المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ النتائج السياسية: - حركة التجديد والإصلاح في نجد

[عبد الله العجلان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول:أوضاع العالم الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري في ظل الخلافة العثمانية

- ‌ الأوضاع السياسية:

- ‌ الأوضاع الدينية في العالم الإسلامي:

- ‌ الأوضاع الاجتماعية:

- ‌الفصل الثاني:الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌نسبه:

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌رحلاته:

- ‌روافد فكره

- ‌الفصل الثالث: الاعتقاد والدعوة ومنشأ الاختلاف

- ‌أولا – حقيقة اعتقاده:

- ‌ثانيا- "أصول دعوته

- ‌ثالثا: أسلوبه في الدعوة:

- ‌الفصل الرابع:منهاجه التربوي في دعوته

- ‌أولا- الهدف:

- ‌ثانيا- المنهج:

- ‌ثالثا: الوسائل

- ‌رابعا: الخصائص

- ‌الفصل الخامس: المعارضون وشبهاتهم

- ‌المعارضة على الدعوة

- ‌المعارضة الداخلية:

- ‌ المعارضة الخارجية:

- ‌مسائل الخلاف

- ‌ الممارسات التي لم يوافقه بعض معاصريه عليها:

- ‌ الشبهات التي أثيرت حول الدعوة:

- ‌الفصل السادس: آثار حركة التجديد ونتائجها

- ‌أثرها في شبه الجزيرة العربية

- ‌تأثير هذه الدعوة في أفريقيا:

- ‌تأثير هذه الدعوة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا:

- ‌ النتائج السياسية:

- ‌النتائج الدينية:

- ‌النتائج الاجتماعية والاقتصادية

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌ النتائج السياسية:

نتائج حركة التجديد

أولا-‌

‌ النتائج السياسية:

1-

الخروج بالمنطقة من محنتها:

كان من أهداف هذه الحركة الإصلاحية القضاء على الفرقة والانقسام في منطقة نجد التي كانت سائدة قبل دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإن يطلع على كتابات المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ نجد قبل هذه الحركة الإصلاحية وفي بدء قيامها مثل ابن غنام وابن بشر الفاخري والمنقور وغيرهم يرى صورة قاتمة للحياة السياسية والاجتماعية في نجد إذ كان أهلها في غاية الفرقة والشتات والتطاحن وسفك الدماء. فالقبائل العربية التي تنتقل حيث الماء والكلأ والمرعى بغير بعضها على بعض في وضح النهار، ويعيشون على السلب والنهب بغزو بعضهم بعضا ويقتلون ويأسرون ويغنمون. والبادية يغزون الحاضرة المقيمين في المدن والقرى، وينهبون مواشيهم وثمار نخيلهم، ويقتلون من يمنعهم من ذلك أو يدافع عن ماله، وأهل القرى والمدن في خصومات مستمرة مع جيرانهم من المدن والقرى المجاورة. بل أن أهل البلد الواحد توجد فيما بينهم الخصومات والمنازعات التي تصل إلى حمل السلاح بعضهم على بعض، وسفك الدماء المحرمة بغير حق عند أمور بسيطة مثل الاختلاف على الماء أو مقاسم السيل والأرض بل الإمارة في البلد الواحد تقوم عليها المنازعات والقتال بين أهل البلد الواحد كل يطلبها، بل يتقاتل عليها القبيلة الواحدة كل يريدها لنفسه، بل يتقاتل عليها أقرباء الرجل وبنو عمه ، ولا يمضى الغالب في الإمارة إلا شهورا أو أياما حتى ينقض عليه خصومه سرا أو جهارا فيقتلونه ويتولون الأمر من بعده. وهكذا حتى صارت الحياة مرة وجحيما لا

ص: 181

يطاق العيش في ظلها. والذين كتبوا عن هذه الفترة التاريخية نقلوا لنا صورة مروعة عن بحيرات الدم القاني المراق في ربوع نجد في باديتها وحاضرتها، في شمالها وجنوبها، في شرقها وغربها، بلا فرق. والكلمات التي عبروا بها تقطر دما وتفيض أسى وألما وحزنا على هذه الحالة السياسية السائدة في نجد، والتي تراق فيها دماء زكية في غير سبيلها، بل بما يغضب الله ويوجب مقته ويبعد عن رحمته ويؤجج نار الفتنة ويعمق الخلافات ويثير الأحقاد ويؤصل العداوة ويدعو إلى الأخذ بالثأر من كل طرف.

والأمثلة على ذلك كثيرة جدا بحيث لا تحتاج إلى ذكر لظهور أمرها بين العام والخاص. وكتابات المؤرخين في هذه الفترة لهذه المنطقة فيها ما يشبه الإجماع على ما وصفنا. يقول المؤرخ المحقق الشيخ عثمان بن بشر رحمه الله: "ثم إن هذا الدين الذي من الله به آخر هذا الزمان على أهل نجد- يعني الدعوة الإصلاحية في نجد-بعدما كثر فيهم الجهل والضلال والظلم والجور والقتال، فجمعهم الله تعالى به بعد الفرقة أعزهم بعد الذلة وأغناهم به بعد العيلة وجعلهم إخوانا"1 وقال رحمه الله في سوابقه عن القتال بين القبائل العربية في نجد: "وفيها وقعة السبلة" وهو موضع معروف بين بلد الزلفى والدهناء وهذه الوقعة على الظفير من بني خالد، وذلك أن بني خالد ساروا إليهم وقائدهم عبد الله بن تركي بن محمد بن حسين آل حميد فواقعوهم وصارت على الظفير هزيمة وأخذوا عليهم نعما كثير2

وفي حوادث سنة ثلاثة وستين ومائة وألف قال رحمه الله: "وفيها قتل حمد بن سلطان ودباس رؤساء العودة المعروفة في ناحية سدير قتلهم ابن عمهم علي بن علي"3

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 2،3،

2 المرجع السابق ج1 ص 27.

3 المرجع السابق ج ص 24.

