المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السابع والستون: في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط المدني

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في بيان وجود الجنة الآن

- ‌الباب الثاني: في اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة والسلام وأهبط منها هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض

- ‌الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة

- ‌الباب الرابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي جنة في الأرض

- ‌الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول

- ‌الباب السادس في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم

- ‌الباب السابع: في ذكر شبه من زعم أن الجنة لم تخلق بعد

- ‌الباب الثامن: في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة

- ‌الباب التاسع: في ذكر عدد أبواب

- ‌الباب العاشر: في ذكر سعة أبوابها

- ‌الباب الحادي عشر: في صفة أبوابها وأنها ذات حلق

- ‌الباب الثاني عشر: في ذكر مسافة ما بين الباب والباب

- ‌الباب الثالث عشر: في مكان الجنة وأين هي

- ‌الباب الرابع عشر: في مفتاح الجنة

- ‌الباب الخامس عشر في توقيع الجنة ومنشورها الذي يوقع به لأصحابها بعد الموت وعند دخولها

- ‌الباب السادس عشر: في توحد طريق الجنة وأنه ليس لها إلا طريق واحد

- ‌الباب السابع عشر: في درجات الجنة

- ‌الباب الثامن عشر: في ذكر أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة

- ‌الباب التاسع عشر: في عرض الرب تعالى سلعته الجنة على عباده وثمنها الذي طلبه منهم وعقد التبايع الذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم

- ‌الباب العشرون: في طلب أهل الجنة لها من ربهم وطلبها لهم وشفاعتها فيهم إلى ربهم عز وجل

- ‌الباب الحادي والعشرون: في أسماء الجنة ومعانيها واشتقاقها

- ‌الباب الثاني والعشرون: في عدد الجنات وأنها نوعان جنتان من ذهب وجنتان من فضة

- ‌الباب الثالث والعشرون: في خلق الرب تبارك وتعالى بعض الجنان وغرسها بيده تفضيلا لها على سائر الجنان

- ‌الباب الرابع والعشرون: في ذكر أبواب الجنة وخزنتها واسم مقدمهم ورئيسهم

- ‌الباب الخامس والعشرون: في ذكر أول من يقرع باب الجنة

- ‌الباب السادس والعشرون: في ذكر أول الأمم دخولا الجنة

- ‌الباب السابع والعشرون: في ذكر السابقين من هذه الأمة إلى الجنة وصفتهم

- ‌الباب الثامن والعشرون: في سبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة

- ‌الباب التاسع والعشرون: في ذكر أصناف أهل الجنة الذين ضمنت لهم دون غيرهم

- ‌الباب الثلاثون: في أن أكثر أهل الجنة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الحادي والثلاثون: في أن النساء في الجنة أكثر من الرجال وكذلك هم في النار

- ‌الباب الثاني والثلاون: فيمن يدخل الجنة في هذه الأمة بغير حساب وذكر أوصافهم

- ‌الباب الثالث والثلاثون: في ذكر حثيات الرب تبارك وتعالى الذين يدخلهم الجنة

- ‌الباب الرابع والثلاثون: في ذكر تربة الجنة وطينتها وحصبائها وبنائها

- ‌الباب الخامس والثلاثون: في ذكر نورها وبياضها

- ‌الباب السادس والثلاثون: في ذكر غرفها وقصورها ومقاصيرها

- ‌الباب السابع والثلاثون: في ذكر معرفتهم لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلو الجنة وإن لم يروها قبل ذلك

- ‌الباب الثامن والثلاثون: في كيفية دخولهم الجنة وما يستقبلون عند دخولها

- ‌الباب التاسع والثلاثون: في ذكر صفة أهل الجنة في خلقهم وطولهم وعرضهم ومقدار أسنانهم

- ‌الباب الأربعون: في ذكر أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم

- ‌الباب الحادي والأربعون: في تحفة أهل الجنة إذا دخلوها

- ‌الباب الثاني والأربعون: في ذكر ريح الجنة ومن مسيرة كم ينشق

- ‌الباب الثالث والأربعون: في الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة فيها

- ‌الباب الرابع والأربعون: في أشجار الجنة وبساتينها وظلالها

- ‌الباب الخامس والأربعون في ثمارها وتعداد أنواعها وصفاتها وريحانها

- ‌الباب السادس والأربعون في زرع الجنة

- ‌الباب السابع والأربعون: في ذكر أنهار الجنة وعيونها وأصنافها مجراها الذى تجرى عليه

- ‌الباب الثامن والأربعون: في ذكر طعام أهل الجنة وشرابهم ومصرفه

- ‌الباب التاسع والأربعون: في ذكر آنيتهم التي يأكلون فيها ويشربونوأجناسها وصفاتها

- ‌الباب الخمسون: في ذكر لباسهم وحليهم ومناديلهم وفرشهم وبسطهم ووسائدهم ونمارقهم وزرابيهم

- ‌الباب الحادي والخمسون: في ذكر خيامهم وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم

- ‌الباب الثاني والخمسون: في ذكر خدمهم وغلمانهم

- ‌الباب الثالث والخمسون: في ذكر نساء أهل الجنة وأصنافهن وحسنهن وأوصافهن وجمالهن الظاهر والباطن الذي وصفهن الله تعالى به في كتابه

- ‌الباب الرابع والخمسون: في ذكر المادة التي خلق منها الحور العين وما ذكر فيها من الآثار وذكر صفاتهم ومعرفتهن اليوم بأزواجهن

- ‌الباب الخامس والخمسون: في ذكر نكاح أهل الجنة ووطئهم والتذاذهم بذلك أكمل لذة ونزاهة ذلك عن المذي والمني والضعف وأنه لا يوجب غسلا

- ‌الباب السادس والخمسون: في ذكر اختلاف الناس هل في الجنة حمل وولادة أم لا

- ‌الباب السابع الخمسون: في ذكر سماع الجنة وغناء الحور العين وما فيه من الطرب واللذة

- ‌الباب الثامن والخمسون: في ذكر مطايا أهل الجنة وخيولهم ومراكبهم

- ‌الباب التاسع والخمسون: في زيارة أهل الجنة بعضهم بعضا وتذاكرهم ما كان بينهم في الدنيا

- ‌الباب الستون: في ذكر سوق الجنة وما أعد الله تعالى فيه لأهلها

- ‌الباب الحادي والستون: في ذكر زيارة أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى

- ‌الباب الثاني والستون: في ذكر السحاب والمطر الذي يصيبهم في الجنة

- ‌الباب الثالث والستون: في ذكر ملك الجنة وان أهلها كلهم ملوك فيها

- ‌الباب الرابع والستون: في أن الجنة فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وان موضع سوط منها خير من الدنيا وما فيها

- ‌الباب الخامس والستون: في رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة كما يرى القمر ليلة البدر وتجليه لهم ضاحكا إليهم

- ‌الباب السادس والستون: في تكليمه سبحانه وتعالى لأهل الجنة وخطابه لهم ومحاضرته إياهم وسلامه عليهم

- ‌الباب السابع والستون: في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد

- ‌الباب الثامن والستون: في ذكر آخر أهل الجنة دخولا إليها

- ‌الباب التاسع والستون: وهو باب جامع فيه فصول منثورة لم تذكر فيما تقدم من الأبواب

- ‌الباب السبعون: في ذكره من يستحق هذه البشارة دون غيره

الفصل: ‌الباب السابع والستون: في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد

‌الباب السابع والستون: في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد

هذا مما يعلم بالاضطرار إن الرسول أخبر به قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي مقطوع ولا تنافي بين هذا وبين قوله إلا ما شاء ربك واختلف السلف في هذا الاستثناء فقال معمر عن الضحاك هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة يقول سبحانه وتعالى أنهم خالدون في الجنة ما دامت السماوات والأرض إلا مدة مكثهم في النار قلت وهذا يحتمل أمرين أحدهما أم يكون الأخبار عن الذين سعدوا وقع عن قوم مخصوصين وهم هؤلاء والثاني وهو الأظهر أن يكون وقع عن جملة السعداء والتخصيص بالمذكورين هو في الاستثناء وما دل عليه وأحسن من هذين التقديرين أن ترد المشيئة إلى الجميع حيث لم يكونوا في الجنة في الموقف وعلى هذا فلا يبقى في الآية تخصيص وقالت فرقة أخرى هو استثناء استثناه الرب تعالى ولا يفعله كما تقول والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا تراه بل تجزم بضربه وقالت فرقة أخرى العرب إذا استثنت شيئا كثيرا مع مثله ومع ما هو أكثر منه كان معنى إلا في ذلك ومعنى الواو سواء والمعنى عى هذا سوا ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض هذا قول الفراء وسيبويه يجعل إلا بمعنى

ص: 345

لكن قالوا ونظير ذلك لان تقول لي عليك ألف إلا الألفين الذين قبلها أي سوى الألفين قال ابن جرير وهذا أحب الوجهين إلى إن الله تعالى لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله عطاء غير مجذوذ قالوا ونظيره أن تقول أسكنتك داري حولا إلا ما شئت أي سوى ما شئت أو لكن ما شئت من الزيادة عليه وقالت فرقة أخرى هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث والبرزخ إلى أن يصيروا إلى الجنة ثم هو الخلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بمقدار إقامتهم في البرزخ وقالت فرقة أخرى العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلى أن يشاء الله خلاف ذلك إعلاما لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته وهذا كما قال لنبيه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك وقوله {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وقوله قل لو شاء الله ما تلوته علكم ونظائره واخبر عباده سبحانه وأن الأمور كلها بمشيئته ما شاء الله كان وما شاء لم يكن وقالت فرقة أخرى الرماد بمدة دوام السماوات والأرض في هذا العالم فأخبر سبحانه أنهم خالدون في الجنة مدة دوام السماوات والأرض إلا ما شاء الله أن يزيدهم عليه ولعل هذا قول من قال إن إلا بمعنى سوى ولكن اختلفت عبارته وهذا اختيار بن قتيبة قال المعنى خالدين فيها مدة العالم سوى ما شاء أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم وقالت فرقة أخرى ما بمعنى من قوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} والمعنى إلا من شاء ربك أن يدخله النار بذنوبه من السعداء والفرق بين هذا القول وبين أول الأقوال أن الاستثناء على هذا القول من المدة وعلى ذلك القول من الأعيان وقالت فرقة أخرى المراد بالسماوات والأرض سماء الجنة وأرضها وهما باقيتان أبدا وقوله {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} إن كانت ما بمعنى من فهم الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها وان كانت بمعنى الوقت فهو مدة احتباسهم في البرزخ والموقف قال

