المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عليه في بيت ابن سويلم ورحب به وقال أبشر ببلاد - حركة التجديد والإصلاح في نجد

[عبد الله العجلان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول:أوضاع العالم الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري في ظل الخلافة العثمانية

- ‌ الأوضاع السياسية:

- ‌ الأوضاع الدينية في العالم الإسلامي:

- ‌ الأوضاع الاجتماعية:

- ‌الفصل الثاني:الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌نسبه:

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌رحلاته:

- ‌روافد فكره

- ‌الفصل الثالث: الاعتقاد والدعوة ومنشأ الاختلاف

- ‌أولا – حقيقة اعتقاده:

- ‌ثانيا- "أصول دعوته

- ‌ثالثا: أسلوبه في الدعوة:

- ‌الفصل الرابع:منهاجه التربوي في دعوته

- ‌أولا- الهدف:

- ‌ثانيا- المنهج:

- ‌ثالثا: الوسائل

- ‌رابعا: الخصائص

- ‌الفصل الخامس: المعارضون وشبهاتهم

- ‌المعارضة على الدعوة

- ‌المعارضة الداخلية:

- ‌ المعارضة الخارجية:

- ‌مسائل الخلاف

- ‌ الممارسات التي لم يوافقه بعض معاصريه عليها:

- ‌ الشبهات التي أثيرت حول الدعوة:

- ‌الفصل السادس: آثار حركة التجديد ونتائجها

- ‌أثرها في شبه الجزيرة العربية

- ‌تأثير هذه الدعوة في أفريقيا:

- ‌تأثير هذه الدعوة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا:

- ‌ النتائج السياسية:

- ‌النتائج الدينية:

- ‌النتائج الاجتماعية والاقتصادية

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: عليه في بيت ابن سويلم ورحب به وقال أبشر ببلاد

عليه في بيت ابن سويلم ورحب به وقال أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والمنعة، فقال الشيخ وأنا أبشرك بالعز والتمكن وهذه الكلمة "لا إله إلا الله" من تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد وهي كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم" 1

وبهذا بدأت الدعوة تدخل في طور عملي جديد توافرت له مقومات النجاح لوجود قيادة دينية راشدة وقيادة سياسية مؤمنة وتلاحم إيماني عميق ظهرت آثاره فيما بعد ذلك واستمرت هذبه المدرسة في عطائها عبر الأجيال في هذه المنطقة.

1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج 1ص11، 12.

ص: 40

‌روافد فكره

والعوامل التي أثرت في نزعته الإصلاحية:

إن الحالة الاجتماعية والدينية التي كان عليها سكان نجد وقلب جزيرة العرب خاصة وحالة العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر بما فيها من تفكك وانقسام واضطراب وفقد الأمن وغياب الوحدة العقيدية والفكرية والثقافية، والضبابية التي اتسمت بها كثير من المفاهيم الإسلامية في نفوس كثير من الناس، وسوء الأحوال الدينية والاجتماعية بوجه عام، وقيام معالم الشرك بين أظهر المسلمين في مختلف ديارهم، قد حفز كثيرا من علماء المسلمين في نجد وفي غيرها إلى التسلح بالعلم الصحيح النافع لمحاربة البدع والخرافات والمنكرات في مختلف صورها وأشكالها مما سبقت الإشارة إليه وقامت صيحات تنادي بالإصلاح هنا وهناك إلا أنه لم يكتب لها من النجاح ما كتب لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

ومع هذا فإن سوء الأحوال وظهور المنكرات والبدع ومظاهر الشرك في نجد وإنكار ذلك من بعض العلماء السلفيين قد فتح الطريق أمام هذا المصلح العظيم لدخول تاريخ الإسلامي التجديدي من أوسع أبوابه.

وكان لاتصاله بالأئمة الفضلاء والأعلام مثل عبد الله بن إبراهيم بن سيف

1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج 1ص11، 12.

