الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن في تقسيم التشبيه باعتبار الغرض إلى مقبول وإلى مردود
ينقسم التشبيه باعتبار الغرض: إلى حسنٍ مقبول، وإلى قبيح مردود
(1)
فالحسن المقبول - هو ما وفى بالأغراض السابقة، كأن يكون المشبه به أعرف من المشبه في وجه الشبه، إذا كان الغرض بيان حال المشبه، أو بيان المقدار، أو أن يكون أتم شيء في وجه الشبه، إذا قصد الحاق الناقص بالكامل، أو أن يكون في بيان الامكان مسلم الحكم، ومعروفاً عند المخاطب، إذا كان الغرض بيان امكان الوجود، وهذا هو الأكثر في الشبيهات، إذ هي جارية على الرَّشاقة، سارية على الدًقة والمبالغة ثم إذا تساوى الطرفان في وجه التشبيه عند بيان المقدار كان التشبيه كاملا في القبول، والا فكلما كان المشبه به أقرب في المقدار إلى المشبه كان الشبه أقرب إلى الكمال والقبول.
(2)
والقبيح المردود - هو ما لم يف بالغرض المطلوب منه، لعدم وجود وجه بين المشبه والمشبه به: أو مع وجوده لكنه بعيد.
تنبيهات
(الأول) بعض اساليب التشبيه أقوى من بعض في المبالغة، ووضوح الدلالة ولها مراتب ثلاثة:
«أ» (أعلاها) وأبلغها ما حذف فيها الوجه والأداة، نحو: على أسد - وذلك أنك ادعيت الاتحاد بينهما بحذف الأداة - وادعيت التشابه بينهما في كل شيء بحذف الوجه ولذا سمى هذا تشبيها بليغا.
«ب» (المتوسطة) ما تحذف فيها الأداة وحدها، كما تقول (على أسد شجاعة) أو يحذف فيها وجه الشبه - فنقول على كالأسد، وبيان ذلك: أنك بذكرك الوجه حصرت
التشابه، فلم تدع للخيال مجالا في الظن، بأن التشابه في كثير من الصفات - كما أنك بذكر الاداة نصصت على وجود التفاوت بين المشبه والمشبه به، ولم تترك بابا للمبالغة.
«جـ» (أقلها) ما ذكر فيها الوجه والأداة، وحينئذ فقدت المزيتين السابقتين.
(الثاني) قد يكون الغرض من التشبيه حسنا جميلا، وذلك هو النمط الذي تسمو إليه نفوس البلغاء، وقد أتوا فيه بكل حسن بديع، كقول ابن نباتة في وصف فرس أغر محجل
وكانما لطم الصباح جينه فاقتص منه فخاض في أحشائه
وقد لا يوفق المتكلم إلى وجه الشبه، أو يصل إليه مع بعد - وما أخلق مثل هذا النوع بالاستكراه، وأحقه بالذم، لما فيه من القبح والشناعة - بحيث ينفر منه الطبع السليم.
(الثالث) علم مما سبق أن أقسام التشبيه من حيث الوجه والاداة كالآتي.
1-
التشبيه المرسل: هو ما ذكرت فيه الأداة.
2-
التشبيه المؤكد: هو ما حذفت منه الأداة.
3 -
التشبيه المجمل: هو ما حذف منه وجه الشبه.
4 -
التشبيه المفصل: هو ما ذكر فيه وجه الشبه.
5-
التشبيه البليغ: هو ما حذفت فيه الأداة، ووجه الشبه، وهو أرقى أنواع التشبيه بلاغة: وقد تقدم الكلام عليه مستوفياً.
