المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط المدني

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في بيان وجود الجنة الآن

- ‌الباب الثاني: في اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة والسلام وأهبط منها هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض

- ‌الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة

- ‌الباب الرابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي جنة في الأرض

- ‌الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول

- ‌الباب السادس في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم

- ‌الباب السابع: في ذكر شبه من زعم أن الجنة لم تخلق بعد

- ‌الباب الثامن: في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة

- ‌الباب التاسع: في ذكر عدد أبواب

- ‌الباب العاشر: في ذكر سعة أبوابها

- ‌الباب الحادي عشر: في صفة أبوابها وأنها ذات حلق

- ‌الباب الثاني عشر: في ذكر مسافة ما بين الباب والباب

- ‌الباب الثالث عشر: في مكان الجنة وأين هي

- ‌الباب الرابع عشر: في مفتاح الجنة

- ‌الباب الخامس عشر في توقيع الجنة ومنشورها الذي يوقع به لأصحابها بعد الموت وعند دخولها

- ‌الباب السادس عشر: في توحد طريق الجنة وأنه ليس لها إلا طريق واحد

- ‌الباب السابع عشر: في درجات الجنة

- ‌الباب الثامن عشر: في ذكر أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة

- ‌الباب التاسع عشر: في عرض الرب تعالى سلعته الجنة على عباده وثمنها الذي طلبه منهم وعقد التبايع الذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم

- ‌الباب العشرون: في طلب أهل الجنة لها من ربهم وطلبها لهم وشفاعتها فيهم إلى ربهم عز وجل

- ‌الباب الحادي والعشرون: في أسماء الجنة ومعانيها واشتقاقها

- ‌الباب الثاني والعشرون: في عدد الجنات وأنها نوعان جنتان من ذهب وجنتان من فضة

- ‌الباب الثالث والعشرون: في خلق الرب تبارك وتعالى بعض الجنان وغرسها بيده تفضيلا لها على سائر الجنان

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ذكر أبواب الجنة وخزنتها واسم مقدمهم ورئيسهم

- ‌الباب الخامس والعشرون: في ذكر أول من يقرع باب الجنة

- ‌الباب السادس والعشرون: في ذكر أول الأمم دخولا الجنة

- ‌الباب السابع والعشرون: في ذكر السابقين من هذه الأمة إلى الجنة وصفتهم

- ‌الباب الثامن والعشرون: في سبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذكر أصناف أهل الجنة الذين ضمنت لهم دون غيرهم

- ‌الباب الثلاثون: في أن أكثر أهل الجنة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الحادي والثلاثون: في أن النساء في الجنة أكثر من الرجال وكذلك هم في النار

- ‌الباب الثاني والثلاون: فيمن يدخل الجنة في هذه الأمة بغير حساب وذكر أوصافهم

- ‌الباب الثالث والثلاثون: في ذكر حثيات الرب تبارك وتعالى الذين يدخلهم الجنة

- ‌الباب الرابع والثلاثون: في ذكر تربة الجنة وطينتها وحصبائها وبنائها

- ‌الباب الخامس والثلاثون: في ذكر نورها وبياضها

- ‌الباب السادس والثلاثون: في ذكر غرفها وقصورها ومقاصيرها

- ‌الباب السابع والثلاثون: في ذكر معرفتهم لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلو الجنة وإن لم يروها قبل ذلك

- ‌الباب الثامن والثلاثون: في كيفية دخولهم الجنة وما يستقبلون عند دخولها

- ‌الباب التاسع والثلاثون: في ذكر صفة أهل الجنة في خلقهم وطولهم وعرضهم ومقدار أسنانهم

- ‌الباب الأربعون: في ذكر أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم

- ‌الباب الحادي والأربعون: في تحفة أهل الجنة إذا دخلوها

- ‌الباب الثاني والأربعون: في ذكر ريح الجنة ومن مسيرة كم ينشق

- ‌الباب الثالث والأربعون: في الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة فيها

- ‌الباب الرابع والأربعون: في أشجار الجنة وبساتينها وظلالها

- ‌الباب الخامس والأربعون في ثمارها وتعداد أنواعها وصفاتها وريحانها

- ‌الباب السادس والأربعون في زرع الجنة

- ‌الباب السابع والأربعون: في ذكر أنهار الجنة وعيونها وأصنافها مجراها الذى تجرى عليه