ص: 40

النجدي في المدينة المنورة وبالإمام محمد حياة السندي وبعض علماء السنة في الحرمين الشريفين واتصاله بالشيخ محمد المجموعي في البصرة وغيرهم من علماء السلف في الاحساء ونجد، وغيرهم ومعاصرته لهؤلاء العلماء الأجلاء الذين كان لهم باع في نشر العلم الصحيح وإنكار البدع والخرافات ومظاهر الشرك في البلاد الإسلامية ومعرفة ما يتم بينهم وبين خصومهم من منازعات واختلافات الأثر الذي حفز التلميذ النجيب على القيام بدور قيادي في هذه الميدان بين أهله وذويه وفي مسقط رأسه ومرابع صباه.

وكان لكثرة مطالعته لكتب التفسير وسيرة السلف الصالح وتاريخ المصلحين ومعرفة الحق بدليله على أيدي شيوخ فضلاء أثر في جعل رؤيته للحق واضحة ونزعته إلى الإصلاح على أصول ثابتة مقررة في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وكان لقوته في التمسك بالحق وصلابته في الدعوة وصموده في أيام الشدة وتحديده للسلطة السياسية في عصره لما حدث عن الحق في بعض أمور العقيدة وما ناله منها من الأذى والمحنة ما ثبته على قول الحق صابرا محتسبا مهما كلفه ذلك من أذى وعنت ومشقة حتى كتب الله النصر المؤزر على خصومه الأقوياء في نهاية الأمر، وبقي للناس مثلا حيا في الثبات على الحق والصبر على الأذى فيه فكان مثالا شاخصا حيا لكل مصلح وقائم لله بالحجة على الخلق.

ثم إن نشأته في مدرسة آبائه وأجداده من الحنابلة قد أتاحت له فرصة الاطلاع على سيرة الدعاة والعلماء من الحنابلة وقوتهم في الحق وقيامهم بواجبهم في بغداد ودمشق وفلسطين وغيرهما وصراحتهم في إنكار المنكر والدعوة إلى الله. كما أتاحت له مدرسة فقه الحنابلة الاطلاع على كتابات إمامين عظيمين من أئمة الحنابلة هما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله بما يمثلانه من تيار الإسلامي دافق ونزعة إصلاحية.

فهذه الروافد السالفة الذكر من أهم العوامل التي أثرت في فكر الإمام محمد بن عبد الوهاب والتي حددت له معالم طريق الإصلاح الديني والاجتماعي

ص: 41

والسياسي في نجد وهي واضحة الأثر في فقهه ومنحاه في الاجتهاد وطريقه في الإصلاح ومأخذه من الأدلة وكلها تدل على أن هذه المؤثرات كلها قد أسهمت بمقادير مختلفة في تكوين فكره وشخصيته وعمله وقد أثمرت هذه كلها نتائج مهمة متمثلة في:

1-

اقتناعه التام بوجوب العمل على إنكار المنكر ومحاربة البدع القائمة في نجد وغيرها بكل الوسائل الممكنة ومواجهة كل الظروف المحتملة لهذه المواقف بكل عزم وإصرار وتحد بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البيان والدليل بالقول والعمل والاعتقاد على السواء

2-

محاربة التقليد والتعصب الأعمى للبلد والقبيل والمذهب والشيخ والطائفة ووزن الناس بميزان الكتاب والسنة ودعوته إلى الاجتهاد لمن توافرت له أسبابه وقامت به أوصافه.

3-

جعل المقام الأول للكتاب العزيز والسنة المطهرة وجعل الحاكم لهما على كل شخص أو رأي أو مذهب أو شيخ ومحاولة ربط الحياة بهما في مختلف جوانبها قدر المستطاع.

4-

الاقتناع التام ممن قام على تحقيق كلمة لا إله إلا الله في واقع حياة وفي حياة من يقوم على أمرهم بأن العاقبة له وأنه سيمكن له في الأرض وينصره الله على أعدائه ويظهره على من عاداه كما قالها صريحة لأمير العيينة حينما هدده قائد الاحساء بقطع خراجه.

5-

مواجهة الخصوم بالشجاعة الكاملة والمواقف المعلنة والبدء بالبيان والحجة والدليل والبرهان والقدوة الحسنة والسيرة العلمية الموافقة للحق ثم بالقوة المادية متى دعت إليها الضرورة أو قامت إليها حاجة.