6-
التشبيه الضمني: هو تشبيه لا يوضع فيه المشبه، والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يلمح المشبه، والمشبه به، ويفهمان من المعنى نحو:
علا فما يستقر المال في يده وكيف تمسك ماء قنة الجبل
فالمشبه الممدوح، وهو ضمير (علا) والمشبه به (قنة الجبل) ووجه الشبه عدم الاستقرار والأداة محذوفة أيضاً، وهذا النوع يؤتى به ليفيد أن الحكم الذي أستد إلى المشبه ممكن
أسئلة تطلب أجوبتها
ما هو علم البيان لغة واصطلاحاً؟ ما هو التشبيه؟ ما أركان التشبيه؟ طرفا التشبيه حسيان أم عقليان؟ ما المراد بالحسّي؟ ما هو التشبيه الخيالي؟ ما المراد بالعقلي؟ - ما هو التشبيه الوهمي؟ - ما هو وجه الشبه؟ ما هي أدوات التشبيه؟ هل الاصل في أدوات التشبيه أن يليها المشبه، أو المشبه به؟ - متى تفيد كأن التشبيه؟ ما هو التشبيه البليغ؟
ما هو التشبيه الضمني؟ ما هو التشبيه المرسل؟ كم قسما للتشبيه باعتبار طرفيه؟ كم قسما للتشبيه باعتبار تعدد طرفيه؟ ما هو التشبيه الملفوف؟ ما هو التشبيه المفروق؟ ما هو تشبيه التسوية؟ ما هو تشبيه الجمع؟ كم قسما للتشبيه باعتبار وجه الشبه؟ ما هو تشبيه التمثيل؟ ما هو تشبيه غير التمثيل؟ ما هو التشبيه المفصل؟ ما هو التشبيه المجمل؟ كم قسما للتشبيه باعتبار الغرض منه.
تطبيق عام على أنواع التشبيه
اشتريت ثوبا أحمر كالورد - في هذه الجملة تشبيه مرسل مفصل - المشبه ثوبا، والمشبه به الورد، وهما حسيان مفردان، والأداة الكاف، ووجه الشبه: الحمرة في كل - والغرض منه بيان حال المشبه.
…
ما الدهر إلا الربيع المستنير إذا أتى الربيع أتاك النور والنور
…
فالأرض ياقوتة والجو لؤلؤة والنبت فيروزج والماء بلور
«الأرض ياقوتة «تشبيه بليغ مجمل المشبه الارض، والمشبه به ياقوته - وهما حسيان مفردان، ووجه الشبه محذوف، وهو الخضرة في كل، والاداة محذوفة والغرض منه تحسينه «والجو لؤلؤة، والنبت فيروزج «والماء بلور» كذلك وفي البيت كله تشبيه مفروق - لأنه أتى بمشبه ومشبه به، وآخر وآخر.
…
العمر والانسان والدنيا همو كالظل في الاقبال والادبار
فيه تشبيه تسوية مرسل مفصل، المشبه العمر والانسان والدنيا، والمشبه به الظل والمشبه بعضه حسي، وبعضه ع قلي والمشبه به حسي، والكاف الاداة، ووجه الشبه الاقبال والادبار، والغرض تقرير حاله في نفس السامع.
…
كم نعمة مرت بنا وكأنها فرس يهرول أو قسيم ساري
في البيت: تشبيه جمع مرسل مجمل، والمشبه نعمة، والمشبه به فرس يهرول، أو نسيم ساري، وهما حسيان، وكأن الاداة ووجه الشبه السرعة في كل، والغرض منه بيان مقدار حاله.
ليل وبدر وغصن شعر ووجه وقد
فيه تشبيه بليغ مجمل ملفوف، المشبه شعر وهو حسي، والمشبه به ليل، وهو عقلي، والاداة محذوفة، ووجه الشبه السواد في كل - والغرض منه بيان مقدار حاله، وفي الثاني - المشبه وجه، والمشبه به بدر، وهما حسيان، ووجه الشبه الحسن في كل، والاداة محذوفة - والغرض تحسينه، وفي الثالث المشبه قد، والمشبه به غصن، وهما حسيان، ووجه الشبه الاعتدال في كل، والاداة محذوفة، والغرض بيان مقداره - هذا.
وان شئت فقل هذا (تشبيه مقلوب) بجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به لغرض المبالغة، بأن تجعل الليل مشبها، والشعر مشبها به.