ص: 346

الجعفي سألت عبد الله بن وهب عن هذا الاستثناء فقال سمعت فيه أنه قدر وقوفهم في الموقف يوم القيامة إلى أن يقضي بين الناس وقالت فرقة أخرى الاستثناء راجع إلى مدة لبثهم في الدنيا وهذه الأقوال متقاربة ويمكن الجمع بينها بان يقال اخبر سبحانه وعن خلودهم في الجنة كل وقت إلا وقتا يشاء ان لا يكونوا فيها وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ وفي موقف يوم القيامة وعلى الصراط وكون بعضهم في النار مدة وعلى كل تقدير فهذه الآية من المتشابه وقوله فيها {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} محكم وكذلك قوله وما هم منها وقوله أن هذا لرزقنا ما له من نفاد وقوله {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} وقوله دمائهم منها بخرجين وقد أكد الله سبحانه وتعالى خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القران واخبر أنهما لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وهذا الاستثناء منقطع وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله إلا ما شاء ربك تبين لك المراد من الآيتين واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وذاك مفارقة للجنة تقدم على خلودهم فيها وبالله التوفيق وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم من يدخل الجنة ينعم ولا يبؤس ويخلد ولا يموت وقوله ينادي مناد يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وان تشبوا فلا تهرموا أبدا وان تحيوا فلا تموتوا أبدا وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يجاء بالموت في صورة كبش املح فيوقف بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون مشفقين ويقال يا أهل النار فيطلعون فرحين فيقال هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت"

ص: 347

فصل

وهذا موضع اختلف فيه المتأخرون على ثلاثة أقوال احدها إن الجنة والنار فانيتان غير أبدتيين بل كما هما حادثتان فهما فانيتان والقول الثاني أنهما باقيتان دائمتان لا يفنيان أبدا والقول الثالث أن الجنة باقية أبدية والنار فانية ونحن نذكر هذه الأقوال وما قابلها وما احتج به أرباب كل قوله ونرد ما خالف كتاب الله وسنة رسوله فأما القول بفنائهما فهو قول قاله جهم بن صفوان إمام المعطلة الجهمية وليس له فيه سلف قط من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الإسلام ولا قال به أحد من أهل السنة وهذا القول مما أنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفروهم به وصاحوا بهم من أقطار الأرض كما ذكره عبد الله بن الإمام احمد في كتاب السنة عن خارجة بن مصعب أنه قال كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل بقول الله سبحانه وتعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} وهم يقولون لا يدوم وبقول الله تعالى ان هذا لرزقنا ما له من نفاد وهم يقولون ينفد وبقول الله عز وجل ما عندكم ينفد وما عند الله باق قال شيخ الإسلام وهذا قاله جهم لا صلة الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل لكن قال: إن هذا

ص: 348

يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة شيئا بعد شيء فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر احد منهم على حركة وزعمت فرقة ممن وافقهم على امتناع حوادث لا نهاية لها أن هذا القول مقتضى العقل لكن لما جاء السمع ببقاء الجنة والنار قلنا بذلك وكان هؤلاء لم يعلموا أن ما كان ممتنعا في العقل لا يجيء في الشرع بوقوعه إذ يستحيل عليه أن يخبر بوجود ما هو ممتنع في العقل وكأنهم لم يفرقوا بين محالات العقول ومجازاتها فالسمع يجيء بالثاني لا بالأول فالسمع يجيء بما يعجز العقل عن إدراكه ولا يستقل به ولا يجيء بما لا يعلم العقل أحالته والأكثرون الذين وافقوا جهما وأبا الهذيل على هذا الأصل فرقوا بين الماضي والمستقبل وقالوا الماضي قد دخل في الوجود بخلاف المستقبل والممتنع إنما هو دخول ما لا يتناهى في الوجود لا تقدير دخوله شيئا بعد شيء قالوا أو هذا نظيران يقول القائل لا أعطيك درهما إلا وأعطيتك بعده درهما آخر فهذا ممكن والأول نظير أن يقول لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله درهما فهذا محال وهؤلاء عندهم وجود ما لا يتناهى في الماضي محال ووجوده في المستقبل واجب ونازعهم في ذلك آخرون فقالوا بل الأمر في الماضي كما هو في المستقبل ولا فرق بينهما بل الماضي والاستقبال أمر نسبي فكل ما يكون مستقبلا يصير ماضيا وكل ماض فقد كان مستقبلا فلا يعقل إمكان الدوام في أحد الطرفين وإحالته في الطرف الآخر قالوا وهذه مسألة دوام فاعلية الرب تبارك وتعالى وهو لم يزل ربا قادرا فاعل فانه لم يزل حيا عليما قديرا ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعا عليه لذاته ثم ينقلب فيصير ممكنا لذاته من غير تجدد شيء وليس للأزل حد محدود حتى يصير الفعل ممكنا له عند ذلك الحد ويكون قبله ممتنعا عليه فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده ويكفي في فساده أن الوقت الذي انقلب فيه الفعل من الإحالة الذاتيه إلى الأماكن الذات إما أن يصح أن يفرض قبله وقت يمكن فيه الفعل أولا لا يصح فان قلتم لا يصح كان هذا تحكما غير معقول وهو من جنس الهوس وان قلتم يصح قيل وكذلك ما يفرض قبله لا إلى غاية فما من زمن محقق أو مقدر

ص: 349

إلا والفعل مكن فيه وهو صفة كمال وإحسان ومتعلق حمد الرب وتعالى وربوبيته وملكه وهو لم يزل ربا حميدا ملكا قادرا لم تتجدد له هذه الأوصاف كما أنه لم يزل حيا مريدا عليما والحياة والإرادة والعلم والقدرة تقتضي آثارها ومتعلقاتها فكيف يعقل حي قدير عليم مريد ليس له مانع ولا قاهر يقهره يستحيل عليه أن يفعل شيئا ألبتة وكيف يجعل هذا اصل من أصول الدين ويجعل معيارا على ما اخبر الله به ورسوله ويفرق به بين جائزات العقول ومحالاتها فإذا كان وهذا شان الميزان فكيف يستقيم الموزون به وأما قول من فرق بان الماضي قد دخل في الوجود دون المستقبل فكلام لا تحقيق وراءه فان الذي يحصره الوجود من الحركات هو المتناهي ثم يعدم فيصير ماضيا كما كان معدوما لما كان مستقبلا فوجوده بين عدمين وكلما انقضت جملة حدثت بعدها جملة أخرى فالذي صار ماضيا هو بعينه الذي كان مستقبلا فان دل الدليل على امتناع ما لا يتناهى شيئا قبل شيء فهو بعينه دال على امتناعه شيئا بعد شيء وأما تفريقكم بقولكم المستقبل نظير قوله ما أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده درهما فهذا ممكن والماضي نظير قوله ما أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله درهما فهذا الفرق فيه تلبيس لا يخفى وليس بنظير ما نحن فيه بل نظيره ان يقول ما أعطيك درهما إلا وقد تقدم مني أعطاء درهم قبله فهذا ممكن الدوام في الماضي على حد إمكانه في المستقبل ولا فرق في العقل الصحيح بينهما البتة ولما لم يجد الجهم وأبو الهذيل واتباعهما بين الأمرين فرقا قالوا بوجوب تناهي الحركات في المستقبل كما يجب ابتداؤها عندهم في الماضي

وقال أهل الحديث بل هما سواء في الإمكان والوقوع ولم يزل الرب سبحانه تعالى فعالا لما يريد ولم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال وليس المتمكن من الفعل كل وقت كالذي لا يمكنه الفعل إلا في وقت معين وليس من يخلق كمن لا يخلق ومن يحسن كمن لا يحسن ومن يدبر الأمر كمن

ص: 350

لا يدبر وأي كمال في أن يكون رب العالمين معطلا عن الفعل في مدة مقدرة أو محققة لا تتناهى يستحيل منه الفعل وحقيقة ذلك أنه لا يقدر عليه وإن أبيتم هذا الإطلاق وقلتم أن المحال لا يوصف بكونه غير مقدور عليه فجمعتم بين محالين الحكم بإباحة الفعل من غير موجب لإحالته وانقلابه من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب وزعمتم أن هذا هو الأصل الذي تثبتون به وجود الصانع وحدوث العالم وقيامه الأبدان فجنيتم على العقل والشرع والرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل والكلام بمشيئته ولم يزل فعالا لما يريد ولم يزل ربا محسنا والمقصود إن القول بفناء الجنة والنار قول مبتدع لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين والذين قالوه إنما تلقوه عن قياس فاسد كما اشتبه أصله على كثير من الناس فاعتقدوه حقا وبنوا عليه القول بخلق القران ونفي الصفات وقد دل القرآن والسنة والعقل الصريح على أن كلمات الله وأفعاله لا تتناهى ولا تنقطع بآخر ولا تحد بأول قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فاخبر عن عدم نفاد كلماته لعزته وحكمته وهذان وصفان ذاتيان له سبحانه وتعالى لا يكون إلا كذلك وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره عن سليمان بن عامر قال سمعت الربيع بن أنس يقول إن مثل علم العباد كلهم في علم الله عز وجل كقطرة من هذه البحور كلها وقد انزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية

ص: 351

وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً} الآية يقول سبحانه وتعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات الله والشجر كلها أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وكلمات الله تعالى باقية لا يفنيها شيء لان أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي بل هو كما أثنى على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما يقول ثم إن مثل نعيم الدنيا أوله وآخره وفي نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها فصل وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام فيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين قلت هاهنا أقوال سبعة احدها ان من دخلها لا يخرج منها أبدا بل كل من دخلها مخلد فيها أبد الآباد بإذن الله وهذا قول الخوارج والمعتزلة والثاني أن أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي قال في فصوصه الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ولم يقل وعيده بل قال ويتجاوز عن سيئاتهم مع أنه توعد على ذلك وأثنى على اسماعيل بانه كان صادق الوعد وقد زال الامكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده

وما لوعيد الحق عين تعاين

وان دخلوا دار الشقاء فانهم

على لذة فيها نعيم مباين

نعيم جنان الخلد والامر واحد

وبينهما عند التجلي تباين

يسمى عذابا من عذوبة طعمه

وذاك له كالقشر والقشر صاين

ص: 352

وهذا في طرف والمعتزلة الذين يقولون لا يجوز على الله أن يخلف وعيده بل يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب في طرف فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلا وهذا عنده لا يعذب بها أحد أصلا والفريقان مخالفان لما علم بالاضطرار إن الرسول جاء به واخبر به عن الله عز وجل الثالث قول من يقول إن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون وهذا القول حكاه اليهود للنبي فأكذبهم فيه وقد أكذبهم الله تعالى في القرآن فيه فقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فهذا القول إنما هو قول أعداء الله اليهود فهم شيوخ أر بابه والقائلين به وقد دل القران والسنة وإجماع الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام على فساده قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وقال {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ} وقال {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وقال تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَ} وقال تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}

ص: 353

وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة الرابع قول من يقول يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب حكاه شيخ الإسلام والقران والسنة أيضا يردان على هذا القول كما تقدم الخامس قول من يقول بل تفنى بنفسها لأنها حادثة بعد أن لم تكن وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته وهذا قول جهنم بن صفوان وشيعته ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار السادس قول من يقول تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادا لا يتحركون ولا يحسون بألم وهذا قول أبى الهذيل العلاف إمام المعتزلة طردا لامتناع حوادث لا نهاية لها والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم السابع قول من يقول بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى فانه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها قال شيخ الإسلام وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبى هريرة وأبى سعيد وغيرهم وقد روى عبد بن حميد وهو من اجل أئمة الحديث في تفسيره المشهور حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه وقال حدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون منه ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} فقد رواه عبد وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة عن هذين الجليلين سليمان بن حرب وحجاج ابن منهال

ص: 354

وكلاهما عن حماد بن سلمة وحسبك به وحماد يرويه عن ثابت وحميد وكلاهما يرويه عن الحسن وحسبك بهذا الإسناد جلالة والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به وقال عمر بن الخطاب ولو قدر أنه لم يحفظ عن عمر فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا فلو كان خذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأئمة لكانوا أول منكر له قال ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها فأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين بل يختص بمن عداهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولا يناقض هذا قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} وقوله {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} بل ما أخبر الله به هو الحق والصدق الذي لا يقع خلافه لكن إذا انقضى اجلها وفنيت تفنى الدنيا لم تبق نارا ولم يبق فيها عذاب قال أرباب هذا القول وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قال لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا قالوا وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصا بأهل القبلة فانه سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ

ص: 355

الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} وكذلك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون وأولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعا فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} وقال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} والاستثناء وقع في الآية التي أخبرت عن دخول أولياء الشياطين النار

فمن هاهنا قال ابن عباس لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه قالوا قول من قال أن إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء الله أن يزيدهم من أنواع العذاب وزمنه لا تخفى منافرته للمستثنى والمستثنى منه وإن الذي يفهمه المخاطب مخالفة ما بعد "إلا" لما قبلها

ص: 356

قالوا وقول من قال أنه لإخراج ما قبل دخولهم إليها من الزمان كزمان البرزخ والموقف ومدة الدنيا أيضا لا يساعد عليه وجه الكلام فانه استثناء من جملة خبرية مضمونها أنهم إذا دخلوا النار لبثوا فيها مدة دوام السماوات والأرض إلا ما شاء الله وليس المراد الاستثناء قبل الدخول هذا ما لا يفهمه المخاطب ألا ترى أنه سبحانه يخاطبهم بهذا في النار حين يقولون ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا فيقول لهم حينئذ النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله وفي قوله ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا نوع اعتراف واستسلام وتحسر أي استمتع الجن بنا واستمتعنا بهم فاشتركنا في الشرك ودواعيه وأسبابه وآثرنا الاستمتاع على طاعتك وطاعة رسلك وانقضت آجالنا وذهبت أعمارنا في ذلك ولم نكتسب فيها رضاك وإنما كان غاية امرنا في مدة آجالنا استمتاع بعضنا ببعض فتأمل ما في هذا القول من الاعتراف بحقيقة ما هم عليه وكيف بدت لهم تلك الحقيقة ذلك اليوم وعلموا أن الذي كانوا فيه في مدة آجالهم هو حظهم من استمتاع بعضهم ببعض ولم يستمتعوا بعبادة ربهم ومعرفته وتوحيده ومحبته وإيثار مرضاته وهذا من نمط قولهم لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقوله فاعترفوا بذنبهم وقوله فعلموا أن الحق لله ونظائرة والمقصود أن قوله إلا ما شاء الله عائد إلى هؤلاء المذكورين مختصا بهم أو شاملا لهم ولعصاة الموحدين وأما اختصاصه بعصاة المسلمين دون هؤلاء فلا وجه له ولما رأت طائفة ضعف هذا القول قالوا الاستثناء يرجع إلى مدة البرزخ والموقف وقد تبين ضعف هذا القول ورأت طائفة أخرى أن الاستثناء يرجع إلى نوع آخر من العذاب غير النار

قالوا والمعنى أنكم في النار أبدا إلا ما شاء الله أن يعذبكم بغيرها وهو الزمهرير

ص: 357

وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} قالوا وإلا بدلا يقدر بالأحقاب وقد قال ابن مسعود في هذه الآية ليأتين يوم على جهنم زمان وليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا وعن أبي هريرة مثله حكاه البغوي عنهما ثم قال ومعناه عند أهل السنة أن ثبت أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان قالوا قد ثبت ذلك عن أبي هريرة وابن مسعود وعبد الله بن عمر وقد سال حرب اسحق بن راهويه عن هذه الآية فقال سالت إسحاق قلت قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} فقال أتت هذه الآية على كل وعيد في القران حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال قال أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية تأتي على القران كله إلا ما شاء ربك أن ربك فعال لما يريد قال المعتمر قال أتى على كل وعيد في القران حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بلخ سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا حدثنا عبيد الله حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال ما أنا بالذي لا أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرا قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الآية

ص: 358

قال عبيد الله كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين حدثنا أبو معن حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن سليمان التيمي عن أبي نضرة عن جابر ابن عبد الله أو بعض أصحابه في قوله خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك قال هذه الآية تأتي على القران كله وقد حكى ابن جرير هذا القول في تفسيره عن جماعة من السلف فقال وقال آخرون عنى بذلك أهل النار وكل من دخلها ذكر من قال ذلك ثم ذكر الآثار التي نذكرها وقال عبد الرزاق أنبانا ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب رسول الله في قوله إلا ما شاء ربك أن ربك فعال لما يريد قال هذه الآية تأتي على القران كله يقول حيث كان في القران خالدين فيها تأتي عليه قال وسمعت أبا مجلز يقول جزاؤه فان شاء الله تجاوز عن عذابه وقال ابن جرير حدثنا الحسن بن يحيى أنبانا عبد الرزاق فذكره وقال وحدثت عن المسيّب عمن ذكره عن ابن عباس: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: لا يموتون وما هم منها بمخرجين ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك قال استثنى الله قال أمر الله النار أن تأكلهم قال وقال ابن مسعود ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقابا حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا وحكى ابن جرير في ذلك قولا آخر فقال وقال آخرون اخبرنا الله عز وجل بمشيئته لأهل الجنة فعرفنا معنى ثنياه بقوله عطاء غير مجذوذ وأنها لفي الزيادة على مقدار مدة السماوات والأرض قالوا ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار وجائز أن يكون مشيئته في الزيادة وجائز أن تكون في النقصان حدثني يونس أنبانا ابن وهب قال اقل ابن زيد في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ

ص: 359

إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فقرأ حتى بلغ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فقال اخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال عطاء غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار وقال ابن مردويه في تفسيره حدثنا سليمان بن احمد حدثنا جبير بن عرفة حدثنا يزيد بن مروان الخلال حدثنا أبو خليد حدثنا سفيان يعني الثوري عن عمرو بن دينار عن جابر قال قرأ رسول الله فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك قال رسول الله أن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل وهذا الحديث يدل على أن الاستثناء إنما هو للخروج من النار بعد دخولها خلافا لمن زعم أنه لما قبل الدخول ولكن إنما يدل على إخراج بعضهم من النار وهذا حق بلا ريب وهو لا ينفي انقطاعها وفناء عذابها وآكلها لمن فيها وأنهم يعذبون فيها دائما ما دامت كذلك وما هم منها بمخرجين فالحديث دل على آمرين أحدهما أن بعض الأشقياء أن شاء الله أن يخرجهم من النار وهي نار فعل وأن الاستثناء إنما هو فيما بعد دخولها لا فيما قبله وعلى هذا فيكون معنى الاستثناء ما شاء ربك من الأشقياء فانهم لا يخلدون فيها ويكون الأشقياء نوعين نوعا يخرجون منها النار ونوعا يخلدون فيها فيكونون من الذين شقوا أولا ثم يصيرون من الذين سعدوا فتجتمع لهم الشقاوة والسعادة في وقتين قالوا وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباًلا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً إِلا حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَاءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} فهذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته ولا يقدر إلا بديّ بهذه الأحقاب ولا غيرها كما لا يقدر به القديم ولهذا قال عبد الله بن عمرو فيما رواه شعبة عن أبي بلخ سمع عمرو بن ميمون يحدث عنه" ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا"