التركيز على تصحيح العقيدة وإخلاص العمل لله، والبراءة من الشرك وأهله وبيان ما يناقض العقيدة الصحيحة، وتحذير الناس منه وتحقيق معنى قول "لا

ص: 42

1-

إله إلا الله" قولا واعتقادا وعملا وبيان ما يناقضها من الأقوال والأقوال والاعتقادات، ورد الناس ٍإلى ما كان عليه السلف الصالح في ذلك كله بفهم ووعي وممارسة مدللا على ذلك بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وأقوال وسيرة السلف الصالح من هذه الأمة.

2-

بيان معنى التوحيد بأقسامه الثلاثة وإيضاح الشرك ظاهره وخفيه وبيان فضل التوحيد وتكفيره للذنوب والتنبه على أن أعظم ذنب يعصى الله به هو الشرك، وأن الشرك محبط للعمل وموجب دخول النار.

3-

تحديده لمعنى العبادة وأنها لا تكون إلا لله وحده وأن من صرف شيئا منها لغير الله فإنه يكفر بذلك.

4-

تشديده في النكير على بعض ما يفعله العوام في نجد والعالم الإسلامي مما يتنافى مع مقتضى عقيدة التوحيد أو ينقص من كماله.

5-

اهتمامه بفرائض الإسلام وتعليمها للناس وإلزام الناس بالقيام بها قدر المستطاع وبيان فضلها ومكانتها من الدين وبيان حكم من ترك شيئا منها وجعل علم الضروري منها علما مشاعا في الناس لا يعذر أحد بالجهل به حتى صار تدريسه واجبا يوميا يؤدى في المساجد العامة بين أفراد وعوام المسلمين في نجد.

6-

تحقيق معنى الإسلام وبيان أركانه وذكر كل حكم بدليله من الكتاب أو السنة أوبهما معا مع إيضاح نواقض الإسلام وكبائر الذنوب.

7-

احترام لأئمة الأربعة المتبوعة مذاهبهم حتى اليوم وبقية أئمة الإسلام من غير تفريق بين إمام وغيره وبين مذهب وآخر، وجعل الدليل من الكتاب والسنة هما الحاكم على المذاهب وأقوال الرجال في كل العصور لمن قدر على الوصول إلى الحكم بدليله وتوفرت له آلة الاجتهاد المطلق أو المقيد في الحكم على المسائل. ولهذا فإنه يقرر أنه في الفقه على مذهب الإمام أحمد ومتى ظهر له الدليل مع

ص: 43

غيره في مسألة أخذ بما يؤيده الدليل وترك المذهب وأما العوام فمذهبهم مذهب من يفتيهم من أهل العلم والدين.

1-

إنفاق وقته وجهده وماله ونفسه في سبيل الدعوة إلى الله وتصحيح العقيدة وإقامة شرائع الدين وحراسة الشر ع بواسطة قوة سياسية مؤمنة بهذا الدين. وإحياء الشعور الإسلامي الواحد والأمة المحمدية الواحدة والهدف الواحد والغاية المشتركة وتجلية بعض المفاهيم الإسلامية التي انحرف بها الناس عن حقيقتها.

2-

العمل على إقامة قوة السياسية قادرة على نشرة الدعوة الإصلاحية وحراسة الدين والدفع عنه إلى جانب الأخذ بأسباب نجاح الدعوة بواسطة الدعة والوعظ والإرشاد والتعليم وبعث البعوث والرسائل وإقامة الحدود وترسيخ المفاهيم الصحيحة في نفوس الناس بكل وسائل الممكنة.

3-

رفع راية الجهاد الإسلامي لنصرة دين الله ودحر أعدائه وتأمين دعاته ملتزما في ذلك قواعد الجهاد الإسلامي ومتطلباته وآدابه.

4-

التمييز بين حزب الله وأوليائه وبين حزب الشيطان وأتباعه وغرس روح الولاء لله ولرسوله وللمسلمين ومعاداة أعداء الله ووجوب جهادهم بكل وسيلة حتى يعودوا للحق.

5-

بيان الحق في الولايات والشفاعات وما دخل بسببها على المسلمين في عقائدهم من انحراف وفساد وما يجب في ذلك كله مع بيان الدليل عليه من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح.

