الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العشرون: في طلب أهل الجنة لها من ربهم وطلبها لهم وشفاعتها فيهم إلى ربهم عز وجل
قال الله تعالى حكاية عن أولي الألباب من عباده قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
والمعنى: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من دخول الجنة
وقالت طائفة معناه وآتنا ما وعدتنا على الإيمان برسلك وليس يسهل حذف الاسم والحرف معا إلا أن يقدر على تصديق رسلك وطاعة رسلك وحينئذ فيتكافأ التقديران ويترجح الأول بأنه قد تقدم قولهم {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} وهذا صريح في الإيمان بالرسول والمرسل ثم توسلوا إليه بإيمانهم أن يؤتيهم ما وعدهم على السنة الرسل فإنهم أنما سمعوا بوعدهم لهم بذلك من الرسل وذلك أيضا يتضمن التصديق بهم وأنهم بلغوهم وعده فصدقوا به وسألوه أن يؤتيهم إياه وهذا هو الذي ذكره السلف والخلف في الآية
وقيل المعنى آتنا ما وعدتنا من النصر والظفر على ألسنة الرسل والأول أعم
وأكمل وتأمل كيف تضمن إيمانهم به والإيمان بأمره ونهيه ورسله ووعده ووعيده وأسمائه وصفاته وأفعاله وصدق وعده والخوف من وعيده واستجابتهم لأمره فبمجموع ذلك صاروا مؤمنين بربهم تعالى فبذلك صح لهم التوسل إلى سؤال ما وعدهم به والنجاة من عذابه
وقد أشكل على بعض الناس سؤالهم أن ينجز لهم ما وعدهم مع أنه فاعل لذلك ولا بد
وأجاب بأن هذا تعبد محض كقوله: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَق} وقول الملائكة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} وخفي على هؤلاء أن الوعد معلق بشروط منها الرغبة إليه سبحانه وتعالى وسؤاله أن ينجزه لهم كما أنه معلق بالإيمان وموافاتهم به وأن لا يلحقه ما يحبطه فإذا سألوه سبحانه أن ينجز لهم ما وعدهم تضمن ذلك توفيقهم وتثبيتهم وإعانتهم على الأسباب التي ينجز لهم بها وعده كان هذا الدعاء من أهم الادعية وأنفعها وهم أحوج إليه من كثير من الادعية
وأما قوله رب أحكم فهذا سؤال له سبحانه وتعالى أن ينصرهم على أعدائهم فيحكم لهم عليهم بالنصر والغلبة
وكذلك سؤال الملائكة ربهم أن يغفر للتائبين هو من الأسباب التي يوجب بها لهم المغفرة فهو سبحانه نصب الأسباب التي يفعل بها ما يريده بأوليائه وأعدائه وجعلها أسبابا لإرادته كما جعلها أسبابا لوقوع مراده فمنه السبب والمسبب وإن أشكل عليك ذلك فانظر إلى خلقه الأسباب التي توجب محبته وغضبه فهو يحب ويرضى ويغضب ويسخط عبر الأسباب التي خلقها وشاءها فالكل منه وبه فهو مبتدأ من مشيئته وعائد إلى حكمته وحده وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد لا يلجه إلا العالمون بالله ونظير هذه الآية في سؤاله ما وعد به قوله تعالى {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} يسأله إياه عباده المؤمنون ويسأله إياه ملائكته لهم فالجنة تسأل ربها أهلها وأهلها يسألونه إياها والملائكة تسألها لهم والرسل يسألونه إياها لهم ولأتباعهم ويوم القيامة يقيمهم سبحانه بين يديه يشفعون فيها لعباده المؤمنين وفي هذا من تمام ملكه وإظهار رحمته وإحسانه
وجوده وكرمه وأعطائه ما سئل ما هو من لوازم أسمائه وصفاته واقتضائها لآثارها ومتعلقاتها فلا يجوز تعطيلها عن آثارها وأحكامها فالرب تعالى جواد له الجود كله يحب أن يسئل ويطلب منه ويرغب إليه فخلق من يسأله وألهمه سؤاله وخلق له ما يسأله إياه فهو خالق السائل وسؤاله ومسئوله وذلك لمحبته سؤال عباده له ورغبتهم إليه وطلبهم منه وهو يغضب إذا لم يسئل:
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبني آدم حين يسئل يغضب
وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالا وهو يحب الملحين في الدعاء وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه
وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه " فلا إله إلا هو أي جناية جنت القواعد الفاسدة على الإيمان وحالت بين القلوب وبين معرفة ربها وأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
قال أبو نعيم الفضل حدثنا يونس هو ابن أبي إسحاق حدثنا يزيد بن أبي مرثد قال قال أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يسأل الله الجنة ثلاثا إلا قالت الجنة اللهم أدخله الجنة ومن استجار من النار بالله ثلاثا قالت النار اللهم إجره من النار" رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن هناد بن السري عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن يزيد به
وقال الحسن بن سفيان حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن ليث عن يونس بن حبان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سأل الله عبد الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت الجنة يا رب أن عبدك فلانا
يسألني فأدخلينه".
