الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول في الإيجاز وأقسامه
الايجاز - هو وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقل (1) منها، وافية بالغرض المقصود، مع الإبانة والإفصاح، كقوله تعالى (خذ العفو وأمرُ بالعرف وأعرض عن الجاهلين)
فهذه الآية القصيرة جمعت مكارم الأخلاق بأسرها - وكقوله تعالى (ألا لهُ الخلقُ والأمر) وكقوله عليه الصلاة والسلام «إنّما الأعمال بالنِّيات» فاذا لم تف العبارة بالغرض سمى «إخلالا وحذفاً رديئا» كقول اليشكري
والعيش خيرٌ في ظلا ل النوك ممّن عاش كدا
«مرادهُ: أنّ العيشَ الناعم الرغد في حال الحُمق والجهل، خيرٌ من العيش الشاق في حال العقل» لكن كلامه لا يُعدّ صحيحاً.
مقبولا
(1) بأن يكون اللفظ أقل من المعهود عادة، مع وفائه بالمراد، فان لم يف كان الايجاز إخلالا وحذفا رديئا فلا يعد الكلام صحيحاً مقبولا - كقول عروة بن الورد
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ومقتلهم عند الوغى كان أعذارا
يريد: إذ يقتلون نفوسهم في السلم - لكن صوغ كلامه لا يدل عليه، ومثله قول بعضهم نثرا (فان المعروف إذا زجا كان أفضل منه إذا وفر وأبطأ) ولأجل تمام ما يريد: كان عليه أن يقول - إذا قل وزجا، ولا يعد مثل هذا الكلام صحيحاً مقبولا واعلم أن متعارف أوساط البلغاء هم الذين لم يرتقوا إلى درجة البلغاء، ولم ينخرط إلى درجة البسطاء، فالمساواة: هي الدستور الذي يقاس عليه كل من الإيجاز والاطناب
وينقسم الإيجاز إلى قسمين، إيجاز قصرٍ (1)
وإيجاز حذف (فإيجاز القصر)«ويسمى إيجاز البلاغة» يكون بتضمين المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة من غير حذف، كقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) ، فان معناه كثير، ولفظه يسير، إذ المراد بأن الانسان إذا علم أنه متى قتل قُتل: امتنع عن القتل، وفي ذلك حياته وحياة غيره، لأن القتل أنفى للقتل (2) وبذلك تطول الأعمار، وتكثر الذرية، ويقبل كل واحد على ما يعود عليه بالنفع، ويتم النظام، ويكثر العمران
فالقصاص: هو سبب ابتعاد الناس عن القتل، فهو الحافظ للحياة
(1) وايجاز القصر، هو ما تزيد فيه المعاني على الالفاظ، ولا يقدر فيه محذوف ويسمى (إيجاز البلاغة) لأن الأقدار تتفاوت فيه، وللقرآن الكريم فيه المنزلة التي لا تسامى - والغاية التي لا تدرك.
فمن ذلك قوله تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فهذه الآية قد جمعت مكارم الأخلاق، وانطوى تحتها كل دقيق وجليل، إذ في العفو الصفح عمن أساء، وفي الأمر بالمعروف صلة الارحام، ومنع اللسان عن الكذب وغض الطرف عن كل المحارم.. وقوله عز اسمه (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) استوعبت تلك الآية الكريمة أنواع المتاجر، وصنوف المرافق التي لا يبلغها العد - وقوله (ألا له الخلق والأمر) هاتان كلمتان أحاطتا بجميع الأشياء على غاية الاستقصاء - وقوله عليه الصلاة والسلام (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء، وعودوا كل جسم ما اعتاد) فقد تضمن ذلك من المعاني الطبية شيئاً كثيرا وقول الامام علي كرم الله وجهه «من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطأ وقول بعض الأعراب (اللهم هب لي حقك وارض عني خلقك)
فسمعه الامام علي كرم الله وجهه فقال: هذا هو البلاغة، ومنه قول السموءل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل
فقد اشتمل على حميد الصفات من سماحة وشجاعة وتواضع وحلم وصبر واحتمال مكاره في سبيل طلب الحمد - إذ كل هذه مما تضيم النفس لما يحصل في تحملها من المشقة والعناء والسبب فيما له من الحسن والروعة دلالة قليل الالفاظ على كثير المعاني إلى ما فيه من الدلالة على التمكن في الفصاحة والبراعة.
ولذا قال محمد الأمين «عليكم بالايجاز: فان له إفهاما، وللاطالة استبهاماً» وقال آخر «القليل الكافي خير من كثير غير شاف» .
