الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومرجعك في ادراك أسرار البلاغة إلى الذوق الأدبي والإحساس الروحي
المبحث الثاني في الإطناب وأقسامه
الإطناب: زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، أو هو تأدية المعنى بعبارة زائدة عن متعارف أوساط البلغاء: لفائدة تقويته وتوكيده - نحو (رب إني وهنَ العظم مني واشتعل الرأس شيبا) - أي: كبرتُ فاذا لم تكن في الزيادة فائدة، يسمى «تطويلا» إن كانت الزيادة في الكلام غير متعينة.
ويسمى «حشواً» إن كانت الزيادة في الكلام متعينة لا يفسد بها المعنى فالتطويل - كقول عدي العبادي: في جذيمةَ الأبرش
وقدَّدت الأديم لراهشيه وألفى قولها كذباً وميناَ (1)
فالمينُ والكذب بمعنى واحد. ولم يتعين الزائد منهما، لأن العطف بالواو: لا يفيد ترتيباً ولا تعقيباً ولا معية، فلا يتغير المعنى باسقاط أيهما شئت والحشو - كقول زهير بن أبي سلمى:
(1) وقدت أي قطعت، والضمير فيه يعود على الزباء، وهي امرأة ورثت الملك عن أبيها - والأديم الجلد، ولراهشيه، أي: إلى أن وصل القطع للراهشين، وهما عرقان في باطن الذراع يتدفق الدم منهما عند القطع - والضمير في ألفى يعود على المقطوع راهشاه، وهو جذيمة الابرش، والمراد الاخبار بأن جذيمة غدرت به الزباء، وقطعت راهشيه، وسأل منه الدم حتى مات، وأنه وجد ما وعدته من تزوجه بها كذبا ومينا - وهما بمعنى واحد، واحدى الكلمتين زائدة فلا يتغير المعنى باسقاط أيهما شئت وكقول الشاعر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها التأى والبعد
فالنأي والبعد بمعنى واحد، ولا يتعين أحدهما للزيادة.
وأعلمُ علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي (1)
وكل من الحشو والتطويل معيبٌ في البيان، وكلاهما بمعزل عن مراتب البلاغة
واعلم ان دواعي الاطناب كثيرة، منها تثبيت المعنى، وتوضيح المراد والتوكيد، ودفع الايهام، وإثارة الحمية - وغير ذلك وأنواع الاطناب كثيرة (2)
(1)
منها - ذكر الخاص بعد العام: كقوله تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) وفائدته التنبيه على مزية: وفضلٍ في الخاص حتى كأنه لفضله ورفعته، جزءٌ آخرُ، مغاير لما قبله ولهذا خص الصلاة الوسطى (وهي العصر) بالذكر لزيادة فضلها.
(2)
ومنها - ذكر العام بعد الخاص: كقوله تعالى (3)(رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات)
وفائدته شمول بقية الأفراد، والاهتمام بالخاص لذكره ثانياً في عنوان عام، بعد ذكره أولا في عنوان خاص.
(3)
ومنها - الإيضاح بعد الإبهام، لتقرير المعنى في ذهن السامع بذكره مرتين، مرة على سبيل الإبهام والأجمال، ومرّة على سبيل التفصيل والإيضاح، فيزيده ذلك نبلا وشرفاً كقوله تعالى:(يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) - وكقوله تعالى (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين) فقوله (أن دابر هؤلاء) تفسير وتوضيح لذلك (الأمر) المبهم وفائدته توجيه الذهن إلى معرفته، وتفخيم شأن المبين، وتمكينه في النفس فأبهم في كلمة (الأمر) ثم وضحه بعد ذلك تهويلا لأمر العذاب.
(4)
ومنها - التوشيع: وهو أن يؤتى في آخر الكلام بمثنى مفسر بمفردين ليُرى المعنى في صورتين، يخرج فيهما من الخفاء المستوحش إلى الظهور المأنوس، نحو: العلم علمان، علم الأبدان، وعلم الأديان.
(5)
ومنها - التكرير - وهو ذكر الشيء مرتين أو أكثر - لأغراض
(1) الشاهد في قوله - قبله، لأنه معلوم من قوله أمس: وكقول الآخر
ذكرت أخي فعاودني صداع الرأس والوصب
فان الصداع لا يكون الا في الرأس، فذكر الرأس لا فائدة فيه
(2)
ومنها الحروف الزائدة، وتكثير الجمل - (نحو فبما رحمة من الله لنت لهم) .
