له بواو للارتباط معنى، لوجود الحصول والمقارنة معا، فلا حاجة للربط بها - نحو (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) - ونحو، قدم الأمير تتسابق الفرسان أمامه، ولا يجوز وجاؤا أباهم عشاء ويبكون، ولا قدم الامير وتتسابق وهذه إحدى المسائل السبع المذكورة في النحو التي تمتنع فيها الواو
الثانية - الحال الواقعة بعد عاطف نحو (فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) .
الثالثة - المؤكدة لمضمون الجملة - نحو (هو الحق لا شك فيه، ذلك الكتاب لا ريب فيه)
الرابعة - الماضي التالي إلا - نحو ما تكلم زيد الا قال خيراً - وقيل يجوز اقترانه بالواو - ما ورد في قوله:
نعم امرؤ هرم لم تعر نائبة إلا وكان لمرتاع وزرا
الخامسة - الماضي المتلو باو، نحو - لأضربنه ذهب أو مكث - ومنه قول الشاعر
كن للخليل نصيراً جار أو عدلا ولا تشح عليه جاد أو بخلا
السادسة - المضارع المنفي بلا - نحو وما لنا لا نؤمن بالله، ما لي لا أرى الهدهد - وقوله
لو أن قوما لارتفاع قبيلة دخلوا السماء دخلتها لا أحجب
السابعة - المضارع المنفي بما - كقوله:
عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة فما لك بعد الشيب صبا متيماً
وأبعد الجمل في الصلاح للحالية الجملة الأسمية لدلاتها على الثبوت - لا على الحصول والمقارنة، فيجب فيها الواو - نحو (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) وقد يكتفى فيها بالضمير ندورا - نحو كلمته فوه إلى في - أي مشافهة - ثم الماضي مثبتا لعدم المقارنة فيحسن معها الواو، لان الماضي يدل على الحصول المتقدم لا الحصول حال النسبة.
وتجب «قد» تحقيقا أو تقديراً - لتقربه من الحال، أي لتجعل (قد) الفعل الماضي الدال على حصول متقدم - لا حصول حال النسبة قريبا من حال النسبة، لا من حال التكلم - إذ اللازم في الحال مقارنتها لزمان النسبة لا لزمان التكلم - وإنما اكتفى بهذا التقريب في صحة الحال وان كان اللازم الاقتران - إما لانه ينزل قرب الحال إلى زمان النسبة منزلة المقارنة مجازاً - وإما لانه يعتبر قربها في الفعل هيئة للفعل - فاذا قلت جاءني زيد وقد ركب - فكأنك نزلت قرب ركوبه من مجيه منزلة مقارنته له - أو جعلت كون مجيئه بحيث يقرب منه ركوبه هيئة لمجيئه، وحالا له - قالوا - وتمتنع (قد) مع الماضي الممتنع ربطه بالواو، وهو التالي إلا والمتلو بأو - لكن في (شرح الرضي) - أنهما قد يجتمعان بعد إلا - نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني، ويلي الماضي المثبت، الماضي المنفي، لأنه هيئة للفعل بالتأويل، لان قولك جاء زيد ليس راكبا - في قوة جاء زيد ماشيا، فيتحقق الحصول ويستمر غالباً، فيقارن كذلك فيحسن ترك الواو نظراً إلى تحقق الحصول والمقارنة - ويجوز ذكرها أيضا نظراً إلى كونه ما كان هيئة للفعل الا بعد تأويل - ونظراً إلى كون استمراره أغلبياً لا دائمياً والأحسن في الظرف اُذا وقع حالا ترك الواو نظراً للتقدير بمفرد، تقول نظرت الهلال بين السحاب، ومثله الجار والمجرور ن نحو فخرج على قومه في زينته - ونحو أبصرت البدر في السماء - وان جوزوا الواو بتقدير فعل ماض، وما يخشى فيه التباس
الحال بالصفة أتى فيه بالواو وجوباً، ليتميز الحال، فيقال جاء رجل ويسعى - إذا لو قيل: يسعى - لالتبس الحال بالصفة في مثله.
