المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النتائج الاجتماعية والاقتصادية - حركة التجديد والإصلاح في نجد

[عبد الله العجلان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول:أوضاع العالم الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري في ظل الخلافة العثمانية

- ‌ الأوضاع السياسية:

- ‌ الأوضاع الدينية في العالم الإسلامي:

- ‌ الأوضاع الاجتماعية:

- ‌الفصل الثاني:الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌نسبه:

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌رحلاته:

- ‌روافد فكره

- ‌الفصل الثالث: الاعتقاد والدعوة ومنشأ الاختلاف

- ‌أولا – حقيقة اعتقاده:

- ‌ثانيا- "أصول دعوته

- ‌ثالثا: أسلوبه في الدعوة:

- ‌الفصل الرابع:منهاجه التربوي في دعوته

- ‌أولا- الهدف:

- ‌ثانيا- المنهج:

- ‌ثالثا: الوسائل

- ‌رابعا: الخصائص

- ‌الفصل الخامس: المعارضون وشبهاتهم

- ‌المعارضة على الدعوة

- ‌المعارضة الداخلية:

- ‌ المعارضة الخارجية:

- ‌مسائل الخلاف

- ‌ الممارسات التي لم يوافقه بعض معاصريه عليها:

- ‌ الشبهات التي أثيرت حول الدعوة:

- ‌الفصل السادس: آثار حركة التجديد ونتائجها

- ‌أثرها في شبه الجزيرة العربية

- ‌تأثير هذه الدعوة في أفريقيا:

- ‌تأثير هذه الدعوة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا:

- ‌ النتائج السياسية:

- ‌النتائج الدينية:

- ‌النتائج الاجتماعية والاقتصادية

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌النتائج الاجتماعية والاقتصادية

وقامت بالحملات الإعلامية، وجهزت الجيوش الضاربة للقضاء على هذه الدعوة في عقر دارها. ولكن هذه الدعوة كانت قد أخذت مكانها في النفوس ومستقرها من القلوب. وإذا كان في تعدد الحملات العسكرية تحقيق النصر السياسي أحيانا فليس في مقدورها القضاء على القضاء على الدعوة كفكر وعقيدة وحق.

ومظاهر هذه المعارضة شبيهة بمظاهر المعارضة المحلية التي تتلخص في الأمور التالية:

1-

تسخير وسائل الدعاية والإعلام ضد هذه الدعوة وإعطاء المسلمين عنها فكرة سيئة من الوجهة الإسلامية الصرفة.

2-

إصدار الفتاوى الشرعية ضد هذه الحركة وأتباعها ورميها بما ليس فيها.

3-

محاصرتها اقتصاديا وقطع المعونات عنها.

4-

مؤازرة خصومها بالمال والسلاح.

5-

تأليف الكتب والرسائل والنشرات من كبار علماء المسلمين في بلاد كثيرة اعتمادا على ما بلغهم عن طريق الخلافة العثمانية وبما كان مجافيا للحقيقة.

6-

الحملات العسكرية التدميرية المركزة.

ص: 132

‌مسائل الخلاف

ثالثا- نقاط الاختلاف بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعارضيه:

ولما جهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته الإصلاحية في نجد عام 1153هـ بعد أن حدد أهدافها ووسائلها ومبادئها وبدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطرح مفاهيم هذه الأصل من الأقوال والأفعال في ممارسات الناس اليومية ورسم طريق الخلاصة بينها وبين ما ينبغي الأخذ به وما ينبغي الكف عنه ووجوب تعليم الجاهل وتذكير الناسي وبيان حقيقة التوحيد وطريق تحقيقه وتعريف ما يناقضه من أنواع الشرك الظاهر والباطن.

وأنه بعد تعليم الجاهل وتذكير الناسي وتنبيه الغافل وبيانه أحكام كل

ص: 132

الممارسات القائمة في المجتمع مما يعد مخالفا للنصوص الشرعية ودعوة الناس إلى العدول عن كل مخالفة وإلا جاز أن يطلق على كل فعل من الأفعال الحكم الشرعي المناسب له حسب أدلة النصوص ومقتضياتها في ضوء فهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأتباعهم بإحسان إلى يوم دعوة الشيخ، فلما وجد إصرار من بعض العلماء والمطاوعة والأمراء وبعض العامة على معاداة الدعوة ومظاهرة أعدائها عليها، رتب على هذه الأفعال والمواقف والممارسات أحكاما شرعية وأصدر كتبه وفتاواه تنطق بهذه الأحكام فسمى الشرك باسمه والبدعة باسمها وكل قول أو فعل أو ممارسة أو موقف باسمه كذلك، وكانت هذه الأحكام في نظر المعارضين للدعوة أحكاما قاسية تصف بعض الأقوال والأفعال والتصرفات والمواقف بالشرك أو أنه ناقض من نواقض الإسلام، وتسمي بعض الأشخاص بالمشركين لما أظهروا الإصرار على دعوة غير الله مع الله ودعوة الناس إليه وتأييدهم في أفعالهم الشركية، كما وصفت بعض الأقوال والأفعال والتصرفات بالبدعة والمصرين عليها بالمبتدعة.

وبدأ الاختلاف مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخصومها في اتجاهين رأسين هما:

1-

مسائل علمية تتصل بالإيمان والتوحيد والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتكفير والاجتهاد والتقليد ومناقشة الأدلة في ذلك كله.

2-

ممارسات عملية تتصل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد والعدل في الميراث وهدم البناء على القبور وغيرها.

أما المسائل العلمية التي اختلف فيها خصوم الدعوة مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهي كثيرة وقد حددت لنا مؤلفات الشيخ محمد رحمه الله ورسائله الشخصية تارة وعلى شكل بحوث وقواعد عامة ليست موجهة لأحد بعينه ولكنها تناقش القضايا المختلف عليها بصورة غير مباشرة تارة أخرى ونود هنا قصر نقاط الاختلاف على الأمور التي صارت فيها مكاتبات شخصية في مسائل محدودة ومنها على سبيل المثال ما يلي:

ص: 133

1-

الاختلاف حول أول واجب على المكلف:

فيرى الشيخ محمد بن عباد مطوع ثرمدا أن أول واجب على كل ذكر وأنثى النظر في الوجود ثم معرفة العقيدة ثم علم التوحيد.

ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن هذا خطأ وأن هذا من علم الكلام الذي ذمه السلف وإنما الذي أتت به الرسل أن أول واجب هو التوحيد وليس النظر في الوجود ولا معرفة العقيدة 1

2-

الاختلاف في تعريف الإيمان:

يقول محمد بن عباد: إنه التصديق الجببازم بما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأنه يدخل فيه جميع المأمورات وترك جميع المنهيات وليس مجرد التصديق الجازم بما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم. صلى الله عليه وسلم فأبو طالب عمه جازم بصدقه وكذلك الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن الذين يقولون الإيمان هو التصديق الجازم هم الجهمية واشتد نكير السلف عليهم في هذه المسألة.

3-

الاختلاف في تعريف الإيمان بالقدر:

يقول محمد بن عباد: إنه الإيمان لا يكون صغيره ولا كبير إلا بمشيئة الله وإرادته وأن يفعل المأمورات ويترك المنهيات.

ويرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن هذا غلط لأن الله سبحانه له الخلق والأمر والمشيئة والإرادة وله الشرع والدين، وإذا ثبت هذا ففعل المأمورات وترك المنهيات هو الإيمان بالأمر وهو الإيمان بالشرع والدين ولا يذكر في حد الإيمان بالقدر.

والإيمان بالقدر في مدرسة الشيخ هو أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وهو يتضمن أربعة أشياء هي:

1 انظر القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 2 ص 16.

ص: 134

1-

الإيمان بعلم الله القديم.

ب-الإيمان بأن الله كتب ما علم أنه كائن من العباد.

ج- الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله.

د- أن الله تعالى أوجد جميع الخلق وما في الكون بتقديره وإيجاده.

4-

الاختلاف في معنى لا إله إلا الله:

فإن معاصري الشيخ يقولون أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فهم يقرون أن ذلك لله وحده لا شريك له وأن من قال لا إله إلا الله فإنه موحد ولا يجوز أن يوصف بالشرك، ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قول لا إله إلا الله ولم يطالبهم بمعناها. وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الأعاجم وقنعوا منهم باللفظ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فمن قالها بصدق وإيمان فهو مسلم موحد لا يجوز أن يوصف بالشرك أو الكفر وهو معصوم الدم والمال "ولو هدم أركان الإسلام الخمس وكفر بأصول الإيمان الستة"1كما ذكر ذلك الشيخ عنهم فقالوا إن عامة المسلين هم السواد الأعظم ولا يجوز تكفيرهم أو نسبة الشرك إليهم لأن فعلهم صار كالإجماع والأمة لا تجمع على الضلالة

الخ.

أما الشيخ رحمه الله فإنه يرى كما أسلفنا أن معظم الناس المعاصرين له لا يعرفون معنى لا إله إلا الله وأن لها ركنين النفي والإثبات نفي الألوهية الحقة عن غيره سبحانه وإثباتها لله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والعبادة وأن من أشرك به في ربوبيته أو ألوهيته أو صرف شيئا من أنواع العبادة لغيره فهو مشرك كافر، وأن المقصود بالإله عنده هو الذي تؤلهه القلوب محبة وتعظيما تقصده بالمحبة والطاعة والتقرب إليه بأنواع العبادة، وأن كلمة لا إله إلا الله لها شروط سبعة سبق ذكرها فلا تنفع صاحبها إلا باجتماعها انتفاء الموانع، ولابد في قولها من الإخلاص واليقين

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 14، ص 96.

ص: 135

والفهم، ويرى أن تفسير معاصريه لكلمة "لا إله إلا الله" أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المدبر، وأن مجرد التلفظ بها يدخل المرء في الإسلام ويجعله معصوم الدم والمال غلط وجهل عظيم بمعنى "لا إله إلا الله" وأن التلفظ بها لا يدخل في الإسلام لأن الكفار من أولهم إلى آخرهم يقرون بتوحيد الربوبية ولم يدخلهم ذلك في الإسلام وأن الخصومة التي قامت بين الرسل وأممهم إنما كانت في توحيد الألوهية والعبادة.

يقول الشيخ رحمه الله "والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجردة لفظها والكفار والجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه والبراء منه فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. فإذا عرفت أن الجهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعى الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار بل يظن أن التلفظ بحروقها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر إلا الله"1

ويرى أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بتوحيد الربوبية ويتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا ولكنهم لم يحققوا توحيد الألوهية بل جحدوا توحيد العبادة فقط، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له فلما أصروا على جعل وسائط بينهم وبين الله ليقربوهم إلى الله زلفى قاتلهم صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله، وإفراد العبادة لله وحده عن فهم ويقين وإخلاص، وأن هذا التوحيد هو معنى قول لا إله إلا الله.

ويرى الشيخ رحمه الله أن أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة لا ينفك أحدها عن الآخر، ومن لم تتحقق فيه أنواع التوحيد الثلاثة فإنه لم يحقق التوحيد الكامل في حياته. وأن الأحاديث التي وردت في فضل لا إله إلا الله وتحريم قائلها على النار وأنه

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسالة الشخصية رقم 22ص 154، 155.

ص: 136

معصوم الدم والمال

الخ. أنها حق، وأن معظمها جاء مقيدا بالإخلاص ونفي الشرك وأمر بأداء حقها وأن ما جاء منها مطلقا وجب فيه حمل المطلق على المقيد بالقيود الواضحة الثقيلة.

1-

الاختلاف قي إطلاق الشرك على ما يفعل عند قبور الأنبياء والأولياء والصالحين:

لما أطلق الشيخ محمد الوهاب رحمه الله كلمة الشرك على ما يفعله الناس عند قبور الأولياء والصالحين التي كانت موجودة في نجد وفى مصر والشام والعراق وغيرها من بعض البلاد الإسلامية الأخرى، أنكر معاصروه هذا الوصف منه، وقالوا إن زوار القبور هم أهل الإسلام وتوحيد يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويذكرون الله كثيرا، ويعتقدون أن الله هو النافع والضار وحده، وهم في زيادتهم لقبور الصالحين إنما يقصدون العظة والاعتبار وتذكر سيرة صاحب القبر وصلاحه والاعتراف بمقامة الرفيع عند الله وما يفعله بعض العامة من الذبح لهم أو النذر أو الدعاء أو طلب النفع أو الضرر هو نتيجة جهل منهم مع أنه وردت أخبار في جواز الاستسقاء بالصلحاء كما فعل عمر رضي الله عنه مع العباس رضي الله عنه كما كانوا يطلبون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته. كما ورد جواز التوسل بالأعمال الصالحة. ومع هذا وذاك فإنه لا يجوز أن يطلق الكفر والشرك على ما يفعله العامة عند قبور الصالحين مع أن سلامهم متيقن بإعلان كلمة التوحيد وإقامة فرائض الإسلام وصدق الإيمان بالله والمحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم وأن قصدهم الشرك مظنون من ظاهر تصرفاتهم الخاطئة التي وردت أخبار تدل جوازهم وهم لا يطلبون بها أكثر من جاههم عند الله وشفاعتهم عنده 1

1 انظر مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص 173.

ص: 137

ولا يجوز أن يرفع اليقين بالظن كما أنه يلزم أن تحكم على أن كل الأمة على ضلالة لأنهم ما بين فاعل لذلك وما بين مقر به. ويلزم منه كذلك تكفير المسلمين كلهم منذ ستمائة سنة وهذا أمر عظيم لا يجوز للمسلم أن يقوله على نفسه ولا على غيره مع أن النهي الوارد في القرآن الكريم عن الشرك إنما جاء في عبادة الأصنام واتخاذها معبودات من دون الله وليس المقصود بها ما عليه الناس اليوم.

والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يرى أن ما يفعله العامة في نجد وما يفعله أمثالهم عند قبور الأولياء الصالحين في العالم الإسلامي من أنواع الشرك الأكثر لما فيه من الشرك بالله في الدعوة والعبادة وأن صرف أي نوع من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده شرك فلا يجوز صرفها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل وذكر في أكثر من موضع من رسائله وكتبه أن النطق بكلمة لا إله إلا الله لا تنفع صاحبها إلا إذا عرف معناها وعمل بمقتضاها وحقق ما تضمنته من نفي وإثبات وعمل بشروطها، وأن الاعتقاد بأن الله هو النافع الضار الخالق الرازق المدبر وهو يعرف بتوحيد الربوبية لا يكفي للدخول في الإسلام إذ أن الكفار والذين بعثت إليهم الرسل في مختلف العصور كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ولا ينكرون منها شيئا ولكنهم إنما اختصموا مع رسلهم في توحيد العبادة والقصد وهو توحيد الله بأفعال العباد وتوجههم. ومن لم يحقق توحيد الألوهية الذي بعثت به الرسل لم يدخل في الإسلام. والذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش وغيرهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ولا ينكرون وكذلك المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر مثل مسيلمة الكذاب والأسود وغيرهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وإنما أنكروا بعض فرائض الإسلام والمعلومة من الدين بالضرورة فقاتلهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليله على ذلك.

وأما قصد القبور وزيارتها للعظة والاعتبار فليس ما يفعله العامة عند قبر زيد بن الخطاب في نجد ولا عند قبر عبد القادر الجيلاني في العراق ولا عند قبر البدوي في مصر من أهل هذا القبيل بل إنها زيارة وطواف وعكوف عليها وقصد لطلب النفع والضر رفع للبلاء أو دفعه. وهم في زياراتهم ينخون ويندبون ويطلبون المدد والنصرة والعفو والمغفرة، ويسألون بجاههم ويكتبون مطالبهم التي لا يجوز طلبها إلا

ص: 138

من الله سبحانه لأنها لا يقدرون عليها إلا هو سبحانه وتعالى وهم مع هذا يصرحون لها أنواعا من العبادة كالذبح عندها والنذر وغير ذلك من الأعمال الشركية التي تشبه ما كان يفعله الناس في الجاهلية الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}

وأما أن ما يصدر من العامة عند الأضرحة والقبور من باب الخطأ والجهل ولا يجوز أن يكفروا ويحكم عليهم بالكفر والشرك مع جهلهم فإن الشيخ رحمه الله تعالى ذكر في عدة رسائل أنه لا يكفر إلا بعد التعريف بدين الله وبيان الحكم الشرعي بالدليل من الكتاب والسنة فإذا عرف المدعو الحق بدليله ثم أصر على عمله المخالف أطلق عليه الوصف الذي تقتضيه النصوص الشرعية، يكفر من عرف توحيد الألوهية ومعنى لا إله إلا الله ثم أصر على دعوة الأحياء أو الأموات من دون الله أو جعلهم وسائط بينه وبين الله فقد ذكر في الرسالة التي أجاب فيها على رسالة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق ما نصه:"وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك "1

وأما طلب الدعوة من الأحياء الصلحاء بأن يشركوا المرء في دعائهم لربهم أو يدعوا لهم أو فعل عمر مع عم النبي صلى الله عليه وسلم فليس من قبيل ما يفعل عند قبور الأولياء والصالحين فإنك تطلب من الحي أن يدعو لك أو يشركك في دعائه بأن تطلب منه أن يدعو الله بأن يغيب عباده فأنت تدعو حيا قادرا على التوجه بدعائه إلى الله. وهذا جائز لدلالة النصوص الشرعية على جوازه وأنه ليس من باب الشرك ولا اتخاذ الوسائط بين الله وبين عباده. أما أصحاب القبور فهم لا يسمعون دعاء من يدعوهم ولا يستطيعون إجابتهم، وهو عمل مشابه لأعمال المشركين في الجاهلية التي وردت النصوص الشرعية بإبطالها وبتسميتها بالشرك. وأما التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 5،ص38. كما ذكر هذا النص في الرسالة رقم 22،ص 158.

ص: 139

كما فعل أصحاب الغار الثلاثة فهذا جائز، وليس فيه دليل على جواز ما يفعل عند الأضرحة من الشرك بالله في الدعاء والعبادة. وغاية ما فيه "أنه التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة من البر والتقوى والأمانة وصلة الأرحام والعفاف وهو أمر مشروع كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} والوسيلة: هي ما شرعه الله ورضيه من الأعمال والأقوال الصالحة، وأين في شرعه أن يسأل العبد ربه بعبد من عبيده مخلوق من خلقه"1

وحق السائلين وما جعله للماشي إلى الصلاة والسائلين من الإجابة والإنابة هو حق أوجبه الله على نفسه لعبده فضلا منه وإحسانا. فجاز التوسل به وليس في ذلك دليل على جواز التوسل بذوات المخلوقين.

والشيخ محمد بن عبد الوهاب يرى أن ما يفعله عند الأضرحة من دعوة أربابها وقصدهم لرفع البلاء ودفعه وندبهم وطلب المدد منهم هو الشرك، وأن الواجب أن يبين لهم الحكم الشرعي، ويطلب منهم تصحيح العقيدة والكف عن مظاهر الشرك. ومن أصر بعد العلم على الاستمرار في شركه حكم بكفره وأنه مشرك.

ويرى أن الحكم لا يكون على العقيدة المضمرة أو النوايا الخفية وإنما تبنى الأحكام الشرعية على الأفعال الظاهرة. وهذه الأفعال التي تتم عند قبور الصالحين هي إعمال شركية ظاهرة. يعلن الشرك فيها عن نفسه على ألسنتهم وفي تصرفاتهم ولهذا فإنه لا يتردد في الحكم بالكفر على من هذا ظاهر أعماله بعد علمه بالحكم وبيان الواجب عليه.

وفرائض الإسلام وأعمال البر والخير لا تكون صحيحة إلا إذا قامت على عقيدة التوحيد الخالص من شوائب الشرك الأكبر. والمشركون كانوا يقومون ببعض الأعمال الخيرة من بر وصلة وتعاون وعدل ولم يمنع ذلك كله من تكفيرهم وقتالهم. قال الله

1 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص178.

ص: 140

سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ويقول سبحانه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} يعني المشركين وأعمالهم الصالحة وأن الشرك يبطلها ويذهب الانتفاع بها.

والطلب بجاه الأنبياء والصالحين والتوسل بهم إلى الله لمقامهم عنده سبحانه هو في عرف عباد القبور وأنصارهم فصد الصالحين ودعائهم وعبادتهم مع الله ولقد سماه الله ورسوله شركا في العبادة وعده الصحابة والتابعون لهم بإحسان من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام. واختلاف الشيخ رحمه الله مع معاصريه في مدى جواز إطلاق الشرك على ما يفعله المعاصرون له عند قبور الأولياء والصالحين أو عدم جوازه قضية أساسية في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دار حولها نقاش طويل ولهذا فمن الصعب نقل ما ذكره الشيخ في هذا المجال لأنه لا تكاد رسالة من رسائله تخلو من تناول هذه القضية بإسهاب تارة وباختصار تارة أخرى، ويحسن بنا أن ننقل قطعة موجزة من نصه في هذه القضية، وعلى الباحث أن يرجع إلى رسائل الشيخ الشخصية وكتبه حول هذا الموضوع وما تفرع فإنها حوله تدندن يقول الشيخ رحمه الله في الرسالة العامة التي بعث بها إلى عموم المسلمين عن خصومه مثل أولاد شمسان وأولاد مويس "فلما رأوني آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله وأن من دعا عبد القادر فهو كافر وعبد القادر منه بريء وكذلك من نخا الصالحين أو الأنبياء أو ندبهم أو سجد لهم أو نذر لهم أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد. وكل إنسان يعرف أمر الله ورسوله ولا ينكر هذا الأمر بل يقر به ويعرفه. وأما الذي ينكره فهو بين أمرين: إن قال إن دعوة الصالحين واستغاثتهم والنذر لهم وصيرورة الإنسان فقيرا إليهم أمر حسن ولو ذكر الله ورسوله أنه كفر فهو مصر بتكذيب الله ورسوله ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام. وإنما كلامنا مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر ويحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله ولكنه جاهل قد لبست عليه الشياطين دينه ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق ولو يدري أنه كفر يدخل صاحبه في النار ما فعله"

ص: 141

ونحن نبين لهذا ما يوضح الأمر فنقول: "الذي يجب على المسلم أن يتبع أمر الله ورسوله ويسأل عنه. والله سبحانه أنزل القرآن وذكر فيه ما يحبه ويبغضه وبين لنا فيه ديننا. وكذلك محمد صلي الله عليه وسلم أفضل الأنبياء. فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه وهم يحبونه على أنفسهم وأولادهم ويعرفون أيضا الشرك والأيمان. فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه أو نذر له أو ندبه، أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله أو يندبه أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف أن هذا الأمر صحيح حسن ولا تطعني ولا غيري وإن كان إذا سألت إذ أنه صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء والصالحين وقتلهم وسباهم وأولادهم وأخذ أموالهم وحكم بكفرهم فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به".

وبالجملة: فالذي أنكره الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره. فإن كنت قلته من عندي فارم به، أومن كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسوله وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه لأجل أهل زمانه أو هل بلده، وإن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه1

وقال في موضع آخر ردا على من زعم أن الذم الوارد في القرآن الكريم في اتخاذ الوسائط بين الله وبين خلقه، وأن الكفار الذين نزل فيهم القرآن كانوا يعتقدون في الأصنام، وهي غير ما عليه القبوريون، إذ هم يعظمون أنبياء وأولياء وصالحين لهم مقام عظيم عند الله، وفرق بين هؤلاء وبين أصنام الجاهلية، يقول رحمه الله: "فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين، وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين، وعرفت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام وبين من اعتقد في الصالحين، بل

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم8ص53.

ص: 142

قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم، تبين لك حقيقة دين الإسلام، وعرفت الأمر الثاني وهو توحيد الألوهية وهو أنه لا يسجد إلا الله، ولا يركع إلا له، ولا يدعى في الرخاء والشدائد إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا يعبد بجميع العبادات إلا الله وحده لا شريك له، وأن من فعل ذلك في نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء فقد أشرك بالله وذلك النبي أو الرجل الصالح بريء ممن أشرك به كتبرء عيسى من النصارى وموسى من اليهود وعلي من الرافضة وعبد القادر من الفقراء"1

وهذه القضية دار حولها جدال طويل وعليها وعلى ما يتفرع منها أو يشاكلها دارت خصومات ومناوشات ركز عليها الشيخ رحمه الله في كتبه ورسائله وعلى الرغم من أن أكثر معاصريه كانوا لا يرون رأيه إ لا أن الدليل الشرعي والسير العملية في القرون الثلاثة المفضلة كانت معه على خصومه. والحق لا يقاس بكثرة الناس معه أو ضده وإنما يقاس بأدلة الشرع وسيرة السلف وفهم الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإلا فإن أكثر الناس على الباطل كما قال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

6-

اختلاف معاصري الشيخ معه في تكفير بعض البوادي في نجد والحجاز وبعض أهل القرى:

فإنه قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية كان عامة الناس في بعض البوادي وبعض القرى على جهل كبير بالدين حتى وصل بهم الأمر إلى إنكار بعض أصول الإيمان وبعض ما علم من الدين بالضرورة كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها. واحترفوا السلب والنهب وقطع الطريق وإخفاقه السالكين واستحلوا بعض المحرمات وعضلوا النساء ومنع بعضهم النساء من الميراث وتحاكموا إلى غير ما أنزل الله ممن يدعى الحكمة وأعراف القبائل وغيرها.

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 21ص 146-147.

ص: 143

فبدأ الشيخ رحمه الله بدعوة هؤلاء العامة من البوادي وأهل القرى فمنهم من أجاب وصلحت حاله، ومنهم من لم يرفع بهذه الدعوة رأسا ولم يعرها اهتماما، وظل يمارس ما كان عليه من أعمال مخالفة للتوحيد والإسلام. فلما أبان لهم الشيخ طريق الحق وأصروا على رفض الهدى وصف أعمالهم بالكفر، ووصف المعاندين والرافضين منهم بعد دعوته وإقامة الحجة عليهم بأنهم كفار. وأذن في قتالهم حتى يفيئوا إلى الدين ويلتزموا بمبادئه.