(3)
من دعاء سيدنا نوح لنفسه ولوالديه وللمؤمنين
الأوّل - التأكيد وتقرير المعنى في النفس كقوله تعالى (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون)(1) وكقوله تعالى (فانَّ مع العُسر يُسراً إن مع العُسر يُسراً)
الثاني - طول الفصل - لئلا يجىء مبتوراً ليس له طلاوة كقوله تعالى «يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين» ، فكّرر (رأيت) لطول الفصل - ومن هذا قول الشاعر:
وإنَّ امرأ دامت مواثيق عهده على مثل هذا إنه لكريمُ (2)
الثالث - قصد الاستيعاب: نحو - قرأت الكتاب باباً باباً - وفهمته كلمة كلمة
الرابع - زيادة الترغيب في العفو - كقوله تعالى (إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم، وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم)
الخامس - الترغيب في قبول النصح باستمالة المخاطب لقبول الخطاب كقوله تعالى (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار) - ففي تكرير (يا قوم) تعطيف لقلوبهم، حتى لا يشكوا في إخلاصه لهم في نصحه.
السادس - التنويه بشأن المخاطب: نحو - إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن ابراهيم.
السابع - الترّديد: وهو تكرار اللفظ متعلقاً بغير ما تعلق به أولا نحو - السخي: قريب من الله، قريب ٌ من الناس، قريب من الجنة والبخيل: بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس، بعيدٌ من الجنة.
الثامن - التلذذ بذكره، نحو قول مروان بن أبي حفصة
…
سقى الله نجداً والسلام على نجد وياحبذا نجد على القُرب والبعد
التاسع - الارشاد إلى الطريقة المثلى، كقوله تعالى (أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى)
(6)
ومنها - الاعتراض لغرض يقصده المتكلم - وهو أن يؤتى في اثناء الكلام، أو بين كلامين متَّصلين في المعنى، بجملة معترضة: أو أكثر، لا محل لها من الاعراب (3)
(1) أي سوف تعلمون ما أنتم عليه من الخطأ إذا شاهدتم هول المحشر، فقد أكد الانذار بتكريره ليكون أبلغ تأثيرا وأشد تخويفا.
(2)
الشاهد في تكرير (إن) التي في أول البيت، وتكريرها في آخره في الأية الكريمة كرر (رأيت) لطول الفصل.
(3)
لم يشترط بعضهم وقوعه بين جزئي جملة ولا بين كلامينخ، بل جوز وقوعه آخر الكلام مطلقا، سواء وليه ارتباط بما قبله أولا - كقوله تعالى (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) - فجملة ونعم الوكيل معترضة، وليست معطوفة على ما قبلها، حتى يلزم عطف الانشاء على الخبر.
وذلك لأغراض يرمي إليها البليغ - غيرَ دَفع الإيهام
(أ) كالدعاء - نحو: إني «حفظك الله» مريضٌ.
وكقول عوف بن محلم الشيباني
إن الثمانين وبُلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (1)
(ب) والتنبيه على فضيلة العلم - كقول الآخر
واعلم فعلمُ المرء ينفعُه أن سوف يأتي كل ما قُدرا
(جـ) والتّنزيه - كقوله تعالى (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)
(د) وزيادة التأكيد - كقوله تعالى (وَوَصينا الإنسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولولديكَ إليَّ المصير)
(هـ) والاستعطاف - كقول الشاعر:
وخفوقِ قلب لو رأيت لهيبه يا جنّتي لرأيت فيه جهنَّما
(و) والتهويل - نحو (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)
(7)
ومنها الإيغال - وهو ختم الكلام بما يُفيد نُكتة، يتم المعنى بدونها- كالمبالغة: في قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نارُ
فقولها: «كأنه علم» وافٍ بالمقصود، لكنها أعقبته بقولها «في رأسه نار «لزيادة المبالغة، ونحو: قوله تعالى (والله يرزق من يشاء بغير حساب) .
(8)
ومنها التذييلُ - وهو تعقيب جملة بجملة أخرى مستقلّة، تشتمل على معناها، تأكيداً لمنطوق الأولى، أو لمفهومها - (2) نحو: قوله تعالى (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) .