6-

رد الناس إلى الله في أمور العقيدة ومسائل العبادات ومظاهر السلوك في الحكم والقضاء والإفتاء في التعليم والعمل والاعتقاد وتعظيم نصوص الشرع في نفوس الناس وجعل الحكم لهما في كل الأمور وإقامة القوة سياسية حارسة للدين حامية للشرع مقيمة للعدل.

ص: 44

1-

إقامة الحياة إسلامية نظيفة متمثلة في مجتمع إسلامي قائم على حراسة الدين وحماية جناب التوحيد ساد لأبواب الشرك ومداخله قد تحقق فيه وضوح الهدف والغاية وتجلت له المفاهيم الإسلامية كما أرادها الله منه صافي العقيدة مقيم لفرائض الدين عارف بالحلال والحرام والجائز والممنوع في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها موحد الفكر محدد الهدف مرصوص الصفوف متماسك البناء يأخذ بوعي ويترك بفهم ويقاتل لهدف ويتعامل بأدب الإسلام في مختلف علاقاته العامة والخاصة.

موافقاته للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته:

الشيخ محمد بن عبد الوهاب عالم مجدد وداعية إلى الله مصلح يترسم في دعوته الإصلاحية أعمال وخطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، فإن كتاب الله العزيز محفوظ والسنة النبوية المطهرة والسيرة العطرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدونة وموثقة، ومن وفقه الله للفقه في الدين والوعي لهذه النصوص من السيرة النبوية الكريمة استطاع أن يعرف فقه الرسالة المحمدية وأعمال وتصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته.

ومن تتبع خطوات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقارن كثيرا من أعماله وتصرفاته بما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد له موافقات كثيرة لأعمال وتصرفات نبي الرحمة وذلك بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ثم بالمحاولة الصادقة من إمام الدعوة رحمه الله في تحقيقه المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في أعماله وتصرفاته وأقواله وكانت هذه موافقات من أسباب نجاح هذه الدعوة والحمد لله.

وموافقات هذه الدعوة الإصلاحية وتصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته كثيرة وليس من مقصودنا في هذه المقام إجراء تتبع واستقراء تام لموافقات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولكن غايتنا الإشارة الموجزة لبعض هذه الموافقات التي تمت في هذه الحركة الإصلاحية التجديدية لبيان صدق الانتماء وقصد المتابعة وترسمها لسيرة النبي العظيم عليه الصلاة والسلام

ص: 45

* فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته بالدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وأول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم في الرسالة قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} .. الآيات. فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدأت بهذا الأصل العظيم دعت إلى تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والانحرافات وكانت الخصومة بينه وبين قومه في هذا الأصل لاسيما توحيد الألوهية كما كانت خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش في مكة حول هذا الأصل كما قال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .

* وإذا كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم قامت في أول أمرها في مسقط رأسه وبين أهله وأقربائه وسكان بلده وأنه وجد منهم في بدء الرسالة الإعراض والأذى ومحاولة قتله حتى اضطر إلى الهجرة إلى المدينة. فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد جهر بدعوته في بلده حريملاء ووجد من أقرب الناس إليه صدودا وإعراضا وأذى حتى اضطر إلى ترك بلده حريملاء والانتقال منها إلى العيينة ثم إلى الدرعية مطرودا خائفا.

* وإذا كان رسول صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على القبائل العربية في مواسم الحج يطلب النصرة والتأييد لرسالته ويعد بالنصر والتأييد من الله لمن أيده حتى وجد من يقبل دعوته ويعقد معه البيعة وكان هذا الشرف العظيم لأهل المدينة المنورة من الأوس والخزرج وتم ذلك في بيعتي العقبة الأولى والثانية ثم تلتها الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة في كنف الأنصار رضي الله عنهم، فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب اقتدى بنبي الهدى عليه الصلاة والسلام في ذلك فكان يعرض نفسه ودعوته على أمراء بلدان نجد ويعد من يقبلها ويؤازرها بالنصر والتأييد فعرض نفسه ودعوته على أمير العيينة فقبلها في أول الأمر ثم أدرك ضخامة تبعاتها وأحسن من نفسه العجز عن القيام بواجبها وتحمل مسئولياتها ثم أخرج إمامها وحاول قتله فأنجاه الله ثم عرض نفسه على أمير الدرعية الإمام محمد بن سعود فقبلها. وتمت بينهما بيعة شبيهة ببيعة العقبة انتقلت بها الدعوة من طور إلى طور من دعوة فردية إلى مجتمع مسلم بقمته وقاعدته.