ص: 360

فصل والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق أحدها اعتقاد الإجماع فكثير من الناس يعتقدون أن هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه وأن الاختلاف فيه حادث وهو من أقوال أهل البدع الطريق الثاني أن القران دل على ذلك دلالة قطعية فانه سبحانه وتعالى اخبر أنه عذاب مقيم وانه لا يفتر عنهم وأنه لن يزيدهم إلا عذابا وأنهم خالدين فيها أبدا وما هم بخارجين منها أي من النار وما هم منها بمخرجين وأن الله حرم الجنة على الكافرين وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وأنهم لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وأن عذابها كان غراما أي مقيما لازما قالوا وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره الطريق الثالث أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار وأن هذا حكم مختص بهم فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ولم يختص الخروج بأهل الإيمان الطريق الرابع أن الرسول وقفنا على ذلك وعلمناه من دينه بالضرورة من غير حاجة بنا إلى نقل معين كما علمنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها الطريق الخامس أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بان الجنة والنار مخلوقتان وأنهما لا يفنيان بل هما دائمتان وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع

الطريق السادس أن العقل يقضي بخلود الكفار في النار وهذا مبني على قاعدة وهي أن المعاد وثواب النفوس المطيعة وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو مما

ص: 361

يعلم بالعقل أو لا يعلم إلا بالسمع فيه طريقتان لنظار المسلمين وكثير منهم يذهب إلى أن ذلك يعلم بالعقل مع السمع كما دل عليه القران في غير موضع كإنكاره سبحانه على من زعم أنه يسوى بن الأبرار والفجار في المحيا والممات وعلى من زعم أنه خلق خلقه عبثا وأنهم إليها لا يرجعون وأنه يتركهم سدى أي لا يثيبهم ولا يعاقبهم وذلك يقدح في حكمته وكماله وانه نسبه إلى ما لا يليق به وربما قرروه بان النفوس البشرية باقية واعتقاداتها وصفاتها لازمة لها لا تفارقها وأن ندمت عليها لما رأت العذاب فلم تندم عليها لقبحها أو كراهة ربها لها بل لو فارقها العذاب رجعت كما كانت أولا قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فهؤلاء قد ذاقوا العذاب وباشروه ولم يزل سببه ومقتضيه من نفوسهم بل خبثها وكفرها قائم بها لم يفارقها بحيث لو ردوا لعادوا كفارا كما كانوا وهذا يدل على أن دوام تعذيبهم يقضى به العقل كما جاء به السمع قال أصحاب الفناء الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسالة فأما الطريق الأول فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم وإنما يظن الإجماع في هذه المسالة من لم يعرف النزاع وقد عرف النزاع فيها قديما وحديثا بل لو كلف مدعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه قال إن النار لا تفنى أبدا لم يجد إلى ذلك سبيلا ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك بل التابعون حكوا عنهم هذا وهذا قالوا والإجماع المعتد به نوعان متفق عليهما ونوع ثالث مختلف فيه ولم يوجد واحد منها في هذه المسالة النوع الأول ما يكون معلوما من ضرورة الدين كوجوب أركان الإسلام وتحريم المحرمات الظاهرة

ص: 362

الثاني ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه والثالث أن يقول بعضهم القول وينشر في الأمة ولا ينكره أحد فأين معكم واحد من هذه الأنواع ولو أن قائلا ادعى الإجماع من هذه الطرق واحتج بان الصحابة صح عنهم ولم ينكر أحد منهم عليه لكان اسعد بالإجماع منكم قالوا وأما الطريق الثاني وهو دلالة القران على بقاء النار وعدم فنائها فأين في القران دليل واحد يدل على ذلك نعم الذي دل عليه القران أن الكفار خالدين في النار أبدا وأنهم غير خارجين منها وانه لا يفتر عنهم عذابها وأنهم لا يموتون فيها وأن عذابهم فيها مقيم وانه غرام لازم لهم وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب الله عليه الفناء وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم من عذابها ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والاتحادية وبعض أهل البدع وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها فالفرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله وبين من يبطل جنسه بخراب الحبس وانتقاضه قالوا وأما الطريق الثالث وهو مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك فهي حق لا شك فيه وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحدين منها وهي دار العذاب لم تفن ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية والنصوص دلت على هذا وعلى هذا قالوا وأما الطريق الرابع وهو أن رسول الله وقفنا على ذلك ضرورة فلا ريب أنه من المعلوم من دينه بالضرورة أن الكفار باقون فيها

ص: 363

ما دامت باقية هذا معلوم من دينه بالضرورة وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة فأين من القران والسنة دليل واحد يدل على ذلك قالوا وأما الطريق الخامس وهو أن في عقائد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبدا فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين وأما فناء النار وحدها فقد أوجدنا كم من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار فكيف يكون القول به من أقوال أهل البدع مع أنه لا يعرف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين فقولكم أنه من أقوال أهل البدع كلام من لا خبرة له بمقالات بني آدم وآرائهم واختلافهم قالوا والقول الذي يعد من أقوال أهل البدع ما خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة أما الصحابة أو من بعدهم وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فلا يعد من أقوال أهل البدع وأن دانوا به واعتقدوه فالحق يجب قبوله ممن قاله والباطل يجب رده على من قاله وكان معاذ بن جبل يقول الله حكم قسط هلك المرتابون أن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القران حتى يقرؤه المؤمن والمنافق والمرآة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القران فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع بدلهم غيره فإياكم وما ابتدع فان كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فان الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فان على الحق نورا قالوا وكيف زيغة الحكيم قال هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فانه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق وأن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة والذي اخبر به أهل السنة في عقائدهم هو الذي دل عليه الكتاب والسنة واجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان وأن أهل النار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها العذاب ولا يفتر عنهم وأنهم خالدون فيها ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى

ص: 364

أبدا فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها ولم يبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها قالوا وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها فأخبار عن العقل بما ليس عنده فان المسالة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق وأما اصل الثواب والعقاب فهل يعلم بالعقل مع السمع أول لا يعلم إلا بالسمع وحده ففيه قولان لنظار المسلمين من اتباع الأئمة الأربعة وغيرهم والصحيح أن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالا وأما تفصيله فلا يعلم إلا بالسمع ودوام الثواب والعقاب مما لا يدل عليه العقل بمجرده وإنما علم بالسمع وقد دل السمع دلالة قاطعة على دوام ثواب المطيعين وأما عقاب العصاة فقد دل السمع أيضا دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهذا معترك النزال فمن كان السمع من جانبه فهو اسعد بالصواب وبالله التوفيق فصل ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار شرعا وعقلا وذلك يظهر من وجوه أحدها أن الله سبحانه وتعالى اخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامه وانه لا نفاد له ولا انقطاع وانه غير مجذوذ وأما النار فلم يخبر عنها بأكثر من خلود أهلها فيها وعدم خروجهم منها وأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وإنها مؤصدة عليهم وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وأن عذابها لازم لهم وانه مقيم عليهم لا يفتر عنهم والفرق بين الخبرين ظاهر الوجه الثاني أن النار قد اخبر سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدل على عدم أبديتها الأولى قوله سبحانه وتعالى قال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} والثانية قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ

ص: 365

وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} الثالثة قوله {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} ولولا الأدلة القطعية الدالة على أبدية الجنة ودوامها لكان حكم الإستثنائين في الموضعين واحدا كيف وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الإستثنائين فانه قال في أهل النار {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فعلمنا أنه الله سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلا لم يخبرنا به وقال في أهل الجنة عطاء غير مجذوذ فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدا فالعذاب موقت معلق والنعيم ليس بموقت ولا معلق

الوجه الثالث أنه قد ثبت أن الجنة لم يدخلها من لم يعمل خيرا قط من المعذبين الذين يخرجهم الله من النار وأما النار فلم يدخلها من لم يعمل سوءا قط ولا يعذب إلا من عصاه

الوجه الرابع أنه قد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ينشئ للجنة خلقا آخر يوم القيامة يسكنهم إياها ولا يفعل ذلك بالنار وأما الحديث الذي قد ورد في صحيح البخاري من قوله وأما النار فينشئ الله لها خلقا آخرين فغلط وقع من بعض الرواة انقلب عليه الحديث وإنما هو ما ساقه البخاري في الباب نفسه وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا آخرين ذكره البخاري رحمه الله مبينا أن الحديث انقلب لفظه على من رواه بخلاف هذا وهذا والمقصود أنه لا تقاس النار بالجنة في التأبيد مع هذه الفروق

يوضحه الوجه الخامس أن الجنة من موجب رحمته ورضاه والنار من غضبه وسخطه ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو

ص: 366

عنده موضوع على العرش أن رحمتي تغلب غضبي وإذا كان رضاه قد سبق غضبه وهو يغلبه كان التسوية بين ما هو من موجب رضاه وما هو من موجب غضبه ممتنعا"