وقد وجدوا خصومه المعاصرين له في هذه الفتاوى فرصة للتأديب عليه ودعوة العامة ضده لأنه كفرهم واستحل قتالهم. وقالوا إنه لا يجوز تكفير المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويؤدي بعض فرائض الإسلام، ويحب الله ورسوله، ولكنه يجهل بعض الأحكام، وهو في حاجة إلى تعليم وتبصير.وتكفير من هذه حالهم وهم السواد الأعظم من المسلمين هو تكفير لعموم المسلمين وبدعة في الدين أحدثها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس معه عليها دليل ولم يقل بها أحد قبله ، ولكن الشيخ رحمه الله أكد في هذا الموضع وفي مواضع أخرى أنه لا يكفر من كان جاهلا بالحكم ولا من تبلغه الدعوة ولم يعرف الإسلام ومستلزماته بل إن تكفير لا يكون إلا بعد التعليم والدعوة وإقامة الحجة فإذا أصر المدعو على أعمال كفرية جاز وصفه بما وصفته به الأدلة الشرعية حتى يعرف مقامه ويرتدع عن غيه وقال إن بعض البوادي وبعض أهل القرى وإن كانوا يؤمنون بالله ويشهدون أن لا إله إلا الله ويؤدون بعض شعائر الإسلام إلا أن لديهم أكثر من ناقض من نواقض الإسلام فجاز تكفيرهم وقتالهم يقول الشيخ رحمه الله:"وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنقير الناس عن دين الله ورسوله" ويقول رحمه الله: من المعلوم عند الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم فإن كابر معاند لم يقدر على أن يقول إن يقول إن عنزه وآل الظفير وأمثالهم كلهم مشاهيرهم والاتباع أنهم مقرون بالبعث ولا يشكون فيه ولا يقدر أن يقول إنهم يقولون إن كتاب الله عند الحضر وإنهم عايفينه متبعون ما أحدث آباءهم مما يسمونه الحق ويفضلونه على شريعة الله، فإن كان للوضوء ثمانية نواقض

ص: 144

ففيهم من نواقض الإسلام من المائة ناقض. فلما بينت ما صرحت به آيات التنزيل، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، وأجمع عليه العلماء من أن أنكر البعث أو شك فيه أو سب الشرع أو سب الأذان إذا سمعه أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله أو سب من زعم أن المرأة ترث أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه إنه كافر مرتد قال علمائكم معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره ولكن يقولون لا إله إلا الله وهي تحميهم من الكفر ولو فعلوا كل ذلك. ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم فلما أظهرت تصديق الرسول فيما جاء به سبوني غاية المسبة وزعموا أني أكفر أهل الإسلام واستحل أموالهم. وصرحوا أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر"1 ولم تكن هذه الفتاوى مجرد كلمات تلقى في الهواء ولكنها كانت كلمات توضع موضع التنفيذ في صورة تجمع وجهاد بالقلم واللسان والسنان حتى خضع الجميع لسلطان الدعوة وعمم التعليم وقام مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحكيم الكتاب والسنة في شئون الحياة كلها.

وكان الشيخ رحمه الله في كتبه ومؤلفاته متفوقا على خصومه فيما يثار ضده وضد دعوته وتتسم مواقفه بوضوح الرؤية والاستعداد العلمي والفهم الدقيق لما يدعو إليه وكان أكبر عون له عليهم أنه على الحق والأدلة الشرعية معه وإن كان واقع الناس ومألوفهم ضده مما جعل خصومه المحليين يطلبون من العلماء في الحرمين الشريفين والعراق والاحساء والشام وغيرهم مساعدتهم عليه والكتابة لهم ضده ولكن كفة الشيخ في هذه المعركة كانت راجحة فهو يخاطبهم بالدليل من الكتاب والسنة فلا يقبلون منه ويقولون لا يجوز لنا العمل بكلام الله ولا رسوله ولا بكلام المتقدمين من أهل المذاهب ولا نطيع إلا كتب المتأخرين من أصحاب المذاهب. فيخاطبهم رحمه الله بأن هذا الأمر مما تتفق عليه الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين وأنا أحاج أصحاب المذاهب الإسلامية بكلام المتأخرين من أصحابهم. اسمعه رحمه الله تعالى يقول بعد أن ذكر لهم الأدلة الشرعية على صحة دعوته "قالوا

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 3 ص 25، 26 وانظر الرسالة رقم 6 ص 41 والرسالة رقم 41 ص 236.

ص: 145

القرآن لا يجوز العمل به لنا ولأمثالنا ولا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكلام المتقدمين ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون، قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرون من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرون من علماءهم الذين يعتمدون عليه. فلما أبوا ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالوا بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فعرفوا ذلك وتحققوه ولم يزدهم إلا نفورا"1 وتكرر هذا الكلام في أكثر من رسالة من رسائل الشيخ بل قال رحمه الله تعالى "وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ وأمثالهم."2

بعد هذه الخصومات العلمية والجدال الذي دار بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وخصومه على بعض المظاهر القائمة في نجد وإنكار علماء عصره عليه وإصرارهم على التزيين للعامة ما هم عليه كبرا وعنادا، وصف المعاندين منهم بالكفر وبأعداء الدين وأهدر دماءهم، فزادهم دلك غضبا عليه وعنادا لدعوته وتأليبا للعامة على الشيخ ودعوته. يقول الشيخ في حق هؤلاء:"وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره " ثم قال عن القتال:"ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه"3 وهو يقصد المعارضة وفي مقدمتها العلماء المعاصرين له المعارضين لدعوته والمزينين للعامة ما هم عليه هذا من جهة الشيخ ومن جهة المعارضة قالوا هم أيضا بكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما كفر شيخه في التوحيد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، 4

ورسائل الشيخ رحمه الله تصير كل هذه الموافق وأن كلا منهم صار يكفر الآخر ويبدعه،

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 5ص 38.

2 المرجع السابق الرسالة رقم 38ص ص 273.

3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 22ص 158.

4 المرجع السابق الرسالة رقم 2ص 20.

ص: 146

وعلى أثر ذلك قمت المواجهات المسلحة بين الطرفين في حروب أهلية دامية بين أهل الدرعية وأهل الرياض ومنفوحة وبين أهل حريملاء فيها وبينهم وبين أنصار الدعوة فيها وبين خصومهم من بني عمهم وكذا الحال في ضرماء وصارت الحرب سجالا عدة سنين حتى أظهرا لله الدعوة الإصلاحية على خصومها وخضع الناس لإمامها.

7-

لما قامت الدعوة الصلاحية وانحاز أتباعها إليها وتألب خصومها ضدها بقيت فئات في المجتمع على الحياد إما لأنه لا يوجد فيها من مظاهر الشرك الممثلة في السادات والقبور والأشجار والأحجار والتبرك بها مثل منطقة القصيم أو لأنهم ليس لههم من الأمر شيء فهم لا يمارسون زيارة القبور ودعوة أصحابها. ولم ينكروا عليهم لعدم القدرة أو لعدم القناعة بأنها مظاهر شرك أو لأي سبب آخر. صاروا في الحياد أو لم يظهروا التأييد للدعوة بصورة عملية. وهنا بدأ الشيخ يقرر مبدأ مهما في الدين هو مبدأ: الولاء والبراء. فأبان بالأدلة الشرعية بأن هناك حزب الله تمثله حركة الإصلاح والتجديد وأنصارها، وهناك حزب الشيطان وهم جبهة المعارضة المتمثلة في خصومها من العلماء والأمراء والعامة الساعين لوأد الدعوة والقضاء على أهلها، وأن المسلم لا يتم إسلامه حتى يعلن موقفه من هذا الصراع فيعلن ولاؤه للدعوة الإصلاحية قبولا ومحبه ونصرة وتأييدا سرا وعلنا، ويعلن البراءة من الشرك وأهله. وساق الأدلة الشرعية في هذا الموضوع لرص الصفوف المؤمنة في وجه الخصوم وإحياء مبدأ شرعي ثابت. والرسالة التي بعث بها إلى الشيخ عبد بن علي ومحمد بن جماز في القصيم يحثهما فيها على تحقيق هذا المبدأ قال فيها:"وأهل القصيم غارهم أن ما عندهم قبب ولا سادات ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دين إلا بها ما داموا لا يبغضون أهل فزلفى وأمثالهم فلا ينفعهم ترك الشرك ولا ينفعهم قول "لا إله إلا الله"1وذكر مثل ذلك في الرسالة التي بعث بها الشيخ إلى أهل الرياض ومنفوحة حينما كان في العيينة 2. ولم يسلم له هذا الأمر من جهة

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 51 ص322.

2 المرجع السابغ الرسالة رقم 8 2ص188.

ص: 147

علمية من علماء عصره بل دار حوله نقاش وحصل فيه اختلاف مما اضطر الشيخ إلى أن يبدي فيه ويعيد في رسائله الشخصية وفي ثلاثة الأصول وغيرها.

8-

واختلف مع بعض معاصريه في حقيقة المتابعة لرسو ل الله صلى الله عليه وسلم لا سيما أهل التذكير في ليلة الجمعة ومتصوفة معكال في الرياض في احتفالات المولد النبوي وعقيدتهم التي كانت امتدادا لابن عربي وابن الفارض وقولهم بالاتحاد والحلول الذين كفرهم المسلمون قديما وحديثا.

فقرر الشيخ رحمه الله أن المتابعة الحقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعته في ما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر "وأنه بها يخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع كجمع المصحف في كتاب واحد وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة على التراويح جماعة وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس ونحو ذلك فهذا حسن"1 ولا يخرج الأخذ بها عن الاتباع وقال خصومه من المتصوفة إن احتفالات المولد والاجتماع للأذكار لا تخرج عن الاتباع فهي وإن كانت بدعة لم تكن موجودة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه فإنها بدعة حسنة لأنها تربط المسلم بنبيه وتذكره بسيرته العطرة وشمائله الجمة وتثير فيه نوازع المحبة وتدعوه إلى الاقتداء به والاستقامة على منهجه فهي ليست ضد الدين بل هي في خدمته وتتيح بها مواسم للخير وهي تفعل منذ مئات السنين في مختلف الأمصار الإسلامية ولم ينكرها أحد من علماء الإسلام إلا نفر قليل إذا قيس بالجم الغفير من أعلام الإسلام.

وقد شدد الشيح النكير على المتصوفة لاسيما من أصحاب طريقة ابن عربي القائل بالاتحاد والحلول وكفرهم في إصرارهم على هذه الطريقة بعد أن وضح لهم الحق بدليله ونقل من الإقناع في باب حكم المرتد قوله: "ومن اعتقد أن لأحد طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا يجب عليه اتباعه أو أن لغيره خروجا عن اتباعه أو قال أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم16

ص 107.

ص: 148

الحقيقة أو قال من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر في هذا كله1

وهذه المقولات التي نقلها الشيخ من كتاب الإقناع في باب حكم المرتد مؤيدا لها في موقفه من الابتداع هي رد على مقولات مقررة في كتب غالبية المتصوفة مثل اتباع ابن عربي ولهذا فإن الشيخ كفرهم بعد أن دعاهم فأصروا على طريقتهم.

ويقول إن الخير كل الخير في الاتباع وترك الابتداع وإن الحسن هو ما عرف من الشرع حسنه وقصد الشارع إليه وعمل به السلف الصالح الذين عرفوا بالاتباع وترك الابتداع والنبي صلى الله عليه وسلم قال "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" والمبتدعة يخالفون الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول كل بدعة حسنة فمن أين عرفوا حسنها وهي تعارض قوله صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" فمن أين لهم أمر رسول الله عليها حتى تقبل ولا ترد.

قال الشيخ في الرسالة التي بعث بها إلى علماء الإسلام: "الثانية وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدعة وإن اشتهرت بين أكثر العوام"2 ويظهر أن متصوفة معكال كانوا على صلة بمتصوفة الشام على طريقة ابن عربي إذ يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "ولا يخفاك أني عثرت على أوراق عند ابن عزاز فيها إجازات له من عند مشائخه وشيخ مشائخه رجل يقال له عبد الغني ويثنون عليه في أوراقهم ويسمونه العارف بالله وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه هو شيخهم ويثنون عليه بأنه العارف بالله فكيف يكون الأمر"3

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11ص68.

2 المرجع السابق الرسالة رقم 26ص 180.

3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11ص 72.

ص: 149

وقال: "ومن أعظم الناس ضلالا متصوفة معكال وغيره مثل ولد موسى بن جدعان وسلامة بن مانع وغيرها. يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب االاتحادية وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر بريء من الإسلام ولا تصح الصلاة خلفه ولا تقبل شهادته"1

كما اختلف رحمه الله مع بعض علماء عصره في بدعة أخرى هي التذكير ليلة الجمعة للتهيء لصلاة الجمعة فقال الشيخ سليما بن سحيم من علماء الرياض إنه لا ينبغي الأمر بترك التذكير في ليلة الجمعة ورد عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: "أما مسألة التذكير فكلامك فيها من أعجب العجاب أنت تقول بدعة حسنه والنبي صلى اله عليه وسلم يقول كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ولم يستثن شيئا تشير علينا به. 2

وهكذا دار النقاش بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعاصرين من العلماء المناوئين لدعوته في البدعة والسنة وتراشقوا بالتهم حتى ظهرت الدعوة على خصومها.

9-

الاختلاف في طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم:

فقد أنكر الشيخ رحمه الله على معاصريه دعاء غير الله أو اتخاذ وسائط بين الله وبين عباده فيمالا يقدر عليه إلا الله. وبين عدم جواز صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله لا لملك مقرب ولا إلى نبي مرسل. وقد رد عليه معاصروه بأنه ثبت في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشافع المشفع. فقد قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وقال ابن عباس:"هو الشفاعة لأمته"، وقال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} ،وفي حديث الفصل

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11 ص189.

2 المرجع السابق الرسالة رقم43 ص234.

ص: 150

بين الخلائق في المحشر يقول سبحانه:"يا محمد ارفع رأسك واسأل تعط وأشفع تشفع" وقالوا إن الله أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم حق الشفاعة لأمته ونحن نطلب منه مما أعطاه الله،" والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم حال أمته فردا فردا مطيعها وعاصيها مؤمنها وكافرها، وأنه أعطي الشفاعة كما يعطى أحد الناس ما يملكه ويتصرف فيه بمشيئته وإرادته، والنبي الله عليه وسلم يدعى لذلك، ويسأل كما يسأل سائر الملاك وأنه إذا لم يسال فلا كرامة له ولا شفاعة ولا فضل ولا تفضل"1

وقد رد عليهم الشيخ رحمه الله بعد أن ذكر الآيات الدالة على إبطال عمل من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة عنده وأن من فعل ذلك فقد عبدهم من دون الله وأشرك. وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وأنه لا يشفع عنده سبحانه إلا بإذنه كمال قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وساق أدلة الكتاب في ذلك ثم قال رحمه الله: فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .

ثم قال"فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل يأتي فيخر ساجدا فيحمده بمحامد يعلمه إياها ثم يقال ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة فكيف بغيره من الأنبياء أو الأولياء".

إلى أن قال:"وأما ما صدر من سؤال الأنبياء أو الأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإيقاد السرج عليها والصلاة عندها واتخاذها أعيادا وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها صلى الله عليه وسلم".2

1 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

آل الشيخ ص223، 224.

2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 17

ص113.

ص: 151

وحقيقة الشفاعة هي طلب التجاوز عن الخطايا والسيئات والمعاصي والذنوب وقد عقد الشيخ محمد رحمه الله لها بابا في كتابه "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العباد"1 سماه "باب الشفاعة"وقد قصد المؤلف من عقد هذا الباب بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاها وأن الشرك يدخل على الناس من باب تعلقهم بأذيال الشفاعة مع إقامة الدليل على أن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله هو عين الشرك. وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله أنه يشفع كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى 2

وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن الشفاعة نوعان هما:

*شفاعة منتفية وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله قال رحمه الله: "فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ولا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له ارفع رأسك 000الحديث "3

*وشفاعة مثبتة وهي التي تطلب من الله ولا تكون إلا لأهل التوحيد، ومقيدة بأمرين هما: إذن الله للشافع أن يشفع. ورضاه عن المشفوع له.

وذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشية كتاب التوحيد أن الناس في الشفاعة ثلاث طوائف طرفان ووسط.

فطائفة أنكروها كاليهود والنصارى والخوارج المكفرين بالذنوب، وطائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الشفاعة الشرعية كما ذكر الله في كتابه ولا تطلب إلا من الله كأن تسأل الله تعالى أن يشفع فيك محمدا صلى الله عليه وسلم فإن الشفاعة محض فضل وإحسان 4

1 حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 133.

2 المرجع السابق ص 133.

3 المرجع السابق ص 140.

4 المرجع السابق ص 133.

ص: 152

وقد حاول معاصرو الشيخ رحمه الله إجازة ما يفعله العامة من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قبره لرفع البلاء أو دفعه ومغفرة الذنوب وتكفير السيئات اعتمادا على الأدلة التي وردت في إثبات الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن ربه في الموحدين وفي الفصل في أهل الموقف.

إلا أن الشيخ رحمه الله بما أعطاه الله من فقه في النصوص الشرعية قد أثبت للرسول صلى الله عليه وسلم ما أثبت الله له من الشفاعة بالشروط التي حددتها النصوص الشرعية ، وبقي الشفاعة التي تعتبر من خصائص الألوهية للتفريق بين الخالق والمخلوق، ولرد النصوص بعضها إلى بعض في بيان الحق في هذه المسألة.

ونفى الشفاعة الشركية التي يتعلق بها مجيرو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قبره وقصد ضريحه فيما لا يقدر عليه إلا الله، ليس فيه تنقيص لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفي لكرامته وفضله ومقامه الرفيع عند الله بل الفضل والتكريم والاحترام في عدم الإشراك بالله وتحقيق التوحيد وإخلاص العبودية لله وحده ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية الخاصة في القرآن الكريم وهو تكريم ورفعة لا وصف ذم وملامة.

وفي شرح هذه القضية جردت أقلام وقامت خصومات بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعاصريه تدل عليها المؤلفات العديدة التي تناولت هذا الموضوع في مواقف متعددة حتى وضح الأمر وانجلت الشبهة وطهر الحق والحمد لله.

11-

التقليد والاجتهاد:

لما قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بما قامت به ودعا الناس إلى تحقيق التوحيد ونبذ الشرك وسمى بعض الأفعال والتصرفات بأسمائها الشرعية وعارضه بعض علماء عصره احتاج كل إلى إقامة الدليل على صحة ما ذهب إليه فيما يقول، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يطالب من الكتاب والسنة وأقوال العلماء من كل مذهب. وكان جواب معاصريه في كثير من المواقف رفض الأخذ من الأدلة الشرعية مباشرة لما يشعرون به من قصورهم عن أخذ الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلة

ص: 153

لأنهم لم يكونوا من أهل الاجتهاد، ولا تتوافر فيهم شروطه المعتبرة وكانوا يعترفون بأنهم مقلدون لعلمائهم في كل مذهب، وأن أخذهم للأحكام ينبغي أن يكون من كتب مذاهبهم بل من المتأخرين منهم لأن ذلك أحوط في الدين وأليق بحالهم، لا سيما أنهم في فترة جمود من الفقهاء وتخلف في الفقه. ولهذا عظم عليهم أن يطالبهم الشيخ بأخذ الأحكام من النصوص الشرعية من أدلتها التفصيلية. واعتبروا أن الشيخ محمد يدعي الاجتهاد المطلق وقالوا إن دعوته مذهب خامس لأنه يستقل في أخذ الأحكام ولهذا شنعوا به عند علماء الأمصار بأنه يدعي الاجتهاد ويرفض التقليد مع اعتقادهم بأن باب الاجتهاد في الفقه قد سد منذ القرن الرابع الهجري، وأن فتح باب الاجتهاد في غياب المجتهدين يعد مخاطرة في الدين وباب من أبواب الزندقة والمروق من الدين.

ولهذا وردت إلى الشيخ رسائل شخصية من علماء العراق واليمن والحرمين الشريفين يسألونه فيها عما نسب إليه في هذه القضية من دعواه الاجتهاد ورفضه للمذاهب الأربعة والأئمة المتبوعين في الفقه. وكانت إجابات الشيخ رحمه الله واضحة صريحة بأنه متبع غير مبتدع وأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وأنه لا ينكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف المذهب نصا ثابتا من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة أو قول جمهور العلماء1 وبين احترامه لأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من علماء المسلمين.

وهو فيما يدعوا إليه من توحيد الله ونبذ الشرك يقول لمعاصريه الذين قالوا له لا يجوز لنا العمل بكلام الله ولا رسوله ولا بكلام المتقدمين من أهل المذاهب ولا نستطيع إلا الأخذ من المتأخرين في كل مذهب، كان جوابه رحمه الله في كل مرة من باب التنزل "وأنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم فلما أبوا

1 انظر القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية رقم 16ص 107.

ص: 154

ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالوا بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فعرفوا ذلك وحققه ولم يزدهم إلا نفورا"1

والشيخ محمد بن عبد الوهاب مع أنه مقلد في الفقه لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله إلا أنه مع ذلك يدعوا إلى اجتهاد بقدر استطاعته، مع الأخذ في الاعتبار برأي من سبقه من علماء المسلمين. فما أجمعوا عليه فلا يجوز له الخروج عليه، وما اختلفوا فيه نظر إلى الدليل الشرعي فما وافق الدليل أخذ به وهو يعلن أنه يخرج على مذهب الحنابلة إذا رأي الدليل في المسألة مع غيره فيأخذ بالدليل متى وجده ولا يعدل عنه إلى قول أحد. فإذا لم يعرف الدليل أولم يظهر له وجه الحق أخذ برأي الحنابلة الذين هم أئمته في الفقه وشيوخه في المذهب.

ولم يكن اختلاف معاصري الشيخ معه منحصرا فيما ذكرنا من المواد السابقة بل اختلفوا معه في مسائل أخرى كثيرة مثل اختلافهم في مدح أو ذم علم الكلام، وفي وسائل أخرى من الشرك، وفيما يكفر به الإنسان إذا أصر عليه بعد علمه بالحكم الشرعي، وفي الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة وفي تكفير بعض الطوائف الإسلامية مثل القدرية وفي الشرك الذي ينقل من الملة وفي أنواع من العبادة وفي العدل في الميراث وغير ذلك من الذرائع الموصلة إلى الشرك التي ذكرت في مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتعالج أمورا كثيرة مخالفة للتوحيد أو ذريعة إلى الشرك أو البدع والمعاصي مما كان سائدا في الوسط الاجتماعي الذي عاشه رحمه الله.

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية ص 38، ص 157.

ص: 155

ثالثا-‌

‌ الممارسات التي لم يوافقه بعض معاصريه عليها:

وهي أفعال وممارسات وأعمال تعد من لوازم الدعوة ومقتضياتها في تصحيح الحياة العامة وتقويم الناس وإلزامهم بالحق وترجمة مبادئ الدعوة في صورة عملية مشاهدة تقوم المعوج وتصحيح الخطأ وتثبيت الحق وتزيل المنكر في البيت والطريق ومحل

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية ص 38، ص 157.

ص: 155

العبادة وفي الحياة الاجتماعية في كل صورها ومظاهرها العامة والخاصة وهي ممارسات كثيرة تذكر منها على المثال لا الحصر:

1-

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وممارسة هذا المبدأ يعتبر ترجمة حسنة لمبادئ الدعوة في صورة عملية. وهذا المبدأ يهدف إلى تصحيح الممارسات الخاطئة في الحياة ودعم الخير والتقليل من الشر وإعلام للجاهل وتنبيه للغافل وقمع للمعاند وهو عام في أصول الدين وفروعه وما علم من الدين بالضرورة في العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والنظام وفي مختلف مظاهر الحياة.

وقد أنكر عليه معاصروه ممارسة هذا المبدأ لأنه يتعارض مع عادات نشأوا عليها ومواضعات ألفوها ودعوة إلى مبادئ الدعوة التي لم يوافقوا عليها وإلزام بأمور لا يرون أنها لازمة لهم وإظهار لأمر هذه الدعوة على خصومها وفرض لسلطانها على المعارضين. ويرون أن المعروف ما كان حياتهم قائمة عليه، والمنكر ما جاءت به هذه الدعوة من تضليل الأمة ونسبتهم إلى الشرك والبدع وعبادة الصالحين مع أن الأمر في نظرهم ليس كذلك.

وممارسة هذا المبدأ منذ فجر الدعوة الإصلاحية سبب لتعميق الخلاف مع المعارضة للدعوة في منطقة العارض وغيرها وقد ذكر الشيخ أن هذا هو سبب رئيسي من أسباب الخلاف مع الناس. اسمعه يقول في رسالته لأحد علماء المدينة المنورة "وإن سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك ولا في شيء من المحرمات، الشيء الذي عندنا زين هو عند الناس زين، والذي عندهم شين هو عندنا شين إلا أنا نعمل بالزين ونغضب الذي يدنا عليه وننهى عن الشين ونؤدب الناس عليه

ص: 156

والذي قلب الناس علينا الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم1 وذكر مثل ذلك في الرسالة التي بعث بها إلى أهل المغرب 2 وذكر مثل ذلك في جوابه على رسالة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي من علماء العراق. وزاد عليه سببا آخر أن دعوته خالفت عادة نشأوا عليها ثم قال: "فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد وأنهي عنه من الشرك ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس وكبرت الفتنة جدا"3 وفي الرسالة العامة التي بعث بها إلى عامة المسلمين ذكر فيها الأسباب نفسها وزاد عليها شيئا آخر هو قوله "وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله"4

وهذه النصوص من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب تدل على أن ممارسة الدعوة لهذا المبدأ الشرعي كانت سببا من أسباب الاختلاف مع المعارضة سببا من أسباب الاجلاب عليها بالخيل والرجل وإظهار العداء لها ولأتباعها.

1-

هدم البناء على القبور:

ومن الممارسات العملية التي اختلفت المعارضة فيها مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته هو أنها اتبعت الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وإنكار ما يفعله العامة عند القبور من دعوة أصحابها وصرف شيء من أنواع العبادة عندها لغير الله، والبناء على القبور وإيقاد السرج عندها، وإغراء العامة بزيارتها لهذه المظاهر التي فيها تزيين الباطل وتوفير الذرائع الموصلة إليه اتبعت هذه الدعوة بإزالة البناء على القبور كما فعلت بقبة زيد بن الخطاب في الجبيلة، ومنع إيقاد السرج عندها أو تجصيصها أو رفعها عما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فقامت عليهم قيامه الناس زاعمين أن هدم القباب على القبور خروج على ما عليه العمل في مختلف الحواضر الإسلامية في مصر والشام والعراق والحرمين الشريفين وغيرها من غير نكير. ولأن في هذا العمل إهانة للأولياء والصالحين وتقليلا من شأنهم وامتهانا لحرمتهم، وإزالة لمعالم الآثار الكريمة

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسائل رقم ص 44.