(2)
لقد أثر ونقل عن العرب قولهم «القتل أنفى للقتل» وأين هذا المثل من بلاغة هذه الآية الشريفة التي بلغت حد الاعجاز وتمتاز بوجوه - منها أنها كلمتان، وما نقل عنهم أربع - ومنها أنه لا تكرار فيها، وفيما قالوه تكرار - ومنها أنه ليس كل قتل يكون نافيا للقتل، وإنما يكون كذلك إذا كان على جهة القصاص - ومنها حسن التأليف وشدة التلاؤم المدركان بالحس في الآية الكريمة التي أعجزتهم أن يأتوا بمثلها، لا فيما قالوه في مثلهم البسيط الذي لا يزيد عن متعارف الاوساط
وهذا القسم مطمح نظر البلغاء، وبه تتفاوت أقدارهم، حتى أن بعضهم سُئل عن (البلاغة) فقال: هي «إيجاز القصر» وقال أكثم بن صيفي خطيب العرب «البلاغة الإيجاز» (وايجاز الحذف) يكون بحذف شيء من العبارة لا يخلّ بالفهم، عند وجود ما يدل على المحذوف، من قرينة لفظية _ أو معنوية وذلك المحذوف - إما أن يكون.
(1)
حرفاً - كقوله تعالى (ولم أكُ بغياً) - أصله: ولم اكن (1)
(2)
أو إسماً مضافاً نحو - (وجاهدوا في الله حق جهاده) أي: في سبيل الله
(3)
أو إسما مضافاً إليه - نحو (وَوَاعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) ْي: بعشر ليال.
(4)
أو إسما موصوفاً - كقوله تعالى (ومن تاب وعمل صالحاً) أي: عملا صالحاً.
(5)
أو إسما صفةً - نحو (فزادتهم رجساً إلى رجسهم) أي: مضافا إلى رجسهم.
(6)
أو شرطاً - نحو (اتبعوني يحببكم الله) أي: فان تتبعوني.
(7)
أو جواب شرط - نحو (ولو ترى إذ وقفوا على النار) أي: لرأيت أمراً فظيعاً.
(1) وكحذف لا في قول عاصم المنفري
رأيت الخمر جامدة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله اشربها حياتي ولا أسقى بها أبدا نديما
يريد: لا أشربها ويقع إيجاز الحذف كثيراً في أساليب البلغاءُ بشرط أن يوجد ما يدل على المحذوف، وإلا كان الحذف رديئاً، والكلام غير مقبول.
(8)
أو مسنداً - نحو (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) أي: خلقهن الله.
(9)
أو مسنداً إليه - كما في قول حاتم
أماوى ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
أي إذا حشرجت النفس يوماً
(10)
أو مُتعلقا - نحو: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) أي عمّا يفعلون
(11)
أو جملة - نحو (كان الناسُ امةً واحدة فبعث الله النبيين) أي فاختلُفوا: فبعث.
(12)
أو جُمَلا - كقوله تعالى (فأرسلون يوسف أيها الصديقُ)(1)
أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه فأتاه، وقال له: يوسف والعلم أنّ دواعي الإيجاز كثيرة- منها الاختصار، وتسهيل الحفظ وتقريب الفهم، وضيق المقام، وإخفاء الأمر على غير السَّامع، والضجر والسآمة، وتحصيل المعنى الكثير باللفظ اليسير - الخ.
ويُستحسن «الإيجاز» في الاستعطاف، وشكوى الحال، والاعتذارات والتعزية، والعتاب، والوعد، والوعيد - والتوبيخ، ورسائل طلب الخراج، وجباية الأموال، ورسائل الملوك في أوقات الحرب إلى الولاة والأوامر: والنواهي الملكية، والشكر على النعم.
(1) فأرسلون حكاية عن أحد الفتيين الذي أرسله العزيز إلى يوسف ليستعبره ما رآه، والعلم أنه لا بد من دليل يدل على المحذوف وهو - إما العقل وحده: نحو وجاء ربك - وإما العقل مع غيره: نحو حرمت عليكم الميتة - أي تناولها - وإما العادة: نحو (فذلكن الذي لمتنني فيه) - أي في مراودته، وإما الشروع فيه: نحو بسم الله الرحمن الرحيم - أي أؤلف مثلا، وإما مقارنة الكلام للفعل: كما تقول لمن تزوج «بالرفاه والبنين» أي أعرست متلبساً بالالفة والبنين.
(تنبيه) حذف الجمل أكثر ما يرد في كلام الله عز وجل، إذ هو الغاية في الفصاحة، والنهاية في مراتب البلاغة، واعلم أن كلا من الحشو والتطويل يخل ببلاغة الكلام، بل لا يعد الكلام معهما إلا ساقطا عن مراتب البلاغة كلها.