ص: 182

وفي سوابقه رحمه الله الحوادث عام 1199هـ قال "سابقة"وفي سنة اثنين وتسعين وألف وقعة تسمى "دلقة" بين عنزة والظفير، قتل من عنزة مقتلة كثير منهم لاحم بن خشم النبهاني وحصن بن جمعان، وفيها مقتل عدوان بن تميم صاحب "الحصون" البلدة المعروفة في سدير وبنيت منزلته وقتل محمد بن بحر صاحب الداخلة في منزله1

وقد وصف الزعامات السياسية في هذه الفترة المؤرخ الأمريكي لوثروب في حديثه عن اليقظة الإسلامية في هذه الفترة التاريخية فقال: "أما البدو الرجل فالزعامة فيهم لشيوخهم الذين يتولون القيام على أحكامهم وتدبير شئونهم. وأما الحضر في الواحات فالزعامة فيهم على الغائب لشيوخهم الأسر العليا منزلة ومكانة بيد أن مبلغ ما في أيدي هؤلاء الشيوخ من السلطة المطاعة حق الطاعة إنما هي سلطة صورية واهنة لا تقوى على الدوام على الوقوف في وجه تيار العادات القومية والعرف" 2

وكان هذا الانقسام والتفرق والتعدد في القيادات السياسية والإمارات الصغيرة ثمرة طبيعية لانعدام وجود دولة موحدة في نجد منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وبقاء هذه المنطقة الشاسعة من العالم الإسلامي بعيدة عن مركز الخلافة الإسلامية منعزلة عن الحياة العامة في العالم لصعوبة مسالكها وقلة مواردها وقيام التكتلات القبلية التي استطاعت أن تحل بالأمن وتقطع السبل وخيف السالك لدروبها من سكان المنطقة، فضلا عن الوافدين إليها، مما جعلها مرتعا للجهل وفريسة للعصبيات التي مزقت شملها وفرقت صفوف أهلها وضيقت موارد الرزق فيها. وإذا كانت الخلافة العثمانية قد بسطت نفوذها على العالم الإسلامي من حدود فارس شرقا إلى أقصى المغرب، ومن جنوب شبه الجزيرة العربية إلى أوروبا، فإن الخلافة العثمانية تهتم بهذه المنطقة بل اكتفت ببسط نفوذها على الحجاز والساحل الغربي وعلى سواحل الخليج العربي ومنطقة الاحساء فقط. أما نجد فلم يكن

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 80.

2 حاضر العالم الإسلامي، لوثروب استيوارد ج 1 ص 261.

ص: 183

نصيب من الرعاية ولم تتدخل الخلافة العثمانية في شأن من شئونها سوى الحملات العسكرية التدميرية التي قامت بها ضد هذه الحركة الإصلاحية بعد ظهور أمرها، فقد ذكر صاحب تاريخ حاضر العالم الإسلامي جهود الأتراك يقول:"وجل ما استطاع الأتراك إخضاعه من بلاد العرب هو أنهم بسطوا شيئا من سلطانهم على الأماكن المقدسة الحجازية وساحل البحر الأحمر أما نجد والبلاد الداخلية فقد ظلت حرة مستقلة 1"

وفي ظل هذه الفوضى السياسية والغارات القبلية ساءت الأحوال الدينية والاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة مما مهد لهذه الدعوة الإصلاحية السياسية والدينية التي بدأت في مرحلتها الأولى في حريملاء في مدينة محدودة السكان كثيرة الانقسام على الإمارة. ثم في مرحلتها الثانية التي تلتها في مقرها الثاني في العيينة في كنف إمارة آل معمر والتي أظهر فيها الشيخ دعوة وأعلن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقام بعض الحدود وأزال بعض المنكرات وانتشر أمر الدعوة في أرجاء شبه الجزيرة العربية.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة التي بدأت بانتقال الدعوة من العيينة إلى الدرعية وقيام ذلك الحلف الميمون بين إمام الدعوة الإصلاحية والإمام محمد بن سعود أمير الدرعية وقتها، دخلت الدعوة مرحلتها الجديدة، والتي من أهم مظاهرها استقبال المهاجرين وإعلان الجهاد لتحقيق أهداف هذه الدعوة الإصلاحية ورد العدوان عنها وتأمين دعاتها والقضاء على أسباب الفرقة والانقسام وتحقيق وحدة سياسية ودينية عامة تقوم على رعاية المصلحة العامة وحفظ الأمن وتأمين السبل وإقامة العدل وحراسة الدين وإقامة الحدود ونشر الدعوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على يد العابثين والمفسدين.

وقد بذلت هذه الدعوة في هذا السبيل كل غال ورخيص وقدمت خيرة رجالها

1 المرجع السابق، ج 1 ص261.

ص: 184

وصفوة شبابها في ساحات القتال لتحقيق هذه الغاية العظيمة عبر سنوات طويلة من الجهاد حتى أظهر الله أمرها ومكن لها في الأرض. فأقامت كيانا سياسيا عظيما يمتد من سواحل البحر الأحمر في الغرب إلى سواحل الخليج في الشرق، ترفرف عليه راية التوحيد، وتتمثل فيه الوحدة السياسية القائمة على الدين الخالص والفكر الموحد والمحبة الصادقة والتطلع إلى مستقبل أفضل في ظل وحدة شاملة للعالم الإسلامي في نهضة الحديثة. وقد تفيأ الناس في ظل هذه الوحدة السياسية وأمنها المستقر ورعايتها المستمرة حياة معاشة في دولة إسلامية منيعة الجانب عزيزة الجناب فكانت هذه الوحدة إحدى ثمار هذه الحركة الإصلاحية.