* بدأت أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

ص: 46

والترحيب بالمهاجرين وإيوائهم وتعليمهم وتوحيد غاية المسلمين وصفوفهم واعتماد الجهاد طريقا للدفاع عن المجتمع المسلم الوليد.

وكذلك حركة الإصلاح والتجديد آخت بين أتباعها واستقبلت أنصارها وأتباعها الوافدون إليها، ويسرت لهم سبل العلم الشرعي وأعانتهم على تكاليف الحياة. ودمجت الوافدون إلى الدرعية مع أهلها الأصليين ووحدت بينهم عقيدة التوحيد ونصرة الدعوة، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله لحماية الدعوة وتأمين دعاتها والانتصاف من خصومها.

* بعد قيام دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة على يد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية المجتمع المسلم في المدينة على أحكام الدين وآداب الإسلام وتطبيق أحكام الشريعة في كل شئون الحياة كما أراد الله.

وكذلك دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد أن توافر لها المجتمع المسلم المؤمن بها في الدرعية بدأت تطبيق أحكام الإسلام على الناس ، وبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وتحكيم الشريعة في شئون الحياة المختلفة.

* كان انتماء العرب في جاهليتهم للقبيلة والأقربين في النسب وللبلد والعشيرة والمناصرة على أسس جاهلية ، فلما جاءت الرسالة الخاتمة أبدل الله بهذه الروابط الجاهلية رابطة الدين وأخوة الإسلام وجعل الإيمان بهذه الرسالة أساس الانتماء، وعليه تقوم المودة والإخاء والعداوة والبغضاء حتى انقسم البيت الواحد على نفسه لا سيما في مجتمع مكة قبل وبعد الهجرة ، وصار الأخ في النسب يعادي أخاه في النسب على الدين ، ويناصر عليه من لا تربطه رابطة النسب بل رابطة الدين فقط. بل وقف الأخ في وجه أخيه بالسلاح ، وقتل الابن أباه في بدر وأحد وغيرهما من معارك الإسلام الفاصلة.

وكذلك دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي أقامت روابطها على الدين وحده واختلف فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع أخيه سليمان، وانقسم مجتمع كل

ص: 47

من حريملاء والعيينة بين مؤيد له ومعارض لدعوته. وقامت الرابطة في الدرعية على الأخوة في الدين والنصرة على تحقيق التوحيد، وأكدت هذه الحركة على مبدأ عظيم هو مبدأ الولاء والبراء، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من خصوم الدعوة والمعارضين لها من القبوريين وعلماء السوء والأمراء الظلمة. وعلى هذا الأساس قامت الروابط وتحددت الموفق وصهرت عصبيات الجاهلية التي كانت مستحكمة في مجتمع نجد الذي ولدت فيه هذه الدعوة.

* بدأت الرسالة المحمدية بنواة المجتمع المسلم في المدينة المنورة ثم ظلت في صراع مع خصوم هذه الرسالة من قريش وقبائل العرب وغيرهم واستمر هذا المجتمع في جهاده يتوسع ويكسب المواقع لنشر هذا الدين واحدا بعد الآخر حتى جاء نصر الله والفتح. وخضعت قبائل العرب لهذا الدين ودخلوا في دين الله أفواجا، وتمكنت هذه الرسالة من تحقيق مراد الله في خلقه، وإبلاغ دعوته إلى الناس كافة، وظلت في توسيع مستمر حتى اختلت أكثر من نصف الكرة الأرضية.

ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدأت بمجتمع محدود في عزلة شديدة عن العالم، تكالبت عليه المعارضة وتلاقت على حربه من كل حدب وصوب وظل يصارع هذه المعارضة سنين طويلة حتى أظهره الله عليه، وتحقق لأئمة هذه الدعوة من القوة والسلطان والنفوذ مالم يتوقعه حتى دخل معظم أقاليم الجزيرة تحت نفوذ هذه الدعوة واستطاعت أن تعلن عن نفسها ومبادئ دعوتها في مواسم الحج ومجامع الناس.