يوضحه الوجه السادس أن ما كان بالرحمة وللرحمة فهو مقصود لذاته قصد الغايات وما كان من موجب الغضب والسخط فهو مقصود لغيره قصد الوسائل فهو مسبوق مغلوب مراد لغيره وما كان بالرحمة فغالب سابق مراد لنفسه يوضحه الوجه السابع وهو أنه سبحانه وتعالى قال للجنة أنت رحمتي ارحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء وعذابه مفعول منفصل وهو ناشئ عن غضبه ورحمته هاهنا هي الجنة وهي رحمة مخلوقة ناشئة عن الرحمة التي هي صفة الرحمن فهاهنا أربعة أمور رحمة هي وصفه سبحانه وثواب منفصل هو ناشئ عن رحمه وغضب يقوم به سبحانه وعقاب منفصل ينشا عنه فإذا غلبت صفة الرحمة صفة الغضب فلان يغلب ما كان بالرحمة لما كان بالغضب أولى وأحرى فلا تقاوم النار التي نشأت عن الغضب الجنة التي نشأت عن الرحمة يوضحه الوجه الثامن أن النار خلقت تخويفا للمؤمنين وتطهيرا للخاطئين والمجرمين فهي طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في هذا العالم فان تطهرت هاهنا بالتوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفرة لم يحتج إلى تطهير هناك وقيل لها مع جملة الطيبين سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وأن لم نطهر في هذه الدار ووافت الدار الأخرى بدرنها ونجاستها وخبثها أدخلت النار طهرة لها ويكون مكثها في النار بحسب زوال ذلك الدرن والخبث والنجاسة التي لا يغسلها الماء فإذا تطهرت الطهر التام أخرجت من النار والله سبحانه خلق عباده حنفاء وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها فلو خلوا وفطرهم لما نشؤا إلا على التوحيد ولكن عرض لا كثر الفطر ما غيرها ولهذا كان نصيب النار أكثر من نصيب الجنة وكان هذا التغيير مراتب لا يحصيها إلا الله فأرسل الله رسله وانزل كتبه يذكر عباده بفطرته التي فطرهم عليها فعرف الموفقون الذين سبقت لهم من الله الحسنى صحة ما جاءت

ص: 367

به الرسل ونزلت به الكتب بالفطرة الأولى فتوافق عندهم شرع الله ودينه الذي أرسل به رسله وفطرته التي فطرهم عليها فمنعتهم الشرعة المنزلة والفطرة المكملة أن تكتسب نفوسهم خبثا ونجاسة ودرنا يعلق بها ولا يفارقها بل كلما ألم بهم شيء من ذلك ومسهم طائف من الشيطان أغاروا عليه بالشرعة والفطرة فأزالوا موجبه وأثره وكمل لهم الرب تعالى ذلك بأقضية يقضيها لهم مما يحبون أو يكرهون تمحص عنهم تلك الآثار التي شوشت الفطرة فجاء مقتضى الرحمة فصادف مكانا قابلا مستعدا لها ليس فيه شيء يدافعه فقال ههنا أمرت وليس لله سبحانه غرض في تعذيب عباده بغير موجب كما قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة ونقلها مما خلقت عليه إلى ضده حتى استحكم الفساد وتم التغيير فاحتاجوا في إزالة ذلك إلى تغيير آخر وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم تنقلهم آيات الله المتلوة والمخلوقة وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار فأتاح لهم آيات آخر وأقضية وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار فإذا زال موجب العذاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له فان قيل هذا حق ولكن سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضا كمعاصي الموحدين أما إذا كان لازما كالكفر والشرك فان أثره لا يزول كما لا يزول السبب وقد أشار سبحانه إلى هذه المعنى بعينه في مواضع من كتابه منها قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فهذا إخبار بان نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} فاخبر سبحانه أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فان موجبه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وهذا يدل على أنه

ص: 368

ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره ويدل على أنهم لا خير فيهم هناك أيضا قوله اخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من خير فلو كان عند هؤلاء أدنى أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا منها مع الخارجين قيل لعمر الله أن هذا لمن أقوى ما يتمسك به في المسألة وأن الأمر لكما قلتم وأن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه ولا ريب أنهم في الآخرة في عمي وضلال كما كانوا في الدنيا وبواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا والعذاب مستمر عليهم دائم ما داموا كذلك ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمر ذاتي لهم زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال هذا حرف المسألة وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وانه أمر ذاتي وقد اخبر سبحانه وتعالى أنه فطر عباده على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب كما فطر الحيوان البهيم على طبيعته وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده فإذا كان هذا الحق الذي قد فطروا عليه وقد خلقوا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل فإمكان زوال الكفر والشرك الباطل بضده من الحق أولى وأحرى ولا ريب أنهم لو ردوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لما نهوا عنه ولكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تتبدل بنشأة أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم فان العذاب لم يكن سدى وإنما كان لحكمة مطلوبة فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب ولا غرض يقصد والله سبحانه ليس يشتفي بعذاب عباده كما يشتفى المظلوم من ظالمه وهو لا يعذب عبده لهذا الغرض وإنما يعذبه طهرة له ورحمة به فعذابه مصلحة له وأن تألم به غاية الألم كما أن عذابه بالحدود في الدنيا مصلحة لأربابها

وقد سمى الله سبحانه وتعالى الحد عذابا وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل

ص: 369

داء دواء يناسبه ودواء الضال يكون من اشق الأدوية والطبيب الشفيق يكون المريض بالنار كيا بعد كي ليخرج منه المادة الرديئة الطارئة على الطبيعة المستقيمة وأن رأى قطع العضو أصلح للعليل قطعه وأذاقه اشد الألم فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طرأت على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد فكيف إذا طرا على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته وإذا تأمل اللبيب شرع الله تبارك وتعالى وقدره في الدنيا وثوابه وعقابه في الآخرة وجد ذلك في غاية التناسب والتوافق وارتباط ذلك ببعضه البعض فان مصدر الجميع عن علم تام وحكمة بالغة ورحمة سابغة وهو سبحانه والملك الحق المبين وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل الوجه التاسع أن عقوبته للعبد ليست لحاجته إلى عقوبته لا لمنفعة تعود إليه ولا لدفع مضرة وألم يزول عنه بالعقوبة بل يتعالى عن ذلك ويتنزه كما يتعالى عن سائر العيوب والنقائص ولا هي عبث محض خال عن الحكمة والغاية الحميدة فانه أيضا يتنزه عن ذلك وتعالى عنه فأما أن يكون من تمام نعيم أوليائه وأحبابه وأما أن يكون من مصلحة الأشقياء ومداواتهم أو لهذا ولهذا وعلى التقادير الثلاث فالتعذيب أمر مقصود لغيره قصد الوسائل لا قصد الغايات والمراد أن الوسيلة إذا حصل على الوجه المطلوب زال حكمها ونعيم أوليائه ليس متوقفا في أصله ولا في كماله على استمرار عذاب أعدائه ودوامه مصلحة الأشقياء ليست في الدوام والاستمرار وأن كان في اصل التعذيب مصلحة لهم الوجه العاشر أن رضى الرب تبارك وتعالى ورحمته صفتان ذاتيتان له فلا منتهى لرضاه بل كما قال أعلم الخلق به سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته فإذا كانت رحمته غلبت غضبه فان رضى نفسه أعلى وأعظم فان رضوانه أكثر من الجنات ونعيمها وكل ما فيها وقد اخبر أهل الجنة أنه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا وأما غضبه تبارك وتعالى وسخطه فليس من

ص: 370

صفاته الذاتية التي يستحيل انفكاكه عنها بحيث لم يزل ولا يزال غضبان والناس لهم في صفة الغضب قولان أحدهما أنه من صفاته الفعلية القائمة به كسائر أفعاله والثاني أنه صفة فعل منفصل عنه غير قائم به وعلى القوانين فليس كالحياة والعلم والقدرة التي يستحيل مفارقتها له والعذاب إنما ينشا من صفة غضبه وما سعرت النار إلا بغضبه وقد جاء في اثر مرفوع أن الله خلق خلقا من غضبه وأسكنهم بالمشرق وينتقم بهم ممن عصاه فمخلوقاته سبحانه نوعان نوع مخلوق من الرحمة وبالرحمة ونوع مخلوق من الغضب وبالغضب فانه سبحانه له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي يتنزه عن تقدير خلافه ومنها أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل وينتقم ويعفو بل هذا موجب ملكه الحق وحقيقة الملك المقرون بالحكمة والرحمة والحمد فإذا زال غضبه سبحانه وتعالى وتبدل برضاه زالت عقوبته وتبدلت برحمته فانقلبت العقوبة إلى رحمة بل لم تزل رحمة وأن تنوعت صفتها وصورتها كما كان عقوبة العصاة رحمة وإخراجهم من النار رحمة فتقلبوا في رحمته في الدنيا وتقلبوا فيها في الآخرة لكن تلك الرحمة يحبونها وتوافق طبائعهم وهذه رحمة يكرهونها وتشق عليهم كرحمة الطبيب الذي يضع لحم المريض ويلقي عليه المكاوي ليستخرج منه المواد الرديئة الفاسدة فان قيل هذا اعتبار غير صحيح فان الطبيب يفعل ذلك بالعليل وهو يحبه وهو راض عنه ولم ينشا فعله به عن غضبه بغضبه عليه ولهذا لا يسمى عقوبة وأما عذاب هؤلاء فانه إنما حصل بغضبه سبحانه عليهم وهو عقوبة محضة قيل هذا حق ولكن لا ينافي كونه رحمة بهم وأن كان عقوبة لهم وهذا كإقامة الحدود عليهم في الدنيا فانه عقوبة ورحمة وتخفيف وطهرة فالحدود طهرة لأهلها وعقوبة وهم لما أغضبوا الرب تعالى وقابلوه بما لا يليق أن يقابل به وعاملوه أقبح المعاملة وكذبوه وكذبوا رسله وجعلوا اقل خلقه وأخبثهم وامقتهم له ندا