2-

إحياء روح الجهاد في سبيل الله:

من يتتبع تاريخ الحركة في نجد يظهر له بجلاء أن هذه الحركة هي حركة دينية سياسية علمية جهادية وأنها لم تأخذ عملا بمبدأ الجهاد في سبيل الله إلا في المرحلة الثالثة من مراحل نموها والتي بدأت بانتقالها بالدعوة إلى الدرعية. ويؤيد ذلك شرح إمام الدعوة أهداف دعوته ووسائلها للإمام محمد بن سعود وقبوله بها، ومن ثم تم الاتفاق على البدء بالجهاد. وبنود الاتفاقية التي تمت بين الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد ين سعود تدل على أن أول بند فيها الأخذ بمبدأ الجهاد في سبيل الله لإقرار التوحيد. وفي ذلك يقول أبن بشر رحمه الله "فدخل عليه – على الإمام محمد بن عبد الوهاب – في بيت ابن سويلم ورحب به وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والنعمة فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين" حتى قال: "ثم أخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه وما عليه أصحابه رضى الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه وأن كل بدعة بعدهم ضلال، وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانا، ثم أخبره بما عليه أهل نجد اليوم من مخالفتهم بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والجور والظلم 1

وبنود الاتفاقية التي تمت بين الإمام محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود جاء

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص12 للشيخ عثمان بن بشر.

ص: 185

في بندها الأول الاستجابة لدعوة الجهاد في سبيل الله. فقد اشترط الإمام محمد ين سعود على إمام الدعوة شرطين، يقول ابن بشر رحمه الله: "فلما تحقق – محمد بن سعود - معرفة التوحيد وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية قال له يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لاشك فيه وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به من الجهاد لمن خالف التوحيد. ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين:

نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.

والثانية أن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا. فقال الشيخ أما الأولى فأبسط يدك الدم بالدم والهدم بالهدم.

وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها"1

فهذه النصوص التاريخية تدل على أن هذه الدعوة الإسلامية الإصلاحية التجديدية قد اعتمدت مبدأ الجهاد في سبيل الله منذ فجر تاريخها وأنها تبدأ بالدعوة السلمية وتشرح للناس أهدافها ومبادئها وما تنكره من الأفعال الناس وتصرفاتهم مما يتصل بالشرك بالله والابتداع في الدين واستغلال الناس من قبل الأمراء وعلماء السوء وتقرير التوحيد. فمن أجابها ودخل في طاعتها وطاعة أميرها كف عنه ومن عارضها وحرض عليها أو دعا الناس لمحاربتها بعد تعريفه بحقيقتها أعلنت الجهاد عليه.

ولم تكن إمارات نجد تعرف الجهاد بهذا المعنى ولا عهد لها به بل كل بلد في الأعم الأغلب تقصر نشاطها على رد العدوان عليها ومدافعة من يعتدي عليها في مالها أو أفرادها ومن هذه الإمارات إمارة الدرعية. كذلك فإنه لا عهد لهم بالمغازي والغارات قبل قيام هذه الدعوة وكانوا في حالة من الضعف وقلة الرجال والعتاد والخبرة القتالية شديدة، يقول ابن بشر في تاريخه: "ثم إن الشيخ كاتب أهل البلدان

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 12.

ص: 186

بذلك ورؤساءهم وقضاتهم ومدعى العلم منهم، فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من اتخذه سخريا واستهزأوا به ونسبوه إلى الجهل وعدم المعرفة، ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأشياء وهو بريء منها حاشاه عما يقوله الكاذبون. ولكن يريدون أن يصدوا بها الناس عنه وقد رمى المشركون سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم بأعظم من ذلك.

ثم أمر الشيخ بالجهاد وحضهم عليه فامتثلوا، فأول جيش غزا سبع ركائب فلما ركبوها وأعجلت بهم النجايب في سيرها سقطوا من أكوارها لأنهم لم يعتادوا ركوبها فأغاروا – أظنه على بعض الأعراب- فغنموا ورجعوا سالمين"1

فهذا النص التاريخي الذي ذكر فيه خبر أول غزوة في عهد هذه الدعوة الإصلاحية يدل على أن إمارة الدرعية وغيرها من إمارات نجد في قلة من العدد والعتاد والخبرة فذكره لعدد الركايب في هذه الغزوة وأنها سبع تدل على قلة الإمكانات وضعف الإمارة، وإخباره بسقوط ركابها إذا أسرعت في السير يدل على قلة الخبرة بركوب النجايب وأنهم لم يعتادوا الغزو والغارات التي صارت بعد من أبرز صفاتهم. وظلت هذه الحركة الإصلاحية تمارس هذه الفريضة الإسلامية – الجهاد – طيلة حياتها بادئة بالبوادي ومنتهية بالمعارضين الأذنين وصارت في حروب دائمة ومستمرة مع المعارضة داخل نجد وقدمت في هذا المجال الكثير من التضحيات وأظهرت ألوانا من البطولات الفدة ولم يفت في عضدها كثرة المعارضين في الداخل والخارج وقوة المساندة من الخارج للمعارضين في الداخل بل أصرت على المضي في طريقها لتحقيق النصر حتى النهاية.

وظلت الحرب سجالا في كل الاتجاهات. وما توقع اتفاقية صلح مع جهة إلا ينتقض الأمر عليهم في جهة أخرى. واستمرت الحالة على ذلك في داخل نجد طيلة حياة الإمام محمد بن سعود ولما جاء عهد ابنه عبد العزيز رحمه الله ظهرت فيها آثار جهود من سبقه في تأمين قاعدة الدعوة وخروجها من منطقة العارض إلى بقية أنحاء

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 14.

ص: 187

أقاليم نجد، ثم أخذ يمتد نفوذها في كل الاتجاهات حتى بلغت في عهد الإمام سعود الكبير إلى الحرمين الشريفين والخليج العربي وعمان ورأس الخيمة. وبذلك تكونت في العصور الأخيرة أول دولة إسلامية قوية في قلب شبه الجزيرة العرب يحسب لها كل حساب أعز الله بها الدين ووحد بها الأمة وأمن بها الطريق وأقام بها العدل وحراسة الدين فكان ذلك ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله.