- ‌الباب الثامن والأربعون: في ذكر طعام أهل الجنة وشرابهم ومصرفه

- ‌الباب التاسع والأربعون: في ذكر آنيتهم التي يأكلون فيها ويشربونوأجناسها وصفاتها

- ‌الباب الخمسون: في ذكر لباسهم وحليهم ومناديلهم وفرشهم وبسطهم ووسائدهم ونمارقهم وزرابيهم

- ‌الباب الحادي والخمسون: في ذكر خيامهم وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم

- ‌الباب الثاني والخمسون: في ذكر خدمهم وغلمانهم

- ‌الباب الثالث والخمسون: في ذكر نساء أهل الجنة وأصنافهن وحسنهن وأوصافهن وجمالهن الظاهر والباطن الذي وصفهن الله تعالى به في كتابه

- ‌الباب الرابع والخمسون: في ذكر المادة التي خلق منها الحور العين وما ذكر فيها من الآثار وذكر صفاتهم ومعرفتهن اليوم بأزواجهن

- ‌الباب الخامس والخمسون: في ذكر نكاح أهل الجنة ووطئهم والتذاذهم بذلك أكمل لذة ونزاهة ذلك عن المذي والمني والضعف وأنه لا يوجب غسلا

- ‌الباب السادس والخمسون: في ذكر اختلاف الناس هل في الجنة حمل وولادة أم لا

- ‌الباب السابع الخمسون: في ذكر سماع الجنة وغناء الحور العين وما فيه من الطرب واللذة

- ‌الباب الثامن والخمسون: في ذكر مطايا أهل الجنة وخيولهم ومراكبهم

- ‌الباب التاسع والخمسون: في زيارة أهل الجنة بعضهم بعضا وتذاكرهم ما كان بينهم في الدنيا

- ‌الباب الستون: في ذكر سوق الجنة وما أعد الله تعالى فيه لأهلها

- ‌الباب الحادي والستون: في ذكر زيارة أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى

- ‌الباب الثاني والستون: في ذكر السحاب والمطر الذي يصيبهم في الجنة

- ‌الباب الثالث والستون: في ذكر ملك الجنة وان أهلها كلهم ملوك فيها

- ‌الباب الرابع والستون: في أن الجنة فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وان موضع سوط منها خير من الدنيا وما فيها

- ‌الباب الخامس والستون: في رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة كما يرى القمر ليلة البدر وتجليه لهم ضاحكا إليهم

- ‌الباب السادس والستون: في تكليمه سبحانه وتعالى لأهل الجنة وخطابه لهم ومحاضرته إياهم وسلامه عليهم

- ‌الباب السابع والستون: في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد

- ‌الباب الثامن والستون: في ذكر آخر أهل الجنة دخولا إليها

- ‌الباب التاسع والستون: وهو باب جامع فيه فصول منثورة لم تذكر فيما تقدم من الأبواب

- ‌الباب السبعون: في ذكره من يستحق هذه البشارة دون غيره

الفصل: ‌الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة

‌الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة

قالوا قولنا هذا هو الذي فطر الله عليه الناس صغيرهم وكبيرهم لم يخطر بقلوبهم سواه وأكثرهم لا يعلم في ذلك نزاعا.

قالوا وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله تعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم". وذكر الحديث.

قالوا وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها.

وفي الصحيحين حديث احتجاج آدم وموسى وقول موسى أخرجتنا ونفسك من الجنة ولو كانت في الأرض فهم قد خرجوا من بساتين فلم يخرجوا من الجنة وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا.

قالوا وقد قال تعالى في سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}

ص: 26

فهذا يدل على أن هبوطهم كان من الجنة إلى الأرض من وجهين أحدهما من لفظة اهبطوا فإنه نزول من علو إلى سفل والثاني ولكم في الأرض مستقر عقب قوله اهبطوا فدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض ثم أكد هذا بقوله في سورة الأعراف {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} ولو كانت الجنة في الأرض لكانت حياتهم فيها قبل الإخراج وبعده.