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى كعنقود ملاحية حين نورا
فيه تشبيه تمثيل مرسل مجمل، المشبه هيئة الثريا الحاصلة من اجتماع أجرام مشرقة مستديرة منيرة - والمشبه به هيئة عنقود العنب المنور، والجامع الهيئة
الحاصلة من اجتماع اجرام منيرة مستديرة في كل - والأداة الكاف، والغرض منه بيان حاله
تمرين
بين أنواع التشبيه فيما يأتي:
(1)
الورد في أعلا الغصون كأنه ملكٌ تحفُّ به سراة جنوده
(2)
إذا ارتجل الخطاب بدا خليج بفيه يمدّه بحرُ الكلام
كلام بل مدام بل نظام من الياقوت بل حب الغمام
(3)
يا صاحبي تيقظاً من رقدة تزري على عقل اللبيب الاكيس
هذي المجرة والنجوم كأنها نهر تدفَّق في حديقة نرجس
(4)
وكأن الصبح لمّا لاح من تحت الثريا
ملك أقبل في التا ج يفدى ويحيّا
(5)
إنما النفس كالزجاجة والعلـ م سراج وحكمة الله زيت
فاذا أشرقت فانك حيٌّ وإذا أظلمت فانك ميت
(6)
وغير تقيٍ يأمر الناس بالتقى طبيبٌ يداوى الناس وهو مريض
(7)
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفَّت له عن عدو في ثياب صديق
(8)
جمرة الخد أحرقت عنبر الخا لِ فمن ذلك العذار دخانُ
(9)
كالبدر من حيث التفتّ رأيته بهدى إلى عينيك نورا كافيا
(10)
وأشرق عن بشر هو النور في الضحا وصافى بأخلاق هي الطَّلُّ في الصبح
تمرين آخر
لبيان أنواع التشبيه: البليغ، والضمني، والتمثيل، والمقلوب والمُؤكد والمفصل، والمُجمل.
(1)
خلط الشجاعة بالحياء فأصبحا كالحسن شيب لمغرم بدلال
(2)
شقائقٌ يحملنَ النَّدى فكأنه دموعُ التصابي في خدودِ الخرائِدِ
(3)
عذبَ الفِراق لنا قبيل وداعنا ثم اجترعناه كُسمٍ ناقِع
فكأنما أثر الدّموعِ بخدِّها طل تناثر فوق ورد يانع (1)
(4)
وترى الغصون تميل في أوراقها مثل الوصائف في صنوف حرير
(5)
وحديقةٍ ينساب فيها جدول طرفي برونق حسنه مدهوش
يبدو خيالُ غصونها في مائهٍ فكأنما هو معصم منقوش
(6)
انظر إلى حسن تكوين السماء وقد لاحت كواكبها والليلُ ديجورُ
كأنها خيمة ليست على عمدٍ زرقاء قد رصِّعت فيها الدنانير
(7)
وقد سفر الدجى عن ضوء فجر منير مثلما سفر النِّقاب
فخلت الصبح في إثر الثريا بشيراً جاء في يده كتاب
(8)
ولقد ذكرتك والنجوم كأنها دُرر على أرض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنها شررٌ تطاير من دخان العرفجِِ
(9)
ونارنجة بين الرياض نظرتُها على غصن رطب كقامة أغيد
إذا ميلتها الريح مالت كأكرة بدت ذهبا من صولجان زمرد
(10)
وحديقة غنَّاء ينتظم النّدى بفروعها كالدر في الأسلاك
والبدرُ يشرق من خِلال غصونها مثل المليح يُطلُّ من شباك
(11)
لو كنت تشهد يا هذا عشيتنا والمزنُ يسكب أحيانا وينحدر
والأرض مصفرة بالمزن كاسية أبصرت تبراً عليه الدّرّ ينتشر
(12)
وللأقاحي قصورٌ كلها ذهبٌ من حولها شرفات كلها درر
(13)
كأنما النار في تلهُبها والفحم من فوقها يغطِّيها
زنجية شبّكت أناملها من فوق نارنجة لتخفيها
(14)
والورد في شط الخليج كأنه رمدٌ ألم بمقلةٍ زرقاء
(15)
هذي المجرَّة والنجوم كأنها نهر تدفق في حديقة نرجس
(16)
أنظر إلى حسن هلال بدا يهتك من أنواره الحندسا (2)
كمنجل قد صيغ من عسجدٍ يحصدُ من زهر الدجى نرجسا
(17)
والبدر يستر بالغيوم وينجلي كتنفس الحسناء في مرآتها