(1)
إذا كان فعلها ماضياً تالياً «إلا» - أو وقع ذلك الماضي قبل «أو» التي
للتسوية - نحو ما تكلّم فؤاد إلا قال خيراً - وكقول الشاعر
كُن للخليل نَصيراً جارَ أو عدلا ولا تَشحّ عليه جاد أو بخلا
(2)
إذا كان فعلها مضارعا مُثباً أو منفياً «بما - أو - لا» نحو: (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) ونحو: (وَما لنا لا نؤمن بالله) ونحو:
عهدتُ: ما تصبو وفيك شبيةٌ فما لكَ بعد الشيب صبَّا مُتيَّما
(3)
إذا كانت جملة اسمية واقعة بعد حرف عطف - أو كانت اسمية مؤكدة لمضمون ما قبلها - كقوله تعالى (فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون) وكقوله تعالى (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)(1)
الثاني - علم مما تقدّم أن من مواضع الوصل اتفاق الجملتين في الخبرية والانشائية - ولابد مع اتفاقهما من (جهة) بها يتجاذبان، وأمر (جامع) به يتآخذان، وذلك (الجامع) : إما - عقلي (2) - أو: وهمي (3)
(1) لما كان قوله (ذلك الكتاب) فيه مظنة مجازفة بسبب ايراد المسند إليه اسم إشارة - والمسند معرفا بال - أكده بقوله (لا ريب فيه) تأكيداً معنويا، ولما كانت الدعوى المذكورة مع إدعاء عدم المجازفة مظنة استبعاد - أكده بقوله «هدى للمتقين» تأكيداً لفظياً - حتى كأنه نفس الهداية.
(2)
فالجامع العقلي - أمر بسببه يقتضي العقل إجتماع الجملتين في القوة المفكرة كالاتحاد في المسند: أو المسند إليه - أو في قيد من قيودهما - نحو زيد يصلي ويصوم ويصلي زيد وعمرو.. وزيد الكاتب شاعر، وعمرو الكاتب منجم، وزيد كاتب ماهر، وعمرو طبيب ماهر - وكالتماثل والاشتراك فيهما - أو في قيد من قيودهما أيضا يحيث يكون لاتماثل له نوع اختصاص بهما أو بالقيد - لا مطلق تماثل - فنحو زيد شاعر وعمر وكاتب لا يحسن إلا إذا كان بينهما مناسبة، لها نوع اختصاص بهما - كصداقة أو أخوة أو شركة أو نحو ذلك - وكالتضايف بينهما، بحيث لا يتعقل أحدهما الا بالقياس إلى الآخر، كالأبوة مع البنوة - والعلة مع المعلول - والعلو والسفل - والأقل والأكثر - إلى غير ذلك.
(3)
والجامع الوهمي - أمر بسببه يقتضى الوهم اجتماع الجملتين في المفكرة، كشبه التماثل الذي بين نحو لوني البياض والصفرة - فان الوهم يبرزهما في معرض المثلين من جهة أنه يسبق إليه أنهما نوع واحد، زائد في أحدهما عارض في الآخر - بخلاف العقل فانه يدرك أنهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس واحد، هو اللون - وكالتضاد بالذات - وهو التقابل بين أمرين وجوديين بينهما غاية الخلاف - يتعاقبان على محل واحد - كالسواد والبياض - أو التضاد بالعرض كالاسود والأبيض - لأنهما ليسا ضدين لذاتهما لعدم تعاقبهما على محل واحد - بل بواسطة ما يشتملان عليه من سواد وبياض - وكشبه التضاد كالسماء والأرض - فان بينهما غاية الخلاف ارتفاعاً وانخفاضاً، لكن لا يتعاقبان على محل واحد، كالتضاد بالذات، ولا على ما يشمله كالتضاد بالعرض..
- أو: خيالي (1)
تمرين آخر
عين أسباب الوصل والفصل في الأمثلة الآتية:
قال الله تعالى:
1-
2-
وقال الله تعالى «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبيرٌ بما يصنعون» .
3-
وقال تعالى «له مقاليد السموات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدرُ، إنه بكل شيء عليم»
4-
وقال تعالى «يسبح لله ما في السموات وما في الأرض، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن، والله بما تعملون بصير، خلق السموات والأرض بالحق وصوّركم فأحسن صوركم وإليه المصير، يعلم ما في السموات والأرض، ويعلم ما تسرون وما تعلنون، والله عليم بذات الصدور» .