قالوا وقد وصف سبحانه جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال: {إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} وهذا لا يكون في الدنيا أصلا فإن الرجل ولو كان أطيب منازلها لا بد أن يعرض له شيء من ذلك وقابل سبحانه بين الجوع والظمأ والعري والضحى فإن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر فنفى عن سكانها ذل الظاهر والباطن وحر الظاهر والباطن وذلك احسن من المقابلة بين الجوع والعطش والعري والضحى وهذا شأن ساكن جنة الخلد.

قالوا وأيضا فلو كانت تلك الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية وأن ملكها يبلى.

قالوا وأيضا هذه القصة في سورة البقرة ظاهرة جدا في أن الجنة التي أخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ

ص: 27

فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فهذا إهباط آدم وحواء وإبليس من الجنة فلهذا أتى فيه بضمير الجمع وقد قيل إن الخطاب لهما وللحية وهذا ضعيف جدا إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم ولا في السياق ما يدل عليها وقيل الخطاب لآدم وحواء وأتى فيه بضمير الجمع كقوله وكنا لحكمهم شاهدين وهما داود وسليمان وقيل لآدم وحواء وذريتهما.

وهذه الأقوال ضعيفة غير الأول لأنها قول لا دليل عليه بين ما يدل اللفظ على خلافه فثبت أن إبليس داخل في هذا الخطاب وأنه من المهبطين فإذا تقرر هذا فقد ذكر سبحانه الإهباط ثانيا بقوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} والظاهر أن هذا الإهباط الثاني في غير الأول وهو إهباط من السماء إلى الأرض والأول إهباط من الجنة وحينئذ فتكون الجنة التي إهبط منها أولا فوق السماء جنة الخلد وقد ظن الزمخشري أن قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} قال ويدل على ذلك قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم.

ومعنى قوله بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغي

ص: 28

وتضليل بعضهم بعضا وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الآية فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما كما قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان وأعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان.

وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهو ثلاثة فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا؟

وأما قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} وهذا خطاب لآدم وحواء وقد جعل بعضهم لبعض عداوا فالضمير في قوله اهبطا منها أما أن يرجع إلى آدم وزوجته أو إلى آدم وإبليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له وعلى هذا فالعداوة المذكورة للمتخاطبين بالإهباط وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر وأما على الأول فتكون الآية قد اشتملت على أمرين:

أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجه بالهبوط.

والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجته وبين إبليس ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني دون الأول ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِك} وقال للذرية

ص: 29

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} .

وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع دون التثنية؟ وأما الإهباط فتارة يذكره بلفظ الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الأفراد كقوله في سورة الأعراف قال اهبط منها وكذلك في سورة ص وهذا لإبليس وحده وحيث ورد بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم وحيث ورد بلفظ التثنية فأما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية وإما أن يكون لآدم وإبليس إذ هما أبوا الثقلين وأصلا الذرية فذكر حالهما ومآل أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما وقد حكيت القولين في ذلك.

والذي يوضح أن الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لآدم وإبليس إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قال قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا فإن المقصود إخبار الله تعالى للثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط.

وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة فعلم أن حكم الزوجة كذلك وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الإنس وأمهم فتأمله.

قالوا وأيضا فالجنة جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} ونظائره ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة

ص: 30

كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها فحيث ورد لفظها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما أن أريد به جنة غيرها فإنها تجيء منكرة أو مقيدة بالإضافة أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض:

فالأول كقوله: جنتين من أعناب.

والثاني: كقوله ولولا إذ دخلت جنتك. والثالث كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} .

قالوا: ومما يدل على أن جنة آدم هي جنة المآوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري قال إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه صنعة كل شيء فثماركم هذه من ثمار الجنة غير إن هذه تتغير وتلك لا تتغير قالوا.

وقد ضمن الله سبحانه وتعالى له إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها كما روى المنهال عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال أرأيت أن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال بلى قال فهو قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وله طرق عن ابن عباس وفي بعضها كان آدم قال لربه إذ عصاه رب إن أنا تبت وأصلحت فقال له ربه إني راجعك إلى الجنة فهذا بعض ما احتج به القائلون بأنها جنة الخلد ونحن نسوق حجج الآخرين.

ص: 31