وهكذا نجد كثيرا من أعمال إمام هذه الدعوة قد تحققت فيه الموافقة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أعماله وتصرفاته.

وقد أشار فضيلة أستاذنا الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابته عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى كثير من هذه الموافقات مما لم يسبق لي أن رأيت أحدا أشار إليه.

ومع الأسف أنني وأنا أخط هذه الأحرف لم يكن ذلك المؤلف الممتاز

ص: 48

لاقتبس من كلامه وانقل من صور الموافقات. ولكن ما أشرت إليه هنا يعطى مفتاحا لهذا الموفقات والله هو الموفق.

مقام الشيخ رحمه الله في الدرعية:

لم يكن مقام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الدرعية مقام المسلم الواعظ فحسب ولكنه كان معلما وواعظا وقدوة حسنة في حياة وسيرته الذاتية، وكان مع ذلك كله في دفة القيادة جنبا إلى جنب مع الإمام محمد بن سعود في رسم السياسة، وإيواء الوافدين إلى الدرعية من الأنصار والمؤيدين ومواساتهم، ورفع كثير من المعاناة التي عانوها في بداية حياتهم فيها.

وهو مع هذا يجهز الجيوش ويقود الحملات ويتولى جباية الأموال وتقسيم الغنائم ومكاتبة البلدان وأمرائها وعلمائها ويقابل الوفود ويتولى بيت المال فلا يصرف شيء من المال إلا بتدبيره وإشارته وتوجيهه. وكان تفاهمه مع الإمام محمد بن سعود تاما على كل هذه القضايا بلا أي حساسيات. وهو لم يكن طامعا في حكم ولا راغبا في إمارة ولا ساعيا وراء شهرة أو مجد شخصي، ولكنه رجل دعوة وقائد حركة إصلاح وحامل عقيدة ومؤدي وظيفة في المجتمع. وكل همه نشر عقيدة التوحيد ولم شعث هذه الأمة وإعادة الحياة الإسلامية في مختلف جوانب الحياة إلى الأمة التي ولد فيها وتربى في أحضانها وملأ حبها كل جوانحه وملك عليه كل مشاعره ليخرجها بهذا الدين من ظلمات الجهل إلى نور العلم والإيمان.

يقول المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر في وصف سخائه على ضيوفه الوافدين إليه وخفض جناحه لطلاب العلم "وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في موضع واحد لا يقوم ومعه منها شيء، ويتحمل الدين الكثير لأضافه وسائر الوافدين إليه، وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم. وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وإلا فما علمنا أحدا ألين ولا أخفض جنابا منه لطالب علم أو سائل أو ذي حاجة أو مقتبس

ص: 49

فائدة"1 وأما عن إسهامه في بناء الدولة السعودية في الدرعية فقد قال الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه: "وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – هو الذي يجهز الجيوش ويبعث السرايا ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه والوفود إليه والضيوف عنده والداخل والخارج من عنده. فلم يزل مجاهدا حتى أذعن أهل نجد وتابعوا وعمل فيها بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبايعوا، فعمرت نجد بعد خرابها وصلحت بعد فسادها ونال الفخر والملك من آواه وصروا ملوكا بعد الذل والتفرق والقتال ، وهكذا كل من نصر الشريعة من قديم الزمان وحديثه فالله يظهر على أعدائه ويجعله مالكا لمن عاداه"2

وفي وصف أثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحركته الإصلاحية يقول ابن بشر رحمه الله: "وكفى بفضله شرفا ما حصل بسببه من إزالة البدع واجتماع المسلمين وتقويم الجماعات والجمع وتجديد الدين بعد دروسه وقطع أصول الشرك بعد غروسه"3

ولهذا فإن مقام الشيخ من الدعوة ودولتها في الدرعية مقام الرائد الأمين والسياسي المجرب والمصلح الذي يحمل هم أمته وإصلاح مجتمعه والقائد العسكري الشجاع إلى جانب قيادته الفكرية والعملية الإصلاحية التي قامت على التعليم والعمل والحركة والنشاط والممارسة رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص.89

2 المرجع السابق ج1ص91.

3 المرجع السابق ج 1ص91.

ص: 50