5-
قال أبو العتاهية:
وإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا فابذله للمتكرِّم المفضال
ما أعتاض باذل وَجهِهِِ بسؤاله عوضا ولو نال الغنى بسؤالِ
6-
وقال:
من عرف الناسَ في تصرَفهم لم يتتبع من صاحب زللا
إن أنت كافأتَ من أساء فقد صرتَ إلى مثل سوء ما فعلا
7-
قال أبو تمام:
أولى البرية حقا أن تُراعيهُ عند السرور الذي آساكَ في الحَزنِ
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
8-
وقال المتنبي:
ذلّ من يغبط الذليل بعيش رب عيش أخفّ منه الحمام
من يهن يسهل الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميت إيلام
9-
وقال:
أفاضلُ الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطَن
10-
وقال أيضاً:
إذا نحن شبهناك َ بالبدر طالعاًَ بخسناك حقا أنت أبهى وأجمل
11-
وقال بشار:
الشيب كُرهٌ وكرهٌ أن يفارقني إعجب لشيء على البغضاء مودودُ
12-
وقال ابو نواس:
عليك باليأس من الناسِ إن غنَى نفسك في اليأسِ
وقال المعري:
إن الشبيبة نارٌ إن أردتَ بها أمراً فبادر انّ الدهر مطفيها
وقال الطغرائي:
جامل عدوك ما استطعت َ فانّه بالرفق يُطمعُ في صلاح الفاسد
وَاحذرِ حسودك ما استطعت فانه إن نمتَ عنه فليس عنك براقد
اسئلة على الوصل والفصل يطلب اجوبتها
ما هو الوصل؟ - ما هو الفصل؟ - كم موضعاً للوصل؟ - كم موضعاً للفصل؟ - ما هو الجامع العقلي؟ - ما هو الجامع الوهمي؟ ما هو الجامع الخيالي؟ - متى يجب وصل الجملة الحالية بما قبلها؟ - في كم موضع يجب فصل الجملة الحالية.
(1) والجامع الخيالي - أمر بسببه يقتضي الخيال اجتماع الجملتين في المفكرة، بأن يكون بينهما تقارن في الخيال سابق على العطف لتلازمهما في صناعة خاصة، أو عرف عام - كالقدوم، والمنشار، والمنقاب - في خيال النجار.
والقلم والدواة، والقرطاس - في خيال المكاتب.
وكالسيف والرمح، والدرع - في خيال المحارب - وهلم جرا وللقرآن الكريم اليد البيضاء في هذا الباب - كقوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الارض كيف سطحت) - فالمناسبة بين الابل والسماء - وبينهما وبين الجبال والأرض غير موجودة بحسب الظاهر ولكنه (أسلوب حكيم) في غاية البلاغة - لانه لما كان لخطاب مع العرب، وليس في تخيلاتهم إلا الابل، لأنها راس المنافع عندهم - والأرض لرعيها والسماء لسقيها - وهي التي توصلهم إلى الجبال التي هي حصنهم عند ماتفاجئهم حادثة أورد الكلام على طبق ما في مخيلاتهم.
تطبيق عام على الوصل والفصل
جربت دهري وأهليه فما تركت لي التجارب في ود امرىء غرضاً
فصلت الثانية، لشبه كما الاتصال، فانها جواب سؤال
(يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) .
فصلت الثانية لشبه كمال الاتصال، فانها جواب سؤال ناشىء مما قبلها.
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا - عطف الجملة الثانية على الأولى لاتفاقهما في الانشاء، مع المناسبة التامة بين المفردات، فان المسند إليه فيهما متحد، والمسند وقيدهما متقابلان.
(إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) - عطف الجملة الثانية على الأولى لاتفاقهما خبراً، لفظاً ومعنى، مع المناسبة التامة بين مفرداتها - فان المسندين المقدرين فيهما متحدان، والمسندان اليهما متقابلان، وقيدهما الأول متحد، والثاني متقابل.
أشكر الله على السراء بنجيك من الضراء - لم تعطف الثانية على الأولى لكمال الانقطاع، فان الأولى انشائية لفظا ومعنى - والثانية عكسها.
اصبر على كيد الحسود لا تضجر من مكائده - لم تعطف الثانية على الأولى لكمال الاتصال، فانها مؤكدة لها.
أنت حميد الخصال - تصنع المعروف وتغيث الملهوف - فصلت الثانية من الأولى لكمال الاتصال، فانها بيان لها، ووصلت الثالثة بالثانية للتوسط بين الكمالين، مع وجود مانع من الوصل.
تمرين (1)
بين سر الفصل والوصل فيما يلي:
(1)
أخطُ مع الدهر إذ
…
اما خطا وجسر معَ الدهر كما يجري (1)
(2)
لا تدعه إن كنت تنصف نائباً ما هذه الدنيا بدار قرار
(3)
حكم المنية في البرية جاري هو في الحقيقة نائمٌ لا نائب (2)
(1) وصل بين الجملتين لاتفاقهما إنشاء، مع وجود المناسبة وعدم المانع.