1-

توحيد نجد وبعض أجزاء شبه جزيرة العرب في دولة إسلامية مستقلة:

بدأت الدعوة الإصلاحية في تطبيق مبدأ الجهاد في سبيل الله على قلة من العدة والعدد والخبرة كما أسلفنا في النص التاريخي السالف ولكن ظلت الدعوة الإصلاحية تستقطب الأنصار وتستقبل المهاجرين من طلاب العلم وأهل الدين وتقدم لهم كل عون ومساعدة حتى التف حولها الناس تباعا وقويت بها شوكة الجهاد وتأيد بها مقر الدعوة وقادها الجهاد من نصر إلى نصر أكبر منه حتى طويت صفحات الإمارات الصغيرة المستقلة المنتشرة في عرض البلاد وطولها في دولة إسلامية سلفية ذات دعوة إصلاحية نامية وجهاد في سبيل الله مستمر، فتوحدت تحت راية هذه الدعوة إمارات العارض ثم تبعها أقاليم نجد إقليم بعد آخر حتى امتد نظر الدعوة إلى الحرمين الشريفين وأطراف الجزيرة العربية وبادية الشام والعراق في تلاحم شديد بين السياسة والدين وبين أمور الدنيا والآخرة على السواء. وقد كان في أخلاق أصحاب هذه الدعوة وأتباعها وإخلاصهم وصدقهم في دعوتهم وإخوانهم في الدين وحرصهم على تحقيق العدل في ظل شريعة الإسلام ما جعل الناس تلتف حولهم وتفتح لهم صدورهم إلى جانب بلادهم وتشاركهم مهمة الإصلاح والجهاد في سبيل الله.

يقول صاحب عنوان المجد في تاريخ نجد: "فلما استقر في الدرعية تسلل إليه شيعته الذين في العيينة ومن ينتسب إلى الدين ومعهم أناس من رؤساء المعامرة معاكسين لعثمان بن معمر وهجروا إلى الدرعية أو أناس ممن حولهم من البلدان لما

ص: 188

علموا أن الشيخ استقر ومنع ونصره"1وقال رحمه الله: "وأهل الدرعية يومئذ في غاية الضعف وضيق المؤنة"2

وفي مجال رعاية إمام الدعوة للمهاجرين وتخفيف المعاناة عنهم ومحاولة توفير ما يحتاجونه وما يقدمه من جوائز للوفود كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. يقول ابن بشر رحمه الله: "وكان الشيخ رحمه الله لما هاجر إليه المهاجرون يتحمل الدين الكثير في ذمته لمؤنتهم وما يحتاجون إليه وفي حوائج الناس وجوائز الوفود إليه من أهل البلدان والبوادي ذكر لي أنه حين فتح الرياض وفي ذمته أربعون ألف محمدية فقضاها من غنائمها. وكان لا يمسك على درهم ولا دينار، وما أتى إليه من الأخماس والزكاة يفرقه في أوانه. وكان يعطي العطاء الجزيل بحيث إنه يهب خمس الغنيمة العظيمة لاثنين أو ثلاثة"3

وإذا كان الإمام محمد بن سعود قد توفي رحمه الله عام 1179هـ ونجد لا تزال تغلي فيها حركة الجهاد مع المعارضة في أقاليم نجد، فقد أكمل البناء وأتمه ولي عهده وإمام المسلمين من بعده الإمام عبد العزيز بن محمد رحمه الله بمؤازرة الإمام محمد بن عبد الوهاب وتوجيهه. يقول صاحب عنوان المجد: "وما يجيء إلى الدرعية من دقيق الأشياء. وجليلها تدفع إليه – أي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بيده ويضعها حيث يشاء. ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئا إلا عن أمره. بيده الحل والعقد والآخذ والإعطاء والتقديم والتأخير ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد وابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض واتسعت ناحية الإسلام وآمنت السبل وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز وفوض أمور المسلمين وبيت المال إليه. وانسلخ منها ولزم العبادة وتعليم العلم ولكن

1 الشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 12.

2 المرجع السابق ص 13.

3 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 15.

ص: 189

ما يقطع عبد العزيز أمرا دونه ولا ينفذه إلا بإذنه"1

ولم ينته عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وابنه سعود وقد توطدت أركان الدولة الإسلامية التي مدت يدها الرحيمة وظلها الوارف على كل نجد والحجاز وبعض أجزاء شبه جزيرة العرب وأطراف الشام والعراق. وصارت الدرعية مرجع ولاتها وقضاتها وأمرائها وصاحبة الأمر المطاع فيها، يحكم فيها شرع الله وتنفذ أحكامه وتقام حدوده ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر على بينة. ولمعرفة أجزاء هذه الدولة الإسلامية نسوق نصا تاريخيا عن أمراء الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود قبل استشهاده وهو ساجد أثناء صلاة العصر في العشر الأواخر من رمضان عام 1218هـ على يد رجل عراقي ادعى النسك. يقول ابن بشر رحمه الله:"وكان أميره على تهامة وما يليها من اليمن عبد الوهاب المعروف بكنية – أبو نقظة – وعلى الحجاز وما يليه من النواحي عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، وعلى عمان صقر بن راشد رئيس رأس الخيمة، وعلى الاحساء ونواحيها سليمان بن محمد بن ماجد، وعلى القطيف ونواحيه أحمد بن غانم، وعلى الزبارة والبحرين سليمان ين خليفة، وعلى وادي الدواسر ربيع بن زيد الدوسري وعلى ناحية الخرج إبراهيم بن سليمان بن عفيصان، وعلى المحمل ساري بن يحيى بن سويلم، وعلى ناحية الوشم عبد الله ين حمد بن غيهب في بلد شقراء وعلى ناحية سدير عبد الله بن جلاجل وعلى ناحية القصيم حجيلان بن حمد في بريدة وعلى جبل شمر محمد بن عبد المحسن بن فايز بن علي في بلد حايل"2

ويقول صاحب كتاب دليل الخليج عن تاريخ سنة 1810م ما نصه: "فقد كان الوهابيون يسيطرون – بلا منازع – لا على وسط جزيرة العرب فقط بل على أجزاء كثيرة من الحجاز أيضا بما فيها الأماكن المقدسة في مكة والمدينة وكذلك أقسام من اليمن على الأقل. وفي طريق الشام كانوا قد سيطروا – فيما يبدوا- على واحة الجوف

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 131.