(1) بلغتها بفتح التاس أي بلغك الله اياها - وترجمان كزعفران، ويجوز ضم التاء مع الجيم، واعلم أن الدعاء من الشاعر موجه إلى المخاطب بطول عمره - وأن يعيش مثله ثمانين سنة - واعلم أنه قد يقع الاعتراض في الاعتراض كقوله تعالى (فلا اقسم بمواقع النجوم وأنه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم في كتاب مكنون)
(2)
التأكيد ضربان: تأكيد المنطوق كما في هذه الآية، وتأكيد المفهوم كقوله:
ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب؟ ؟
فقد دل بمفهومه على نفي الكمال من الرجال، فأكده بقوله (أي الرجال المهذب)
ونحو: قوله تعالى (ذلكَ جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور)
والتَّذييلُ «قسمان» قسمٌ يستقلُّ بمعناه، لجريانه مجرى المثل وقسمٌ لا يستقل بمعناه، لعدم جريانه مجرى المثل، فالأول: الجاري مجرى الأمثال، لاستقلال معناه، واستغنائه عما قبله كقول طرفةَ:
كلُّ خليل قد كنت خاللته لا ترك الله له واضحه
كلّكم أروغُ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحة
والثاني: غير الجاري مجرى الأمثال، لعدم استغنائه عمّا قبله، ولعدم استقلاله بافادة المعنى المراد، كقول النّابغة:
لم يُبق جُودك لي شيئاً أؤمِّلهُ تركَتني أصحب الدنيا بلا أملِ
فالشطر الثاني: مؤكد للأول، وليس مستقلا عنه، فلم يجر مجرى المثل.
(9)
ومنها الاحتراس - ويقال له التكميل، وهو أن يُؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود، بما يدفع ذلك الوهم)
فالاحتراس: يوجد حينما ياتي المتكلم بمعنى، يمكن أن يدخل عليه فيه لومٌ، فيفطن لذلك: ويأتي بما يخلّصه، سواء أوقع الاحتراس في وسط الكلام.
كقول طرفة بن العبد:
فَسَقى ديارَك غير مُفسدها صوبُ الرَّبيع وَديمَةٌ تهمى (1)
فقوله: غير مفسدها: للاحتراس
أو وقع الاحتراس في آخره، نحو:(ويُعمون الطعام على حبه أي: مع حب الطعام: واشتهائهم له، وذلك أبلغ في الكرم، فلفظ على حبه فضلة للاحتراس ولزيادة التحسين في المعنى، وكقول أعرابية لرجل (أذلَّ الله كل عدوّ لك إلا نفسك) .
(10)
ومنها التَّتميم - وهو زيادةُ فضلة، كمفعول - أو حال أو تمييز - أو جار ومجرور، توجد في المعنى حُسنا بحيث لو حذفت صار الكلام مبتذلا كقول ابن المعتز يصف فرساً
صَببنا عليها (ظالمين) سياَطنا فطارت بها أيد سراعٌ وأرجلُ
إذ لو حذف (ظالمين) لكان الكلام مُبتذلا، لا رقة فيه ولا طلاوة وتوهَّم أنها بليدة تستحق الضرب، ويُستحسن الإطناب في الصلح بين العشائر، والمدح، والثناء، والذّم والهجاء،
(1) لما كان دوام المطر مما يسبب الخراب، دفع هذا الوهم بقوله (غير مفسدها) .
والوعظ، والإرشاد، والخطابة: في أمر من الأمور العامة، والتهنئة ومنشورات الحكومة إلى الأمة، وكتب الولاة إلى الملوك، لاخبارهم بما يحدث لديهم من مَهام الأمور، وهناك أنواع أخرى من الإطناب، كما تقول في الشيء المستبعد: رأيته بعيني، وسمعته بأدنى، وذقته بفمي: تقول ذلك لتأكيد المعنى وتقريره.
وكقوله تعالى (فخرّ عليهم السَّقفُ من فوقهم) والسقف لا يخر طبعاً إلا من فوق، ولكنه دلّ بقوله (من فوقهم) على الإحاطة والشمول واعلم: أن الأطناب أرجحُ عند بعضهم من الإيجاز، وحُجَته في ذلك أن المنطق إنما هو البيان، والبيان لا يكون الا بالاشباع، والإشباع لا يقع إلا بالإقناع، وأفضل الكلام أبينُه، وأبينُه أشده إحاطة بالمعاني - ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامة، إلا بالاستقصاء والاطناب.
والمختار: أن الحاجة إلى كل من الاطناب، والإيجاز، ماسة: وكل موضع لا يسدّ أحدهما مكان الآخر فيه
وللذوق السليم: القول الفصل في موطن كلٍ منهما.