الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع والأربعون: في ذكر أنهار الجنة وعيونها وأصنافها مجراها الذى تجرى عليه
…
الباب السابع والأربعون: في ذكر أنهار الجنة وعيونها وأصنافها ومجراها الذي تجري عليه
وقد تكرر في القرآن في عدة مواضع قوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} وفي موضع {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} وفي موضع {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنهار} وهذا يدل على أمور:
أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقية الثاني: أنهار جارية لا واقفة الثالث: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا، وقد ظن بعض المفسرين أن معنى ذلك جريانها بأمرهم وتصريفهم لها كيف شاؤوا كأن الذي حملهم على ذلك أنه لما سمعوا أن أنهارها تجري في غير أخدود فهي جارية على وجه الأرض حملوا قوله تجري من تحتها الأنهار على أنها تجري بأمرهم إذ لا يكون فوق المكان تحته وهؤلاء أوتوا من ضعف الفهم فإن أنهار الجنة وإن جرت في غير أخدود فهي تحت القصور والمنازل والغرف وتحت الأشجار وهو سبحانه لم يقل من تحت أرضها وقد أخبر سبحانه عن جريان الأنهار تحت الناس في الدنيا فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أهلكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنهار} فهذا على ما هو المعهود والمتعارفا وكذلك ما حكاه من قول فرعون {وَهَذِهِ الأنهار تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} وقال تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} قال ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يمان عن أشعب عن جعفر عن سعيد قال نضاختان بالماء والفواكه وحدثنا ابن يمان عن أبي إسحاق عن أبان عن أنس قال نضاختان بالمسك والعنبر ينضخان على دور أهل الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا وحدثنا عبد الله بن إدريس عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء قال اللتان تجريان أفضل من النضاختين وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أنهار مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأنهار مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
وَأنهار مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأنهار مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}
فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصا وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي في اللذة وشربها وآفة العسل عدم تصفيتة
وهذا من آيات الرب تعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها ويجريها في غير أخدود وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول والإنزاف وعدم اللذة فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا تغتال العقل ويكثر اللغو على شربها بل لا يطيب لشرابها ذلك إلا باللغو وتنزف في نفسها وتنزف المال وتصدع الرأس وهي كريهة المذاق وهي رجس من عمل الشيطان توقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتدعو إلى الزنا وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم وتذهب الغيرة وتورث الخزي والندامة والفضيحة وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين وتسلبه أحسن الأسماء والسمات وتكسوه أقبح الأسماء والصفات وتسهل قتل النفس وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياما له ولم يلزمه مؤونته وتهتك الأستار وتظهر الأسرار وتدل على العورات وتهون ارتكاب القبائح والمأثم وتخرج من القلب تعظيم المحارم ومدمنها كعابد وثن وكم أهاجت من حرب وأفقرت من غنى وأذلت من عزيز ووضعت من شريف وسلبت من نعمة وجلبت من نقمة وفسخت من مودة ونسجت من عداوة وكم فرقت بين رجل وزوجته فذهبت بقلبه وراحت بلبه وكم أورثت من حسرة وأجرت من عبرة وكم أغلقت في وجه شاربها بابا من الخير وفتحت له بابا من الشر وكم أوقعت في بلية وعجلت من منيته وكم أورثت من خزية وجرت على شاربها من محبة
وجرت عليه من سفلة فهي جماع الإثم ومفتاح الشر وسلابة النعم وجالبة النقم ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد كما ثبت عنه أنه قال: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة. لكفى وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا وكلها منتفية عن خمر الجنة فإن قيل فقد وصف سبحانه الأنهار بأنها جارية ومعلوم أن الماء الجاري لا يأسن فما فائدة قوله: {غَيْرِ آسِنٍ}
قيل: الماء الجاري وإن كان لا يآسن فإنه إذا أخذ منه شيء وطال مكثه أسن وماء الجنة لا يعرض له ذلك ولو طال مكثه ما طال
وتأمل اجتماع هذه الأنهار الأربعة التي هي أفضل أشربة الناس فهذا لشربهم وطهورهم وهذا لقوتهم وغذائهم وهذا للذتهم وسرورهم وهذا لشفاعتهم ومنفعتهم والله أعلم