2 المرجع السابق الرسالة رقم 17ص 114.

3 المرجع السابق الرسالة رقم 5ص 36.

4 المرجع السابق الرسالة رقم 22ص 150.

ص: 157

ووسيلة لضياعها وعدم الاهتداء إليها في المستقبل مع أنه ليس من لوازم وجودها دعوة أصحابها من دون الله، بل أنه يمكن تحقيق التوحيد مع قيام تلك الآثار يهتدي بها الزائر لها زيارة شرعية، ومن أجل هذه الاعتبارات وغيرها اعترض الناس على الدعوة الإصلاحية في هدمها القباب على القبور ومنعها رفع ترابها أو تجصيصها وحاولوا منع الشيخ وأتباعه من هذا العمل كما ذكر ذلك مؤرخو نجد مثل ابن غنام وابن بشر عند إزالة قبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة وغيرها وكان ذلك سببا قويا من أسباب اشتداد المعارضة في وجه الدعوة وأشاعوا عنها قالة السوء. يقول الشيخ رحمه الله في الرسالة التي بعث بها إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام:"جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا في قبور الصالحين فلما كبر هذا على العامة لظنهم أنه تنقيص للصالحين ومع هذا نهيناهم عن دعواهم وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كبر على العامة. وعاضدهم بعض من مدعى العلم لأسباب أخر التي لا تخفى على مثلكم أعظمها اتباع هوى العوام مع أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها1 وذكر في الرسالة التي بعث بها إلى المسلمين ردا على رسالة من سأله عما ينسب إليه قال رحمه الله:"فما ذكر عني أني أنهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو أتي أقول لو أن لي أمرا هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أنني أتكلم في الصالحين أو أنهى عن محبتهم فكل هذا كذب وبهتان"2 وفي الرسالة التي بعث بها الشيخ إلى أهل المغرب قال رحمه الله:"وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد اعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب رضى الله عنه وأمره ألا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه. ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القبب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 6ص 40.

2 المرجع السابق الرسالة رقم 8ص 52.

ص: 158

فهذا هو الذي أو جب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم 1

1-

إقامة الحدود:

ومعروف تاريخيا بأن الشيخ بدأ تطبيق الحدود الشرعية في العيينة في فجر الدعوة فرجم الزانية بها كما ذكر ذلك مؤرخو نجد مثل ابن غنام وابن بشر وغيرهم أنه جاء امرأة تطلب منه إقامة الحد عليها وأرب عنده بالزنا أربع مرات في أربعة أيام ولما تأكد الشيخ من توفر شروط إقامة الحد عليها وانتفاء الموانع أمر بها فرجمت حتى ماتت. وهذا يدل على مدى صدق التدين لديها والإقبال على الله، وعلى أثر الدعوة في الناس التي جعلتهم يقبلون بالحق والتطهير ولو كان في ذلك الموت الزؤام. كما أن إقامة هذا الحد في هذه المنطقة لأول مرة في تاريخ هذه الدعوة الإصلاحية أحدثت هزة عنيفة في صفوف المعارضة بلغت آثارها آفاق الأرض حتى جاءت التهديدات الشديدة من حاكم الاحساء لأمير العيينة ما لم يقتل هذا المطوع أو يخرجه من بلاده على الفور مما جعل الأمير عثمان بن معمر يحجم عن تحمل تبعات هذه الدعوة إذ رأى أن المعارضة بما لها من قوة كبيرة فوق قدرته وطاقته، وأنه إذا استمر في إيواء الشيخ يعرض نفسه وإمارته لأشد الأخطار. وعلى الرغم من أن الشيخ رحمه الله حاول ثنيه وتهدئة روعه ووعده مع الثبات بالنصر المؤزر على خصومه، وأن الدعوة ستتقدم وتصل إلى عقر دار المتكبرين في الأرض بغير الحق فإن عثمان بن معمر كان غير واثق من هذا النصر ولا آمن على نفسه وإمارته ففضل السلامة وأخرج الشيخ وهم بقتله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

2-

قطع الأشجار التي يتبرك بها الناس:

وكان من المعروف في تاريخ نجد عند قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن هناك أشجارا في نجد يقصدها الناس للتبرك بها مثل "شجرة الذئب" في العيينة

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم17،ص114.

ص: 159

وشجرة "قريوه" في الدرعية ومثل "شجرة الفحال" في عرقة وشجرة الطرفية وغار بيت الأمير وغيرها، والتبرك هو طلب البركة منها ورجاؤها فيما يؤمل واعتقاد النفع فيها والضر وحصول البركة، وهو بهذا المعنى من الشرك الأكبر. وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بابا في كتابه المعروف بكتاب "التوحيد" باب من تبرك بالشجر أو حجر أو نحوهما: وساق تحته أدلة تحريم هذا العمل وأنه من الشرك الذي حكم الله بكفر أصحابه فذكر قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} الآيات فهذه الأوثان الثلاثة من أعظم الأوثان الجاهلية في الحجاز، ولهذا نص الله عليها بأعيانها. واللات صخرة أو قبر، وأما العزى فهي شجرة سمر عليها بناء وأستار بين مكة والطائف، وأما مناة فهو وثن بين مكة والمدينة لأهل المدينة أو غطفان. فلما اعتقد فيها المشركون أنها تنفع وتضر من دون الله وتعلقت بها قلوبهم، صارت أوثانا تعبد من دون الله. فالتبرك بالأشجار والأحجار في عهد الدعوة شبيه بالتبرك باللات والعزى ومناة.

ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة قد بعث خالدا لقطع الشجرة وهدم الصنم والوثن تحقيقا للتوحيد وحماية لجنابه، وكان ما يفعل في العارض شبيها بما كان يفعل في الجاهلية، فقد قام الشيخ رحمه الله بقطع شجرة "الذئب" في العيينة بنفسه وأمر بقطع "شجرة قريوه" في الدرعية.

وهذا العمل من الشيخ في قطع الأشجار، وإزالة معالم كانت محل تعظيم العامة تقصدها في قضاء الحاجات ولها قداسة في نفوس الناس، زاد هذا في الاختلاف بين الدعوة وخصومها لأنه خروج على مألوف الناس وعادتهم، ومخالف لما يجري في معظم الديار الإسلام. ومع هذا مضت الدعوة في طريقها لتحقيق أهدافها لاعتقاد قادتها أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، وأن من قام لله حفظه الله ونصره، لاسيما مع اليقين الجازم بأن يقومون به هو مقتضى الشرع وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأن ما حصل كان سببه الجهل وغربة الإسلام.

ص: 160

1-

إبطاله للوقف الذي يراد به تغيير أحكام الله:

وجد في بعض الأوساط في نجد عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كان ينظر إلى المرأة نظرة دنيوية في الميراث وتفضيل بعض الورثة على بعض حسب الهوى والمحبة ولهذا يلجأون إلى التحايل على هذه الفئات ليقسموا كل أموالهم بين ورثتهم على هواهم فرارا مما فرضه الله لكل وارث من نصيب مقدر، فيوقفون أوقافا حيلة يتوسلون بها إلى هذه الغرض الخبيث الذي تغير به أحكام الميراث، ووجد في عصرهم من يرى أن هذه الأوقاف التي يتوسل بها إلى حرمان ذي حق من حقه، وإعطاء وارث آخر أكثر من نصيبه المقدر، أن هذه الحيلة صدقة بر تقرب إلى الله. وقد تضمنت الرسالة الثانية عشرة من الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 78-79 مناقشة هذه القضية مناقشة علمية مستفيضة وسمى هذه الحيلة بالبدعة الملعونة ثم قال:"من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك بالتقرب إلى الله وذلك مثل أوقافنا هذه إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة أو امرأة ابن أو نسل بناة أو غير ذلك أو يعطي من حرمه الله أو يزيد أحدا عما فرض الله أو ينقصه من ذلك ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعدا عن الله فالأدلة على بطلان هذا الوقف وعوده طائعا وقسمة على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر".

فإبطال الشيخ مثل هذه العقود الجائرة التي تحل حرام وتحرم حلالا، وتؤكد حق المرأة والقاصر من الأبناء والضعيف من الورثة، ولاسيما بين العامة والبوادي وأهل القرى الذين تغلب عليهم نزعة الجاهلية، جعلت الناس يشتدون في المعارضة ويختلفون مع قادتها ومبادئها التي صارت تغير بعض ما كان سائدا في حياتهم وتألفه نفوسهم، ولهذا أثره في إلهاب حماس العامة وإثارة نخوة الجاهلية ضد الشيخ ودعوته الإصلاحية.

ومن أجل هذا وغيره بدأت المعارضة حملة إعلامية دعائية ضد هذه الدعوة وصاحبها وتشكيك الناس فيها وإعطاء صورة سيئة عن مبادئها وإثارة كثير من الشبهات حولها وحول إمامها نجمل أهمها في الفقرة التالية.

ص: 161

رابعا-‌

‌ الشبهات التي أثيرت حول الدعوة:

من تتبعي للرسائل الشخصية التي كتبها إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبعثها إلى علماء نجد وأئمة المساجد المعروفين بالمطاوعة، وللرسالة التي رد عليها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بكتابه المعروف بمصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ولبحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1403هـ /

1983م، لطلب معرفة الشبهات التي أثارتها المعارضة حول هذه الدعوة الإصلاحية التجديدية وما يأخذون عليها، وأسباب الخلافات الحادة التي بلغت حد النقد وكتابة الفتاوي ضدها وحمل السلاح على أتباعها، وجدت أن أهم الشبهات التي أثيرت حولها كما يلي:

أولا- ما ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالته التي بعث بها إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته حيث قال رحمه الله:"ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي فمنها:

*أني مبطل كتب المذاهب الأربعة.

*وأني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء.

*وأني خارج عن التقليد.

*وأني أدعي الاجتهاد.

*وأني أكفر من توسل بالصالحين.

*وأني أقول إن اختلاف العلماء نقمة.

*وأني أقول لو أقدر على هدم قبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمتها.

*وأني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق.

*وأني أقول لو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب.

*وأني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 162

*وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما.

*وأني أكفر من حلف بغير الله.

*وأني أكفر ابن الفارض وابن العربي.

*وأني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين أسميه روض الشياطين.1

ومثل هذه الرسالة ما جاء في الرسالة التي بعث بها رحمه الله إلى عبد الله بن سحيم

مطوع أهل المجمعة حين سأله عن الكتاب الذي أرسله سليمان بن محمد بن سحيم مطوع أهل الرياض، وكانت رسالة أرسلها إلى أهل البصرة والاحساء يشنع فيها على الشيخ ويستنصر بهم على إبطال ما أظهره الشيخ من بيان التوحيد.

وقد ذكر الإمام في صدر هذه الرسالة أنها تضمنت 24 مسألة بعضها حق وبعضها بهتان وكذب ثم ذكر في هذه الرسالة الشبهات التي ذكرها في الرسالة السابقة وزاد عليها شبهات أخرى هي قوله: "وأما المسائل الأخرى، وهي:

*أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله.

*وأني أعرف من يأتيني بمعناها.

* وأني أقول الإله هو الذي فيه السر.

* وتكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك.

* وأن الذبح للجن كفر والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن.

فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها" 2 ثم ذكر في موضع آخر من هذه الرسالة مسألة سادسة هي إفتاؤه بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم وتسميتهم طواغيت فقال رحمه الله: "وأضيف إليها مسألة سادسة وهي إفتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم وسميتهم طواغيت وذلك أنهم يدعون الناس إلى عيادتهم من

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 1 ص12.

2 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 10ص 64.

ص: 163

دون الله عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة بل هو الحق"1

وأضاف مسألة سابعة وهي أنه يقول بالإله الذي فيه السر، قال رحمه الله: وما قولي إن الإله الذي فيه السر"2ثم أجاب عنها.

ولم أستطع أن أعثر على رسائل وكتابات خصوم الدعوة الإصلاحية في نجد لندرتها وضياع الكثير منها بالإهمال سوى ما تضمنته كتب ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده وتلامذة مدرسته، ومن هذه الرسائل الرسالة المسماة "جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة" وقد كتبها أحد معاصري الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الذي رد عليها في كتابه الذي سماه "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام" والذي صدره رحمه الله بقوله: وقد رأيت لبعض المعاصرين كتابا يعارض به ما قرره شخنا من أصول الملة والدين إلى أن قال "وسمى كتابه جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة".3 قال صاب الرسالة "قد أبتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب بمن خرج عليهم ولم يخرج على العلماء الأمناء كما صح عندنا وثبت عن مشايخنا الأمجاد العتاد وسعى بالتكفير للأمة خاصا وعامها وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله لما وجد من يعنيه على ذلك بجهله".4

وفي موضع آخر من هذه الرسالة قال صاحبها:" ولكن هذا الرجل جعل طاعته ركنا سادسا للأركان الخمسة كما قال ذلك أخوه لأمه وأبيه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب حين خطأه."5

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 11.ص75.

2 المرجع السابق الرسالة رقم 11ص76.

3 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ص15 –16.

4 المرجع السابق ص16.

5 المرجع السابق ص 101، 146.

ص: 164

ومن ذلك رمى الشيخ محمد عبد الوهاب بإنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية كما جاء في نص الرسالة نفسها قوله:"وعند هذا الكلام محط الرجل فقائلته تنقيص سيد البشر صلى الله عليه وسلم والحط من رتبته وغايته إبطال شفاعته بالكلية"1

وتهمة أخرى ذكرت في هذه الرسالة وهي قوله:"ومن أنكر عليهم من أهل نجد قتلوه ونهبوه والباقي أجلوه"2

ومن التهم التي نسبوها لأئمة هذه الدعوة وجوب الهجرة على من لم يستطع إظهار دينه في موطنه إلى البلاد التي عمتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية هذه التهمة في أكثر من موضع من الرسالة التي رد عليها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.3

كما وردت في رسالة من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب 4موجهة إلى عموم المسلمين فقال رحمه الله:"وأذكر لكم عني أني أكفر بالعموم فهذا بهتان الأعداء وكذلك قولهم إني أقول من اتبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده انه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضا البهتان "5

ومنها شبة ادعاء النبوة. وقد نقل هذه الشبهة الدكتور عبد الرحمن عميرة في بحثه القيم الذي قدمه في أسبوع الشيخ محمد بن الوهاب الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1403هـ / 1983 م، من الضياء الشارق للشيخ سليما بن سحيم بقوله:"يقول الزهادي العراقي: "وكان محمد هذا بادئ بدأته كما ذكره بعض المؤلفين مولعا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذبا كمسيلمة الكذاب وسجاح

والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأضرابهم فكان يضمر في نفسه دعوى النبوية إلا أنه لم يتمكن من إظهارها"6

1 مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ص95.

2 المرجع السابق 241.

3 المر جع السابق ص42، 149، 242.

4 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 9ص 58.

5 المرجع السابق نفسه.

6 بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج اص 4 5.

ص: 165

ونقل هذا الاتهام نفسه الشيخ أحمد زيني دحلان فقال: "والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعى النبوة إلا أنه ما قدر على إظهارها والتصريح بذلك"1

ومما قيل عن الدعوة الإسلامية في نجد أن أهلها خوارج وأنهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم "يخرج أناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه سيماهم التحليق" 2

ونسب قول ذلك إلى كل من الشيخ الزهاوي العراقي والشيخ أحمد زيني دحلان في الحجاز والشيخ عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد.

ومنها دعوى أن هذه الدعوة الإصلاحية جاءت بمذهب خامس لمذاهب الأئمة الأربعة وقد أوردها الشيخ محمد في رسالته التي بعثها إلى سليمان بن سحيم ورد عليها3

هذه أهم الشبهات التي أثيرت حول الدعوة الإصلاحية وأهلها في نجد. وقد تولى إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تحديد موقفه من هذه الادعاءات والتهم وإبانة وجه الحق فيما نسب إليه، وأوضح في مجمل إجاباته أن بعضها مجرد ادعاء وافتراء عليه وعلى دعوته، وبعضها حقيقة، ولكن الخصوم نقلوها على غير وجهها، وأوضح موقفه منها ودليله عليها، وبعضها الآخر حق وهو قائل به مقيم الدليل على صحته.

وإليكم فيما يلي موجز إجابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هذه التهم

1 بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج1ص55 وانظر بحث الشيخ محمد يوسف ج1 ص 282 المصدر نفسه

2 المرجع السابق ج 1ص 61.

3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 34ص 228.

ص: 166

قال في الرسالة التي بعث بها إلى أهل القصيم عما بلغه من أن سليمان بن سحيم قد بعث لهم برسالة وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتهم:"والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي" ثم عددها كما سبقت الإشارة إليها فأوصلها إلى أربعة عشر بندا ثم قال: "وجوابي على هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم "1

وقل مثل ذلك في الرسالة التي بعثها إلى عبد الله بن سحيم مطوع المجمعة بعد أن ذكر التهم الموجهة إليه وعددها كما سبق ذكرها وقال:"فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم" ثم قال وأما المسائل الأخرى وهي: "أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها ومنها أني أقول الإله هو الذي فيه السر ومنه تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك ومنها أن الذبح للجن كفر والذبيحة حرام ولو سمي الله عليها إذا ذبحها للجن فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها "ثم أخذ في شرح أدلة ما يقول به2

كما أجاب الإمام رحمه الله قول بأنه يكفر الناس ويقاتلهم في عدة مواطن فقال الرسالة التي بعث بها إلى عبد الرحمن السويدي في العراق ما نصه:"وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة والحمد لله ليسوا على ذلك. وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا. ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا"

وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه" 3

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 1ص 12، ومثله في الرسالة رقم 5 ص 37.

2 المرجع السابق الرسالة رقم 11 ص 64.

3 المرجع السابق الرسالة رقم 5 ص 38.

ص: 167

وعن دعوى تحريق رسالة "دلائل الخيرات" فقال الإمام رحمه الله في ذلك:"وأما دلائل الخيرات، فله سبب ذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان"1

وفي رسالة أخرى للإمام محمد بن عبد الوهاب نفى ما نسب إليه من النهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن القول برغبته في هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه يبغض الصالحين أو يتكلم فيهم أو ينهى عن محبتهم، وقال "إن هذا كذب وبهتان عظيم"2 ثم قال رحمه الله:"وبالجملة فالذي أنكره الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره"3 ثم شرح ذلك حتى قال في آخر هذه الرسالة:"وأنا أنصحكم لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين مثل الزنا والسرقة بل هو عبادة الأصنام من فعله كفر وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم"4

وعن تهمة القول بوجوب الهجرة إلى مقر الدعوة الإصلاحية في نجد وأنه يكفر بالعموم قال الإمام رحمه الله تعالى في الرسالة العامة التي بعث بها إلى إخوانه المسلمين:"ما ذكر لكم عني أني أكفر بالعموم فهذا من بهتان الأعداء وكذلك قولهم إني أقول من اتبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي فهذا أيضا من البهتان إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت. ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعد ما عرف أنها دين للمشركين وزينه للناس فهذا الذي نكفره. وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلا رجلا معاندا وجاهلا "5

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم5 ص 52، 37.

2 المرجع السابق الرسالة رقم 8 ص 53.،

3 المرجع السابق الرسالة رقم 8 55.

4 المرجع السابق، الرسالة رقم 9، ص 58.

5 المرجع السابق الرسالة رقم 5 ص 37.

ص: 168

وعما أثير من إنكار الدعوة الإصلاحية في نجد لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال إمام الدعوة في الرسالة التي وجهها لأحد علماء المدينة المنورة:"ثم بعد هذا يذكر لنا أن عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا وأن يحشرنا تحت لوائه. هذا اعتقادنا وهو الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة رضي الله عنهم وهم أحب الناس بنبيهم وأعظمهم في اتباعه وشرعه. فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبون الشفاعة فإن اجتماعهم حجة والقائل إنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله أو من إجماع الأمة والحق أحق أن يتبع"1

وأما ما أثير من أن الدعوة الإصلاحية في نجد وأئمتها يكفرون الناس بالعموم وأنهم يعدون من الخوارج الذين ورد في ذمهم الحديث النبوي الشريف فقد أجاب عنه الإمام محمد بن عبد الوهاب بنفسه فقال: "فإن قائلهم إنهم يكفرون بالعموم. فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين الرسول وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد ذلك يكفر أهل التوحيد ويسميهم خوارج ويتبين مع أهل الغيب على أهل التوحيد"2

وأما ما قيل من ادعاء الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله للنبوة فإن رسائله وكتبه لم تتعرض لهذه الشبهة مما يدل على أنها إطلاق متأخر بعد عهده رحمه الله. ثم كما اتضح من النصوص التي وردت عن الزهادي ودحلان وغيرهما تدل على أنه لم ينقل عنه لا سماعا ولا كتابة أنه قال ذلك أو ادعاه أو عرف عنه وإنما جاءت عبارتهم:"أنه كان يضمر في نفسه دعوى النبوة إلا أنه لم يتمكن من إظهارها" هذه عبارة

1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 7 ص 48، 49.

2 المرجع السابق رسالة رقم 7ص 48.

ص: 169

الزهادي أما عبارة دحلان:"والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك "1 وهذه العبارات تدل على أنه لم يظهر من الإمام ما يدل على ذلك. أما الضمائر ومكنوناتها فليس كشفها ومعرفة ما فيها من وظيفة البشر ولا من ممكناتهم. والقول بهذا الإضمار إن هو إلا رجما بالغيب ودعوى بلا برهان بل البرهان قائم من كتابات ومواقف وتاريخ إمام الدعوة على عكس ذلك فهو يعلن في كل مناسبة اعتماده على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان وأئمة الهدى في مختلف العصور الإسلامية وأنه يأخذ بالدليل الشرعي أنى وجده ولو خالف مذهبه. فهل يتفق هذا مع ما قيل من إضماره لدعوى النبوة ولكنه الهوى الذي يضل ويعمى ويسهل رمي المسلم بما ليس فيه ولا يليق به.

وقد تعمدت أن آخذ الإجابة على كل التهم الموجهة لهذه الدعوة الإصلاحية من رسائل إمامها الشخصية التي بعث بها لمعاصريه وأجاب بها بنفسه صراحة كما قررها وأكدها في كتبه المطولة في علم التوحيد وتقرير مبادئ الدعوة وبيان حقيقتها وأسباب محاربة كثير من الناس لها حتى أظهرها الله لتتحقق بذلك الأمانة العلمية المطلوبة وتظهر الحقيقة حول هذه الدعوة وما جاءت به.

1 بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 2ص 54 – 55.

ص: 170

‌الفصل السادس: آثار حركة التجديد ونتائجها

‌أثرها في شبه الجزيرة العربية

الفصل السادس:آثار حركة التجديد ونتائجها

من المناسب أن نذكر ثأثيرات هذه الدعوة وامتداداتها في العالم الإسلامي في كلمات موجزة للتدليل على هذه الحقيقة التاريخية في الفكر الإسلامي الحديث وأن لها السبق والريادة في الإصلاح داخل جزيرة العرب وخارجها، فنقول:

تأثير هذه الدعوة في شبه جزيرة العرب:

عند قيام حركة الإصلاح والتجديد في نجد على يد الإمامين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحب بها بعض الأئمة الأعلام في نجد وفي غيره من أقاليم الجزيرة العربة من باب الموافقة والتأييد لا من باب التأثير. وذلك مثل بعض علماء اليمن كالإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني شيخ صنعاء اليمن وزبيد وتلميذه الإمام الشوكاني رحمهما الله وبعض علماء المدينة مثل الشيخ محمد حياة السندي والشيخ إبراهيم بن سيف وفي البصرة الشيخ محمد المجموعي ومدرسته السلفية وفي الاحساء مثل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وتلاميذه وبعض معاصريه من علماء نجد الذين لم يستطيعوا أن يقوموا بما قام به.

كما واقفه يعض علماء العراق، ووافقه في الشام عدد آخر منهم، ولكن الكل لم يستطيعوا أن يقوموا بواجب الدعوة إلى الحق والخروج على ما تواضع الناس عليه يوضح ذلك ما جاء في رسالة الإمام محمد بن عبد الوهاب التي بعث بها إلى فاضل آل مزيد رئس بادية الشام التي قال فيها رحمه الله، ما يلي:

ص: 171

"والأمر الثاني أن هذا الذي أنكروا علي وأبغضوني وعادوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أو غيرهم يقول: هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه هذا كلام العلماء وأظن أنه وصلك كلامهم"1

ومن التأثيرات المباشرة لهذا الدعوة الإصلاحية في شبه جزيرة العرب ما أقامه من مدرسة علمية سلفية خالصة وضع نواتها في حريملاء وتعاهد غراسها بعد انتقاله إلى العيينة ووسع قاعدتها وعمق جذورها وتعاهد نموها في الدرعية حتى استطاع أن يبعث من المبرزين منها الدعاة والقضاة والموجهين إلى مختلف الأقاليم النجدية.

وبتوسع نفوذ الدولة السعودية الأولى في أقطار الجزيرة العربية أتيحت فرص أوسع لنشر هذه الدعوة الإصلاحية في البلاد التي وصل إليها الحكم السعودي أو أقام معها علاقة طيبة وحسن جوار مثل قطر والبحرين والإمارات العربية في الشارقة ورأس الخيمة وبقية الإمارات العربية وأجزاء من عمان.

كما أتاح فتح الدولة السعودية لمكة المكرمة والمدينة المنورة وقيادة الحجيج في مواسم الحج والالتقاء بعلماء مكة والمدينة والوافدين إليها في كل عام من علماء العالم الإسلامي عامة وفي جزيرة العرب خاصة فرصا جيدة لنشر هذه الدعوة الإصلاحية وشرح أهدافها وبيان حقيقتها مما جعل لها مكانة مرموقة في أوساط الناس والعلماء والعامة على السواء حتى لم يبق بلد من البلدان في شبه الجزيرة العربية إلا فيها أنصار وأتباع لهذه الدعوة.