وقال أبو يعلى الموصلى حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا جرير عن يونس عن أبي حازم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار أن عبدك فلانا استجار مني فأجره ولا يسأل عبد الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة يا رب أن عبدك فلانا سألني فأدخله الجنة" وإسناده على شرط الصحيحين
وقال أبو داود في مسنده حدثنا شعبة حدثني يونس بن حبان سمع أبا علقمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال أسأل الله الجنة سبعا قالت الجنة اللهم أدخله الجنة "
وقال الحسن بن سفيان حدثنا المقدمي حدثنا عمر بن علي عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا مسألة الله الجنة واستعيذوا به من النار فأنهما شافعتان مشفعتان وأن العبد إذا أكثر مسألة الله الجنة قالت الجنة يا رب عبدك هذا الذي سألينك فأسكنه إياي وتقول النار يا رب عبدك هذا الذي استعاذ بك مني فاعذه"
وقد كان جماعة من السلف لا يسألون الله الجنة ويقولون حسبنا أن يجيرنا من النار
فمنهم أبو الصهباء صلة بن أشيم صلى ليلة إلى السحر ثم رفع يديه وقال اللهم أجرني من النار أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟
ومنهم عطاء السلمي كان لا يسأل الجنة فقال له صالح المري إن أبان حدثني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل انظروا في ديوان عبدي فمن رايتموه سألني الجنة أعطيته ومن أستعذ بي من النار أعذته فقال عطاء كفاني أن يجيرني من النار" ذكرها أبو نعيم
وقد روى أبو داود في سننه من حديث جابر في قصة صلاة معاذ وتطويله بهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفتي يعنى الذي شكاه: "كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت قال أقرأ بفاتحة الكتاب وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار وأني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أني ومعاذا حولها ندندن"
وفي سنن أبي داود من حديث محمد بن المنكدر عن جابر عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يسئل بوجه الله إلا الجنة" رواه عن
أحمد بن عمرو العصفري حدثنا يعقوب بن إسحاق حدثنا سليمان بن معاذ عن محمد
فذكره وقد تقدم في أول الكتاب حديث الليث عن معاوية عن صالح عن عبد الملك ابن أبي بشير يرفع الحديث "ما من يوم إلا والجنة والنار يسألان تقول الجنة يا رب قد طابت ثماري وأطردت أنهاري واشتقت إلى أوليائي فعجل إلى بأهلي" الحديث
فالجنة تطلب أهلها بالذات وتجذبهم إليه جذبا والنار كذلك وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نزال نذكرهما ولا ننساهما كما روى أبو يعلي الموصلي في مسنده حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا أيوب بن أبي شبيب الصنعاني قال: كان فيما عرضنا على رباح بن زيد حدثني عبد الله بن نمير سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول لا تنسوا العظيمتين" قلنا: وما العظيمتان يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة والنار" وذكر أبو بكر الشافعي من حديث كليب بن حرب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اطلبوا الجنة جهدكم واهربوا من النار جهدكم فإن الجنة لا ينام طالبها وإن النار لا ينام هاربها وإن الآخرة اليوم محفوفة بالمكاره وإن الدنيا محفوفة باللذات والشهوات فلا تلهينكم عن الآخرة".