2 المرجع السابق ج 1ص 131.

ص: 190

العامر. كما كانت جيوشهم تقوم من وقت لآخر بتهديد باشوية بغداد بل وبغداد نفسها في بعض الأحيان"ثم قال: "وكان الوهابيون قد عززوا مراكزهم في عمان بأن احتلت قواتهم – من قاعدتهم المتقدمة في البريمي – بعض القالع في إقليم الشمايلية"1وقال صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي عن هذه الدعوة في عام 1814م: "وبينما كان ابن السعود سنة 814م يعد العدة لفتح سوريه وهمته متينة كان يخيل إلى العالم منه أن الوهابيين متدفقون على الشرق تدفقا وصانعون ما شاءه الله من الإصلاح في الإسلام"2 وقال أيضا في موضع آخر: "وخلال جيل تلا اتسعت الدعوة الوهابية بأفقها ومضطربها اتساعا كبيرا وتطورت تطورا عظيما حتى صالت تعرف باليقظة الإسلامية3

ولما اكتمل بناء هذه الدولة الإسلامية وتوطدت أركانه صارت خير مثل لتطبيق ما نادت به من مبادئ وأهداف إسلامية واضحة المعالم، فأخذت تطبع الحياة في كل جوانبها بطابع الإسلام في حدود الإمكانات المتاحة.

1-

ربط الحياة بالدين:

أهداف الدعوة الإصلاحية في نجد كانت معلنة في بدء قيامها يوم أن كان إمامها يعرض نفسه ودعوته على الأمراء في نجد، وهي أهداف واضحة المعالم محددة الغاية إسلامية الهدف والوسيلة – فقد قال إمام الدعوة للأمير عثمان بن معمر أمير العيينة لما أمره قائد الاحساء سليمان بن محمد بن غرير الحميدي إخراج الشيخ من العيينة قال رحمه الله: "إن هذا الذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله وأركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن

1 دليل الخليج القسم التاريخي، تأليف ج. ج. لوريمر ج 1ص 303.

2 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستيوارد الأمريكي ج1 ص 262.

3 المرجع السابق ج1 ص 262.

ص: 191

الله سبحانه يظهرك على أعدائك"1

كما أن بيعة الإمام محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب قد تضمنت هذه الأهداف الواضحة الجلية. قال ابن بشر بعد حديثه عن عرض الدعوة على الإمام محمد بن سعود وتمام البيعة: "ثم إن محمدا بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"2 وهذه الأهداف تتضمن إقامة الدين كله في التعليم والعمل والسياسة والقضاء وجباية الزكاة وإقامة الحدود ونشر العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم وتأمين السبل وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع في الأمور المادية والمعنوية على السواء وبناء قوة سياسية وحربية واجتماعية يحسب لها حساب في المنطقة.

ولم يدخر قادة هذه الحركة الإصلاحية وسعا في تحقيق المبادئ التي نادوا بها قدر مستطاعهم. فساسوا سياسة راشدة وأقاموا العدل بين الناس بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاد أئمة الهدى في مختلف العصور الإسلامية الزاهرة وفتحوا دور العلم الشرعي للناس وجبوا الزكاة المفروضة في الثمار وبهيمة الأنعام وغيرها بالعدل واجتهدوا في صرفها في مصارفها الشرعية كما أراد الله، بما حقق نوعا من التكافل الاجتماعي المادي إلى جانب إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يحقق تكافلا اجتماعيا أدبيا. وعملوا على إلزام الناس بالحق وحراسة الدين وشرح معنى لا إله إلا الله محمدا رسول الله والعمل بمقتضاها وأقاموا علم الجهاد في سبيل الله وجعلوا الشهادة في سبيل الله من أغلى الأماني لدى أفراد المسلمين. وساروا بالحياة في مختلف مناحيها في ضوء الكتاب والسنة بما يحقق السعادة للفرد والجماعة في الدنيا والآخرة.

يقول المؤرخ الأمريكي: "فتكونت على التوالي وحدة دينية سياسية في جميع الصحراء العربية شبيهة بتلك الوحدة التي أنشأها صاحب الرسالة. وفي الواقع فإن

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 10.

2 المرجع السابق ج 12.

ص: 192

المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب ليشبه شبها كبيرا ذلك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر 1".

ومن أجل هذا كله فإن هذه الدولة الإسلامية قامت في نفوس أتباعها قبل أن تقوم ككيان سياسي في واقع الحياة، ولأجل ذلك فإنها لما استؤصلت في الدور الأول على يد إبراهيم باشا ككيان سياسي سارع أتبعها إلى إعادة بنائها تحت قيادة الإمام تركي بن عبد الله. ثم لما انتهى عهدها الثاني أعيد مرة ثالثة على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل رحمه الله، إذ أن الأمة المسلمة في شبه الجزيرة العربية تحن إلى هذه الدعوة المخلصة حنين الأم إلى وليدها كلما فقدته لما تحقق فيها من التلاحم الشديد بين الدين والحياة الأخرى وأمور المعاش وتأمين المعاد.

1-

تحقيق الأمن والرخاء:

تعطى المصادر التاريخية عن فترة حكم الإمام عبد العزيز بن محمد والإمام سعود وعبد الله في هذا الدور الأول من الحكم السعودي صورة مضيئة عما تحقق في هذه الفترة لكل الأقاليم التي بسطت هذه الدولة نفوذها عليها وأن الناس عاشوا في ظلها حياة هانئة سعيدة ينعمون فيها بالأمن الوارف الظلال والرخاء والرغد في العيش والسعة في موارد الرزق، وأن الله قد أبدل حياة الناس في الدرعية التي كانت في بداية الدعوة في غاية من الضيق والشدة بالرفاه والسعة وكثرة الخيرات. فقد تحدث الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه عن سيرة الإمام عبد العزيز بن محمد وما تحقق للناس في ظل حكمه فقال: "وكانت الأقطار والرعية في زمنه مطمئنة في عيشة هنيئة وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء شتاء أو صيفا، يمنا أو شاما، شرقا وغربا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك، لا يخشى أحدا إلا الله لا سارقا ولا مكابرا. وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع

1 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب الأمريكي ج1ص261.