كأنما الأغصان لما انثنت أمام بدرِ التِّمّ في غيهبه
(18)
بنت مليكٍ خلف شباكها تفرجت منه على موكبه
(19)
كان شعاع الشمس في كل غدوة على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشل يضمّها لقبض فتهوى من فروج الأصابع
(20)
لئن بسط الزمان يدى لئيم فصبراً للذي فعل الزمان
فقد تعلو على الرأس الذُّنا بي كما يعلو على النار الدخان
(21)
دهرٌ علا قدر الوضيعِ به وغذا الشريفُ يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه سقلا وتطفو فوقه جيفه
(22)
لو أورقت من دم الأبطال سمرقنا لأورقت عنده سمر القنا الذُّبل
إذا توجه في أولي كتائبه لم تفرق العين بين السهل والجبل
فالجيش ينقض حوليه أسنتهُ نفض العقاب جناحيه من البلل
(23)
لو كنت شاهدنا عشية أنسها والمزن يبكينا بعيني مذنب
والشمس قد مدت أديم شعاعها في الأرض تجنح غير أن لم تذهب
خلت الرذاذ برادةً من فضة قد غربلت من فوق نطع مُذهَّبِ (3)
(24)
لله دولابٌ يفيض بسلسلٍ في روضة قد أينعت أفنانا
قد طارحته بها الحمائم شجوها فيجيبها ويرجع الألحانا
فكأنه دنفٌ (4) يدور بمعهد (5) يبكي ويسأل فيه عمن بانا (6)
ضاقت مجاري طرفه عن دمعه فتفتحت أضلاعه أجفانا
(25)
أخرس ينبيك بإطراقه عن كل ما شئت من الأمر
يذرى على قرطاسه دمعه يبدى لنا السر وما يدرى
كعاشقٍ أخفى هواه وقد نمت عليه عبرة تجري
(26)
الشمسُ من مشرقها قد بدت مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بودقةٌ أحميت يجول فيها ذهبٌ ذائب
(27)
قال الله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح)
(28)
إذا ما تردى لأمة الحرب أرعدت حشا الأرض واستدمى الرماح الشوارع
وأسفر تحت النقع حتى كأنه صباح مشى في ظلمة الليل ساطع
(29)
وكأن أجرام السماء لوامعاً درر نثرن على بساط أزرق
(30)
قال الله تعالى (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) .
(31)
وقال تعالى (والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً)
(32)
وقال تعالى (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) .
(33)
حمر السيوف كأنما ضربت لهم أيدى القيون صفائحا من عسجد
في فتية طلبوا غبارك إنه رهج ترفع عن طريق السؤدد
كالرمح فيه بضع عشرة فقرة منقادة خلف السَّنان الأصيد
(34)
خبّريني ماذا كرهت من الشيب فلا علم لي بذنب المشيبِ
أضياء النهار أم وضح اللؤ لؤ أم كونه كثغر الحبيب
واذكرى لي فضل الشباب وما يجمع من منظر يروق وطيب
غدره بالخليل أم حبه للغيِّ أم أنه كدهر الأديب
(35)
والبدر أوّل ما بدا متلثماً يبدى الضياء لنا بخدٍ مسفر
فكأنما هو خوذةٌ من فضةٍ قد ركبَّت في هامة من عنبر
(36)
خلتها في المعصرات القواني وردة في شقائق النعمان
(37)
شبّهت بدر سمائنا لمّا دنت منه الثريا في قميص سندس
ملكا مهيبا قاعداً في روضة حيّاه بعض الزائرين بنرجس
(38)
وإنّى على اشفاق عيني من البُكا لتجمح منِّى نظرةٌ ثم أطرق
كما حلِّئت عن ماء بئرٍ طريدة تمد إليها جيدها وهي تفرق
(39)
أنا كالورد فيه راحةُ قوم ثم فيه لآخرين زكام
(40)
يا حبذا يومنا ونحن على رؤوسنا نعقد الأكاليلا
في جنة ذللت لقاطفها قطوفها الدّانيات تذليلا
كأن أترجَّها تميل بها أغصانها حاملا ومحمولا
سلاسلٌ من زبرجد حملت من ذهب أصفر قناديلا
(41)