1 القسم الخامس من مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية الرسالة رقم 4 ص 32،طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

ص: 172

‌تأثير هذه الدعوة في أفريقيا:

لم يقف تأثير هذه الدعوة الإصلاحية على العالم الإسلامي في شبه جزيرة العرب بل تعداه إلى بقية العالم الإسلامي، ففي المغرب العربي الإسلامي ظهرت بوادر يقظة إسلامية في كل دولة تنادي بالإصلاح الديني والسياسي بما يتلاءم مع بيئتها المحلية، ففي مصر قامت حركت الإصلاح على يد الإمام محمد بن عبده وجمال الدين الأفغاني وقامت على أيديهم مدرسة إصلاحية تطالب بالعودة إلى الإسلام في نقائه وصفاء عقيدته ومحاربة البدع وإنكار زيارة القبور والإشراك بالله عندها، والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد في الدين واحترام العقل والأخذ بأسباب التقدم في إطار الدين ومقتضياته. وكان من أبرز تلامذته الإمام محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وغيرهما.

وجمعية أنصار السنة المحمدية في مصر هي امتداد لحركة الإصلاح والتجديد في نجد. وقد تأثرت دعوة الإخوان المسلمين في مصر بهذه الدعوة في نزعتها الإصلاحية ونسجها التربوي وتوجيهها العام للعودة بالأمة الإسلامية إلى الكتاب والسنة وما كان عليه السلف هذه الأمة ومحاربة الابتداع في الدين والتحرر من التبعية الذليلة للمستعمرين.

وفي غرب السودان قامت دعوة الشيخ عثمان 1بن فودي "دان فوديو" في قبيلة الغلا الذي استطاع أن يجمع قبيلته على الإيمان بدعوته الإصلاحية السلفية في العودة بغرب السودان إلى التوحيد ومحاربة البدع وبقايا الوثنية في بعض قبائل السودان ورفع راية الجهاد في وجه المعارضين عام 1802م من قبائل الحوصة حتى أقام دولة إسلامية تؤمن بهذه الدعوة في سكوتو. واستمرت هذه الدولة المسلمة ما يقارب مائة عام حتى سقطت على يد الاستعمار الغربي الأوروبي. وإذا كانت قد سقطت قيادتها السياسية

1 انظر البحث القيم للدكتور مصطفى سعيد عن أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حركة عثمان بن فودي الإصلاحية من ج2 ص 432 من بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وبحث الدكتور وهبة الزحيلي في أسبوع الشيخ محمد ج2 ص 929.

ص: 173

فإن إيمانها بمبادئ الإسلام وأصول التوحيد لا يزال قائما في نفوس الناس الذين عاشوا في ظل تلك الدولة الإسلامية.

وفي شمال السودان قامت دعوة إصلاحية أخرى هي الدعوة المهدية التي أسسها أحمد بن عبد الله الذي بدأ دعوته سرا في جزيرة أبا ثم جهر بدعوته وأعلن للناس مبادئ دعوته الإصلاحية ودعا علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم إلى تأييدها ومناصرتها ومحاربة أعداء الدين تحت لوائها1

وقد نادت هذه الحركة الإصلاحية في شمال السودان بوحدة الأمة المسلمة السودان ونبذ الفرقة والاختلاف وأخذ الدين من أصول الشرعية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وحذرت من تعدد المذاهب والطرق الصوفية وأن ذلك كان سببا في اختلافها وذهاب ريحها والعمل على إقامة خلافة إسلامية مهتدية تقوم برفع مستوى الحياة المادية والاجتماعية والسياسية والدينية وتعمل على محاربة الاستعمار وإقامة مجتمع إسلامي نظيف.

ورفعت هذه الدعوة لواء الجهاد في سبيل الله في وجه الاستعمار الغربي الإنجليزي. وحققت هذه الراية انتصارات عديدة سعيا وراء استقلال السودان في دولة إسلامية، إلا أنها لم تستطع أن تصل إلى غايتها المرسومة على الصورة المطلوبة. ولكنها ظلت دعوة عامرة في نفوس قطاع واسع في المجتمع السوداني المسلم تكون رابطة إسلامية قوية عرف أتباعها فيما بعد بالأنصار. وأخيرا أطلق على أتباع هذه الدعوة حزب الأمة.

وفي ليبيا قامت الدعوة السنوية التي أسسها الإمام محمد بن علي السنوسي 2وهو الذي عاصر دخول الدولة السعودية الأولى للحجاز واختلط بعلمائها وأخذ عنهم ثم عاد إلى ليبيا وقام بدعوته الإصلاحية التي اتخذت الإسلام طريقا لها في العمل

1 انظر بحث الدكتور وهبة الزحيلي في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ج2 ص 329.

2 المرجع السابق ج 2 ص 327.

ص: 174

فدعت إلى العودة بالمجتمع المسلم الليبي إلى الإسلام واعتماده على الكتاب والسنة واجتهاد فقهاء المسلمين في ضوئهما ومحاربة الاختلاف والتفرق في الدين ومواجهة المبشرين بالنصرانية بسلاح الإيمان والعلم والعمل والاعتماد على ذاتية المجتمع المسلم ومحاربة الاستعمار الإيطالي المتسلط. وقد حققت قدرا كبيرا من النجاح في نشر الإسلام والتعريف بأصوله ومبادئه ومقتضياته وتحقيقه ومحاربة التبشير النصراني وإعادة الثقة في النفوس بصلاحية الإسلام وقدرته على الصمود في وجه المد الاستعماري الغربي المتمثل في الاستعمار الإيطالي في ليبيا، وتكوين دولة إسلامية عزيزة الجناب امتدت آثارها الدينية إلى أفريقيا الغربية. وأقامت مدرسة علمية إسلامية خرجت العلماء والقضاء والدعاة في تتابع مستمر امتدت آثاره إلى العالم الإسلامي والدول المجاورة لليبيا. وبقيت آثار هذه الدعوة بعد زوال سلطتها السياسية.

وفي المغرب والجزائر قامت دعوات كل من الأمير عبد القادر الجزائري الذي ناهض الاستعمار الغربي سنوات طويلة تقارب عشرين عاما، وشاركه في جهاده الطويل كل من عبد الكريم الخطابي في مراكش ومحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي شارك في الجهاد ومكافحة الاستعمار الغربي الفرنسي والأسباني في كل من المغرب والجزائر معا.1

ثم رفعت راية الجهاد الإسلامي في المغرب العربي بعدهم جمعية العلماء بالجزائر بقيادة الشيخ المصلح عبد الحميد بن باريس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي اللذين كان لجهادهما الأثر البالغ في إيقاظ روح الجهاد الإسلامي في مغربنا العربي الإسلامي حتى حصلت الجزائر على استقلالها وطرد المستعمرين منها إلى غير رجعة إن شاء الله.

1 انظر بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج2 ص 323، 486، 479.

ص: 175

‌تأثير هذه الدعوة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا:

1

ولم تقم في شبه القارة الهندية دعوة إصلاحية واحدة فحسب ولكن قامت فيها عدة دعوات كتب لبعضها النجاح التام وبعضها الآخر تم له نجاح محدود كقوة سياسية ذات نفوذ مستقل.

فمن الحركات التي كتب لها نجاح كبير حرك أهل الحديث في الهند وقائدها العظيم صديق حسن خان ملك بهوبال الذي قامت دولته على الدين الخالص وإحياء السنن وإماتة البدع وكان له عناية بعلوم الشريعة أصولا وفروعا فحقق وألف ونشر ودعا الناس إلى التوحيد. وأقام كيانا سياسيا في شبه القارة الهندية على التوحيد وظل ما شاء الله على ذلك. وإن كانت الدولة قد زالت فإن آثار هذه الدولة الفكرية والدينية لا تزال قائمة في نفوس أتباعها ممثلة في جمعية أهل الحديث.

ومن أشهر قادة الإصلاح الديني والاجتماعي في الهند أحمد بن عرفان الذي كانت له جهود عظيمة في إيقاظ الروح الإسلامية في القارة الهندية. وكان له تأثير بالغ في صفوف المسلمين في نشر الدعوة السلفية ورعاية أتباعها والحركة الفرائضية التي أسسها عام 1804 م الداعية الإسلامي الهندي شريعة الله وخلفه في تتميم دعوته ابنه البار المسمى "دوذ ميان" الذي أعطى لهذه الحركة بعدا جديدا وقوة ضاغطة ووقف في وجه الاستعمار الإنجليزي في الهند ينافح عن دعوته ويعمل على نشر مبادئها السلفية بكل قوة طيلة حياته.

ومن أصحاب الحركات الإصلاحية في الهند كذلك الأمير السيد أحمد أحد أمراء الهند الذي أقام دعوته السلفية في إقليم البنجاب. وأخذت دعوته تتعاظم وتمتد. وأقام دولة إسلامية حملت راية الدعوة الإسلامية والجهاد في سبيل الله في وجه أعداء الإسلام من إنجليز وأعوانهم والعارضين من الهنود لدعوته حتى هدد نفوذه شمال الهند، وبقيت آثار هذه الحركة في نفوس أتباعها حتى اليوم في إقليمي البنجاب والبنغال.

1 انظر مجموعة بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 2ص 319، 373.

ص: 176

ومن دعاة الإصلاحية في الهند كذلك: السيد أمري علي في كلكته الذي قام بواجب الدعوة الإصلاحية السلمية في الهند وعني بتوعية المسلمين ونشر المؤلفات الإسلامية التي من شأنها بث الروح الإسلامية في نفوس الناس ولفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم تجاه ربهم ودينهم وبلادهم.

ومن الجمعيات الإسلامية السلفية في شبه القارة الهندية التي أخذت على عاتقها واجب الدعوة إلى الله والعودة بالأمة الهندية المسلمة إلى ما كان عليه السلف الصالح ندوة العلماء في لكنو، والتي لا تزال تقوم بواجبها في توعية المسلمين في الهند وتبصرهم بواجبهم وتوثيق صلتهم بهذا الدين، عن طريق المحاضرات ونشر الكتب وبعث الدعاة وتبني قضايا المسلمين في الهند. ولهم مجلة سيارة توزع على نطاق واسع تحمل راية الدعوة الإسلامية السلفية هي مجلة البعث الإسلامي.

وفي أندونيسيا قامت عدة حركات إسلامية إصلاحية تدعو إلى نشر الوعي الإسلامي والدعوة إلى التوحيد والعودة إلى ما كان السلف، ومحاربة البدع والخرافات والانحراف في الدين ومقاومة أعداء الإسلام من المستعمرين وأتباعهم من المواطنين الأندونيسيين.

ومن هؤلاء المصلحين الحاج مسكين وأصحابه الذين عرفوا في التاريخ ب"الأسود الثمانية" في سومطرة عام 1802 م والذين سماهم خصومهم بطائفة الرهبان، وهي دعوة سلفية تدعو إلى العودة إلى الدين الخالص ومحاربة الابتداع في الدين وتعمل على جمع كلمة السلمين على الحق ومحاربة أعداء الدين. وقامت بحركة جهادية ضد المستعمرين الهولنديين بذلت فيها كل ما لديها من قوة حتى تغلب عليها الاستعمار بالقوة والقهر فقضوا على نفوذها السياسي وحركتها الجهادية المسلمة. ولكنها ظلت دعوة قائمة في نفوس أتباعها تنتظر الفرصة المناسبة لعودتها. وقد استطاع أتباعها إحياء نشاطها فيها بعد، ثم عادت إلى مسرح الحياة على يد أبناء لها بررة من أمثال: الشيخ محمد عبد الله أحمد 1833- 1878م والشيخ الحاج عبد الكريم أمر الله 1845- 1879 م والدكتور الحاج عبد الملك كريم الله رئس الهيئة المركزية

ص: 177

لمجلس علماء أندونيسيا الحالي وغيرهم.

كما قامت دعوة إصلاحية سلفية أخرى في جاوة عرفت بالجمعية "المحمدية"

عام 1912م في مدينة جاكرتا. وجمعية الإصلاح والإرشاد عام 1914م في جاكرتا

كذلك. وجمعية الوحدة الإسلامية عام 1923م في باندنج قاعدة منطقة جاوة

الغربية.

أما تايلند فإن الحركة الإسلامية الإصلاحية فيها كانت أقل. ومع ذلك قامت فيها مدرسة أنصار السنة التي تأسست عام 1923 م في دائرة "فاكفجون" في جنوب تايلاند وكانت مدرسة نظامية تدرس العلوم الإسلام لأبناء المسلمين ويقوم أعضاء هيئة التدريس فيها بواجب الدعوة في أنحاء تايلند وإنكار البدع ومظاهر الانحراف في العقيدة والعبادة عند المسلمين التايلنديين واستمرت هذه المدرسة تؤدي رسالتها ما يزيد على اثني عشر عاما، ثم اضطر القائمون عليها إلى إغلاقها لظروف مادية، ثم نقل مركز الدعوة الإسلامية إلى العاصمة بانكوك، كما غيرت أسلوب عملها من مدرسة تعليم منتظم إلى مركز دعوة وتوجيه عام عن طريق الإذاعة والنشرات الإخبارية والتوجيهية وإلقاء المحاضرات والدروس العامة في المساجد.

كما أن هناك نشاطا آخر في عاصمة تايلاند بانكوك بدأ عام 1339هـ على يد رجل أندونيسي هو الشيخ أحمد وهاب. وكانت إقامته فيها على صورة سائح ينتقل بين المساجد والجمعيات الإسلامية في بانكوك. ثم بدأ الدعوة بطريقة هادئة وأساليب مناسبة وأخذ يوجه الناس علماء وعامة إلى قراءة كتب السنة المفيدة. ثم أنشأ جمعية الإصلاح، وبدأت دعوته طورا جديدا إذ أنشأ مجلة إسلامية سماها "البداية"تدعو إلى التوحيد وتحارب الشرك والبدع والانحرافات في العقيدة والعبادات والسلوك بصراحة،

فقام في وجه هذه الدعوة علماء السوء وأهل البدع والخرافات. وأخذت دعوة الشيخ أحمد وهاب تتعاظم ويرتفع صوتها بين الناس عدة سنوات، وبالتحاق الشيخ أحمد وهاب بالرفيق الأعلى وكبار تلامذته بدأت هذه الدعوة في الانكماش والتراجع،

ص: 178

والجمعية لا تزال قائمة وتمارس نشاطها ولكن بدرجة أقل من ذي قبل، فهي تصدر فقط كتابا وأحدا سنويا بعد أن كانت تصدر في كل عام عدة كتب.

ومن هذه العرض السريع لأثر الدعوة الإصلاحية في نجد على الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه على السواء فإن من الأمانة العلمية أن يقال بأن هذه الحركات كلها تالية لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومتأخرة عنها تاريخيا.

وليس بالضرورة أن كل هده الدعوات الإصلاحية التي مر ذكرها وغيرها قد تأثرت تأثرا مباشرا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنها صورة عنها إذ أن في هذه الحركات الإصلاحية من تختلف في منهجها وأسلوبها وأنماط سلوك المنضمين تحت لوائها عن منهج حركة الإصلاح في نجد.

فإذا كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب سلفية النزعة شديدة المفاصلة مع الخصوم على اختلاف مشاربهم من الصوفيين وأصحاب الطرق وسدنة القبور وغيرهم فإن في الدعوات التي مر ذكرها آنفا من يختلف في منهاجه وطريقة عمله مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد. فالمهدية في السودان والسنوسية في ليبيا 00وغيرها من حركات الإصلاح كان لها نزعة صوفية واضحة ولها تعاون وثيق مع أصحاب الطرق والزوايا والتكايا الصوفية.

ولكن الجميع يتفقون مع دعوة الإصلاح في نجد في المعانات الشديدة من سوء الأحوال في مختلف البلاد الإسلامية بعد ضعف الخلافة الإسلامية في بداية العصر الحديث، ويتفقون في وجوب الإصلاح واتخاذ الإسلام طريقا في أن يكون الإصلاح دينيا وسياسيا معا.

وليس بالضرورة أن هذه الحركات كلها امتداد لتلك الحركة ونقلا مباشرا عنها، وإن كان بعضها الآخر يظهر تأثرها المباشر بالحركة الإصلاحية في نجد واتفاقها معها في الطريقة والمنهج وخاصة ما يعرف بأنصار السنة المحمدية في مصر والسودان

ص: 179

وسوريا ولدى الإمام رشيد رضا وبعض الحركات في الهند وأندونيسيا وتايلند.

ومن المؤسف جدا أن هذه الحركات الإصلاحية تعاني الكثير من المشكلات والمتاعب وتجدفي طريقها الكثير من الصعوبات والعقبات بتخطيط محكم من الدول الاستعمارية الغربية والدول العلمانية، المحلية، وفقدان هذه الحركات الإمكانات العلمية والمادية والقيادات الواعية القادرة على قيادتها إلى بر الأمان.

ولكن الأمل في الله سبحانه ثم في بوادر النهضة الإسلامية الشعبية التي عمت البلاد الإسلامية وهي تمثل مبشرات جديدة باستئناف العالم الإسلامي حياة جديدة يدفعه إليها سوء أحواله وشدة وطأة الدول الاستعمارية عليه وتمزق الشعوب الإسلامية واستغلال خيراتها وإقامة الفتن الطاحنة بين أبنائها وتأمين مصالحه في أوطان المسلمين بإنهاك الأمة المسلمة في كل ديارها.

ص: 180

نتائج حركة التجديد

أولا-‌

‌ النتائج السياسية:

1-

الخروج بالمنطقة من محنتها:

كان من أهداف هذه الحركة الإصلاحية القضاء على الفرقة والانقسام في منطقة نجد التي كانت سائدة قبل دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإن يطلع على كتابات المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ نجد قبل هذه الحركة الإصلاحية وفي بدء قيامها مثل ابن غنام وابن بشر الفاخري والمنقور وغيرهم يرى صورة قاتمة للحياة السياسية والاجتماعية في نجد إذ كان أهلها في غاية الفرقة والشتات والتطاحن وسفك الدماء. فالقبائل العربية التي تنتقل حيث الماء والكلأ والمرعى بغير بعضها على بعض في وضح النهار، ويعيشون على السلب والنهب بغزو بعضهم بعضا ويقتلون ويأسرون ويغنمون. والبادية يغزون الحاضرة المقيمين في المدن والقرى، وينهبون مواشيهم وثمار نخيلهم، ويقتلون من يمنعهم من ذلك أو يدافع عن ماله، وأهل القرى والمدن في خصومات مستمرة مع جيرانهم من المدن والقرى المجاورة. بل أن أهل البلد الواحد توجد فيما بينهم الخصومات والمنازعات التي تصل إلى حمل السلاح بعضهم على بعض، وسفك الدماء المحرمة بغير حق عند أمور بسيطة مثل الاختلاف على الماء أو مقاسم السيل والأرض بل الإمارة في البلد الواحد تقوم عليها المنازعات والقتال بين أهل البلد الواحد كل يطلبها، بل يتقاتل عليها القبيلة الواحدة كل يريدها لنفسه، بل يتقاتل عليها أقرباء الرجل وبنو عمه ، ولا يمضى الغالب في الإمارة إلا شهورا أو أياما حتى ينقض عليه خصومه سرا أو جهارا فيقتلونه ويتولون الأمر من بعده. وهكذا حتى صارت الحياة مرة وجحيما لا

ص: 181

يطاق العيش في ظلها. والذين كتبوا عن هذه الفترة التاريخية نقلوا لنا صورة مروعة عن بحيرات الدم القاني المراق في ربوع نجد في باديتها وحاضرتها، في شمالها وجنوبها، في شرقها وغربها، بلا فرق. والكلمات التي عبروا بها تقطر دما وتفيض أسى وألما وحزنا على هذه الحالة السياسية السائدة في نجد، والتي تراق فيها دماء زكية في غير سبيلها، بل بما يغضب الله ويوجب مقته ويبعد عن رحمته ويؤجج نار الفتنة ويعمق الخلافات ويثير الأحقاد ويؤصل العداوة ويدعو إلى الأخذ بالثأر من كل طرف.

والأمثلة على ذلك كثيرة جدا بحيث لا تحتاج إلى ذكر لظهور أمرها بين العام والخاص. وكتابات المؤرخين في هذه الفترة لهذه المنطقة فيها ما يشبه الإجماع على ما وصفنا. يقول المؤرخ المحقق الشيخ عثمان بن بشر رحمه الله: "ثم إن هذا الدين الذي من الله به آخر هذا الزمان على أهل نجد- يعني الدعوة الإصلاحية في نجد-بعدما كثر فيهم الجهل والضلال والظلم والجور والقتال، فجمعهم الله تعالى به بعد الفرقة أعزهم بعد الذلة وأغناهم به بعد العيلة وجعلهم إخوانا"1 وقال رحمه الله في سوابقه عن القتال بين القبائل العربية في نجد: "وفيها وقعة السبلة" وهو موضع معروف بين بلد الزلفى والدهناء وهذه الوقعة على الظفير من بني خالد، وذلك أن بني خالد ساروا إليهم وقائدهم عبد الله بن تركي بن محمد بن حسين آل حميد فواقعوهم وصارت على الظفير هزيمة وأخذوا عليهم نعما كثير2

وفي حوادث سنة ثلاثة وستين ومائة وألف قال رحمه الله: "وفيها قتل حمد بن سلطان ودباس رؤساء العودة المعروفة في ناحية سدير قتلهم ابن عمهم علي بن علي"3

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 2،3،

2 المرجع السابق ج1 ص 27.

3 المرجع السابق ج ص 24.

ص: 182

وفي سوابقه رحمه الله الحوادث عام 1199هـ قال "سابقة"وفي سنة اثنين وتسعين وألف وقعة تسمى "دلقة" بين عنزة والظفير، قتل من عنزة مقتلة كثير منهم لاحم بن خشم النبهاني وحصن بن جمعان، وفيها مقتل عدوان بن تميم صاحب "الحصون" البلدة المعروفة في سدير وبنيت منزلته وقتل محمد بن بحر صاحب الداخلة في منزله1

وقد وصف الزعامات السياسية في هذه الفترة المؤرخ الأمريكي لوثروب في حديثه عن اليقظة الإسلامية في هذه الفترة التاريخية فقال: "أما البدو الرجل فالزعامة فيهم لشيوخهم الذين يتولون القيام على أحكامهم وتدبير شئونهم. وأما الحضر في الواحات فالزعامة فيهم على الغائب لشيوخهم الأسر العليا منزلة ومكانة بيد أن مبلغ ما في أيدي هؤلاء الشيوخ من السلطة المطاعة حق الطاعة إنما هي سلطة صورية واهنة لا تقوى على الدوام على الوقوف في وجه تيار العادات القومية والعرف" 2

وكان هذا الانقسام والتفرق والتعدد في القيادات السياسية والإمارات الصغيرة ثمرة طبيعية لانعدام وجود دولة موحدة في نجد منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وبقاء هذه المنطقة الشاسعة من العالم الإسلامي بعيدة عن مركز الخلافة الإسلامية منعزلة عن الحياة العامة في العالم لصعوبة مسالكها وقلة مواردها وقيام التكتلات القبلية التي استطاعت أن تحل بالأمن وتقطع السبل وخيف السالك لدروبها من سكان المنطقة، فضلا عن الوافدين إليها، مما جعلها مرتعا للجهل وفريسة للعصبيات التي مزقت شملها وفرقت صفوف أهلها وضيقت موارد الرزق فيها. وإذا كانت الخلافة العثمانية قد بسطت نفوذها على العالم الإسلامي من حدود فارس شرقا إلى أقصى المغرب، ومن جنوب شبه الجزيرة العربية إلى أوروبا، فإن الخلافة العثمانية تهتم بهذه المنطقة بل اكتفت ببسط نفوذها على الحجاز والساحل الغربي وعلى سواحل الخليج العربي ومنطقة الاحساء فقط. أما نجد فلم يكن

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 80.

2 حاضر العالم الإسلامي، لوثروب استيوارد ج 1 ص 261.

ص: 183

نصيب من الرعاية ولم تتدخل الخلافة العثمانية في شأن من شئونها سوى الحملات العسكرية التدميرية التي قامت بها ضد هذه الحركة الإصلاحية بعد ظهور أمرها، فقد ذكر صاحب تاريخ حاضر العالم الإسلامي جهود الأتراك يقول:"وجل ما استطاع الأتراك إخضاعه من بلاد العرب هو أنهم بسطوا شيئا من سلطانهم على الأماكن المقدسة الحجازية وساحل البحر الأحمر أما نجد والبلاد الداخلية فقد ظلت حرة مستقلة 1"

وفي ظل هذه الفوضى السياسية والغارات القبلية ساءت الأحوال الدينية والاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة مما مهد لهذه الدعوة الإصلاحية السياسية والدينية التي بدأت في مرحلتها الأولى في حريملاء في مدينة محدودة السكان كثيرة الانقسام على الإمارة. ثم في مرحلتها الثانية التي تلتها في مقرها الثاني في العيينة في كنف إمارة آل معمر والتي أظهر فيها الشيخ دعوة وأعلن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقام بعض الحدود وأزال بعض المنكرات وانتشر أمر الدعوة في أرجاء شبه الجزيرة العربية.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة التي بدأت بانتقال الدعوة من العيينة إلى الدرعية وقيام ذلك الحلف الميمون بين إمام الدعوة الإصلاحية والإمام محمد بن سعود أمير الدرعية وقتها، دخلت الدعوة مرحلتها الجديدة، والتي من أهم مظاهرها استقبال المهاجرين وإعلان الجهاد لتحقيق أهداف هذه الدعوة الإصلاحية ورد العدوان عنها وتأمين دعاتها والقضاء على أسباب الفرقة والانقسام وتحقيق وحدة سياسية ودينية عامة تقوم على رعاية المصلحة العامة وحفظ الأمن وتأمين السبل وإقامة العدل وحراسة الدين وإقامة الحدود ونشر الدعوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على يد العابثين والمفسدين.

وقد بذلت هذه الدعوة في هذا السبيل كل غال ورخيص وقدمت خيرة رجالها

1 المرجع السابق، ج 1 ص261.