ص: 193

يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مراعي بل إذا عطشت ودت على البلدان ثم تصدر إلى مفالها حتى ينقضى الربيع أو يحتاجون لها أهلها"1

وبعد أن ذكر المؤرخ ابن بشر بعض الأخبار التي تعطي صورة جيدة واضحة عن استتباب الأمن في هذه الدولة وتأمين السبل ورضى الناس بذلك قال رحمه الله تعالى:"ويخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز والبصرة والبحرين وعمان وأنقرة والشام لا يحمل سلاحا بل سلاحه عصاه لا يخشى كيد عدو ولا أحد يريده بسوء"2 والرخاء وسعة الرزق ترتبطان عادة مع الأمن والعدل واستتبابهما في أي موطن. وقد تحقق لأهل هذه المنطقة في ظل الدولة السعودية الأولى من الرخاء بقدر ما وصفنا من الأمن.

وقد سبق أن ذكرنا نصا تاريخيا عن هذه الدعوة المباركة أن أهل الدرعية عند بدء الدعوة الإصلاحية كانوا في أضيق عيش وأشد حاجة وابتلوا ابتلاء شديدا وقد وصف ابن بشر في تاريخه حال الدرعية بعد ذلك وما هي فيه من نعمة وما بها من خيرات تفوق الوصف فقال: "ولقد رأيت الدرعية بعد ذلك في زمن سعود رحمه الله تعالى وما فيه أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة الذي لا يوجد مثله والخيل الجياد والنجايب العمانيات والملابس الفاخرة وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان ويكل عن حصره الجنان والبنان. ولقد نظرت إلى مواسمها يوما في مكان مرتفع وهو في الموضع المعروف بالباطن بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود المعروفة بالطريف ومنازلها الشرقية المعروفة بالبحيري التي فيها أبناء الشيخ ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب، وموسم اللحم في جانب وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام والبيع والشراء

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 126، 127.

2 المرجع السابق ج1 ص 128.

ص: 194

والأخذ والعطاء وغير ذلك هو مد البصر، ولا تسمع فيه إلا كدوي النحل من النجناج وقول بعث وشريت والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي"1

ويقول المؤرخ الأمريكي في تاريخه المعروف بحاضر العالم الإسلامي في وصف الدولة السعودية الأولى: "وكانت حكومته على عنفها مكينة عادلة فانقطع التعدي وأمن الناس السرقات وانتشر الأمن وسادت الطمأنينة والراحة"2

فهذه النقول التاريخية تدل بجلاء على ما وصلت إليه الدولة السعودية الأولى التي قامت على الإصلاح والتجديد الديني من مستوى في الأمن النفسي والاجتماعي وتامين السبل وتحقيق العدل وأفاء الله على أهلها من نعم كثيرة وخيرات وفيرة وسعادة للإنسان في ظلها الوارف وأمنها الممتد والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

1-

القدوة الحسنة في القيادة:

السير الذاتية لأئمة هذه الدعوة الإصلاحية التجديدية تعكس مدى إيمان قادة هذه الحركة بمبادئها الإسلامية وعملهم من أجلها وصبغ حياتهم بها وتحدد مقدار الربط بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي، في واقع الحياة بدءا بالذات وانتهاء بالسير العامة في مختلف جوانب الحياة.

وسير قادة هذه الحركة الإصلاحية هي الواقع لوحة مضيئة تنضح بالصدق والإخلاص والإيمان والعمل لمرضاته، وتجسد الحياة الإسلامية في صورة بهية تعطي من ذاتها القدوة الحسنة والسيرة الحميدة، وتقيم المثل الأعلى الشاخص الذي

1 المرجع السابق ج1 ص 13، 14.

2 حاضر العالم الإسلامي تأليف المؤرخ لوتروب ستيودار ترجمة عجاج تويهض تعليق الأمير شكيب رسلان ج 1 ص 262.

ص: 195

يراه الناس في حياتهم قولا وواقعا متحركا يأخذ ويعطي ويترجم الأقوال إلى أفعال وأعمال محسوسة، فكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثالا في الزهد والتقى والورع والثقة بما عند الله قواما في الليل ومجاهدا في النهار صادعا بكلمة الحق ومستيقنا بالنصر باذلا للمال في وجهه بذل من لا يخشى الفقر قائما على مصالح الناس وسد حاجاتهم أمينا على ما تحت يده وقد مر النص التاريخي عن رعايته رحمه الله لأتباعه المهاجرين إليه واعتبار طلاب العلم عنده بمنزلة أولاده فعلاقته بالله متصلة ونفعه للناس مستمر وتجرده من الأنانية وحب الذات وإخلاصه في دعوته أمر يفوق الوصف وأثره بحياته العملية وسيرته الذاتية انعكس على أتباعه وكبار شيوخ مدرسته من القادة السياسيين ومن العلماء والقضاة.

والإمام محمد بن سعود رحمه الله صورة أخرى عن الشخصيات القيادية الريادية الفذة في هذه المدرسة الإصلاحية بحياته الخاصة في صلته بربه وفي عدله في رعيته وفي إخلاصه في دعوته وصدقه في جهاده وبره برعيته وزهده بما في يده وعطفه على الناس ورعايته للفقراء والمساكين والمستضعفين وغيرته عند ما تنتهك حرمات الله وقوته في الحق.

ففي وصف ابن بشر لحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسيرته الذاتية قال رحمه الله: "وكان الشيخ رحمه الله تعالى كثير الذكر لله قل ما يفتر لسانه من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وكان إذا جلس الناس ينتظرونه يعلمون إقباله إليهم قبل أن يروه من كثرة لهجته بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في موضع واحد لا يقوم ومعه منها شيء ويتحمل الدين الكثير لأضيافه وسائر الوافدين إليه وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم"1

والإمام محمد بن سعود رحمه الله كانت حياته مثالا في التقوى والصلاح والصدق للدعوة والإيمان بالجهاد في سبيلها وكانت سيرته الذاتية ناصعة البياض، غير

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 89.