كم والد يحرم أولاده وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تنظر ما حولها ولحظها يدرك ما يبعد
(42)
ريم يتيه بحسن صورته عبث الفتور بلحظ مقلته
فكأن عقرب صدغه وقفت لما دنت من نار وجنته
(43)
وشادن أهيف حيَّا بنرجسةٍ كأنها إذ بدت في غاية العجب
كف من الفضة البيضا ساعدها زبرجدٌ حمِّلت كأساً من الذهب
(44)
نثر الجو على الأرض برد أيّ درّ لنحور لو جمد
لؤلؤ أصدافه السّحب التي أنجز البارق منها ما وعد
(45)
أبصرتُ طاقة نرجس في كف من أهواه غضَّه
فكأنها برج الزبر جد أنبتت ذهبا وفضة
(46)
كأن الأفق محفوفٌ بنار وتحت النار آساد تزير
(47)
وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وغدواً بلاقع
بلاغة التشبيه (7)
وبعض ما اثر منه عن العرب والمحدثين
تنشأ بلاغة التشبيه: من أنه ينتقل بك من الشيء نفسه، إلى شيء طريف يشبهه، أو صورة بارعة تمثّله وكلما كان هذا الانتقال بعيداً، قليل الخطور بالبال، أو ممتزجاً بقليل أو كثير من الخيال، كان التشبيه أروع للنفس، وأدعى إلى إعجابها واهتزازها فإذا قلت: فلان يشبه فلانا في الطول، أو أن الأرض تشبه الكرة في الشكل، لم يكن في هذه التشبيهات أثر للبلاغة، لظهور المشابهة، وعدم احتياج العثور عليها إلى براعة، وجهد أدبي، ولخلوّها من الخيال،
(1) الطل، الندى.
(2)
الحندس: الظلام.
(3)
النطع: بساط من جلد.
(4)
الدنف: من برح به العشق.
(5)
المعهد: المنزل الذي إذا نأى عنه القوم رجعوا إليه.
(6)
بان: فارق.
(7)
التشبيه مع ما فيه من ميزة الايجاز في اللفظ يفيد المبالغة في الوصف، ويخرج الخفي إلى الجلي والمعقول إلى المحسوس، ويجعل التافه نفيساً، والنفيس، تافها ويدني البعيد من القريب، ويزيد المعنى وضوحا، وبكسبه تأكيدا، فيكون أوقع في النفس وأثبت، وله روعة الجمال والجلال.
وهذا الضرب من التشبيه، يقصد به البيان والإيضاح، وتقريب الشيء إلى الأفهام، وأكثر ما يستعمل في العلوم والفنون، ولكنك تأخذك روعة التشبيه، حينما تسمع قول المعري يصف نجماً
يسرع اللمح في احمرار كما تسـ رعُ في اللمح مقلة الغضبان
فان تشبيه لمحات النجم وتألقه مع احمرار ضوئه، بسرعة لمحة الغضبان من التشبيهات النادرة، التي لا تنقاد إلا لأديب، ومن ذلك قول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها سنن لاح بينهن ابتداع
فإن جمال هذا التشبيه: جاء من شعورك ببراعة الشاعر وحذقه، في عقد المشابهة بين حالتين - ما كان يخطر بالبال تشابههما، وهما حالة النجوم في رقعة الليل، بحال السنن الدينية الصحيحة، متفرقة بين البدع الباطلة.
ولهذا التشبيه: روعة أخرى، جاءت من أن الشاعر: تخيل أن السنن مضيئة لمّاعة، وأن البدع مظلمة قاتمة.
ومن أبدع التشبيهات قول المتنبي:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
يدعو الشاعر: على نفسه بالبلى والفناء، إذا هو لم يقف بالأطلال، ليذكر عهد من كانوا بها، ثم أراد أن يصور لك هيئة وقوفه، فقال: كما يقف شحيح فقد خاتمه في التراب، من كان يوفَّق إلى تصوير حال الذاهل المتحير المحزون، المطرق برأسه، المنتقل من مكان إلى مكان في اضطراب ودهشة، بحال شحيح فقد في التراب خاتماً ثميناً.
هذه بلاغة التشبيه من حيث مبلغ طرافتهن وبعد مرماه، ومقدار ما فيه من خيال.