ص: 371

له وإلهه معه واثروا رضاهم على رضاه وطاعتهم على طاعته وهو ولي الإنعام عليهم وهو خالقهم ورازقهم ومولاهم الحق اشتد مقته لهم وغضبه عليهم وذلك يوجب كمال أسمائه وصفاته التي يستحيل عيله تقدير خلافها ويستحيل عليه تخلف آثارها ومقتضاها عنها بل ذلك تعطيل لأحكامها كما أن نفيها عنه تعطيل لحقائقها وكلا التعطيلين محال عليه سبحانه وتعالى فالمعطلون نوعان أحدهما عطل صفاته والثاني عطل أحكامها وموجباتها وكان هذا العذاب عقوبة لهم من هذا الوجه ودواء لهم من جهة الرحمة السابقة للغضب فاجتمع فيه الأمران فإذا زال الغضب بزوال المادة الفاسدة بتغيير الطبيعة المقتضية لها في الجحيم بمرور الأحقاب عليها وحصلت الحكمة التي أوجبت العقوبة عملت الرحمة عملها وطلبت أثرها من غير معارض يوضحه الوجه الحادي عشر وهو أن العفو أحب إليه سبحانه من الانتقام والرحمة أحب إليه من العقوبة والرضا أحب إليه من الغضب والفضل أحب إليه من العدل ولهذا ظهرت آثار هذه المحبة في شرعه وقدره ويظهر كل الظهور لعباده في ثوابه وعقابه وإذا كان ذلك أحب الأمرين إليه وله خلق الخلق وانزل الكتب وشرع الشرائع وقدرته سبحانه صالحة لكل شيء لا قصور فيها بوجه ما وتلك المواد الردية الفاسدة مرض من الأمراض وبيده سبحانه وتعالى الشفاء التام والأدوية الموافقة لكل داء وله القدرة التامة والرحمة السابغة والغنى المطلق بالعبد أعظم حاجة إلى من يداوي علته التي بلغت به غاية الضرر والمشقة وقد عرف العبد أنه عليل وأن دواءه بيد الغني الحميد فتضرع إليه ودخل به عليه واستكان له وانكسر قلبه بين يديه وذل لعزته وعرف أن الحمد كله له وأن الحق كله له وانه هو الظلوم الجهول وان ربه تبارك وتعالى عامله بكل عدله لا ببعض عدله وأن له غاية الحمد فيما فعل به وأن حمده هو الذي أقامه في هذا المقام وأوصله إليه وانه لا خير عنده من نفسه بوجه من الوجوه بل ذلك محض فضل الله وصدقته عليه وانه لا نجاة

ص: 372

له مما هو فيه إلا بمجرد العفو والتجاوز عن حقه فنفسه أولى بكل ذم وعيب ونقص وربه تعالى أولى بكل حمد وكمال ومدح فلو أن أهل الجحيم شهدوا نعمته سبحانه ورحمته وكماله وحمده الذي أوجب لهم ذلك فطلبوا مرضاته ولو بدوامهم في تلك الحال وقالوا أن كان ما نحن فيه رضاك فرضاك الذي نريد وما أوصلنا إلى هذه الحال إلا طلب مالا يرضيك فأما إذا أرضاك هذا منا فرضاك غاية ما نقصده وما لجرح إذا أرضاك من ألم وأنت ارحم بنا من أنفسنا واعلم بمصالحنا ولك الحمد كله عاقبت أو عفوت لانقلبت النار عليهم بردا وسلاما وقد روى الإمام احمد في مسنده من حديث الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي أربعة يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما اسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب لقد جاء الإسلام والضبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول ربى لقد جاء الإسلام وما اعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني لك من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما وفي المسند أيضا من حديث قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله وقال فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها فهؤلاء لما رضوا بتعذيبهم وبادروا إليه لما علموا أن فيه رضى ربهم وموافقة أمره ومحبته انقلب في حقهم نعيما ومثل هذا ما رواه عبد الله بن المبارك حدثني رشدين قال حدثني ابن انعم عن أبي عثمان أنه حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال أن رجلين ممن دخلا النار يشتد صياحهما فقال الرب جل جلاله

ص: 373

أخرجوهما فإذا أخرجا فقال لهما لأي شيء اشتد صياحكما قال فعلنا ذلك لترحمنا قال رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار قال فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها الله سبحانه عليه بردا وسلاما ويقوم الآخر فلا يلقي فيقول له الرب تبارك وتعالى ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك فيقول رب إني أرجوك أن لا تعيدني فيها بعدما أخرجتني منها فيقول الرب وتعالى لك رجاؤك فيدخلان الجنة جميعا برحمة الله وذكر الأوزاعي عن بلال بن سعد قال يؤمر بإخراج رجلين من النار فإذا خرجا ووقفا قال الله لهما كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما فيقولان شر مقيل وأسوا مصير صار إليه العبد فيقول لهما بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد قال فيؤمر بصرفهما إلى النار فأما أحدهما فيغدوا في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها وأما الآخر فيتلكا فيؤمر بردهما فيقول للذي غدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها ما حملك على ما صنعت وقد خرجت منها فيقول إني خبرت من وبال معصيتك وما لم اكن أتعرض لسخطك ثانيا ويقول للذي تلكأ ما حملك على ما صنعت فيقول حسن ظني بك حين أخرجتني منها أن لا تردني إليها فيرحمهما جميعا ويأمر بهما إلى الجنة الوجه الثاني عشر أن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره كرمه ولذلك يضيف ذلك إلى نفسه وأما العذاب والعقوبة فإنما هو من مخلوقاته ولذلك لا يسمى بالمعاقب والمعذب بل يفرق بينهما فيجعل ذلك من أوصافه وهذا من مفعولاته حتى في الآية الواحدة كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}

ص: 374

ومثلها في آخر الأنعام فما كان مقتضى أسمائه وصفاته فانه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوبا له وهو غاية مطلوبة في نفسها وأما الشر الذي هو العذاب فلا يدخل في أسمائه وصفاته إن ادخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفنني بخلاف الخير فانه سبحانه وتعالى دائم المعروف لا ينقطع معروفه أبدا وهو قديم الإحسان ابدي الإحسان فلم يزل ولا يزال معاقبا على الدوام غضبان على الدوام منتقما على الدوام فتأمل هذا الوجه تأمل ففيه في باب أسماء الله وصفاته يفتح لك باب من أبواب معرفته ومحبته يوضحه الوجه الثالث عشر وهو قول اعلم خلقه به واعرفهم بأسمائه وصفاته والشر ليس إليك ولم يقف على المعنى المقصود من قال الشر لا يتقرب به إليك بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه فان ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه وصفاته كلها صفات كمال ويحمد عليها ويثنى عليه بها وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل وحكمة لا شر فيها بوجه ما وأسماؤه كلها حسنى فكيف يضاف الشر إليه بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه إذ فعله غير مفعول ففعله خير كله وأما المخلوق المفعول ففيه الخير والشر وإذا كان الشر مخلوقا منفصلا غير قائم بالرب سبحانه فهو لا يضاف إليه وهو لم يقل أنت لا تخلق الشر حتى يطلب تأويل قوله وإنما نفى إضافته إليه وصفا وفعلا وأسماء وإذا عرف هذا فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها وأما الآخر فهو الإيمان والطاعات وموجباتها والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه ولأجلها خلق الله خلقه وأرسل رسله وانزل كتبه وهي ثناء على الرب تبارك وتعالى وإجلاله وتعظيمه وعبوديته وهذه لها آثار تطلبها وتقتضيها فتدوم آثارها بدوام متعلقها

ص: 375

وأما الشرور فليس مقصودة لذاتها ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق فهي مفعولات قدرت لأمر محبوب وجعلت وسيلة إليه فإذا حصل ما قدرت له اضمحلت وتلاشت وعاد الأمر إلى الخير المحض الوجه الرابع عشر أنه سبحانه وتعالى اخبر إن رحمته وسعت كل شيء فليس شيء من الأشياء إلا وفيه رحمته ولا ينافي هذا أنت ترحم العبد بمات يشق عليه ويؤلمه وتشتد كراهته له فان ذلك من أيضا كما تقدم وقد ذكرنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه آنفا وقوله تعالى: لذينك الرجلين رحمتي لكما إن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار وقد جاء في بعض الآثار إن العبد إذا دعى لمبتلى قد اشتد بلاؤه وقال اللهم ارحمه يقول الرب تبارك وتعالى كيف ارحمه من شيء به ارحمه فالابتلاء رحمة منه لعباده وفي اثر الهي يقول الله تعالى أهل ذكر أهل مجالستي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل معصيتي لأقنطهم من رحمتي إن تأبوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ابتليهم بالمصايب لأطهرهم من المعايب فالبلاء والعقوبة قدرته لإزالة أدواء لا تزول إلا بها والنار هي الدواء الأكبر فمن تداوى في الدنيا أغناه ذلك عن الدواء في الآخرة وإلا فلا بدله من الدواء بحسب دائه ومن عرف الرب تبارك وتعالى بصفات جلاله ونعوت كماله من حكمته ورحمته وبره وإحسانه وغناه وجوده وتحببه إلى عباده وإرادة الأنعام عليهم وسبق رحمته لهم يبادر لا إنكار ذلك إن لم يبادر إلى قبوله

يوضحه الوجه الخامس عشر إن أفعاله سبحانه لا تخرج عن الحكمة والرحمة والمصلحة والعدل فلا يفعل عبثا ولا جورا ولا باطلا بل هو المنزه عن ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص وإذا ثبت ذلك فتعذيبهم إن كان رحمة بهم حتى يزول ذلك الخبث وتكمل الطهارة فظاهر وإن كان لحكمة فإذا حصلت تلك الحكمة المطلوبة زال العذاب وليس في الحكمة دوام العذاب أبدا الآباد بحيث يكون دائما بدوام الرب تبارك وتعالى وإن كان لمصلحة وإن كان لمصلحة فإن كان يرجع إليهم"فليست مصلحتهم