ص: 196

أنه رحمه الله كان عهده عهد حروب ومعارك جهاد ولم يتفرغ فيها للإصلاحات الداخلية ولم تتوافر له الوسائل التي توفرت لأبنائه عبد العزيز وسعود. وهو من أفضل القادة السياسيين في هذه الدعوة الإصلاحية وعن طريقه عبرت الفضائل العديدة والشمائل الكريمة لخلفائه في الأمر من بعده.

أما الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود فهو الشخصية الثالثة في هذه السلسلة الوضيئة من قادة الإصلاح في نجد. وفي معرض الحديث عن سيرته الذاتية وأعماله قال المؤرخ عثمان بن بشر رحمه الله: "وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية وخصوصا أهل البلدان بإعطائهم الأموال وبث الصدقة لفقرائهم والدعاء لهم والتفحص عن أحوالهم"1

وفي مجال صدقه في دعوته وإخلاصه لأمته يقول ابن بشر رحمه الله: "وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه يكثر الدعاء لهم في ورده قال: وسمعته يقول: اللهم ابق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها"2

وفي مجال العدل وتحقيقه في جباية الزكاة، يقول ابن بشر رحمه الله: وكان يوصي عماله بتقوى الله وأخذ الزكاة على الوجه المشروع وإعطاء الضعفاء والمساكين ويزجرهم على الظلم وأخذ كرائم الأموال"3 وفي مجال الزهد في المال يقول ابن بشر رحمه الله: "وأتى إليه يوما خمس وعشرون حمل من الريالات فمر عليها وهي مطروحة فنخسها بسيفه وقال: "اللهم سلطني عليها ولا تسلطها علي ثم بدأ في تفريقها"4

وفي موضع آخر قال عن أئمة هذه الدعوة في نهاية حديثه عن سيرة الإمام عبد العزيز بن محمد: "وبالجملة فمحاسنهم وفضائلهم أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر ولو بسطت القول في وقائعهم وغزواتهم وما مدحوا به من الأشعار وما قصد

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 126.

2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 126.

3 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص129.

4 المرجع السابق ص 130.

ص: 197

بابهم من الرؤساء العظماء من أقاصي الأقطار وما حمل إليهم من الأموال والسلاح والخيل الجياد التي لا يدركها العد والتذكار لجمعت فيها عدة أسفار ولكنني قصدت الإيجاز بالاختصار"1

أما الشخصية الرابعة في القيادة السياسية الإصلاحية فهو الإمام سعود بن عبد العزيز وهو الذي بلغت الدعوة الإصلاحية في عهده أوجها وأعطت أكبر نتائجها. وهو من الشخصيات الفذة لا يقل عن سابقه في الورع والإخلاص لدينه وأمته والنظافة في تاريخه والعطف على رعيته وسيرته الذاتية صورة مشرقة تمثل حياة المسلم في أتم صورها. وصف ابن بشر وصاياه لرعيته فقال: "وكان أول ما يصدر النصيحة بالوصية بتقوى الله تعالى ومعرفة نعمة الإسلام ومعرفة التوحيد والاجتماع بعد الفرقة ثم الحض على الجهاد في سبيل الله ثم الزجر عن جميع المحظورات من الزنى والغيبة والنميمة وقول الزور والمعاملات الربوية وغير ذلك"2

وختم وصف حياة الإمام سعود المؤرخ ابن بشر بقوله: "وبالجملة فمحاسن هؤلاء الأمجاد وفضائلهم ومحامدهم التي ملأت أقطار البلاد الذي أزال الله بأولهم الجهل عن الناس والمحن وبآخرهم الظلم والجور والبغي والفتن لو جمعت لبلغت أسفارا من الكتب ولرأيت العجاب والعجب وكفى بفضلهم ما تقدم قبل أولهم وآخرهم من المنكرات. فبدلوا جهودهم في زوالها حتى انطمست معالمها وعمل بالطاعات أعني بأولهم محمدا وابنه عبد العزيز وابنه سعود وبآخرهم تركي وابنه فيصل قاتل البغاة ونقاض العهود"3

والإمام عبد الله بن سعود رحمه الله كان من أفضل الناس سيرة وأربطهم جأشا وأشجع آل سعود. وهو لا يقل عن سابقيه في سيرته الذاتية وكفاءته وقدراته وإخلاصه لهذه الدعوة فسار بالناس سيرة حميدة حذا فيها حذو سابقيه واقتفى سننهم فكان كثير الطاعة عفيف اللسان نظيف اليد طاهر الجيب عطوفا على رعيته

1 عنوا ن المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 130.

2 المرجع السابق ص 167.

3 المرجع السابق ص 176.

ص: 198

آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر باذلا للمال في وجوه الخير. فمضى صدر من إمارته في عز ومنعة وقوة إلا أن الخلافة العثمانية وجدت أنه لا بد من المفاصلة مع هذه الحركة الإصلاحية التي تعدها مقدمة لحركات انفصالية في العالم الإسلامي. فأرادت أن تؤدبها وتؤدب بها كل من تسول له نفسه الخروج على الخلافة العثمانية فندبت لهذه المهمة الخطيرة محمد علي حاكم مصر من قبل الأتراك. فجمع لهذه الحملات التدميرية من الإمكانات المادية والبشرية ووفر لها من أسباب النجاح ما يضمن لها القضاء على هذه الدعوة الإصلاحية الأولى في العالم الإسلامي في العصر الحديث.

ووكلت عملية التنفيذ إلى جبار من جبارة القادة العسكريين الأتراك هو إبراهيم باشا. وبدأت سلسلة من المعارك الطاحنة بين الدولة السعودية وبين الجيوش التركية عبر عدة سنوات انتهت بالقضاء التام على القادة السياسية لهذه الحركة الإصلاحية وهدم قاعدتها الدرعية وإجلاء كل سكانها والقضاء على رجالات المنطقة في حملة ظالمة شرسة لا تعرف الرحمة. وبذلك طويت صفحة من صفحات هذه الحركة الإصلاحية.