(2)
فصل الشطر الثاني عن الأول: لانه توكيد معنوي له - إذ يفهم من جريان حكم الموت على الخلق أن الدنيا ليست دار بقاء، فأكد ذلك بالشطر الثاني، فبينهما كمال الاتصال.
(4)
قال لي كيف أنت قلتُ عليل سهر دائم وحزن طويل (1)
(5)
قالت بليت فما نراك كعهدنا ليت العهود تجددت بعد البلى (2)
(6)
وترى الجبال تحسبها جامدة ً (3)
وإنما المرءُ بأصغريه كل امرىء رهن بما لديه
لا تطلبن بألة لك حاجة قلم البليغ بغير حظ مغزلُ
(7)
يرى البخيل سبيل المال واحدة إن الكريم يرى في ماله سبلا (4)
(8)
نفسى له نفسى الفداء لنفسه لكنّ بعض المالكين عفيف (5)
(9)
(ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) . (6)
(10)
(يدبر الأمر يفصّلُ الآيات لقوم يعقلون) . (7)
(11)
(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمهُ شديد القوى) . (8)
(12)
(قالوا سلاماً، قال سلام) . (9)
(1) فصل الشطر الثاني عن الاول لاختلافهما خبراً وانشاء، إذ الثاني خبر، والاول إنشاء - فبيتهما كمال الانقطاع.
(2)
فصل بين قال وقلت - لأن الثاني جواب سؤال - إذ جرت العادة أنه إذا قيل للرجل كيف أنت؟ ؟ أن يجيب أنا عليل - وكذا بين جملتي سهر دائم وحزن طويل، فكانه قيل: فما سبب علتك؟ فأجاب سهر دائم الخ - ففي كل منهما (شبه كمال الاتصال) .
(3)
بين الشطر الثاني والاول كمال الانقطاع لان أولهما خبر والثاني إنشاء.
(4)
بين جملتي ترى وتحسب كمال الاتصال لأن الثانية بدل اشتمال من الأولى
(5)
بين الشطر الثاني والأول شبه كمال الاتصال لأن الثانية جواب عن سؤال مقدر نشأ من الأولى: كأنه قيل: فما حال الكريم في ماله؟ ؟ فقال إن الكريم الخ.
(5)
بين نفسي له، ونفس الفداء (كمال الاتصال) لأن الثانية توكيد لفظي للأولى.
(6)
(إن هذا إلا ملك) - توكيد معنوي لقوله ما هذا بشراً، إذ مجرى العادة والعرف أنه إذا قيل في معرض المدح: ما هذا بشراً، وما هذا بآدمي أن يكون الغرض أنه ملك، فيكنى به عن ذلك، فبينهما كمال الاتصال.
(7)
بين يدبر، ويفصل: كمال الاتصال، لأن الثانية بدل بعض من كل.
(8)
بين قوله وما ينطق عن الهوى، وقوله إن هو الا وحي يوحى، كمال الاتصال لأن الثانية توكيد معنوي لأن تقرير كونه وحيا نفي لأن يكون عن هوى.
(9)
بين قالوا، وقال: شبه كمال الاتصال، لأن الثانية جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال لهم! حينئذ؟ ؟ أجيب بأنه قال سلام - وهكذا الحال في حكاية القصص في كل ما جاء في القرآن الكريم، والحديث النبوي، وكلام العرب.
(13)
يهوى الثناء مبَّرز ومقصّر حبُّ الثناء طبيعة الانسان (1)
(14)
(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله) . (2)
(15)
(وإذا تتلى عليه آياتنا ولي مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا)(3)
(16)
ألا من يشتري سهراً بنوم سعيد من يبيتُ قرير عين (4)
(17)
فآبوا بالرماح مكسّرات وأبنا بالسيوف قد انحنينا (5)
(18)
فما الحداثة عن حلم بمانعة قد يوجدا الحلمُ في الشبان والشيب (6)
(19)
يقولون إني أحمل الضيّم عندهم أعوذ بربي أن يُضام نظيري (7)
(20)
(إنَّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) . (8)
(21)
فياموتُ زُر إنَّ الحياة ذميمة ويا نفسُ جدِّي إن دهرك هازك (9)
(22)
(يسومُونكم سُوء العذابِ يُذبحون أبناءكم) . (10)
(23)
(وترى الجبال تحسبها جامدة
(1) فصل بين الشطر الثاني والأول، لأن بينهما كمال الاتصال - إذ الشطر الثاني مؤكد للأول.