ص: 376

في بقائهم في العذاب كذلك، وإن كانت المصلحة تعود إلى أوليائه فان ذلك أكمل في نعيمهم فهذا لا يقتضي تأبيد العذاب وليس نعيم أوليائه وكماله موقوفا على بقاء آبائهم وأبنائهم وأزواجهم في العذاب السرمد فان قلتم إن ذلك موجب الرحمة والحكمة والمصلحة قلتم ما لا يعقل وإن قلتم إن ذلك عائد إلى محض المشيئة ولا تطلب له حكمة ولا غاية فجوابه من وجهين أحدهما إن ذلك محال على أحكم الحاكمين واعلم العالمين إن تكون أفعاله معطلة عن الحكم والمصالح والغايات المحمودة والقرآن والسنة وأدلة العقول والفطر والآيات المشهودة شاهدة ببطلان ذلك والثاني أنه لو كان الأمر كذلك لكان بقاؤهم في العذاب وانقطاعه عنهم بالنسبة إلى مشيئته سواء ولم يكن في انقضائه ما ينافي كماله وهو سبحانه لم يخبر بأبدية العذاب وانه لا نهاية له وغاية الأمر على هذا التقدير إن يكون من الجائزات الممكنات الموقوف على حكمها على خبر الصادق فان سلكت طريق التعليل بالحكمة والرحمة والمصلحة لم يقتض الدوام وإن سلكت طريق المشيئة المحضة التي لا تعلل لم تقتضه أيضا وإن وقف الأمر على مجرد السمع فليس فيه متن يقتضيه الوجه السادس عشر أن رحمته سبحانه سبقت غضبه في المعذبين فانه أنشأهم برحمته ورباهم برحمته ورزقهم وعافاهم برحمته وأرسل إليهم الرسل برحمته وأسباب النقمة والعذاب متأخر عن أسباب الرحمة طارئة عليها فرحمته سبقت غضبه فيهم وخلقهم على خلقة تكون رحمته إليهم اقرب من غضبه وعقوبته ولهذا ترى الأطفال الكفار قد آلت عليهم رحمته فمن رآهم رحمهم ولهذا نهى

ص: 377

عن قتلهم فرحمته سبقت غضبه فيهم فكانت هي السابقة إليهم ففي كل حال هم في رحمته في حال معافاتهم وابتلائهم وإذا كانت الرحمة هي السابقة فيهم لم يبطل أثرها بالكلية وان عارضها اثر الغضب والسخط فذلك لسبب منهم وأما اثر الرحمة فسببه منه سبحانه وتعالى فما منه يقتضي رحمتهم وما منهم يقتض عقوبتهم والذي منه سابق وغالب وإذا كانت رحمته تغلب غضبه فلان يغلب اثر الرحمة اثر الغضب أولى وأحرى الوجه السابع عشر أنه سبحانه وتعالى يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عقيم وعذاب يوم عظيم وعذاب يوم اليم ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة والمعذبون متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم والله سبحانه جعل العذاب على ما كان في الدنيا وأسبابها وما أريد به الدنيا ولم ولك يرد به الله فالعذاب على ذلك وأما إن كان للآخرة وأريد به وجه الله فلا عذاب والدنيا قد جعل لها اجل تنتهي إليه فما انتقل منها إلى تلك الدار مما ليس لله فهو المعذب به وأما ما أريد به وجه الله والدار الآخرة فقد أريد به ما لا يفنى ولا يزول فيدوم بدوام المراد به فان الغاية المطلوبة إذا كانت دائمة لا تزول ما لم يزل ما تعلق بها بخلاف الغاية المضمحلة الفانية فما أريد به غير الله يضمحل ويزول بزوال مراده ومطلوبه وما أريد به وجه الله يبقى ببقاء المطلوب المراد فإذا اضمحلت الدنيا وانقطعت أسبابها وانتقل ما كان فيها لغير الله من الأعمال والذوات وانقلب عذابا وآلاما لم يكن له متعلق يدوم بدوامه بخلاف النعيم الوجه الثامن عشر أنه ليس في حكمة احكم الحاكمين إن يخلق خلقا يعذبهم ابد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له ولا انقطاع أبدا وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية والفطرية على أنه سبحانه وتعالى حكيم وأنه أحكم الحاكمين فإذا عذب خلقه عذبهم

ص: 378

بحكمة كما يوجد التعذيب والعقوبة في الدنيا في شرعه وقدره فان فيه من الحكم والمصالح وتطهير العبد ومداواته وإخراج المواد الردية عنه بتلك الآلام ما تشهده العقول الصحيحة وفي ذلك من تزكية النفوس وصلاحها وزجرها وردع نظائرها وتوقيفها على فقرها وضرورتها الى ربها وغير ذلك من الحكم والغايات الحميدة ما لا يعلمه إلا الله ولا ريب إن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا يحاسبون إذا قطعوا الصراط على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا ذهبوا ونفوا أذن لهم في دخول الجنة ومعلوم إن النفوس الشريرة الخبيثة المظلمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه لا يصلح إن تسكن دار السلام في جوار رب العالمين فإذا عذبوا في النار عذابا تخلص نفوسهم من ذلك الخبث والوسخ والدرن كان ذلك من حكمة احكم الحاكمين ورحمته ولا يتنافى الحكمة خلق نفوس فيها شر يزول بالبلاء الطويل والنار كما يزول بها خبث الذهب والفضة والحديد فهذا معقول في الحكمة وهو من لوازم العالم المخلوق على هذه الصفة أما خلق نفوس لا يزول شرها أبدا وعذابها لا انتهاء له فلا يظهر في الحكمة والرحمة وفي وجود مثل هذا النوع نزاع بين العقلاء أعنى ذواتا هي شر من كل وجه ليس فيها شيء من خير أصلا وعلى تقدير دخوله في الوجود فالرب تبارك وتعالى قادر على قلب الأعيان وإحالتها وإحالة صفاتها فإذا وجدت الحكمة المطلوبة من خلق هذه النفوس والحكمة المطلوبة من تعذيبها فالله سبحانه قادر إن ينشئها نشأة أخرى غير تلك النشأة ويرحمها في النشأة الثانية نوعا آخر من الرحمة

ص: 379

يوضحه الوجه التاسع عشر وهو أنه قد ثبت إن الله سبحانه وتعالى ينشئ للجنة خلقا آخر يسكنهم إياها ولم يعملوا خيرا قط تكون الجنة جزاء لهم عليه فإذا اخذ العذاب من هذه النفوس مأخذه وبلغت العقوبة مبلغها فانكسرت تلك النفوس وخضعت وذلت واعترفت لربها وفاطرها بالحمد وانه عدل فيها كل العدل وإنها في هذه الحال كانت في تخفيف منه ولو شاء إن يكون عذابهم اشد من ذلك لفعل وشاء كتب العقوبة طلبا لموافقة رضاه ومحبته وعلم إن العذاب أولى بها وانه لا يليق بها سواه ولا تصلح إلا له فذابت منها تلك الخبائث كلها وتلاشت وتبدلت بذل وانكسار وحمد وثناء الرب تبارك وتعالى لم يكن في حكمته إن يستمر بها في العذاب بعد ذلك إذ قد تبدل شرها بخيرها وشركها بتوحيدها وكبرها بخضوعها وذلها ولا ينتقض هذا بقول الله عز وجل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فان هذا قبل مباشرة العذاب الذي يزيل تلك الخبائث وإنما هو عند المعاينة قبل الدخول فانه سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فهذا إنما قالوه قبل إن يستخرج العذاب منهم تلك الخبائث فأما إذا لبثوا في العذاب أحقابا والحقب كما رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحقب خمسون ألف سنة فانه من الممتع إن يبقى ذا الكبر والشرك والخبث بعد هذه المدد المتطاولة في العذاب

الوجه العشرون أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في

ص: 380

حديث الشفاعة فيقول عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبي صلى الله عليه وسلمون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيها في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حمل السيل فيقول الله الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار بحيث صاروا حمما وهو الفحم المحترق بالنار وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير فان لفظ الحديث هكذا فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبي صلى الله عليه وسلمون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا ارحم الراحمين فيقبض الله قبضة من نار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط فهذا السياق يدل على إن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة ومن هذا رحمته سبحانه وتعالى للذي أوصى أهله إن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعما منه بأنه يفوت الله سبحانه وتعالى فهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيرا قط ومع هذا فقال له ما حملك على ما صنعت قال خشيتك وأنت تعلم فما تلافاه إن رحمه الله فلله سبحانه وتعالى في خلقه حكم لا تبلغه عقول البشر وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه إن رسول الله قال يقول الله عز وجل اخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام قالوا ومن ذا الذي في مدة عمره كلها من أولها إلى آخرها لم يذكر به يوما واحدا ولا خافه ساعة واحدة ولا ريب إن رحمته سبحانه وتعالى إذا أخرجت من