أما بلاغته من حيث الصورة الكلامية التي يوضع فيها، فمتفاوتة أيضاً فأقل التشبيهات مرتبة في البلاغة ما ذكرت أركانه جميعها، لأن بلاغة التشبيه مبنية على ادعاء أن المشبه عين المشبه به، ووجود الاداة، ووجه الشبه معاً، يحولان دون هذا الادعاء، فإذا حذفت الاداة وحدها، أو وجه الشبه وحده، ارتفعت درجة التشبيه في البلاغة قليلا، لأن حذف أحد هذين يقوى ادعاء اتحاد المشبه والمشبه به بعض التقوية - أما أبلغ أنواع التشبيه «فالتشبيه البليغ» لانه مبنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به شيء واحد، هذا - وقد جرى العرب والمحدثون على تشبيه: الجواد بالبحر، والمطر والشجاع
بالأسد، والوجه الحسن بالشمس والقمر، والشهم الماضي في الأمور بالسيف، والعالي المنزلة بالنجم، والحليم الرَّزين بالجبل، والأماني الكاذبة بالاحلام، والوجه الصبيح بالدينار، والشعر الفاحم بالليل، والماء الصافي باللجين، والليل بموج البحر، والجيش بالبحر الزاخر، والخيل بالريح والبرق، والنجوم بالدرر والأزهار، والأسنان بالبرد واللؤلؤ والسفن بالجبال، والجداول بالحيات الملتوية، والشيب بالنهار، ولمع السيوف وغرة الفرس بالهلال، ويشبهون الجبان بالنعامة والذبابة، واللئيم بالثعلب، والطائش بالفراش، والذليل بالوتدِ، والقاسي بالحديد والصخر، والبلييد بالحمار، والبخيل بالأرض المجدية، وقد اشتهر رجال من العرب بخلال محمودة، فصاروا فيها أعلاماً - فجري التشبيه بهم: فيشبه الوفى بالسموءل (1) ، والكريم بحاتم، والعادل بعمر (2)
والحليم بالأحنف (3) ، والفصيح بسحبان، والخطيب بقس (4) والشجاع بعمرو بن معد يكرب، والحكيم بلقمان (5) ، والذكي بُياس، واشتهر آخرون بصفات ذميمة، فجرى التشبيه بهم أيضاً، فيشبه العي بباقل (6) والأحمق بهبنقة (7) والنادم بالكُسعى (8) والبخيل بمادر (9) والهجّاء بالحطيئة (10)
(1) هو السموءل بن حيان اليهودي، يضرب به المثل في الوفاء، وهو من شعراء الجاهلية، توفي سنة 62 ق. هـ.
(2)
هو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وأحد السابقين إلى الاسلام الأولين، اشتهر بعدله وتواضعه وزهده، وقد نصر الله به الاسلام وأعزه، وتوفي سنة 23 هـ..
(3)
هو الأحنف بن قيس من سادات التابعين، كان شهماً حليماً، عزيزاً في قومه إذا غضب غضب له مائة ألف سيف، لا يسألون لماذا غضب، توفى سنة 67 هـ.
(4)
هو قس بن ساعدة الأيادي، خطيب العرب قاطبة، ويضرب به المثل في البلاغة والحكمة.
(5)
حكيم مشهور آتاه الله الحكمة، أي الاصابة في القول والعمل.
(6)
رجل اشتهر بالعي، اشترى غز الامرة بأحد عشر درهما، فسئل عن ثمنه فمد أصابع كفيه يريد عشرة، وأخرج لسانه ليكملها أحد عشر، ففر الغزال، فضرب به المثل في العي.
(7)
هو لقب أبي الودعات يزيد بن ثروان القيسي، يضرب به المثل في الحمق.
(8)
هو غامد بن الحرث، خرج مرة للصيد فأصاب خمسة حمر بخمسة أسهم، وكان يظن كل مرة أنه مخطىء، فغضب وكسر قوسه، ولما أصبح رأى الحمر مصروعة والأسهم مخضبة بالدم، فندم على كسر قوسه، وعض على إبهامه فقطعها.
(9)
لقب رجل من بني هلال، اسمه مخارق، وكان مشهوراً بالبخل واللؤم.
(10)
شاعر مخضرم، كان هجاء مراً، ولم يكد يسلم من لسانه أحد، هجا امه وأباه، ونفسه، وله ديوان شعر، وتوفي سنة 30 هـ.
والقاسي بالحجاج الثقفي: أحد جبابرة العرب المتوفى سنة 97 هـ.