فصل
وأنهار الجنة تتفجر من أعلاها ثم تنحدر نازلة إلى أقصى درجاتها كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة
وروى الترمذي نحوه من حديث معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت ولفظ حديث عبادة:"الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ومنها الأنهار الأربعة والعرش فوقها فإن سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى"
وفي المعجم للطبراني أني من حديث الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفردوس ربوة الجنة وأعلاها وأوسطها ومنها تنفجر أنهار الجنة"
وفي صحيح البخاري من حديث شعبة عن قتادة قال أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل ما هذا قال أما النهران الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات"
وفي صحيحه أيضا من حديث همام عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ والمجوف فقلت ما هذا يا جبريل قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك قال فضرب الملك بيده فإذا طينة مسك أذفر"
وفي صحيح مسلم من حديث المختار بن فلفل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكوثر نهر في الجنة وعدنيه ربي عز وجل "وقال محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فإذا بنهر يجري حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت يدي إلى ما يجري فيه من الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت لمن هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك الله عز وجل"
قال الترمذي حدثنا هناد حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج" قال هذا حديث حسن صحيح وقال أبو نعيم الفضل حدثنا أبو جعفر هو الرازي حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهدا {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} قال الخير الكثير وقال أنس بن مالك:
نهر في الجنة وقالت عائشة: هو نهر في الجنة ليس يدخل أحد إصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر" وهذا معناه والله أعلم أن خرير ذلك النهر يشبه الخرير الذي سمعه حين يدخل إصبعيه في أذنيه
وفي جامع الترمذي من حديث الجريري عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد" قال هذا حديث حسن صحيح
وقال الحاكم حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن سمرة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يسقيه الله عز وجل من الخمر في الآخرة فليتركه في الدنيا ومن سره أن يكسيه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا وأنهار الجنة تفجر من تحت تلال أو تحت جبال المسك ولو كان أدنى أهل الجنة حلية عدلت بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا"
وذكر الأعمش عن عمرو بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال: إن أنهار الجنة تفجر من جبل مسك وهذا موقوف صحيح وذكر ابن مردويه في مسنده حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الحرث بن عبيد حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبه ثم تصدع بعد أنهارا"
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا يعقوب بن عبيدة حدثنا يزيد بن هرون حدثنا الحريري عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال: أظنكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض لا والله أنها لسائحة على وجه الأرض أحدى حافتيها اللؤلؤ والأخرى الياقوت وطينها المسك الأذفر قال:
قلت: ما الأذفر قال: الذي لا خلط له ورواه ابن مردويه في تفسيره عن عن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى حدثنا مهدي بن حكيم حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الحريري عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره هكذا رواه مرفوعا
وقال أبو خيثمة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنه قرأ هذه الآية {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت الكوثر فإذا هو يجري ولم يشق شقاه وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ فضربت بيدي إلى تربته فإذا مسك أذفر وإذا حصباؤه اللؤلؤ وذكر سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن مسروق في قوله تعالى: وماء مسكوب قال أنهار تجري في غير أخدود قال ونخل طلعها هضيم قال من أصلها إلى فروعها أو كلمة نحوها وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" وقال عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا سعيد بن سابق حدثنا مسلمة بن علي عن مقاتل بن حبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنزل الله من الجنة خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناح جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم فذلك قوله وأنزلنا من السماء ماء بقدر فاسكناه في الأرض وأنا على ذهاب به لقادرون فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل جبريل فيرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى
بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فرفع ذلك كله إلى السماء فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد حرم أهلها خيري الدنيا والآخرة" ورواه أحمد بن عدي في ترجمة مسلمة هذا مع أحاديث غيره وقال عامة أحاديثه غير محفوظة وبالجملة فهو من الضعفاء قال البخاري منكر الحديث وقال النسائي ومتروك وقال أبو حاتم لا تشتغل به وقال عبد الله بن وهب: حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن عقيل بن خالد عن الزهري أن ابن عباس قال: "إن في الجنة نهرا يقال له البيدج عليه قباب من ياقوت تحته جوار يقول أهل الجنة انطلقوا بنا إلى البيدج فيتصفحون تلك الجوارى فإذا أعجب رجلا منهم جارية مس معصمها فتتبعه"
فصل
وأما العيون فقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} قال بعض السلف: معهم قضبان الذهب حيثما مالوا مالت معهم وقد اختلف في قوله: {يَشْرَبُ بِهَا} فقال: الكوفيون الباء بمعنى من أي يشرب منها وقال آخرون: بل الفعل مضمن ومعنى يشرب بها: أي يروى بها فلما ضمنه معناه عداه تعديته وهذا أصح وألطف وأبلغ وقال طائفة: الباء للظرفية والعين أسم للمكان كما تقول كنا بمكان كذا وكذا ونظير هذا التضمين قوله تعالى: {مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} ضمن معنى يهم فعدى تعديته وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} فأخبر سبحانه عن العين التي يشرب بها المقربون صرفا أن شراب الأبرار يمزج منها لأن أولئك أخلصوا الأعمال كلها لله فأخلص شرابهم
وهؤلاء مزجوا فمزج شرابهم ونظير هذا وقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} فأخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين بالكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن في الكافور من البرد وطيب الرائحة وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة ما يحدث لهم باجتماع الشرابين ويجيء أحدهما على أثر الآخر حالة أخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده ويعدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر وما ألطف موقع ذكر الكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن شرابهم مزج أولا بالكافور وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعدله
والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى وأنهما نوعان لذيذان من الشراب.
أحدهما مزج بكافور والثاني مزج بزنجبيل وأيضا فإنه سبحانه أخبر عن مزج شرابهم بالكافور وبرده في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف والإيثار والصبر والوفاء بجميع الواجبات التي نبه على وفائهم بأضعفها وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر على الوفاء بأعلاها وهو ما أوجبه الله عليهم ولهذا قال {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} فإن في الصبر من الخشونة وحبس النفس عن شهواتها ما اقتضى أن يكون في جزائهم من سعة الجنة ونعومة الحرير ما يقابل ذلك الحبس والخشونة وجمع لهم بين النضرة والسرور وهذا جمال ظواهرهم وهذا حال بواطنهم كما جملوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام وبواطنهم بحقائق الإيمان ونظيره قوله في آخر السورة {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} فهذه زينة الظاهر ثم قال {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} فهذه زينة الباطن المطهر لهم من كل أذى ونقص ونظيره قوله تعالى: لأبيهم آدم عليه السلام: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} فضمن له أن لا يصيبه ذل الباطن بالجوع ولا ذل الظاهر بالعري وأن لا يناله حر الباطن بالظمأ ولا حر الظاهر بالضحى ونظير هذا ما عدده على عباده من نعمة أنه أنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم ويزين ظواهرهم ولباسا آخر يزين بواطنهم
وقلوبهم وهو لباس التقوى وأخبر أنه خير اللباسين وقريب من هذا إخباره أنه زين السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد فزين ظاهرها بالنجوم وباطنها بالحراسة وقريب منه أمره من أراد الحج بالزاد الظاهر ثم أخبر أن خير الزاد الزاد الباطن وهو التقوى وقريب منه قول امرأة العزيز عن يوسف {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فأرتهن حسنه وجماله ثم قالت {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} فأخبرتهن بجمال باطنه وزينته بالعفة وهذا كثير في القرآن لمتأمله.