(2)
فصل جملة يخادعون عما قبلها لأن بينهما كمال الاتصال، لان هذه المخادعة ليست شيئاً غير قولهم آمنا - دون أن يكونوا مؤمنين، فهي إذا توكيد معنوي للاولى.
(3)
فصلت جملنا (كأن لم يسمعها - وكأن في أذنيه وقرا) عما قبلهما لانهما كالتوكيد له، إذ المقصد من التشبيهين واحد، وهو أن ينفي الفائدة في تلاوة ما تلى عليه من الآيات - فهما من كمال الاتصال.
(4)
فصل الشطر الثاني عن الاول لاختلافهما خبرا وإنشاء - فبينهما كمال الانقطاع.
(5)
بين جملتي آبوا وابنا، توسط بين الكمالين لاتفاقهما في الخبرية مع وجود المناسبة.
(6)
بين الشطر الثاني والاول شبه كمال الاتصال، إذ الثاني جواب سؤال مقدر.
(7)
هذا البيت من حيث عدم عطف أعوذ على ما قبله، على حد قوله: وتظن سلمى الخ.
(8)
لم تعطف على ما قبلها مع أن بينهما مناسبة في المعنى بالتضاد، لانها مبينة لحال الكفار، وما قبلها مبين لحال المؤمنين، وان بيان حال المؤمنين غير مقصود لذاته، بل ذكر استتباعا لبيان حال الكفار، وليس بين بيان حال المؤمنين وحال الكفار مناسبة تقتضي الوصل.
(9)
لم يعطف قوله أن الحياة: على ما قبله لأنه جواب لسئوال مقدر كأنه قيل لماذا تطلب زيارة الموت؟ ؟ فأجاب إن الحياة ذميمة.
(10)
لم يعطف قوله يذبّحون على يسومون، لكونه بيانا له
وهي تمُرُّ مرَّ السحاب) (1)
(24)
(يُدبرُ الأمر يفصل الآيات)(2)
(25)
(ومن يفعل ذلك يلقَ أثاماً يضاعف له العذاب) . (3)
(1) فجملة تحسبها جامدة - بدل اشتمال.
(2)
فجملة يفصل الآيات - بدل بعض.
(3)
فجملة يلق أثاما - بدل كل - وقد أنكر بدل الكل علماء البيان خلافاً للنحاة.
البابُ التاسع
في الايجاز والاطناب والمساواة
كلُّ ما يجُول في الصدر من المعاني، ويَخطُر ببالك معنى منها لا يعدُو التعبير (1) عنه طريقاً من طرق ثلاث:
أولاً - إذا جاء التعبير على قدر المعنى، بحيث يكون اللفظ مساوياً لأصل ذلك المعنى - فهذا هو «المساواة» -
وهي الأصل الذي يكون أكثر الكلام على صورته، والدستور الذي يقاس عليه.
ثانياً - إذا اراد التعبير على قدر المعنى لفائدة، فذاك هو «الإطناب» فإن لم تكن الزيادة لفائدة فهي حشو: أو تطويل.
ثالثا- إذا نقص التعبير على قدر المعنى الكثير، فذلك هو «الايجاز» (2)
فكلِّ ما يخطر ببال المتكلم من المعاني فله في التعبير عنه بإحدى هذه الطرق الثلاث، فتارةً (يوجزُ) وتارة (يُسهبُ)، وتارة يأتي بالعبارة (بين بين) ولا يُعدّ الكلام في صورة من هذه الصور بليغاً: إلا إذا كان مطابقاً لمُقتضى حال المخاطب، ويدعو إليه مواطن الخطاب، فاذا كان المقام للأطناب مثلا، وعدلت عنه إلى: الايجاز، أو المساواة لم يكن كلامك بليغاً- وفي هذا الباب ثلاثة مباحث.
(1) أي: إذا أردت أن تتحدث إلى الناس في معنى من المعاني، فأنت تعبر عنه تعبيراً صحيحاً مقبولا في إحدى صور ثلاث وهي - المساواة، والايجاز، والاطناب.
(2)
قال الامام علي: ما رأيت بليغا قط إلا وله في القول إيجاز، وفي المعاني إطالة وقالت بنت الخطيئة لأبيها - ما بال قصارك أكثر من طوالك، قال: لانها بالآذان أولج، وبالافواه أغلق - وقيل لشاعر - لم لا تطيل شعرك؟ ؟ فقال: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.