ص: 184

وصفوة شبابها في ساحات القتال لتحقيق هذه الغاية العظيمة عبر سنوات طويلة من الجهاد حتى أظهر الله أمرها ومكن لها في الأرض. فأقامت كيانا سياسيا عظيما يمتد من سواحل البحر الأحمر في الغرب إلى سواحل الخليج في الشرق، ترفرف عليه راية التوحيد، وتتمثل فيه الوحدة السياسية القائمة على الدين الخالص والفكر الموحد والمحبة الصادقة والتطلع إلى مستقبل أفضل في ظل وحدة شاملة للعالم الإسلامي في نهضة الحديثة. وقد تفيأ الناس في ظل هذه الوحدة السياسية وأمنها المستقر ورعايتها المستمرة حياة معاشة في دولة إسلامية منيعة الجانب عزيزة الجناب فكانت هذه الوحدة إحدى ثمار هذه الحركة الإصلاحية.

2-

إحياء روح الجهاد في سبيل الله:

من يتتبع تاريخ الحركة في نجد يظهر له بجلاء أن هذه الحركة هي حركة دينية سياسية علمية جهادية وأنها لم تأخذ عملا بمبدأ الجهاد في سبيل الله إلا في المرحلة الثالثة من مراحل نموها والتي بدأت بانتقالها بالدعوة إلى الدرعية. ويؤيد ذلك شرح إمام الدعوة أهداف دعوته ووسائلها للإمام محمد بن سعود وقبوله بها، ومن ثم تم الاتفاق على البدء بالجهاد. وبنود الاتفاقية التي تمت بين الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد ين سعود تدل على أن أول بند فيها الأخذ بمبدأ الجهاد في سبيل الله لإقرار التوحيد. وفي ذلك يقول أبن بشر رحمه الله "فدخل عليه – على الإمام محمد بن عبد الوهاب – في بيت ابن سويلم ورحب به وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والنعمة فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين" حتى قال: "ثم أخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه وما عليه أصحابه رضى الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه وأن كل بدعة بعدهم ضلال، وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانا، ثم أخبره بما عليه أهل نجد اليوم من مخالفتهم بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والجور والظلم 1

وبنود الاتفاقية التي تمت بين الإمام محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود جاء

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص12 للشيخ عثمان بن بشر.

ص: 185

في بندها الأول الاستجابة لدعوة الجهاد في سبيل الله. فقد اشترط الإمام محمد ين سعود على إمام الدعوة شرطين، يقول ابن بشر رحمه الله: "فلما تحقق – محمد بن سعود - معرفة التوحيد وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية قال له يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لاشك فيه وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به من الجهاد لمن خالف التوحيد. ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين:

نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.

والثانية أن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا. فقال الشيخ أما الأولى فأبسط يدك الدم بالدم والهدم بالهدم.

وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها"1

فهذه النصوص التاريخية تدل على أن هذه الدعوة الإسلامية الإصلاحية التجديدية قد اعتمدت مبدأ الجهاد في سبيل الله منذ فجر تاريخها وأنها تبدأ بالدعوة السلمية وتشرح للناس أهدافها ومبادئها وما تنكره من الأفعال الناس وتصرفاتهم مما يتصل بالشرك بالله والابتداع في الدين واستغلال الناس من قبل الأمراء وعلماء السوء وتقرير التوحيد. فمن أجابها ودخل في طاعتها وطاعة أميرها كف عنه ومن عارضها وحرض عليها أو دعا الناس لمحاربتها بعد تعريفه بحقيقتها أعلنت الجهاد عليه.

ولم تكن إمارات نجد تعرف الجهاد بهذا المعنى ولا عهد لها به بل كل بلد في الأعم الأغلب تقصر نشاطها على رد العدوان عليها ومدافعة من يعتدي عليها في مالها أو أفرادها ومن هذه الإمارات إمارة الدرعية. كذلك فإنه لا عهد لهم بالمغازي والغارات قبل قيام هذه الدعوة وكانوا في حالة من الضعف وقلة الرجال والعتاد والخبرة القتالية شديدة، يقول ابن بشر في تاريخه: "ثم إن الشيخ كاتب أهل البلدان

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 12.

ص: 186

بذلك ورؤساءهم وقضاتهم ومدعى العلم منهم، فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من اتخذه سخريا واستهزأوا به ونسبوه إلى الجهل وعدم المعرفة، ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأشياء وهو بريء منها حاشاه عما يقوله الكاذبون. ولكن يريدون أن يصدوا بها الناس عنه وقد رمى المشركون سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم بأعظم من ذلك.

ثم أمر الشيخ بالجهاد وحضهم عليه فامتثلوا، فأول جيش غزا سبع ركائب فلما ركبوها وأعجلت بهم النجايب في سيرها سقطوا من أكوارها لأنهم لم يعتادوا ركوبها فأغاروا – أظنه على بعض الأعراب- فغنموا ورجعوا سالمين"1

فهذا النص التاريخي الذي ذكر فيه خبر أول غزوة في عهد هذه الدعوة الإصلاحية يدل على أن إمارة الدرعية وغيرها من إمارات نجد في قلة من العدد والعتاد والخبرة فذكره لعدد الركايب في هذه الغزوة وأنها سبع تدل على قلة الإمكانات وضعف الإمارة، وإخباره بسقوط ركابها إذا أسرعت في السير يدل على قلة الخبرة بركوب النجايب وأنهم لم يعتادوا الغزو والغارات التي صارت بعد من أبرز صفاتهم. وظلت هذه الحركة الإصلاحية تمارس هذه الفريضة الإسلامية – الجهاد – طيلة حياتها بادئة بالبوادي ومنتهية بالمعارضين الأذنين وصارت في حروب دائمة ومستمرة مع المعارضة داخل نجد وقدمت في هذا المجال الكثير من التضحيات وأظهرت ألوانا من البطولات الفدة ولم يفت في عضدها كثرة المعارضين في الداخل والخارج وقوة المساندة من الخارج للمعارضين في الداخل بل أصرت على المضي في طريقها لتحقيق النصر حتى النهاية.

وظلت الحرب سجالا في كل الاتجاهات. وما توقع اتفاقية صلح مع جهة إلا ينتقض الأمر عليهم في جهة أخرى. واستمرت الحالة على ذلك في داخل نجد طيلة حياة الإمام محمد بن سعود ولما جاء عهد ابنه عبد العزيز رحمه الله ظهرت فيها آثار جهود من سبقه في تأمين قاعدة الدعوة وخروجها من منطقة العارض إلى بقية أنحاء

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 14.

ص: 187

أقاليم نجد، ثم أخذ يمتد نفوذها في كل الاتجاهات حتى بلغت في عهد الإمام سعود الكبير إلى الحرمين الشريفين والخليج العربي وعمان ورأس الخيمة. وبذلك تكونت في العصور الأخيرة أول دولة إسلامية قوية في قلب شبه الجزيرة العرب يحسب لها كل حساب أعز الله بها الدين ووحد بها الأمة وأمن بها الطريق وأقام بها العدل وحراسة الدين فكان ذلك ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله.

1-

توحيد نجد وبعض أجزاء شبه جزيرة العرب في دولة إسلامية مستقلة:

بدأت الدعوة الإصلاحية في تطبيق مبدأ الجهاد في سبيل الله على قلة من العدة والعدد والخبرة كما أسلفنا في النص التاريخي السالف ولكن ظلت الدعوة الإصلاحية تستقطب الأنصار وتستقبل المهاجرين من طلاب العلم وأهل الدين وتقدم لهم كل عون ومساعدة حتى التف حولها الناس تباعا وقويت بها شوكة الجهاد وتأيد بها مقر الدعوة وقادها الجهاد من نصر إلى نصر أكبر منه حتى طويت صفحات الإمارات الصغيرة المستقلة المنتشرة في عرض البلاد وطولها في دولة إسلامية سلفية ذات دعوة إصلاحية نامية وجهاد في سبيل الله مستمر، فتوحدت تحت راية هذه الدعوة إمارات العارض ثم تبعها أقاليم نجد إقليم بعد آخر حتى امتد نظر الدعوة إلى الحرمين الشريفين وأطراف الجزيرة العربية وبادية الشام والعراق في تلاحم شديد بين السياسة والدين وبين أمور الدنيا والآخرة على السواء. وقد كان في أخلاق أصحاب هذه الدعوة وأتباعها وإخلاصهم وصدقهم في دعوتهم وإخوانهم في الدين وحرصهم على تحقيق العدل في ظل شريعة الإسلام ما جعل الناس تلتف حولهم وتفتح لهم صدورهم إلى جانب بلادهم وتشاركهم مهمة الإصلاح والجهاد في سبيل الله.

يقول صاحب عنوان المجد في تاريخ نجد: "فلما استقر في الدرعية تسلل إليه شيعته الذين في العيينة ومن ينتسب إلى الدين ومعهم أناس من رؤساء المعامرة معاكسين لعثمان بن معمر وهجروا إلى الدرعية أو أناس ممن حولهم من البلدان لما

ص: 188

علموا أن الشيخ استقر ومنع ونصره"1وقال رحمه الله: "وأهل الدرعية يومئذ في غاية الضعف وضيق المؤنة"2

وفي مجال رعاية إمام الدعوة للمهاجرين وتخفيف المعاناة عنهم ومحاولة توفير ما يحتاجونه وما يقدمه من جوائز للوفود كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. يقول ابن بشر رحمه الله: "وكان الشيخ رحمه الله لما هاجر إليه المهاجرون يتحمل الدين الكثير في ذمته لمؤنتهم وما يحتاجون إليه وفي حوائج الناس وجوائز الوفود إليه من أهل البلدان والبوادي ذكر لي أنه حين فتح الرياض وفي ذمته أربعون ألف محمدية فقضاها من غنائمها. وكان لا يمسك على درهم ولا دينار، وما أتى إليه من الأخماس والزكاة يفرقه في أوانه. وكان يعطي العطاء الجزيل بحيث إنه يهب خمس الغنيمة العظيمة لاثنين أو ثلاثة"3

وإذا كان الإمام محمد بن سعود قد توفي رحمه الله عام 1179هـ ونجد لا تزال تغلي فيها حركة الجهاد مع المعارضة في أقاليم نجد، فقد أكمل البناء وأتمه ولي عهده وإمام المسلمين من بعده الإمام عبد العزيز بن محمد رحمه الله بمؤازرة الإمام محمد بن عبد الوهاب وتوجيهه. يقول صاحب عنوان المجد: "وما يجيء إلى الدرعية من دقيق الأشياء. وجليلها تدفع إليه – أي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بيده ويضعها حيث يشاء. ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئا إلا عن أمره. بيده الحل والعقد والآخذ والإعطاء والتقديم والتأخير ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد وابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض واتسعت ناحية الإسلام وآمنت السبل وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز وفوض أمور المسلمين وبيت المال إليه. وانسلخ منها ولزم العبادة وتعليم العلم ولكن

1 الشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 12.

2 المرجع السابق ص 13.

3 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 15.

ص: 189

ما يقطع عبد العزيز أمرا دونه ولا ينفذه إلا بإذنه"1

ولم ينته عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وابنه سعود وقد توطدت أركان الدولة الإسلامية التي مدت يدها الرحيمة وظلها الوارف على كل نجد والحجاز وبعض أجزاء شبه جزيرة العرب وأطراف الشام والعراق. وصارت الدرعية مرجع ولاتها وقضاتها وأمرائها وصاحبة الأمر المطاع فيها، يحكم فيها شرع الله وتنفذ أحكامه وتقام حدوده ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر على بينة. ولمعرفة أجزاء هذه الدولة الإسلامية نسوق نصا تاريخيا عن أمراء الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود قبل استشهاده وهو ساجد أثناء صلاة العصر في العشر الأواخر من رمضان عام 1218هـ على يد رجل عراقي ادعى النسك. يقول ابن بشر رحمه الله:"وكان أميره على تهامة وما يليها من اليمن عبد الوهاب المعروف بكنية – أبو نقظة – وعلى الحجاز وما يليه من النواحي عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، وعلى عمان صقر بن راشد رئيس رأس الخيمة، وعلى الاحساء ونواحيها سليمان بن محمد بن ماجد، وعلى القطيف ونواحيه أحمد بن غانم، وعلى الزبارة والبحرين سليمان ين خليفة، وعلى وادي الدواسر ربيع بن زيد الدوسري وعلى ناحية الخرج إبراهيم بن سليمان بن عفيصان، وعلى المحمل ساري بن يحيى بن سويلم، وعلى ناحية الوشم عبد الله ين حمد بن غيهب في بلد شقراء وعلى ناحية سدير عبد الله بن جلاجل وعلى ناحية القصيم حجيلان بن حمد في بريدة وعلى جبل شمر محمد بن عبد المحسن بن فايز بن علي في بلد حايل"2

ويقول صاحب كتاب دليل الخليج عن تاريخ سنة 1810م ما نصه: "فقد كان الوهابيون يسيطرون – بلا منازع – لا على وسط جزيرة العرب فقط بل على أجزاء كثيرة من الحجاز أيضا بما فيها الأماكن المقدسة في مكة والمدينة وكذلك أقسام من اليمن على الأقل. وفي طريق الشام كانوا قد سيطروا – فيما يبدوا- على واحة الجوف

1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 131.

2 المرجع السابق ج 1ص 131.

ص: 190

العامر. كما كانت جيوشهم تقوم من وقت لآخر بتهديد باشوية بغداد بل وبغداد نفسها في بعض الأحيان"ثم قال: "وكان الوهابيون قد عززوا مراكزهم في عمان بأن احتلت قواتهم – من قاعدتهم المتقدمة في البريمي – بعض القالع في إقليم الشمايلية"1وقال صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي عن هذه الدعوة في عام 1814م: "وبينما كان ابن السعود سنة 814م يعد العدة لفتح سوريه وهمته متينة كان يخيل إلى العالم منه أن الوهابيين متدفقون على الشرق تدفقا وصانعون ما شاءه الله من الإصلاح في الإسلام"2 وقال أيضا في موضع آخر: "وخلال جيل تلا اتسعت الدعوة الوهابية بأفقها ومضطربها اتساعا كبيرا وتطورت تطورا عظيما حتى صالت تعرف باليقظة الإسلامية3

ولما اكتمل بناء هذه الدولة الإسلامية وتوطدت أركانه صارت خير مثل لتطبيق ما نادت به من مبادئ وأهداف إسلامية واضحة المعالم، فأخذت تطبع الحياة في كل جوانبها بطابع الإسلام في حدود الإمكانات المتاحة.

1-

ربط الحياة بالدين:

أهداف الدعوة الإصلاحية في نجد كانت معلنة في بدء قيامها يوم أن كان إمامها يعرض نفسه ودعوته على الأمراء في نجد، وهي أهداف واضحة المعالم محددة الغاية إسلامية الهدف والوسيلة – فقد قال إمام الدعوة للأمير عثمان بن معمر أمير العيينة لما أمره قائد الاحساء سليمان بن محمد بن غرير الحميدي إخراج الشيخ من العيينة قال رحمه الله: "إن هذا الذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله وأركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن

1 دليل الخليج القسم التاريخي، تأليف ج. ج. لوريمر ج 1ص 303.

2 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستيوارد الأمريكي ج1 ص 262.

3 المرجع السابق ج1 ص 262.

ص: 191

الله سبحانه يظهرك على أعدائك"1

كما أن بيعة الإمام محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب قد تضمنت هذه الأهداف الواضحة الجلية. قال ابن بشر بعد حديثه عن عرض الدعوة على الإمام محمد بن سعود وتمام البيعة: "ثم إن محمدا بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"2 وهذه الأهداف تتضمن إقامة الدين كله في التعليم والعمل والسياسة والقضاء وجباية الزكاة وإقامة الحدود ونشر العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم وتأمين السبل وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع في الأمور المادية والمعنوية على السواء وبناء قوة سياسية وحربية واجتماعية يحسب لها حساب في المنطقة.

ولم يدخر قادة هذه الحركة الإصلاحية وسعا في تحقيق المبادئ التي نادوا بها قدر مستطاعهم. فساسوا سياسة راشدة وأقاموا العدل بين الناس بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاد أئمة الهدى في مختلف العصور الإسلامية الزاهرة وفتحوا دور العلم الشرعي للناس وجبوا الزكاة المفروضة في الثمار وبهيمة الأنعام وغيرها بالعدل واجتهدوا في صرفها في مصارفها الشرعية كما أراد الله، بما حقق نوعا من التكافل الاجتماعي المادي إلى جانب إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يحقق تكافلا اجتماعيا أدبيا. وعملوا على إلزام الناس بالحق وحراسة الدين وشرح معنى لا إله إلا الله محمدا رسول الله والعمل بمقتضاها وأقاموا علم الجهاد في سبيل الله وجعلوا الشهادة في سبيل الله من أغلى الأماني لدى أفراد المسلمين. وساروا بالحياة في مختلف مناحيها في ضوء الكتاب والسنة بما يحقق السعادة للفرد والجماعة في الدنيا والآخرة.

يقول المؤرخ الأمريكي: "فتكونت على التوالي وحدة دينية سياسية في جميع الصحراء العربية شبيهة بتلك الوحدة التي أنشأها صاحب الرسالة. وفي الواقع فإن

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 10.

2 المرجع السابق ج 12.

ص: 192

المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب ليشبه شبها كبيرا ذلك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر 1".

ومن أجل هذا كله فإن هذه الدولة الإسلامية قامت في نفوس أتباعها قبل أن تقوم ككيان سياسي في واقع الحياة، ولأجل ذلك فإنها لما استؤصلت في الدور الأول على يد إبراهيم باشا ككيان سياسي سارع أتبعها إلى إعادة بنائها تحت قيادة الإمام تركي بن عبد الله. ثم لما انتهى عهدها الثاني أعيد مرة ثالثة على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل رحمه الله، إذ أن الأمة المسلمة في شبه الجزيرة العربية تحن إلى هذه الدعوة المخلصة حنين الأم إلى وليدها كلما فقدته لما تحقق فيها من التلاحم الشديد بين الدين والحياة الأخرى وأمور المعاش وتأمين المعاد.

1-

تحقيق الأمن والرخاء:

تعطى المصادر التاريخية عن فترة حكم الإمام عبد العزيز بن محمد والإمام سعود وعبد الله في هذا الدور الأول من الحكم السعودي صورة مضيئة عما تحقق في هذه الفترة لكل الأقاليم التي بسطت هذه الدولة نفوذها عليها وأن الناس عاشوا في ظلها حياة هانئة سعيدة ينعمون فيها بالأمن الوارف الظلال والرخاء والرغد في العيش والسعة في موارد الرزق، وأن الله قد أبدل حياة الناس في الدرعية التي كانت في بداية الدعوة في غاية من الضيق والشدة بالرفاه والسعة وكثرة الخيرات. فقد تحدث الشيخ عثمان بن بشر في تاريخه عن سيرة الإمام عبد العزيز بن محمد وما تحقق للناس في ظل حكمه فقال: "وكانت الأقطار والرعية في زمنه مطمئنة في عيشة هنيئة وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء شتاء أو صيفا، يمنا أو شاما، شرقا وغربا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك، لا يخشى أحدا إلا الله لا سارقا ولا مكابرا. وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع

1 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب الأمريكي ج1ص261.

ص: 193

يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مراعي بل إذا عطشت ودت على البلدان ثم تصدر إلى مفالها حتى ينقضى الربيع أو يحتاجون لها أهلها"1

وبعد أن ذكر المؤرخ ابن بشر بعض الأخبار التي تعطي صورة جيدة واضحة عن استتباب الأمن في هذه الدولة وتأمين السبل ورضى الناس بذلك قال رحمه الله تعالى:"ويخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز والبصرة والبحرين وعمان وأنقرة والشام لا يحمل سلاحا بل سلاحه عصاه لا يخشى كيد عدو ولا أحد يريده بسوء"2 والرخاء وسعة الرزق ترتبطان عادة مع الأمن والعدل واستتبابهما في أي موطن. وقد تحقق لأهل هذه المنطقة في ظل الدولة السعودية الأولى من الرخاء بقدر ما وصفنا من الأمن.

وقد سبق أن ذكرنا نصا تاريخيا عن هذه الدعوة المباركة أن أهل الدرعية عند بدء الدعوة الإصلاحية كانوا في أضيق عيش وأشد حاجة وابتلوا ابتلاء شديدا وقد وصف ابن بشر في تاريخه حال الدرعية بعد ذلك وما هي فيه من نعمة وما بها من خيرات تفوق الوصف فقال: "ولقد رأيت الدرعية بعد ذلك في زمن سعود رحمه الله تعالى وما فيه أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة الذي لا يوجد مثله والخيل الجياد والنجايب العمانيات والملابس الفاخرة وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان ويكل عن حصره الجنان والبنان. ولقد نظرت إلى مواسمها يوما في مكان مرتفع وهو في الموضع المعروف بالباطن بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود المعروفة بالطريف ومنازلها الشرقية المعروفة بالبحيري التي فيها أبناء الشيخ ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب، وموسم اللحم في جانب وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام والبيع والشراء

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 126، 127.

2 المرجع السابق ج1 ص 128.

ص: 194

والأخذ والعطاء وغير ذلك هو مد البصر، ولا تسمع فيه إلا كدوي النحل من النجناج وقول بعث وشريت والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي"1

ويقول المؤرخ الأمريكي في تاريخه المعروف بحاضر العالم الإسلامي في وصف الدولة السعودية الأولى: "وكانت حكومته على عنفها مكينة عادلة فانقطع التعدي وأمن الناس السرقات وانتشر الأمن وسادت الطمأنينة والراحة"2

فهذه النقول التاريخية تدل بجلاء على ما وصلت إليه الدولة السعودية الأولى التي قامت على الإصلاح والتجديد الديني من مستوى في الأمن النفسي والاجتماعي وتامين السبل وتحقيق العدل وأفاء الله على أهلها من نعم كثيرة وخيرات وفيرة وسعادة للإنسان في ظلها الوارف وأمنها الممتد والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

1-

القدوة الحسنة في القيادة:

السير الذاتية لأئمة هذه الدعوة الإصلاحية التجديدية تعكس مدى إيمان قادة هذه الحركة بمبادئها الإسلامية وعملهم من أجلها وصبغ حياتهم بها وتحدد مقدار الربط بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي، في واقع الحياة بدءا بالذات وانتهاء بالسير العامة في مختلف جوانب الحياة.

وسير قادة هذه الحركة الإصلاحية هي الواقع لوحة مضيئة تنضح بالصدق والإخلاص والإيمان والعمل لمرضاته، وتجسد الحياة الإسلامية في صورة بهية تعطي من ذاتها القدوة الحسنة والسيرة الحميدة، وتقيم المثل الأعلى الشاخص الذي

1 المرجع السابق ج1 ص 13، 14.

2 حاضر العالم الإسلامي تأليف المؤرخ لوتروب ستيودار ترجمة عجاج تويهض تعليق الأمير شكيب رسلان ج 1 ص 262.

ص: 195

يراه الناس في حياتهم قولا وواقعا متحركا يأخذ ويعطي ويترجم الأقوال إلى أفعال وأعمال محسوسة، فكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثالا في الزهد والتقى والورع والثقة بما عند الله قواما في الليل ومجاهدا في النهار صادعا بكلمة الحق ومستيقنا بالنصر باذلا للمال في وجهه بذل من لا يخشى الفقر قائما على مصالح الناس وسد حاجاتهم أمينا على ما تحت يده وقد مر النص التاريخي عن رعايته رحمه الله لأتباعه المهاجرين إليه واعتبار طلاب العلم عنده بمنزلة أولاده فعلاقته بالله متصلة ونفعه للناس مستمر وتجرده من الأنانية وحب الذات وإخلاصه في دعوته أمر يفوق الوصف وأثره بحياته العملية وسيرته الذاتية انعكس على أتباعه وكبار شيوخ مدرسته من القادة السياسيين ومن العلماء والقضاة.

والإمام محمد بن سعود رحمه الله صورة أخرى عن الشخصيات القيادية الريادية الفذة في هذه المدرسة الإصلاحية بحياته الخاصة في صلته بربه وفي عدله في رعيته وفي إخلاصه في دعوته وصدقه في جهاده وبره برعيته وزهده بما في يده وعطفه على الناس ورعايته للفقراء والمساكين والمستضعفين وغيرته عند ما تنتهك حرمات الله وقوته في الحق.

ففي وصف ابن بشر لحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسيرته الذاتية قال رحمه الله: "وكان الشيخ رحمه الله تعالى كثير الذكر لله قل ما يفتر لسانه من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وكان إذا جلس الناس ينتظرونه يعلمون إقباله إليهم قبل أن يروه من كثرة لهجته بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وكان عطاؤه عطاء من وثق بالله لا يخشى الفقر بحيث إنه يهب الزكاة والغنيمة في موضع واحد لا يقوم ومعه منها شيء ويتحمل الدين الكثير لأضيافه وسائر الوافدين إليه وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها اتفقت لغيره من العلماء والرؤساء وغيرهم"1

والإمام محمد بن سعود رحمه الله كانت حياته مثالا في التقوى والصلاح والصدق للدعوة والإيمان بالجهاد في سبيلها وكانت سيرته الذاتية ناصعة البياض، غير

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 89.

ص: 196

أنه رحمه الله كان عهده عهد حروب ومعارك جهاد ولم يتفرغ فيها للإصلاحات الداخلية ولم تتوافر له الوسائل التي توفرت لأبنائه عبد العزيز وسعود. وهو من أفضل القادة السياسيين في هذه الدعوة الإصلاحية وعن طريقه عبرت الفضائل العديدة والشمائل الكريمة لخلفائه في الأمر من بعده.

أما الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود فهو الشخصية الثالثة في هذه السلسلة الوضيئة من قادة الإصلاح في نجد. وفي معرض الحديث عن سيرته الذاتية وأعماله قال المؤرخ عثمان بن بشر رحمه الله: "وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية وخصوصا أهل البلدان بإعطائهم الأموال وبث الصدقة لفقرائهم والدعاء لهم والتفحص عن أحوالهم"1

وفي مجال صدقه في دعوته وإخلاصه لأمته يقول ابن بشر رحمه الله: "وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه يكثر الدعاء لهم في ورده قال: وسمعته يقول: اللهم ابق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها"2

وفي مجال العدل وتحقيقه في جباية الزكاة، يقول ابن بشر رحمه الله: وكان يوصي عماله بتقوى الله وأخذ الزكاة على الوجه المشروع وإعطاء الضعفاء والمساكين ويزجرهم على الظلم وأخذ كرائم الأموال"3 وفي مجال الزهد في المال يقول ابن بشر رحمه الله: "وأتى إليه يوما خمس وعشرون حمل من الريالات فمر عليها وهي مطروحة فنخسها بسيفه وقال: "اللهم سلطني عليها ولا تسلطها علي ثم بدأ في تفريقها"4

وفي موضع آخر قال عن أئمة هذه الدعوة في نهاية حديثه عن سيرة الإمام عبد العزيز بن محمد: "وبالجملة فمحاسنهم وفضائلهم أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر ولو بسطت القول في وقائعهم وغزواتهم وما مدحوا به من الأشعار وما قصد

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 126.