ص: 381

النار من ذكره وقتا أو خافه في مقام ما فغير بدع إن تنفى النار ولكن هؤلاء خرجوا منها وهي نار الوجه الحادي والعشرون إن اعتراف العبد بذنبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السواء والظلم واللوم إليه من كل وجه ونسبة وعدل والحمد والرحمة والكمال المطلق إلى ربه من كل وجه يستعطف ربه تبارك وتعالى عليه ويستدعي رحمته له وإذا أراد إن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه والرحمة معه ولا سيما إذا اقترن بذلك جزم العبد على ترك المعاودة لما يسخط ربه عليه وعلم الله إن ذلك داخل في قلبه وسويدائه فانه لا تتخلف عنه الرحمة مع ذلك وفي معجم الطبراني من حديث يزيد بن سنان الرهاوي عن سليمان بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله " إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يتقلب على الصراط ظهرا لبطن كالغلام يضربه أبوه وهو يفر منه يعجز عنه عمله إن يسعى فيقول يا رب بلغ بي الجنة ونجني من النار فيوحي الله تبارك وتعالى إليه عبدي إن أنا نجيتك من النار وأدخلتك الجنة أتعترف لي بذنوبك وخطاياك فيقول العبد نعم يا رب وعزتك وجلالك إن نجيتني من النار لاعترفن لك بذنوبي وخطاياي فيجوز الجسر فيقول العبد فيما بينه وبين نفسه لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار فيوحي الله إليه عبدي اعترف لي بذنوبك وخطاياك اغفرها لك وأدخلك الجنة فيقول العبد لا وعزتك وجلالك ما أذنبت ذنبا قط ولا أخطأت خطيئة قط فيوحي الله إليه عبدي إن لي عليك بينة فيلتفت العبد يمينا وشمالا فلا يرى أحدا فيقول أي رب ارني بينتك فينطق الله تعالى جلده بالمحقرات فإذا رأى ذلك العبد يقول يا رب عندي وعزتك العظائم فيوحي الله إليه عبدي أنا اعرف بها منك اعترف لي بها اغفرها لك وأدخلك الجنة فيعترف العبد بذنوبه فيدخل الجنة ثم ضحك رسول الله حتى بدت نواجذه يقول هذا أدنى أهل الجنة منزلة فكيف بالذي فوقه"

ص: 382

فالرب تبارك وتعالى يريد من عبده الاعتراف والانكسار بين يديه والخضوع والذلة له والعزم على مرضاته فما دام أهل النار فاقدين لهذه الروح لروح فهم فاقدون الرحمة فإذا أراد عز وجل إن يرحمهم أو من يشاء منهم جعل في قلبه ذلك فتدركه الرحمة وقدرة الرب تبارك وتعالى غير قاصرة عن ذلك وليس فيه ما يناقض موجب أسمائه وصفاته وقد اخبر أنه فعال لما يريد الوجه الثاني والعشرون أنه سبحانه وتعالى أوجب الخلود على معاصي الكبائر وقيده بالتأبيد ولم يناف ذلك انقطاعه وانتهاؤه فمنها قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} ومنها قول النبي صلى الله عليه وسل" من قتل نفسا بحديدة فحديدته في يده يتوجا بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" وهو حديث صحيح وكذلك قوله في الحديث الآخر في قاتل نفسه فيقول الله تبارك وتعالى بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة وابلغ من هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} فهذا وعيد مقيد بالخلود والتأبيد مع انقطاعه قطعا بسبب العبد وهو التوحيد فكذلك الوعيد العام لأهل النار لا يمتنع انقطاعه بسبب ممن كتب على نفسه الرحمة وغلبت رحمته غضبه فلو يعلم الكافر بكل ما عنده من الرحمة لما يئس من رحمته كما في صحيح البخاري عنه خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة وقال في آخره فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار

الوجه الثالث والعشرون أنه لو جاء الخبر منه سبحانه وتعالى صريحا بأن عذاب

ص: 383

النار لا انتهاء له وانه ابدي لا انقطاع له لكان ذلك وعيدا منه سبحانه وتعالى والله تعالى لا يخلف وعده وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم إن إخلافه كرم وعفو وتجاوز يمدح الحرب تبارك وتعالى به ويثنى عليه به فانه حق له إن شاء تركه وإن شاء استوفاه والكريم لا يستوفي حقه فكيف بأكرم الأكرمين وقد صرح سبحانه وتعالى في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده وقد روى أبو يعلى الموصلي ثنا هدبة بن خالد حدثنا سهيل بن أبي حزم ثنا ثابت البنائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه إن رسول الله قال من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه ومن واعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار وقال أبو الشيخ الأصبهاني ثنا محمد بن حمزة ثنا احمد بن الخليل ثنا الأصمعي قال جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال يا أبا عمرو يخلف الله ما وعده قال لا قال أفرأيت من أوعده الله على عمله عقابا أيخلف الله وعده عليه فقال أبو عمرو بن العلاء من العجمة أتيت يا أبا عثمان إن الوعد غير الوعيد إن العرب لا تعد عارا ولا خلفا إن تعد شرا ثم لا تفعله ترى ذلك كرما وفضلا وإنما الخلف إن تعد خيرا ثم لا تفعله قال فأوجدني هذا في كلام العرب قال نعم أما سمعت إلى قول الأول:

ولا يرهب ابن العم ما عشت سطوتي

ولا اختشي من صولة المتهدد

وإني وإن اوعدته أو وعدته

لمخلف ايعادي ومنجز موعدي

قال أبو الشيخ وقال يحيى بن معاذ الوعد والوعيد حق فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوا كذا وإن يعطيهم كذا ومن أولى بالوفاء من الله والوعيد حقه على العباد قال لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فان شاء عفا وإن

ص: 384

شاء اخذ لان حقه وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم أنه غفور رحيم ومما يدل على ذلك ويؤيده خبر كعب بن زهير حين أوعده رسول الله فقال:

نبئت إن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

فإذا كان هذا في وعيد مطلق فكيف بوعيد مقرون باستثناء معقب بقوله إن ربك فعال لما يريد وهذا أخبار منه أنه يفعل ما يريد عقيب قوله إلا ما شاء ربك فهو عائد إليه ولا بد ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده بل إما أن يختص بالمستثنى أو يعود إليهما وغير خاف أن تعلقه بقوله إلا ما شاء ربك أولى من تعلقه بقوله خالدين بخالدين فيها وذلك ظاهر للمتأمل وهو الذي فهمه الصحابة فقالوا أتت هذه الآية في وعيد القران ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده فان الاستثناء مذكور في الأنعام أيضا وإنما أرادوا أنه عقب الاستثناء بقوله إن ربك فعال لما يريد وهذا التعقيب نظير قوله في الأنعام خالدين فيها إلا ما شاء ربك إن ربك حكيم عليم فاخبر إن عذابهم في جميع الأوقات ورفعه عنهم في وقت يشاؤه صادر عن كمال علمه وحكمته لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل إذ يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك الوجه الرابع والعشرون إن جانب الرحمة اغلب في هذه الدار من الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب ولولا ذلك لما عمرت ولا قام لها وجود كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} وقال ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم ومع هذا فالذي أظهره من الرحمة في هذه الدار وانزله بين الخلائق جزء من مائة جزء من الرحمة فإذا كان جانب الرحمة

ص: 385

قد غلب في هذه الدار ونالت البر والفاجر والمؤمن والكافر مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له وتمكنه من إغضاب ربه والسعي في مساخطته فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة على ما في هذه الدار تسعة وتسعين ضعفا وقد اخذ العذاب من الكفار مأخذه وانكسرت تلك النفوس ونهكها العذاب وأذاب منها خبثا وشرا لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها فكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة وقوى جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته وسر الأمر إن أسماء الرحمة والإحسان اغلب واظهر وأكثر من أسماء الانتقام وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام وظهور آثار الرحمة أعظم من ظهور آثار الانتقام والرحمة أحب إليه من الانتقام وبالرحمة خلق خلقه ولها خلقهم وهي التي سبقت غضبه وغلبته وكتبها على نفسه ووسعت كل شيء وما خلق بها فمطلوب لذاته وما خلق بالغضب فمراد لغيره كما تقدم تقرير ذلك والعقوبة تأديب وتطهير والرحمة إحسان وكرم وجود والعقوبة مداواة والرحمة عطاء وبذل الوجه الخامس والعشرون أنه سبحانه وتعالى لا بد إن يظهر لخلقه جميعهم يوم القيامة صدقه وصدق رسله وإن أعداؤه كانوا هم الكاذبين المفترين ويظهر لهم حكمه الذي هو اعدل حكم في أعدائه وانه حكم فيهم حكما يحمدونه هم عليه فضلا عن أوليائه وملائكته ورسله بحيث ينطق الكون كله بالحمد لله رب العالمين ولذلك قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فحذف فاعل القول لإرادة الإطلاق وان ذلك جار على لسان كل ناطق وقلبه قال الحسن لقد دخلوا النار وإن قلوبهم لممتلئة من حمده ما وجدوا عليه سبيلا وهذا هو الذي

ص: 386

حسن حذف الفاعل من قوله {قِيلَ ادْخُلُوا أبوابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} حتى كان الكون كله قائل ذلك لهم إذ هو حكمه العدل فيهم ومقتضى حكمته وحمده وأما أهل الجنة فقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فهم لم يستحقوها بأعمالهم وإنما استحقوها بعفوه ورحمته وفضله فإذا اشهد سبحانه وتعالى ملائكته وخلقه كلهم حكمه العدل وحكمته الباهرة وضعه العقوبة حيث تشهد العقول والفطر والخليقة أنه أولى المواضع وأحقها بها وإن ذلك من كمال حمده الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته وإن هذه النفوس الخبيثة الظالمة الفاجرة لا يليق بها غير ذلك ولا يحسن بها سواه بحيث تعترف بها هي من ذواتها بأنها أهل ذلك وإنها أولى به حصلت الحكمة التي لأجلها وجد الشر وموجباته في هذه الدار وتلك الدار وليس في الحكمة الإلهية إن الشرور تبقى دائما لا نهاية لها ولا انقطاع أبدا فتكون هي والخيرات في ذلك على حد سواء فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب فان قيل فإلي أين أنهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي اكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة قيل إلى قوله تبارك وتعالى {إِنَّ رَبَكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وإلى هنا قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة

ص: 387

الجنة وأهل النار النار وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء وقال ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء

بل وإلى هنا هاهنا انتهت أقدام الخلائق وما ذكرنا في هذه المسألة بل في الكتاب كله من صواب فمن الله سبحانه وتعالى وهو المانّ به وما كان من خطا فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه وهو عند لسان كل قائل وقلبه وقصده والله أعلم.

ص: 388