تحدث ابن بشر رحمه الله عن سيرة الإمام عبد الله بن سعود فقال: "وكان عبد الله ذا سيرة حسنة مقيما للشرائع آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر كثير الصمت حسن السمت باذل العطاء ولكن لم يساعده القدر وهذه سنة الله في عباده"1 وقال "وكان صالح التدبير في مغازيه ثبتا في مواطن اللقاء، وهو أثبت من أبيه في مصابرة الأعداء، وكانت سيرته في مغازيه وفي الدرعية في مجالس الدرس وفي قضاء حوائج الناس وغير ذلك على مسيرة أبيه سعود فأغنى عن إعادتها"2

ووصف ابن بشر رحمه الله نجدا بعد أسر الإمام عبد الله بن سعود وهدم الدرعية والقضاء على قادة ورجالات وعلماء الدعوة الإصلاحية في نجد وحالة الناس فيها فقال: "قلت فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة وعمل

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 211.

2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 211.

ص: 199

بالمحرمات والمكروهات جهرا "حتى قال وتعذرت الأسفار بين البلدان وتطاير شرر الفتن في الأوطان وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد"1

هذا ولما كانت هذه الدعوة الإصلاحية قد حلت محلها العميق من النفوس واستقرت في مقرها من الوعي والشعور لدى الناس فإنه على الرغم من قضاء الأتراك على هذه الحركة كوجود سياسي قضاء مبرما حتى هدمت كل مباني الدرعية وقتلت خيرة الرجال لا في الدرعية فحسب بل وفي كل البلاد الواقعة تحت سلطان هده الدعوة وأوقع بهم من البلاء والمحنة وأعمل فيهم السيف بلا رحمة وبما يعجز القلم عن وصفه من تلك المجازر الجماعية التي لا يفرق فيها بين المقاتل والشيخ الكبير أو المرأة الضعيفة والطفل الصغير حتى بعد استلام الأتراك لمقاليد الأمور في نجد ما أن عادت الجيوش الغازية بما حققته من نصر كبير حتى عادت إلى استئناف حياة إسلامية جديدة على يد ابن بار من أبناء هذه الدعوة هو الإمام تركي بن عبد الله. وبذلك بدأ عهد جديد يعرف في التاريخ الحديث بالدور الثاني للدولة السعودية. وظلت هذه الدولة تتعرض للاندثار كلما قصرت في الالتزام بمبادئ هذه الدعوة الإصلاحية وتعود للظهور كلما صدق قادتها مع الله، والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وتاريخ الإمارة السعودية مع الدعوة عبر التاريخ أكبر شاهد على ظهور الأسرة السعودية على الناس كلما التزمت بواجبها في القيام بحق هذا الدين واستمسكت بحبله وأنها كلما قصرت في قيامها بهذا الواجب أو حصل فيها ميل عنه توقف مدها وسلط عليها أعداؤها حتى تفيء إلى أصول الدعوة التي قامت عليها. وهذا ما يفسر به كثير من مؤرخي المنطقة نهاية الدولة السعودية الأولى والثانية وعودتها إلى منصة القيادة بقيادة كل من الإمام محمد بن سعود في الدور الأولى، والإمام تركي بن عبد الله في الدور الثاني، والملك عبد العزيز في الدور الثالث، وهو أمر لم يفهمه كثير

1 المرجع السابق، ص 212، 213.

ص: 200

ممن كتبوا عن تاريخ الأسرة السعودية عامة والملك عبد العزيز خاصة من خارج المملكة، ولم يعرفوا نفسية هذا الشعب المسلم، وتاريخ هذه الأسرة الكريه وضربها بسهم وافر في خدمة الإسلام وتحقيق العدل حتى جعل النفوس تحن إلى المصلحين من أبنائها كلما فسدت الأحوال أو حصل انحراف عن الدين.

وفي مقابل ظهور إمارة الدرعية على غيرها منذ قيام دعوة الإصلاح ماذا يعرف المثقفون فضلا عن عامة الناس في نجد عن إمارة الرياض وأسرة دهام بن دواس وعن غيرها من الإمارات والبيوت التي ناوأت الدعوة وتزعمت المعارضة في الداخل أو الخارج. لقد كان حظهم الإهمال والنسيان والفناء المعنوي وموت الذكر. ولولا تاريخ حركة الإصلاح وذكرهم في أخبارها لما عرف من أخبارهم إلا القليل النادر.

وكل هذه عظات وعبر لمن تدبر التاريخ واعتبر بأحداثه وحاول استكشاف كنوزه ووعى سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولكن النعم ولين العيش وطول الأمد ينسي هذه الأمر. وأولى الناس بالتدبر والاعتبار من رفع الله ذكرهم بهذا الدين وأعزهم بهذه الدعوة المباركة وجعلهم بها أئمة وملوكا ليزيدهم ذلك فقها بأصول العز ومصدر التمكين في الأرض، مصداقا لقوله تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .

وهي سنة الله ماضية في الخلق ضاربة في التاريخ. ولعل في وعي هذه الأصول وفقه التاريخ ما يعصم من الزلل ويمنع من الانحراف ويسدد السالكين على جادة الحق ومنهج الصواب إذ ليس بين الله وبين خلقه حسب ولا نسب وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء بفضله ويصرفه عمن يشاء بحكمه. والناس عيال الله وأحب الخلق أنفعهم لعياله وأعظمهم النفع ما جمع الدنيا والآخرة ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى وعي هذه الحقائق في زمن تكالبت علينا فيه الأمم وراج فيه سوق الباطل وتعددت فيه السبل، والأمة الإسلامية في مسيرتها تقف على مفارق الطرق ولا نجاة لها إلا بهذا الدين، والله غالب على أمره ولكن الناس لا يعلمون.

ص: 201