2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 126.

3 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص129.

4 المرجع السابق ص 130.

ص: 197

بابهم من الرؤساء العظماء من أقاصي الأقطار وما حمل إليهم من الأموال والسلاح والخيل الجياد التي لا يدركها العد والتذكار لجمعت فيها عدة أسفار ولكنني قصدت الإيجاز بالاختصار"1

أما الشخصية الرابعة في القيادة السياسية الإصلاحية فهو الإمام سعود بن عبد العزيز وهو الذي بلغت الدعوة الإصلاحية في عهده أوجها وأعطت أكبر نتائجها. وهو من الشخصيات الفذة لا يقل عن سابقه في الورع والإخلاص لدينه وأمته والنظافة في تاريخه والعطف على رعيته وسيرته الذاتية صورة مشرقة تمثل حياة المسلم في أتم صورها. وصف ابن بشر وصاياه لرعيته فقال: "وكان أول ما يصدر النصيحة بالوصية بتقوى الله تعالى ومعرفة نعمة الإسلام ومعرفة التوحيد والاجتماع بعد الفرقة ثم الحض على الجهاد في سبيل الله ثم الزجر عن جميع المحظورات من الزنى والغيبة والنميمة وقول الزور والمعاملات الربوية وغير ذلك"2

وختم وصف حياة الإمام سعود المؤرخ ابن بشر بقوله: "وبالجملة فمحاسن هؤلاء الأمجاد وفضائلهم ومحامدهم التي ملأت أقطار البلاد الذي أزال الله بأولهم الجهل عن الناس والمحن وبآخرهم الظلم والجور والبغي والفتن لو جمعت لبلغت أسفارا من الكتب ولرأيت العجاب والعجب وكفى بفضلهم ما تقدم قبل أولهم وآخرهم من المنكرات. فبدلوا جهودهم في زوالها حتى انطمست معالمها وعمل بالطاعات أعني بأولهم محمدا وابنه عبد العزيز وابنه سعود وبآخرهم تركي وابنه فيصل قاتل البغاة ونقاض العهود"3

والإمام عبد الله بن سعود رحمه الله كان من أفضل الناس سيرة وأربطهم جأشا وأشجع آل سعود. وهو لا يقل عن سابقيه في سيرته الذاتية وكفاءته وقدراته وإخلاصه لهذه الدعوة فسار بالناس سيرة حميدة حذا فيها حذو سابقيه واقتفى سننهم فكان كثير الطاعة عفيف اللسان نظيف اليد طاهر الجيب عطوفا على رعيته

1 عنوا ن المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1 ص 130.

2 المرجع السابق ص 167.

3 المرجع السابق ص 176.

ص: 198

آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر باذلا للمال في وجوه الخير. فمضى صدر من إمارته في عز ومنعة وقوة إلا أن الخلافة العثمانية وجدت أنه لا بد من المفاصلة مع هذه الحركة الإصلاحية التي تعدها مقدمة لحركات انفصالية في العالم الإسلامي. فأرادت أن تؤدبها وتؤدب بها كل من تسول له نفسه الخروج على الخلافة العثمانية فندبت لهذه المهمة الخطيرة محمد علي حاكم مصر من قبل الأتراك. فجمع لهذه الحملات التدميرية من الإمكانات المادية والبشرية ووفر لها من أسباب النجاح ما يضمن لها القضاء على هذه الدعوة الإصلاحية الأولى في العالم الإسلامي في العصر الحديث.

ووكلت عملية التنفيذ إلى جبار من جبارة القادة العسكريين الأتراك هو إبراهيم باشا. وبدأت سلسلة من المعارك الطاحنة بين الدولة السعودية وبين الجيوش التركية عبر عدة سنوات انتهت بالقضاء التام على القادة السياسية لهذه الحركة الإصلاحية وهدم قاعدتها الدرعية وإجلاء كل سكانها والقضاء على رجالات المنطقة في حملة ظالمة شرسة لا تعرف الرحمة. وبذلك طويت صفحة من صفحات هذه الحركة الإصلاحية.

تحدث ابن بشر رحمه الله عن سيرة الإمام عبد الله بن سعود فقال: "وكان عبد الله ذا سيرة حسنة مقيما للشرائع آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر كثير الصمت حسن السمت باذل العطاء ولكن لم يساعده القدر وهذه سنة الله في عباده"1 وقال "وكان صالح التدبير في مغازيه ثبتا في مواطن اللقاء، وهو أثبت من أبيه في مصابرة الأعداء، وكانت سيرته في مغازيه وفي الدرعية في مجالس الدرس وفي قضاء حوائج الناس وغير ذلك على مسيرة أبيه سعود فأغنى عن إعادتها"2

ووصف ابن بشر رحمه الله نجدا بعد أسر الإمام عبد الله بن سعود وهدم الدرعية والقضاء على قادة ورجالات وعلماء الدعوة الإصلاحية في نجد وحالة الناس فيها فقال: "قلت فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة وعمل

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 211.

2 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 211.

ص: 199

بالمحرمات والمكروهات جهرا "حتى قال وتعذرت الأسفار بين البلدان وتطاير شرر الفتن في الأوطان وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد"1

هذا ولما كانت هذه الدعوة الإصلاحية قد حلت محلها العميق من النفوس واستقرت في مقرها من الوعي والشعور لدى الناس فإنه على الرغم من قضاء الأتراك على هذه الحركة كوجود سياسي قضاء مبرما حتى هدمت كل مباني الدرعية وقتلت خيرة الرجال لا في الدرعية فحسب بل وفي كل البلاد الواقعة تحت سلطان هده الدعوة وأوقع بهم من البلاء والمحنة وأعمل فيهم السيف بلا رحمة وبما يعجز القلم عن وصفه من تلك المجازر الجماعية التي لا يفرق فيها بين المقاتل والشيخ الكبير أو المرأة الضعيفة والطفل الصغير حتى بعد استلام الأتراك لمقاليد الأمور في نجد ما أن عادت الجيوش الغازية بما حققته من نصر كبير حتى عادت إلى استئناف حياة إسلامية جديدة على يد ابن بار من أبناء هذه الدعوة هو الإمام تركي بن عبد الله. وبذلك بدأ عهد جديد يعرف في التاريخ الحديث بالدور الثاني للدولة السعودية. وظلت هذه الدولة تتعرض للاندثار كلما قصرت في الالتزام بمبادئ هذه الدعوة الإصلاحية وتعود للظهور كلما صدق قادتها مع الله، والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وتاريخ الإمارة السعودية مع الدعوة عبر التاريخ أكبر شاهد على ظهور الأسرة السعودية على الناس كلما التزمت بواجبها في القيام بحق هذا الدين واستمسكت بحبله وأنها كلما قصرت في قيامها بهذا الواجب أو حصل فيها ميل عنه توقف مدها وسلط عليها أعداؤها حتى تفيء إلى أصول الدعوة التي قامت عليها. وهذا ما يفسر به كثير من مؤرخي المنطقة نهاية الدولة السعودية الأولى والثانية وعودتها إلى منصة القيادة بقيادة كل من الإمام محمد بن سعود في الدور الأولى، والإمام تركي بن عبد الله في الدور الثاني، والملك عبد العزيز في الدور الثالث، وهو أمر لم يفهمه كثير

1 المرجع السابق، ص 212، 213.

ص: 200

ممن كتبوا عن تاريخ الأسرة السعودية عامة والملك عبد العزيز خاصة من خارج المملكة، ولم يعرفوا نفسية هذا الشعب المسلم، وتاريخ هذه الأسرة الكريه وضربها بسهم وافر في خدمة الإسلام وتحقيق العدل حتى جعل النفوس تحن إلى المصلحين من أبنائها كلما فسدت الأحوال أو حصل انحراف عن الدين.

وفي مقابل ظهور إمارة الدرعية على غيرها منذ قيام دعوة الإصلاح ماذا يعرف المثقفون فضلا عن عامة الناس في نجد عن إمارة الرياض وأسرة دهام بن دواس وعن غيرها من الإمارات والبيوت التي ناوأت الدعوة وتزعمت المعارضة في الداخل أو الخارج. لقد كان حظهم الإهمال والنسيان والفناء المعنوي وموت الذكر. ولولا تاريخ حركة الإصلاح وذكرهم في أخبارها لما عرف من أخبارهم إلا القليل النادر.

وكل هذه عظات وعبر لمن تدبر التاريخ واعتبر بأحداثه وحاول استكشاف كنوزه ووعى سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولكن النعم ولين العيش وطول الأمد ينسي هذه الأمر. وأولى الناس بالتدبر والاعتبار من رفع الله ذكرهم بهذا الدين وأعزهم بهذه الدعوة المباركة وجعلهم بها أئمة وملوكا ليزيدهم ذلك فقها بأصول العز ومصدر التمكين في الأرض، مصداقا لقوله تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .

وهي سنة الله ماضية في الخلق ضاربة في التاريخ. ولعل في وعي هذه الأصول وفقه التاريخ ما يعصم من الزلل ويمنع من الانحراف ويسدد السالكين على جادة الحق ومنهج الصواب إذ ليس بين الله وبين خلقه حسب ولا نسب وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء بفضله ويصرفه عمن يشاء بحكمه. والناس عيال الله وأحب الخلق أنفعهم لعياله وأعظمهم النفع ما جمع الدنيا والآخرة ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى وعي هذه الحقائق في زمن تكالبت علينا فيه الأمم وراج فيه سوق الباطل وتعددت فيه السبل، والأمة الإسلامية في مسيرتها تقف على مفارق الطرق ولا نجاة لها إلا بهذا الدين، والله غالب على أمره ولكن الناس لا يعلمون.

ص: 201

ثانيا-‌

‌النتائج الدينية:

1-

قيام مدرسة علمية إصلاحية:

كان إمام هذه المدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أخذ العلم عن والده وعلماء بلده ثم رحل في طلب العلم والأخذ عن شيوخه في الحرمين الشريفين وفي البصرة والاحساء وغيرها. ولم يكن كما يقول خصوم الإمام محمد بن عبد الوهاب بأنه أخذ العلم من غير معلم، وأن معلمه كان كتابه فرحلاته العلمية معروفة وأخذه من شيوخه كان ظاهرا وآثاره وفقهه أكبر شاهد على ذلك.

فلما أعد نفسه إعدادا راسخا في العلم وتمكن من فهم علوم الدين من تفسير وحديث وعلومهما وفقه وأصول وتوحيد وتاريخ وسيرة ولغة عربية وأدواتها وبرع في علم الفرائض وغيرها، وفهم واقع الناس في الحياة اليومية في مختلف مناحي الحياة في العقيدة والسلوك والآداب والأخلاق والمعاملات، وأدرك الفارق الكبير بين حقيقة التوحيد كما جاءت من عند الله في نصوص شرعه وما كان عليه الناس في زمانه وحدد المسافة بين ما أراده الله من خلقه وشرعه لعباده وما هم عليه وعقد العزم على القيام بحركته الإصلاحية التجديدية منطلقا بها من نجد بل من مقر إقامته وأسرته في بلده حريملاء، كان أول خطوة في حركة الإصلاح الجديدة التأسيس على أصول علمية تستند إلى نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح في عصور الإسلام الزاهرة والقرون المفضلة.

فجلس لطلاب العلم في المسجد في حريملاء يدرسهم في مختلف علوم الشرعية ويتدرج بهم من البسيط إلى المركب، ومن الواضح إلى الخفي، ومن القليل إلى الكثير، ويبث في هذه المدرسة روح التحرر من قيود الواقع والمألوف إلى معرفة مراد الله في شرعه، والاستقلال في فهم دينه، وإجراء مقارنة لطلاب العلم بين ما أراد الله من خلقه وما يفعله الناس في زمانه وتحديد المسافة بين المطلوب والواقع. ونفث هذه الروح الإصلاحية العلمية المؤصلة في دروسه وبين طلابه وشوقهم إلى تخطي

ص: 202

الحاجز المر المستقبل المشرق لهذه الدين. فوجد نفوسا سوية وعقولا صافية صفاء المرآة فطبع عليها ما معه من حق ونفخ فيها من روحه حتى جاءت إليه طائعة مختارة قابلة للحق مقتنعة به مستعدة للبذل في سبيله. فكان بدء دعوته الزمني عام 1153هـ ومولدها الأول في مسجد حريملاء وأداتها في الإصلاح التعليم والتعلم ومستقرها في داخل النفوس، وغايتها رد الناس إلى الله في أصول العقيدة ومنهج الشريعة وأصول التعامل وقواعد الأخلاق والخروج من ضيق الدنيا إلى سعت الدنيا والآخرة. ثم تزايد عدد طلاب العلم لديه وتوسعت مجالسه، وتعددت العلوم التي يدرسها لطلابه في ساعات طويلة من النهار وأطراف من الليل حتى كثر أنصاره وطلابه ومريدوه. ولما انتقل إلى العيينة سار على الطريقة نفسها فأسس مدرسة علمية فيها وتوافد إليه طلاب العلم من داخل العيينة وخارجها وتبعه من كان معه من طلاب العلم في حريملاء. فتوسعت المدرسة وتعددت حلقاتها وصار كبار طلبته يعقدون حلقات العلم للطلاب المبتدئين. ثم ينتقل الطلاب بعد أخذ المبادئ العامة إلى حلقات الشيخ نفسه. وهكذا تتكرر خطوات التوسع حتى استطاع بهذه المدرسة العلمية والأنصار أن يتقدم بدعوته إلى مرحلة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر وإقامة بعض الحدود في العيينة، وأن يتسامع الناس بهذه الدعوة في أرجاء الجزيرة العربية ويدرك الوجهاء في المنطقة خطرها عليهم وآثارها البعيدة في حياتهم مما حملهم على إظهار العداء لها. ولما انتقلت الدعوة إلى الدرعية استمرت في تدعيم وجودها من خلال العلم والتعلم في رحاب المساجد، وترسيخ الفهم الصحيح للإسلام، وتشخيص أدواء المجتمع الذي وجدت فيه هذه الحركة الإصلاحية، وتسليط الضوء عليها وفق رؤية علمية صحيحة تستند إلى النصوص الشرعية الثابتة والفهم العربي السليم حتى أتم الله لها ما أراد على يد هذه المدرسة العلمية وإمامها المجدد محمد بن عبد الوهاب.

وقد ذكر المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر إقبال طلاب العلم على الشيخ رحمه الله في الدرعية وصبرهم على طلب العلم وتحملهم في سبليه فقال:"ولما هاجر من هاجر إلى الدرعية واستوطنوها كانوا في أضيق عيش وأشد حاجه وابتلوا ابتلاء شديد فكانوا

ص: 203

في الليل يأخذون الأجرة ويحترفون، وفي النهار يجلسون عند الشيخ في درس الحديث والمذاكرة"1

وكان قيام هذه المدرسة العلمية الإصلاحية في نجد في فترة عصيبة قد عم فيها الجهل وفشا المنكر وكثر البلاء واختلط فيها الحق بالباطل واندرست فيه معالم الهدى.

فكانت هذه الدعوة في ذلك الوسط العلمي المتخلف كالنور الكاشف في دياجير الظلام. يصف ذلك ابن بشر رحمه الله بقوله: "ولما استوطن الشيخ الدرعية وكانوا في غاية الجهالة وما وقعوا فيه من الشرك الأكبر والأصغر والتهاون بالصلاة والزكاة ورفض شعائر الإسلام فتخولهم الشيخ بالأمر بالمعروف النهي عن المنكر ثم أمرهم بتعلم معني لا إله إلا الله وأنها نفي وإثبات" ومضى في تعديد ما جاء به الإمام ودعا إليه حتى قال: "ثم معرفة البحث وأن من أنكره أو شك فيه فهو كافر"2

ولم تكتف هذه الدراسة العلمية بالتعليم في المسجد وجمع الأنصار حولها بهذه الوسيلة وحدها بل دخلت في الدرعية خاصة وسيلة أخرى وهي بعث الرسائل ودعوة الناس بواسطتها إلى الاستجابة لهذه الدعوة ودعوة طلاب العلم للوفود على الدرعية لمعرفة حقيقة ما تدعو إليه هذه المدرسة العلمية من فهم جديد لنصوص الشرع المطهر وبهذه الوسيلة الجديدة إلى جانب توسيع التعليم وتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع الدرعية وما يتبعها انتشر أمر هذه المدرسة وانقسم الناس حولها إلى مؤيدين ومعارضين.

وفي هذه المدرسة العلمية الإصلاحية التي قامت بالتعليم في رحاب المساجد أو بالرسائل العلمية والمواعظ الدينية والمقابلات لطلاب العلم والمذاكرة معهم توسع أثر هذه المدرسة حتى خرجت القضاة والمفتين والوعاظ وأئمة المساجد وخطباء الجمع وسدت بهم حاجات الدعوة ولبت مطالب المجتمع، يقول الشيخ ابن بشر رحمه الله:

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 13.

2 المرجع السابق ج 1ص 14.

ص: 204

"وأخذ عنه – أي الإمام- بعد ذكر القضاة- ممن لم يل القضاء من الرؤساء والأعيان ومن دونهم الجم الغفير وكان له رحمه الله تعالى من الرأي والفراسة والتدبير ما ليس لغيره. وكان كثيرا ما يلهج بقوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} " 1

وظلت هذه المدرسة العلمية الدينية الإصلاحية تعطي ثمارها الطيبة في مجتمعها المسلم جيلا بعد جيل حتى يومنا الحاضر وتركت لنا من الآثار العلمية والسيرة العملية المتمثلة في سير الصالحين من أتباع هذه الدعوة الإصلاحية عبر تاريخها الطويل ما يعين على السير على الطريق الصحيح والنهج القويم، رحمهم الله جميعا رحمة واسعة وجزاءهم عن هذه الأمة خير ما يجزي به عباده الصالحين وجعل الله هذا الخير باقيا في عقبهم إلى يوم الدين.

1-

تجلية بعض المفاهيم:

وكان من نتائج حركة التجديد والإصلاح في العصر الحديث تجلية بعض المفاهيم الإسلامية ومحاربة الانحراف في الدين عما أراد الله به من إصلاح النفوس وتصحيح العقيدة وتقويم السلوك وتحقيق مقاصد الشريعة في الخلق.

ولهذا فقد عنيت هذه المدرسة بأصول الدين وفروعه وإزالة ما أصاب هذه المفاهيم من انحراف في فهم المراد بها والعناية بتحديد معانيها وما يدخل فيها وما يخرج منها من انحراف وما يضادها أو ينتقص من كمالها. واستعمل في ذلك وسائل التعليم والتربية المختلفة في تقرير هذه المعاني بالتعليم والتوجيه والتأليف والرسائل وغيرها مما سبقت الإشارة إليه، فألف في أصول الدين الرسالة المعروفة بثلاثة الأصول وهي تدور حول تحقيق أصول الدين الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والولاء والبراء وتعريف

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 95.

ص: 205

الإنسان بربه ونبيه ودين الإسلام بالأدلة الثابتة من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال أئمة الهدى وتقرير التوحيد والدعوة إليه وإيضاح الشرك ووجوب البراءة منه وأهله، وتحديد واجب المسلم في الموالاة في الله والمعاداة فيه، وتحديد المراد بالحنفية ومعنى العبادة في الشرع وذكر أنواعها، وحكم من صرف شيئا منها لغير الله وتحديد معنى الربوبية ومن هو المستحق لها، وتعريف الإسلام وبيان أركانه ونواقضه وتعريف الإيمان وتحديد أركانه وأنه قول وعمل واعتقاد وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتعريف الإحسان ومستلزماته إلى جانب شرح معنى لا إله إلا الله وما تتضمنه من النفي والإثبات، ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله وبيان مقتضاها، وشرح معنى الهجرة التي أمر الله بها في كتابه وحكم بقائها أو انقطاعها بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله، إلى جانب بيان عموم الرسالة إلى الجن والإنس كافة، ووجوب الإيمان بالبعث والمحاسبة وأن الدين قد تم وكمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده. وبين معنى الطاغوت ووجوب الكفر به والإيمان بالله وأن الطواغيت كثيرون وأن رؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئا من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، وبين مكانة الصلاة من الدين وأهمية الجهاد في سبيل الله وأقام الدليل على كل مسألة من هذه المسائل من الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله كما بين حكم كثير مما كان يفعل في زمانه من الأفعال والأعمال التي تناقض التوحيد أتنافي كماله. وقد كتب في ذلك أيضا كتابه القيم المعروف بكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وعرف فيه التوحيد وأنواعه وفضله وتكفيره للذنوب وبين فيه الشرك وأنواعه وإحباطه للأعمال الصالحة وبين فضل الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتناول فيه كثيرا من الأعمال والأحوال التي يمارسها أهل زمانه مما ينافي الوحيد أو ينافي كماله مثل التمائم والتوله ولبس الحلقة والخيط والرقي وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ومشابهة الكفار وغيرهما من المسائل الكثيرة المهمة التي لا يتسع المقام لذكرها وهي موجودة في هذا الكتاب القيم لمن أراد الوقوف عليها والتعرف على مستوى دقة فهم هذا الإمام وصدق اتباعه للأدلة الشرعية.

ص: 206

يقول المؤرخ ابن بشر رحمه الله: "وأمر جميع أهل البلدان من أهل النواحي يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشائين عن معرفة الأصول وهي معرفة الله ومعرفة دين الإسلام ومعرفة أركانه وما ورد عليها من أدلة من القرآن ومعرفة محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته وأول ما دعا إليه وهي "لا إله إلا الله" ومعرفة معناها والبعث بعد الموت وشروط الصلاة وأركانها ووجباتها وفروض الوضوء ونواقضه وما يتبع ذلك من تحقيق التوحيد من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة وغير ذلك 1.

وبشرح هذه المفاهيم الشرعية وبيان المعاني المقصودة منها في الشرع وتعميم تعليمها للناس بصورة شبه إجبارية للعامة والأميين إلى جانب التعليم المتقدم الذي يعد به القضاة والمفتين والمدرسين وخطباء المساجد استقرت العقيدة السلفية الصافية في نفوس الناس. وبذلك تحرروا من ذل العبودية لغير الله وأحبوا السنة وكرهوا البدعة وحاربوا الخرافة. وتحول ذلك عندهم إلى حس عام تميز حتى عند العامة. والحمد لله الذي له الأمر من قبل ومن بعد.

يقول صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي: "فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة، غرضها إصلاح الخرق وفسخ الشبهات وإبطال الأوهام ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى ودحض البدع وعبادة الأولياء وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام والأخذ به على أوله وأصله ولبابه وجوهره"2

فهذا المؤرخ الأجنبي وصف هذه الدعوة وصفا دقيقا فيما جاءت به وما تهدف إليه مع إيجاز في القول وبلاغة في الوصف.

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 90، 91.

2 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستيوادر الأمريكي ج1 ص 264، ترجمة الأستاذ عجاج نويهض تعليق الأمير شكيب أرسلان

ص: 208

3-

إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تتميز الدعوة الإصلاحية في العصر الحديث في نجد بأنها دعوة تجمع بين العلم الصحيح الهادي إلى العمل بما يرضى الله في أمور الدين والدنيا وبين العمل اليومي المعاش والعقيدة السليمة. ولهذا فإنها بدأت بالعلم وثنت بالعمل والتطبيق لمقتضى العلم والأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ممارسة علمية لتوظيف العلم في صالح الجماعة وتكوني رأي عام راشد يعرف المعروف ويؤيده ويعرف المنكر وينفر منه وإيجاد تكافل أدبي في الوسط الاجتماعي يعزز الفضيلة ويضيق على الرذيلة وتنمو في ظله الفضائل وتنكمش الرذائل.

ومنذ فجر تاريخ هذه الدعوة الإصلاحية في حريملاء ثم في العيينة وأخبرا في الدرعية كانت الدعوة واضحة في نزوعها إلى هذه الغاية. فما أخرجه أشقياء حريملاء وأمراء العيينة إلا بسبب أخذه بهذه المبدأ وعجز الأولين عن تقبله، وضعف أمير العيينة عن تحمل تبعاته وما نجحت الدعوة في الدرعية إلا بتقبلها لهذا الأمر والقيام بواجبه وتحمل تبعاته مهما كلفها من ثمن. ولهذا فإن اتفاق الإمامين الجليلين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود كان من أهم بنوده إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر.

يقول المؤرخ ابن بشر رحمه الله بعد ذكره لشروط الإمام محمد بن سعود على الإمام محمد بن عبد الوهاب وأن الإمام محمد بن سعود قال للإمام:"ثم إن محمدا بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "1 والإمام محمد بن عبد الوهاب حينما عرض دعوته على ابن معمر ذكر من أصولها إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد معرفة المعروف وتحديد المنكر.2

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 12.

2 المرجع السابق ج 1ص10.

ص: 209

وبإحياء هذه الفريضة الإسلامية العظيمة صارت معلما شامخا في هذه الدعوة الإصلاحية يؤمن بها أصحاب هذه الدعوة ويمارسونها في الحياة ويستثمرونها في خدمة الدين حتى صار لهم فيها فقه دقيق وممارسة صادقة. ولهذا فإن من أبرز صفات أئمة هذه الدعوة أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر. ففي ذكر سيرة الإمام سعود بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: يقول ابن بشر رحمه الله: "وكان رحمه الله تعالى آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر كثير الحض على ذلك في مجالسه ومراسلاته للمسلمين ناصرا لأهله محببا إليه أهل العلم وطلبته"1

وعبر تاريخ هذه الحركة فإن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم من أهل العلم بالدين والتمسك به من القضاة والمعلمين والوعاظ وأئمة المساجد والخطباء وأهل الدين والورع والصالحين من الأمراء والولاة، والواقعون في المنكر هم من العامة والجهلة والفساق وذوي الرقة في الدين أو المترفين وأهل النعمة.

وهذه الفريضة يعدها بعض العلماء من أركان الإسلام لعظم أمرها وقوة أثرها. وفي الأثر: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " ولهذا فقد مكنت هذه الفريضة للدين في نفوس الناس وكونت حسا مميزا عند الأفراد والعامة والخاصة للتفريق بين المعروف والمنكر واعتبار المعروف فضيلة والمنكر رذيلة. وأقامت واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأصل من أصول الدين وشعيرة من شعائره لا يجوز التخلي عنها بحال من الأحوال.

1-

إحياء مبدأ الولاء والبراء في الدين:

الإسلام بشعائره المختلفة كالجسد الواحد لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا سلمت كل أعضائه الأساسية ووجدت له البيئة الصالحة لنموه والدعوة الإصلاحية في نجد تحقق لها قدر كبير من النجاح لأنها أخذت في الإصلاح بكل شعائر الإسلام وأساسياته، وأوجدت له المناخ الملائم لنمو الفضيلة في ظله.

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج1 ص 176

ص: 210

فبعد أن تم لهذه الدعوة تحقيق التوحيد وتجلية مفاهيم الإسلام أخذت تمارس تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل المجتمع فوقف الناس من هذه الدعوة أحد موقفين: موقف المؤيدين لها وموقف المعارضين، وصار على كل فرد في المجتمع أن يحدد موقفه من هذا الصراع بعمل وجداني صرف يتمثل في الحب أو البغض لهذه الدعوة وأهلها أو للمعارضين لها، والحب والبغض هو من لوازم شهادة أن لا إله إلا الله. ويتولد من الحب والبغض أقوال وأفعال وممارسات موالية أو معادية لهذا أو ذاك. وذلك هو ما يعرف في الشريعة بالولاء والبراء، الولاء لأولياء الله من دعاة الخير، والبراء من أعداء الله الصادين عن سبيله.

والولاء في صورته الكاملة يتمثل في المحبة وإعلانها للناس والنصرة والتأييد في الأمر والنهي والجهاد والمجالسة والمؤانسة والاختلاط والاعتزاز.

والبراء يكون بالبعض لأعداء الله في داخل النفس وإعلانه ذلك في الناس والمظاهرة عليهم باليد واللسان والمال والمجاهدة ومقاطعتهم في المجالس ومقت ما هم عليه.

وبذلك ينقسم الناس إلى معسكرين متمايزين عرفا في شرع الله وفي آيات قرآنية بحزب الله وحزب الشيطان أو أولياء الله وأولياء الشيطان والحرب بينهما معلنة حتى يظهر الله الحق ويخذل الباطل. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في تقرير صحة هذا المبدأ وأن الأخذ به وسيلة ناجحة لتحقيق الحق وإبطال الباطل.

وقد أخذت الدعوة الإصلاحية في نجد بهذا المبدأ في مجال التعليم المباشر في برنامجها العام وفي الرسائل التي يبعث بها إمام هذه الدعوة ويمارسونها عملا يوميا مع الخصوم بلا مداهنة ولا مواربة بل لتحقيق لا زم من لوازم التوحيد هو الولاء والبراء في صورتها العملية. وقد قرر إمام الدعوة في كتابه ثلاثة الأصول هذا المبدأ بقوله "اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث مسائل والعمل بهن" ثم ذكر المسألة الثالثة بقوله: الثالثة أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب والدليل قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ

ص: 211

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1

كما قرره في الرسالة التي بعث بها إليه الشيخ محمد بن فارس وذكر فيها نواقض الإسلام العشرة وذكر الناقض الثامن بقوله: "الثامن مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2 وأكدها في الرسالة التي بعث بها إلى كل من عبد الله بن علي ومحمد بن جماز إذ قال رحمه الله فيها ما نصه: "وأهل القصيم غارهم أن ما عندهم قبب ولا سادات ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعادة لا يصير للرجل دين إلا بها"3

وموالاة أعداء الله على درجات منها ما يوجب الكفر ويوقع في الردة عن الدين ومنها ما يكون أدنى من ذلك ويعتبر من كبائر الذنوب التي يتعرض صاحبها للوعيد الشديد والعقاب الأليم. وقد اهتمت هذه الدعوة الإصلاحية بتقرير هذا المبدأ وإقامة الدليل عليه من الكتاب والسنة ووضعه في موضعه الصحيح من الدين وعملت على إشاعة معرفة حكم هذا بين الناس الخاص منهم والعام، وأنه لا يكمل الإيمان والدين ولا يتحقق التوحيد على الصورة المطلوبة إلا بالأخذ به. كما مارسته في حياتها وأعلنته للناس وأخذت بمقتضاه وتركت أساليب المجاملات والمداهنات في الدين جانبا وحددت سمات كل من حزب الله وحزب الشيطان، وبينت حكم موالاة كل منهما وموقفه من الدين ليختار المرء طريقه في الحياة عن علم وعلى بينة من أمره. وكان هذا المبدأ أكبر معين على استنهاض همم المؤمنين بالدعوة وإعلان مواقفهم منها ومن خصومها، وتطبيق ذلك عملا في كل الميادين التي تتطلبها هذه الحركة

1 سورة المجادلة الآية 19.

2 سورة المائدة الآية 51.

3 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الرسائل الشخصية ص 213.

ص: 212

الإصلاحية في مدها المتسارع ونظرتها الشمولية حتى يحقق لها من النصر بقدر ما قدم لها أتباعها من الصدق والإخلاص والبدل.

1-

تحرير العقل من الجهل والخرافة والبدع:

سبق أن تحدثنا عن الحالة السياسية والدينية في العالم الإسلامي قبل قيام الحركة الإصلاحية في نجد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود، وذكرنا أن العنصر الأعجمي قد بدأ في الظهور في المراكز القيادية في الخلافة الإسلامية منذ العهد العباسي بدءا من أبي مسلم الخراساني الذي كان له دور مهم في قيام الدولة العباسية ثم تتابع الأعاجم في المراكز القيادية في شكل وزراء وكتاب وحجاب وندماء وأصهار وأخوال للخلفاء وظل مدهم في ازدياد سواء كانوا من الفرس أو الترك أو غيرهم من العناصر الأعجمية. ثم خطوا خطوة أكبر فقد آل الأمر في الخلافة الإسلامية العباسية في عصورها المتأخرة إلى أن للحاكم العباسي اسم الخلافة ولغيره من الأعاجم تصريف أمورها ورسم سياستها وإدارة شئونها. وكان معظم الجند من الأتراك كما وصف ذلك الشاعر علي بن الجهم بقوله:

امامي من له سبعون ألفا

من الأتراك مشرعة السهام

وكان ذلك في عهد المتوكل العباسي في الصدر الأول من الدولة العباسية ثم تجاوز الأمر وجود الأعاجم في المراكز القيادية وتكاثرهم في الوظائف العامة إلى أن آلت إليهم أمور البلاد الإسلامية في صورة دولة كالسلاجقة وغيرهم وأخيرا الخلافة العثمانية التي امتدت حياتها عدة قرون. فإن العنصر الأعجمي مع أننا لا نتهمهم في صدق إخلاصهم لهذا الدين ولا في إرادتهم للخير. إلا أن هذا الدين نزل بلسان عربي مبين يصعب على الأعاجم أخذه أخذا مباشرا من نصوصه كما يفهمه العرب الذين نزل بلسانهم إلى جانب تأثر الأعاجم بثقافات انحدرت إليهم مع أصولهم التاريخية والفكرية والعقيدية. وحتى العرب فإن لسانهم العربي قد خالطته العجمة وفشا اللحن فيهم وأصبحت اللغة العربية الفصيحة لغة الخاصة ومستودع العلم ولم تعد عامة العرب تفهم دلالات النصوص الشرعية كما كان يفهمها آباؤهم.

ص: 213

وإلى جانب ذلك بدأ الخط البياني في تاريخ الاجتهاد في المدارس الإسلامية عامة في الهبوط من الاجتهاد المطلق إلى الاجتهاد المقيد إلى أن قيل بقفل باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي في قرن الرابع الهجري، ثم بدأت مرحلة التقليد في الفقه والتعصب للمذاهب وتقديمها على النصوص الشرعية بحجة القصور عن فهم مراد الله في نصوص شرعه. ومازال الخط البياني في تاريخ الفقه الإسلامي في النزول حتى جمد الفقهاء وتوقف الاجتهاد وعادت المدارس الفقهية تقوم على مدارسة مختصرات في فقه كل مذهب. وعظموا هذه المختصرات حتى غابت عن هذه المدارس أصول المذاهب التي يأخذون عنها واكتفوا بكلام المتأخرين في فقه كل مذهب واعترف العلماء بقصورهم ورضوا بهذا المستوى المتدني في فقه المذاهب، وفي ظل هذه الأوضاع ولأسباب متعددة وصل العالم الإسلامي إلى حالة من جمود الفكر وتكبيل العقل والرضى بالقليل من الفقه وظهرت الانحرافات في الدين في أصول العقيدة ومظاهر العبادة وفض الخصومات وغيرها.

وفي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بلغ التأخر والانحراف وتكبيل العقل وجمود الفكر وهبوط الهمم غايته وصارت ظاهر الانحراف في الدين مألوفة شب على مشاهدتها بل ممارستها في الغالب الصغير وهرم عليها الكبير حتى جعلها الألف والعادة من الدين بحيث إن من ينقدها ولو أقام الدليل على ما يقول من نصوص الشريعة يكون في نظر العامة خارجا على الدين ومبتدعا.

وفي هذه الفترة هيأ الله لهذه الأمة أحد أبنائها البررة الذين نذروا أنفسهم لخدمة هذا الدين تعلما وتعليما وأمرا ونهيا وممارسة وكان في مقدمة ما اهتم به تحرير العقل من أسر العادات والتقاليد وألف المنكرات وإخضاع كل الأوضاع القائمة في المجتمع المسلم في نجد وفي غيره للدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وفهم أئمة الاجتهاد في الدين في القرون المفضلة التي كان فيها سلطان الدين هو الظاهر واللسان العربي الفصيح هو السائد، ومحاولة النهوض بالعقل وإطلاقه من عقال أسر التقليد وإلف العادات وتعظيم النصوص الشرعية واحترام العقل والدعوة إلى الجهاد في الدين لكل من توفرت له أدواته وألا يقبل التقليد إلا من العاجز عن الاجتهاد.

ص: 214

ولهذا فإن هذه الحركة بتعظيمها للنصوص الشرعية واحترامها للعقل ودعوته إلى الاستقلال في الأخذ والعطاء في إطار فهم الدليل الشرعي وأصول الاجتهاد الفقهي المعتبرة وبما يقتضيه اللسان العربي الذي نزل به الشرع ووزن أقوال الرجال وأفعالهم بميزان الدليل الشرعي ومراد الله منها مهما كانت مكانتهم في الدين ومنزلتهم في العلم وأن العصمة لا تكون إلا لصاحب الرسالة صاروا يقولون ويقررون أن القول إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها وأنهم عاصروا نزول الوحي وعرفوا أسبابه ومناسباته وهم أهل اللسان العربي الفصيح فعلى العين والرأس. أما إذا جاء القول أو الرأي عمن دونهم قالوا هم رجال ونحن رجال مع احترامهم لأئمة الهدى في كل العصور الإسلامية عامة وفي القرون الثلاثة المفضلة على وجه الخصوص.

1-

القدوة الحسنة في العلماء:

لم تكن حركة الإصلاح والتجديد في نجد مجرد مدرسة علمية نظرية تقرر العلوم الإسلامية وتزيد الناس فهما لها وحصيلة علمية منها لا تأثير لها في واقع الحياة وممارسة الناس، ولكنها كانت حركة علمية وعملية في آن واحد تقرر مبادئ الإسلام كما أرادها الله في نصوص شرعه وتمارسها في الحياة العامة ممارسة عملية محسوسة في حياة شيوخها وتلاميذها وأتباعها. وتوظف معطيات هذا العلم في حياة الناس بدءا بالقدوة الحسنة والمثال الكريم في التقوى والصلاح والعبادة والورع والزهد فيما أيدي الناس والثقة بما عند الله وفي الأخذ والعطاء في البيت والطريق والتعليم والعمل والتعامل واختيار عيش الكفاف وفي تعدية النفع إلى الآخرين في أمور الدين والدنيا جميعا والصبر على الأذى في سبيل الله وأخذهم هذا الدين رسالة إلى الناس وجعل حياتهم في خدمته أينما حلوا.

ولا يكون من لمبالغة في شيء إذا قلت إن إمام هذه الدعوة وكبار تلامذته وشيوخ مدرسته قد أعادوا بسيرتهم العطرة سيرة السلف الصالح في صلتهم بالله بتحقيق التوحيد وفهم الإسلام والتبتل في الطاعة والمحافظة على العبادة فرضا ونافلة

ص: 215

وتهجدا وورعا وزهدا، وشجاعتهم في الحق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وجهادهم في سبيل الله وحملهم لمهمة الدعوة وهداية الناس وتوسيع مد الإصلاح. وحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسيرته الذاتية صورة مشرقة لهذه المدرسة في طلبه للعلم ورحلاته في سبيله وفي ممارسته وفي جهاده وصبره وكرمه وحسن أخلاقه وتعريض نفسه للأخطار في سبيل هذه الدعوة.

ويقول صاحب حاضر العالم الإسلامي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته: " وفي الواقع فإن المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب ليشبه شبها كبيرا ذلك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر" وقال: "واقتفى الوهابيون آثار خلافة الراشدين"1 ويبدوا لمن يقرأ كلام هذا المؤرخ الأمريكي ولا يعرف هذه المدرسة الإصلاحية وتاريخها ومقام شيوخها ومستوى تلاميذها وصدق أتباعها أن هذا الكلام فيه مبالغة غير مقبولة ولكن من عرف تاريخها وسيرة رجالها ومقام علمائها عرف مقام هذه الدعوة ونزعتها الإصلاحية ومقدار القدوة الحسنة التي تمثلت في شيوخها وتلامذتها. فسير إمامها وتلامذته سير مشرقة يمتزج فيها العلم بالعمل ويوظف فيها العلم لصالح الجميع وفق برنامج تربوي في حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض، تبدأ بالعلم ثم العمل بمقتضى العلم ثم الدعوة إليه بكل وسيلة ممكنة وفق المقتضيات وينتهي بالصبر على الأذى في سبيل هذه الدعوة. ولقد ضربت هذه المدرسة في كل خطوة من هذه الخطوات بسهم وافر يعد مثلا يحتذى به في مختلف العصور وما تحقق لهذه الحركة من نجاح كان الفضل فيه لله سبحانه وتعالى ثم للإيمان بالله والإخلاص لدينه والأخذ بالأسباب الموصلة إلى النجاح وفق منهاج النبوة وسيرة السلف الصالح.

ولقد أدركت في حياتي في النصف الثاني من القرن العشرين نماذج من علماء هذه المدرسة في جيلها العاشر يعدون أمثلة حية في سيرتهم الشخصية، إيمانا وتقوى وصلاحا وعبادة وزهدا وشجاعة وصدقا وصبرا على المكاره بما يذكر بما كان عليه العلماء في صدر الإسلام وعصوره الزاهرة.

1 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستيودارد الأمريكي ج 1ص 261.

ص: 216

وإذا كان كثير من علماء المسلمين اليوم يشغلون مجالسهم بأمور الدنيا وأخبار المال والعقار والمراتب الوظيفية والتنافس في هذه المجالات، وإذا كلف طالب العلم بالعمل في وظيفة دينية في مدينة أو منطقة ثم قضى فيها سنين طويلة وتركها بقي ارتباطه بها في حدود ما حصل عليه في فترة وجوده فيها من مال وأراض ومزارع وعقار وخصومات عليها، فقد عرفنا من أدركنا في حياتنا من تلاميذ مدرسة هذه الحركة الإصلاحية أنه إذا هبط أي بلد أو أقام فيها في وظيفة دينية أو عمل حر يشغل مجالسه بالقراءة في كتاب الله وتفسيره والحديث وعلومه والسيرة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي وكتب التوحيد بحيث لا يتركون مجالا في حياتهم لغير ذلك أو للقيام بالواجبات المنوطة بهم أو لكسب كفاف العيش، ثم إن كل واحد منهم يجلس لطلاب العلم الشرعي طيلة النهار وطرفا من الليل ويحصر جهوده في التعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الاعراض التام عن مزاحمة الناس في أرزاقهم وشئون حياتهم وقد يمكث العالم في مدينة أو منطقة عشرات السنين فإذا تركها لأي سبب من الأسباب ترك فيها مدرسة علمية ذات نزعة إصلاحية سلفية يعز عليه مفارقتها.

ولم تترك له أخلاقه وسماحته وزهده مالا يلوي إليه أو يحتاج إلى تدبيره بعد رحيله. وكانوا في حياتهم وسيرهم الذاتية مثالا يحتذى ونموذجا فذا يذكر بما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم. فالشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله وصل إلى جازان تاجرا بسيطا ذا علم متواضع ولكنه رجل دعوة أحيا الله به أمة وأزال به غمة. فاسألوا أهالي منطقة جازان وجبال عسير عنه وعن تاريخه وآثاره التي لم تكتب بعد. والشيخ فيصل بن مبارك كلف قاضيا في منطقة الجوف فأسس مدرسة علمية إصلاحية سلفية أوقف حياته عليها حتى أثمرت فخرجت القضاة والدعاة ونشرت العلم في تلك المنطقة. فاسألوا أهل منطقة الجوف عنه وعن برنامجه اليومي ونفعه للناس وعن حياته الشخصية وسيرته الذاتية وعن أحكامه في قضائه وعن سماحته وكرمه وزهده وتواضعه لطلاب العلم ومقاسمته لهم لما في بيته وإخراج ما يفضل عن قوته وقوت عياله في نهاية كل شهر وعن قوته في الحق وصبره على الناس ورحابة صدره على الجاهل. والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في عنيزة وعن سيرته وحياته وزهده وطلابه وأثاره وتأثيره في الناس ومواقفه الصادقة وإخلاصه الجم ووفرة علمه

ص: 217

هذا وإن أنس فلن أنسى جهود شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فقيه الديار السعودية في حياته وإخوانه عبد اللطيف بن إبراهيم وعبد الملك بن إبراهيم في نشر العلم الشرعي ورعاية طلابه وإيقاف حياتهم على هذه المهمة العظيمة علما وتعليما ودعوة وعملا بذلك العلم ومرجعا في معرفة شئون الدين والدنيا. وكانت حياة كل واحد منهم منظمة حتى تستطيع أن تعرف حال كل واحد منهم في كل ساعة من ساعات ليله ونهاره فوقتهم مبرمج بين العلم والتعليم والدعوة والقضاء وحل مشكلات الناس في المواريث والأموال وتوثيق المكاتبات والمبايعات وغيرهم.

وكان مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم وأربطة طلاب العلم وحلقات الدروس فيه في مستويات مختلفة بين المبتدئين والمتوسطين والمنتهين أشبه بجامعة هم شيوخها تخرج القضاة والدعاة والعلماء من مختلف الأقاليم وذلك قبل التعليم النظامي.

ولما بدأ التعليم النظامي في المملكة بادروا إلى تأسيس أول مؤسسة تعليمية تعني بالعلوم الشرعية واللغة العربية في الرياض وكانت نواتها المعاهد العلمية وكليات الشرعية فيما بعد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

وقد خرجت هذه المؤسسة الرعيل الأول من العلماء والأدباء ورجال الفكر. وكان لعناية الشيخ محمد رحمه الله بهذه المؤسسة وتعاهدها بالرعاية وحسن اختيار الأساتذة والمناهج ورعاية الخريجين منها أكبر الأثر في نجاح هذه المؤسسة وإغنائها البلاد بحاجتها من الخريجين في هذه المجالات المهمة مما يدل على بعد النظر وحسن الرعاية. وقد عاصرت الدراسة في حلقات الشيخ محمد وأخيه عبد اللطيف في بدء حياتي العلمية ثم انتقلت إلى المعاهد ثم كلية الشريعة وخبرت كل هذه الجهود رحمهم الله رحمة واسعة وجعل مثواهم آمين إذ هم خير الأمثلة على جهود مدرسة الإصلاح والتجديد.

والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز هو واحد من الأمثلة الشاخصة الحية لبقايا طلاب المدرسة الإصلاحية. وهو من يعرفه الجميع في جهاده وعلمه وصبره

ص: 218

وسماحته وورعه وسيرته الذاتية سيرة عطرة. وهو يبذل في سبيل الإصلاح كل ما يستطيعه لا يألو في ذلك جهدا ولا يبخل بمال أو جاه أو وقت حتى صار شخصية عالمية في مكانه ونفعه لكل مسلم.

ولو ذهبت لأعدد أسماء وأعمال من عرفنا من تلاميذ هذه المدرسة الإصلاحية لطال البحث وتشعب وخرج بنا عما نحن بصدده ولكنها أمثلة قليلة من مدرسة واسعة سعد الناس في ظلها بالعيش في رحاب الإسلام الواسعة ردحا من الزمن. نرجو الله أن لا يتوقف مدها ولا تنقطع نماذجها الفريدة في مستقبل حياتنا وحياة الأجيال القادمة إن شاء الله تعالى.

ولهذا فإن من الآثار المهمة التي حققتها هذه الدعوة المباركة المربط بين العلم النافع والعمل الصالح والقدوة الحسنة والمثال الكريم، وتجسيد هذا الدين بتعاليمه السمحة في شخصيات قائمة في كل جيل من أجيالها يمثل كل منها هذا الدين في سيرته الذاتية وتصرفاته الخاصة والعامة وحمل هذا الدين رسالة في عنقه ووظيفة في حياته وثقة بالنصر والتأييد لا يتطرق إليها الشك مهما اشتدت الظروف والأحوال والتحرك بهذا الدين قولا وعملا وممارسة واعتقادا وسلوكا. وبهذا ظل أثر هذه الدعوة مستمرا وعطاؤها متدفقا والحمد لله، لا في جزيرة العرب وحدها ولكن في العالم الإسلامي وبدرجات متفاوتة.

1-

ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب على غيره:

الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من علماء نجد كغيره من العلماء في تحصيل العلم والمكانة الاجتماعية، ولكنه تميز عن العلماء بأنه رجل دعوة إصلاحية تجديدية شاء الله أن تكون هداية الأمة في شبه جزيرة العرب على يده، هيأ نفسه للقيام بهذا الواجب واستثمر مواهبه في هذه المهمة وتحمل في سبيلها ما استطاع تحمله حتى عرض نفسه وحياته للموت. وقام كثير من العلماء والعامة في وجه دعوته وألبوا الناس عليه ورموه بكل داهية ووصفوه بكل نقيصة وأشاعوا عنه مقولات ونسبوا إليه

ص: 219

تصرفات لا تصدر من عاقل فضلا عن صاحب دعوة إصلاح استعدوا عليه كل قوة ولكنه يناضل ويجاهد في صبر وإصرار وصدق في وجه المعارضة مهما كانت قوتها وصلابتها وكثرت أتباعها وسخر لسانه ويده وقلمه وماله في خدمة دينه ونجاح دعوته، فلما علم الله صدقه واحتسابه أظهره على خصومه فصار صاحب القول الفصل في المنطقة والرأي المطاع والسياسة النافذة ومحل التقدير والاحترام من الناس كافة بما فيهم المعارضة وذراريهم فنال بذلك عز الدين وصارت كتبه ومؤلفاته مرجعا للخاص والعام يدعى له عند البدء في قراءتها وتصحح بها العقيدة ويعرف بها الحلال من الحرام ويتربى عليها طلاب العلم وتقام عليها مدرسة إصلاحية راسخة الأصول والفروع.

وقد هدى الله به أمة كاملة في أجيال متعاقبة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا هو خير لك من حمر النعم" وحمر النعم هي من نفائس الأموال عند العرب. فإذا كان هذا الأجر كله لمن هدى الله على يده رجلا واحدا فكيف يكون أجر من هدى الله على يده خلقا كثيرا بل أمة كاملة في أجيال متعاقبة وذلك فيه أفضل البشارة لهذا الإمام عند الله في الآخرة وقد أبقى الله له ذكرا حسنا وجعل الدعوة والإصلاح باقية في عقبه والحمد لله.

هذا وكان في نجد علماء عاصروا الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيام دعوته كانوا على جانب كبير من العلم ولهم مكانة اجتماعية ودينية شبيهة بما للشيخ محمد أسرته قبل قيام دعوته. ولكنهم وقفوا من الدعوة الإصلاحية موقف المعارض لأسباب متعددة سبقت الإشارة إلى شيء منها ولم يكتب لهم التوفيق في عملهم ولم يستطيعوا أن يحيوا حياة طيبة في الدنيا بل عاشوا في ضيق وتشرد ولم يبق لهم ذكر حسن وطويت صفحة تاريخهم طيا عجيبا ونسوا حتى لا يعرف عنهم إلا القليل القليل مما كان لهم في حياتهم من جهود وأعمال. وهذه تعد إحدى العبر التي ينبغي للبيب أن يتأملها ولا يتجاوزها حتى يأخذ نفسه بالحق ويأطرها عليه ويدعوا الله بالتوفيق والسداد وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين فيتيه أو يضل وهو درس ينبغي أن يعيه أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيرهم ليأخذوا لأنفسهم العبرة وليغذوا السير في درب الهدى

ص: 220

وإحياء الدعوة إلى الله ليستمر الخير فيهم ولا ينقطع.

كما ينبغي أن يعيه كل مسلم يريد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة ويجد من نفسه القدرة على الإسهام في الإصلاح والتوجيه بيده أو لسانه أو قلبه أو ماله فإن الطاعة تورث الشرف والمعصية تورث الذل والإنسان يضع نفسه حيث يشاء والله هو الهادي والموفق.

ص: 221

ثالثا- النتائج الاجتماعية والاقتصادية:

1-

القضاء على المنازعات:

عند قيام حركة الإصلاح في نجد كانت المنازعات على أشد ما تكون بين الحاضرة والبادية وبين القبائل العربية فيما بينهما وبين كل مدينة أو قرية في الحاضرة مع جارتها بل بين الحمايل داخل كل بلد وأحيانا بين أفراد الأسرة الواحدة. وكانت المنازعات تقوم على أمور مادية صرفة كالمال والأملاك والمسائل والماء والكلأ وبعض الوظائف الاجتماعية والدينية والسياسية. وكانت نجد حمام دم يلمس ذلك من يقرأ تاريخ هذه المنطقة في كتابات مؤرخي تلك الفترة من أهلها. وكانت هذه المنازعات نتيجة ضعف الوازع الديني وكثرة الجهل وقيام العصبيات الجاهلية للقبلية والبلد والإقليم والمذهب والأخذ بالثأر وغيرهما.

ولما جاءت هذه الدعوة الإصلاحية التي قامت على الدين أيقظت في الفرد وازع الدين وإحياء الضمير بما نشرته من علم شرعي وفهم سليم لمبادئ الإسلام وبما أوجدته من هدف مشترك للناس في تجديد الدين ودعوة الناس إليه ومحبة أهله ومعاداة أهل الفسق والكفر والفجور، وإحياء مبدأ الولاء والبراء في الدين وتغيير نظرة الناس إلى الحياة والروابط الاجتماعية فيها وإقامتها على أسس إسلامية مبتغى بها وجه الله والدار الآخرة فأوجدت بهذه الأمور كلها ثورة في المجتمع على نفسه في عاداته وروابطه وأهدافه ووجهت كل جهوده إلى ما يعود عليه بالنفع والفائدة في الدين والدنيا معا.

ص: 221

وكان من نتيجة ذلك كله القضاء على منازعات وتخفيف العصبيات الجاهلية ومعرفة الحقوق والواجبات والحلال والحرام ذلك بنشر العلم الشرعي وإقامة سلطة سياسية تقوم على حراسة الدين وإلزام العامة بالحق وإقامة الحدود وفك الحقوق بالطرق الشرعية العادلة والأخذ على يد كل من تسول له نفسه الخروج على ذلك في إطار مقتضى الدين. وبذلك خفت المنازعات وأخذ فك الحقوق طريقا إسلاميا عادلا بدلا من الأخذ بالقوة والعصبيات الجاهلية. وبذلك استقرت النفوس وارتاحت لعدل الإسلام وانقادت لسلطان الدين في داخل النفس وخارجها بما تكون من مجتمع متكافل في النواحي المادية والأدبية آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وبالسلطة السياسية التي من مهامها فك الحقوق وإقامة الحدود ودرء المظالم.

وقد أثمرت هذه الجهود المتبادلة القضاء على المنازعات والخلافات والأخذ بالثارات. وعاش الناس في هذه المنطقة أمنا ورخاء وراحة قل أن يوجد لها مثيل إلا في عصور الإسلام الزاهرة وصدره الأول وقد وصف ابن بشر حال الناس في ظل هذه الدعوة المباركة وما تحقق فيها من عدل وأمان فقال: "فسموها – الفترة – الأعراب بسنين الكمام لأنهم كم عليهم من جميع المظالم الصغار والجسام: فلا يلقى بعضهم بعضا في المفازات المخوفات إلا بالسلام عليكم وعليكم السلام والرجل يأكل ويجلس مع قاتل أبيه وأخيه كالإخوان وزالت سنن الجاهلية وزال البغي والعدوان وسيبت الإبل والخيل الجياد والبقر وجميع المواشي في الفلوات فكانت تلقح وتلد وهي في مواضعها آمنات مطمئنات وليس عندها من يرعاها ويحميها"1

فهذا النص التاريخي وأمثاله كثير في تاريخ هذه الدعوة وما وصلت إليه من تحقيق انقلاب في حياة الفرد والجماعة في هذه المنطقة بفضل الله ثم بفضل هذه الدعوة التي جاءت لرد الناس إلى الله وإعادتهم إليهم في مختلف شئون الحياة وإقامة الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية الرحيمة وحراسة الدين وإقامة الحدود وتحقيق العدل بواسطة ما أقامته من سلطة سياسية قادرة على القيام بهذا الواجب بقوتها المادية

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 3، 4.

ص: 222

وتأييدها في عملها من جماهير المسلمة التي أقبلت على هذا الدين إقبال الظمآن على الماء العذب الزلال.

وبذلك تم القضاء على المنازعات الحادة التي كانت سائدة قبيل قيام هذه الدعوة في هذه المنطقة من العالم الإسلامي التي فقدت السلطة السياسية العادلة منذ نصف القرن الخامس الهجري وفشا فيها الجهل وانحسر وازع الدين في كثير من الناس فيها لا سيما البوادي فكانت هذه الدعوى هي الشفاء من الله لأدواء هذه الأمة في هذه المناطق الداخلة في شبه الجزيرة العربية والحمد لله أولا وآخرا على فضله.

1-

خروج منطقة نجد من عزلتها:

إن فقد القيادة السياسية الراشدة في هذه المنطقة من منتصف القرن الخامس الهجري وبعدها عن مراكز الخلافة الإسلامية وحواضر العالم الإسلامي ومراكز العلم فيه واضطراب حبل الأمن فيها وقطع السبل منها وإليها وسوء الحالة الاقتصادية في هذه الفترة من تاريخها وقلة مواردها المالية وما فرضته هذه الأمور مجتمعة على هذه المنطقة من تجتمع القبائل العربية على شيوخها لتأمين سلامتها والاغارة على خصومها واعتمادها السلب والنهب وسيلة للعيش في هذه المنطقة كل ذلك جعل أهل هذه المنطقة في عزلة شديدة عن العالم الإسلامي عامة حرمها من المد الثقافي والوعي السياسي والتفاعل مع العالم الإسلامي في قضاياه المختلفة وجعلها مشغولة بما هي فيه من شدة وضيق واضطراب أحوال كثير في ظلها الجهل وقل العلم وضعف فيها الوازع الديني، لاسيما في صفوف البوادي وأفراد القبائل وانعدم الوعي وقامت في هذا المجتمع مواضعات وأعراف حلت محل السلطة السياسية والقضائية والدينية.

وكان من ثمار هذه الدعوة المباركة إعادة ما فقدته من علم الشريعة ووازع الدين والروابط الاجتماعية القائمة على مبادئ الدين والسلطة السياسية التي تحرس الدين وتحقق العدل وتربط هذه المنطقة المهمة من العالم الإسلامي، والخروج بهذا المجتمع من عزلته إلى الانفتاح ومن الجهل إلى العلم ومن الفوضى إلى النظام ومن

ص: 223

الفرقة والشتات إلى التوحيد والتكاتف وحمل هموم الأمة المسلمة في مختلف ديارها والمساهمة في دفع الأخطار عنها وإيقاظ روح العلم والجهاد في سبيل الله في نفوس الناس كافة سواء من كان منهم تحت ظل هذه الدعوة أو خارجها. واندفعت بقوة يمنه ويسره للالتحام بالعالم الإسلام في مشرقه ومغربه. وباستيلائها على سواحل شبه الجزيرة العربية الشرقية والغربية وقيامها على الحرمين وقيادة الحجيج في كل عام استطاعت أن تسمع الناس كافة صوت الحق وداعي النهضة الإسلامية المنبعث من تلك المنطقة التي ضربت عليها العزلة قرونا متطاولة وحملت مسئوليتها مع غيرها من أقطار العالم الإسلامي في إحياء الروح الإسلامية ودفع الأخطار الحدقة في العالم الإسلامي وحمل هم المسلمين وقضاياهم المهمة فكانت هذه ثمرة واحدة من ثمار هذه الدعوة المباركة.

1-

إحياء روح الأخوة الإسلامية:

كان الناس في وسط شبه الجزيرة العرب قبل هذه الحركة الإصلاحية على حالة سيئة من التقاطع والتدابر والتنابز بالألقاب وكانت روابطهم تقوم على النسب والمصالح والأهواء وتلبية الغرائز وسد الحاجات وتحقيق الوجاهة وروابط الأرض والطين والتراب.

ولما جاءت هذه الدعوة الإصلاحية التي عادت بهذا المجتمع المسلم إلى أصوله الإسلامية ودينه القويم فانقاد لها من آمن بها ورفضها من جهل حقيقتها إذ كان في دخوله فيها إزالة لبعض مصالحه أو وجاهته أو متعه. وانقسم المجتمع إلى أنصار لهذه الدعوة وخصوم لها. وكانت المدرسة العلمية التي يقوم عليها الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب تركز على مبدأ الأخوة في الدين والتعاون على البر والتقوى والتجمع لنصرة الحق وحث الناس على الموالاة في الله والمعاداة فيه، ومحاولة إشاعة روح الأخوة الإسلامية بكل مقتضياتها الواسعة بين أفراد أنصار هذه الدعوة.

فجعل كلمة الإخوان هو الاسم المميز لطلاب مدرسته وأتباع دعوته كبيرهم

ص: 224

وصغيرهم وهي على طلاب العلم وأهل الرأي والفكر أظهر. وإذا خاطب خصومه أو من يرجو إجابتهم لدعوته ذكرهم بأسمائهم أو وظائفهم وكذا في رسائله، وإذا خاطب أتباعه وتلامذته دعاهم بالإخوان، فهذه طريقته في كتاباته ورسائله. فهو لما كتب للعلماء ومطاوعة نجد والشام والعراق واليمن والحرمين الشريفين لم يعبر لهم بكلمة الإخوان. ولكنه لما كتب إلى أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بن سعود قال:"من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخوين أحمد بن محمد وثنيان "1 ثم قال: "فقد ذكر لي أن بعض الأخوان تكلم في عبد المحسن الشريف"2

وقال في الرسالة التي بعث بها إلى إخوانه وأنصاره في سدير: "من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان"3 ثم قال في رسالته وننصح إخواننا"4

وهو إذا كتب لأتباعه عامة عبر بهذه الكلمة "الإخوان" فقد صدر إحدى رسائله العامة يقول: "من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من الإخوان، المؤمنين بآيات الله المصدقين لرسول الله التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله والتابعين لهم بإحسان وأهل العلم والإيمان المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان الصابرين على الغربة والامتحان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:"5

أما رسالته التي بعث بها إلى إخوانه عبد الله بن علي ومحمد بن جماز من علماء القصيم فقد صدرها باللقب نفسه: "الإخوان" وزاد عليها عبارات في تأكيد معنى المؤاخاة والمعاداة ومكانتها في الدين.

وهذا النص في هذه الرسالة من إمام هذه الدعوة يدل على مقام الموالاة

1 الرسائل الشخصية ص 284.

2 الرسائل الشخصية ص 284.

3 الرسائل الشخصية ص 296.

4 الرسائل الشخصية ص 296.

5 المرجع السابق، ص 270.

ص: 225

والمعاداة من الدين في نظره وأهميتها في قيام حركته الإصلاحية والموالاة تقتضي المحبة والتأييد والمناصرة بالقول والفعل والجهاد وإظهار ذلك والعمل على وفقه وقد قرر هذا المعنى في مواضع كثيرة من مؤلفاته ورسائله وكتبه ومنهاجه التربوي.

وكان من ثمار هذه الدعوة الإصلاحية إحياء روح الأخوة الإسلامية بما تقتضيه من محبة ونصح وإرادة الخير والتأييد والمناصرة في القول والفعل وإظهار ذلك دينا يتقرب به إلى الله، وفي المقابل معاداة ومقاطعة أعداء الله وبعضهم وإعلان العداوة لهم والمظاهرة عليهم طاعة لله. وبذلك تحقق إيجاد مجتمع متآخ متحاب متعاون رابطته على الحب في الله والبغض فيه في صورة حية فاعلة وبالتالي إقامة مجتمع إسلامي نظيف في ظله الفضيلة وتختفي الرذيلة وتسود فيه المحبة.

1-

تنشيط الحركة العلمية:

إن العزلة التي عاشتها منطقة نجد ووسط شبه جزيرة العرب قبيل الدعوة الإصلاحية عن العالم الإسلامي كان من إفرازاتها الواضحة تقلص المدارس العلمية في هذه المنطقة شيئا فشيئا وعزوف الطلاب عنها ونقص العلم من أطرافه بموت العلماء وانكماش طلابه وكساد سوقه وعدم تقدير الناس لأهله كما يجب لهم، إلى جانب انعدام المجتهدين اجتهادا مطلقا أو مقيدا وندرة المجتهدين في المذهب بل حتى في المسائل حتى صار يعد في المنطقة الكاملة من مناطق نجد العالم والعالمان فقط.

ولما قامت هذه الحركة الإصلاحية كان منطلقها من حلقة العلم في رحاب المساجد. وقد كثر طلاب هذه المدرسة الإصلاحية التي لم تقتصر مهمتها على حفظ ما في الكتب أو فهمه فحسب بل تجاوزته إلى تطبيق العلم في واقع الحياة وإقامته عملا ماثلا في تصرفات المؤمنين بهذه الدعوة.

وقد حفزت هذه الحركة الإصلاحية بما صار لها من أنصار وخصوم وما دار بين الفريقين من مناظرات علمية فيما كان محل خلاف بينهما وبانقسام المجتمع في بداية

ص: 226

الدعوة إلى فريقين متمايزين كل منهما يدعوا إلى تأييد موقفه والاستنصار بأتباعه والموافقين له حتى صار في المعركة العلمية أطراف من داخل جزيرة العرب وخارجها حفزت الناس على طلب العلم وفتحت الحركة الإصلاحية في نجد صدرها لطلاب العلم من كل الأقاليم وشجعتهم وآوتهم وخصصت لهم ما يعينهم على طلت العلم ووسعت نطاق هذه المدرسة وعددت حلقاتها وصار لأتباعها رسالة لا يألون جهدا في نشرها بواسطة التعليم والتعلم والمناظرة والرسائل ومجالس العلم وتعليم العامة ما يلزم كل فرد في أداء فرائض دينه.

وأول مبادئ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب العلم بما يتضمنه من تعلم وتعليم قال في أول كتاب "ثلاثة الأصول""اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل الأولى العلم وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة"1

وقد أكد على البدء في الدعوة بالعلم قبل القول والعمل فأورد إحدى ترجمات الإمام محمد بن إسماعيل رحمه الله صاحب الصحيح بقول: "قال البخاري رحمه الله تعالى "باب العلم قبل القول والعمل" والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} قال فبدأ بالعلم قبل القول والعمل" وذلك لأن تعليم العلم فرض مقدم على القول والعمل وذلك أن صحة العمل تتوقف على العلم الصحيح.

والواقع العملي لهذه الدعوة الإصلاحية أن طالب العلم هو محل عنايتها ورعايتها تقدم له المساعدات وتوضع له المخصصات وتسند إليه المهام الدينية والوظائف المهمة وقد ذكر ابن بشر رحمه الله في ترجمته للإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود العناية بالعلماء والقضاة وغيرهم فقال: وكان رحمه الله تعالى مع ذلك كثير العطاء والصدقات للرعية من الوفود والأمراء والقضاة وأهل العلم وطلبته ومعلمة القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد حتى أئمة مساجد نخيل البلدان ومؤذنيهم ويرسل قهوة لأهل القيام في رمضان وكان الصبيان من أهل الدرعية إذا خرجوا من عند المعلم

1 حاشية ثلاثة الأصول للشيخ عبد الرحمن بن قاسم ص 9-15.

ص: 227

يصعدون إليه بألواحهم ويعرضون عليه خطوطهم فمن تحاسن خطه منهم أعطاه عطاء جزيلا وأعطى الباقين دونه"1 بل تجاوز الأمر مجرد العطاء المقطوع إلى تخصيص رواتب ومخصصات لطلاب العلم، يقول الشيخ عثمان بن بشر رحمه الله في ترجمته له:"وكان كثيرا ما يكتب لأهل النواحي بالحض على تعلم القراء ة وتعلم العلم وتعليمه ويجعل لهم راتبا في الديوان. ومن كان منهم ضعيفا يأمره بأن يأتي إلى الدرعية ويقوم بجميع نوائبه"2

وبهذه العناية أقبل الناس على طلب العلم تعلما وتعليما وممارسة في وظائف الدولة في القضاء والإفتاء والخطابة والإمامة بالمعروف والنهي عن المنكر وجباية الزكاة وقيادة الجيوش إلى غير ذلك فأغنوا هذه الحركة الإصلاحية بالكفاءات العلمية القادرة على حمل تبعات هذه الدعوة وضمان استمرارها فاعلة.

كما تركت لنا هذه المدرسة ثروة مهمة من الكتب في مختلف العلوم الشرعية والعربية مثلت رافدا حيويا في حياة هذه الأمة يعطى صورة واضحة عن هذه المدرسة الإصلاحية وثمارها يعد ثمرة عظيمة من ثمار هذه الحركة الإصلاحية.

1-

إحياء روح التكافل الاجتماعي:

إذا كان مبدأ التكافل الاجتماعي بشقيه المادي والأدبي قبيل الدعوة الإصلاحية في نجد قد ضعفت إلى درجة شديدة وانحصر في نطاق محدود في ظل الانقسامات والفرقة التي تكرست في تلك المنطقة لانعدام السلطة القادرة على تحقيق الوئام ورعاية المصالح فإن من الثمار العظيمة التي أفرزتها حركة الإصلاح هذه أنها قامت على وجوب معرفة الحق واتباعه ومعرفة الشر تركه والانصراف وتكوين وسط اجتماعي متراحم في أمور الدين والدنيا معا.

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 129.

2 المرجع السابق ج 1ص 130.

ص: 228

وهذه في مجال تحقيق التكافل الاجتماعي والأدبي عملت على نشر العلم الشرعي تعلما وتعليما وإقامته في حياة أتباعها عملا معاشا فما عرف من الشرع حسنه وقصد الشارع إليه عملوا على الأخذ به وتثبيته في واقع الحياة وأمروا به الناس وألزموا العامة به قدر المستطاع. وما عرف من الشرع قبحه والقصد إلى تركه تركوه جملة ونهوا عنه وألزموا الناس بالكف عنه. ولذا كان من أهم ما قامت عليه هذه الحركة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو باب واسع يتحول بالممارسة والاعتياد إلى عرف عام ورباط اجتماعي أدبي تنموا في ظله الفضيلة وتختفي منه الرذيلة ويتكون به مجتمع حي نظيف ينمي الخير ويرفض الشر منازلهم في الحياة بمقدار منزلتهم من الدين علما وعملا واهتمام هذه الحركة الإصلاحية بهذا الأمر أشهر من أن يذكر إذ يكررونه في كل مناسبة من كتبهم ورسائلهم وموقفهم العامة والخاصة وفي مجموعة رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب أكثر من خمس عشرة رسالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أن رسائله كلها لا تخلو من التنويه بهذا المبدأ ودعوة الناس للأخذ به وإعلانه في مجتمعاتهم.

أما في مجال التكافل المادي فإن هذه الدعوة قد اهتم قادتها برعاية المساكين والمحتاجين والفقراء وتقديم المساعدات المتكررة لهذه الفئات الاهتمام بجباية الزكاة في الثمار وبهيمة الأنعام وعروض التجارة وصرفها في مصارفها الثمانية التي حددتها آية التوبة إلى جانب الصدقات العامة وتوفير فرص العمل وتأمين الطرق لتحقيق انتشار الناس في الأرض وسعيهم في طلب الرزق الحلال والضرب في سبيل الله وإلزام القادرين على النفقة على الفقراء من أقاربهم حسبما قرره الفقه الإسلامي وأخذ الحق لهم من الأقوياء بصورة كاملة ودائمة ومنع ظلمهم بقوة السلطان وإحياء وازع الضمير في تحقيق التراحم بين أفراد المجتمع وبيان فضل الإحسان إلى الأيتام والفقراء والمساكين والضعفاء وأبناء السبيل وأصحاب الحمالات وإشعار الأغنياء أن في أموالهم حقا غير الزكاة وأن الزكاة الواجبة هي الحد الأدنى لا يجوز قبول أدنى منه وأن السخاء والكرم والجود ابتغاء مرضاة الله يقتضي بألا يبيت مسلم وجاره جائع.

ص: 229

وبهذه الأمور مجتمعة وغيرها في ظل هذه الدعوة الإصلاحية تكافل اجتماعي مادي وأدبي بعد ثمرة طيبة من ثمار هذه الحركة الإصلاحية امتدت آثارها أزمانا طويلة تحققت في ظلها أخوة الدين وتراحم المجتمع ورفع كثير من معاناة فئات كثيرة من المجتمع وأقامت مجتمعا يقظا البنية يرفض وأخذ بأسباب العافية في الدنيا والآخرة.

1-

كان أسباب تدهور الحياة الاقتصادية في منطقة نجد وما حولها قبل الدعوة الإصلاحية فيها انعدام الأمن وانقطاع السبل وغارات الناس بعضهم على بعض وتعرض الثمار للنهب وقطع أصول الأشجار المثمرة كالنخل وغيره وندرة العملة في أيدي الناس بحيث أصبح كل مزارع أو صاحب حرفة يعتمد على مجهوده الشخصي وأولاده فقط إذ لا يستطيع أن يؤجر من يعينه في مزرعته أو حرفته حتى يوسع إنتاجه بل قل من يشتري الإنتاج كذلك زراعيا كان أو صناعيا.

ولما قامت هذه الحركة الإصلاحية وضعت نصب عينها إقامة قيادة سياسية مؤمنة قادرة على توطيد الأمن وتأمين السبل وحفظ الأموال في أيد أربابها من غارات الأعراب وهجمات اللصوص وقطاع الطرق، وإقامة مبادئ الدين في مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية. وبدأت هذه الدعوة تسعى في تحقيق أهدافها مبتدئة بالأدنى فالأدنى حتى توسعت آثارها فشملت معظم شبه جزيرة العرب من سواحلها الشرقية إلى سواحلها الغربية. وتحقق في ظل تلك الحركة من الأمن وحفظ الحقوق وإيقاظ الوازع الديني المعطاء ما جعل المنطقة في أفضل وضع يمكن من نمو الحياة الاقتصادية في جوانبها المختلفة.

ففي مجال الزراعة أمن الناس على محاصيلهم ووسعوا من ناحية مزارعهم واستعانوا بجهود غيرهم في تنشيط زراعتهم وتحقيق عائدات أكبر ووجدت لتصريف ما يزيد على حاجتهم بأقيام مناسبة.

ص: 230

وفي مجال الحرف والصناعات المحلية: نشط الصناع في إنتاج ما يحتاجه الناس في حياتهم اليومية في مجال الزراعة والنسيج وصنع الأواني إذ صارت تدر عليهم أرباحا مناسبة لشدة الحاجة إليها وعدم وجود البدائل المستوردة وتوسعت حاجة المجتمع في كل هذه الحاجات فكانوا يأخذون بهذه الصناعات في كثير من الأحيان عروضا للمزارع من منتجاته والتاجر من بضائعه وصاحب النقد بالنقد. وما لم يستطع بيعه في مقر إقامته صار يبعث به إلى الأسواق المحتاجة ولا يخشى أحدا في طريقه أو محل ترحاله. والتجارة التي توقفت أو كادت إلا في شكل حملات كبيرة جدا في فترات متباعدة وبرفقة أعداد كبيرة من الرجال المسلحين، لما توافر لها الأمن والأمان في السبل والمورد والمصدر وتوافرت الأسواق المفتوحة والتجارات الرابحة بدأت تدب فيها الحياة شيئا فشيئا حتى انفتحت لها آفاق الازدهار بما تحقق من تأمين السبل للأسواق وتوفر أسباب الامتداد الحر للضرب في الأرض وبذلك حيت أسواق التجارة وازدهرت في كبريات مدن البلاد التي أظلتها هذه الحركة الإصلاحية. ولما سدت أبوب الرزق الحرام في هذه البلاد بمنع قطع الطريق والغارات والسطو والنهب والسلب. وفتحت أبواب الزرق الحلال المتمثلة في الزراعة والصناعة والحرث وأنواع التجارة والوظائف العامة والمقررات السنوية أو الشهرية لبعض العاملين في مصالح الناس. كل ذلك تآزر في نمو الحياة الاقتصادية وازدهارها وإيجاد القناعة والغناء بهذه الأبواب الحلال عن الكسب الحرام. فكان ذلك ثمرة من ثمار هذه الحركة الإصلاحية تحقق في ظلها نمو القوى البشرية، وتحقق قدر من السعة للفرد لم يكن متوفرا له من قبل، وصار الناس يبحثون عن مزيد من الرخاء والرفاه للإنسان في ظل دولة إسلامية منيعة الجانب حارسة للدين محققة للعدل.

وقد وصف الشيخ ابن بشر الدرعية قبل أن يدخلها الشيخ إبراهيم باشا ويهدمها فقال: "كانت قوة هذا البلد وعظم مبانيها وقوة أهلها وكثرة رجالها وأموالها لا يقدر الواصف صفتها ولا يحيط العارف بمعرفتها فلو ذهبت أعد رجالها وإقبالهم فيها وإدبارهم في كتائب الخيل والنجائب العمانيات وما يدخل على أهلها من أحمال الأموال من سائر الأجناس التي لهم مع المسافرين من أهلها ومن أهل الأقطار لم يسعه

ص: 231

إلا أنه مع كل ما بذلت من جهد وكل ما أملت من نجاح في هذه الدراسة سيوجد فيها القصور والنقص الذي هو من صفات البشر وهي محاولة متواضعة مني في طريق صعب أرجو من القارئ الكريم أن يغفر الزلة وأن ينبه عن مواطن القصور وأن يقدم لي المشورة لتلافي أي نقص أو قصور أو خطأ في الطبعة القادمة إن شاء الله.

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، وأن ينفع الله به كاتبه وقارئه والمساهم في نشره وتوزيعه، والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 233

‌النتائج الاجتماعية والاقتصادية

كتاب ولرأيت العجب العجاب وكان الداخل في موسمها لا يفقد أحدا من أهل الآفاق من اليمن وتهامة والحجاز وعمان والبحرين وبادية الشام ومصر وأناس من حاضرتهم إلى غير ذلك من أهل الآفاق ممن يطول عددهم هذا داخل فيها وهذا خارج منها وهذا مستوطن فيها"1

هذه أهم الآثار والنتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسة الموجزة عن حركة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث على يد الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهي آثار ونتائج كثيرة وكبيرة ومهمة مع أنها قليل من كثير مما يمكن استخلاصه من هذه الحركة الإسلامية الأصيلة التي تعتبر رائدة حركات الإصلاح الإسلامي في هذا العصر.

وهي حركة إسلامية يمكن الاستفادة الواعية من دروسها في تنشيط الدعوة إلى الله في الحاضر والمستقبل وإصلاح الحياة العامة في المجتمعات الإسلامية متى درست دراسة متأنية فاحصة وأخذت منها الدروس والعبر والفقه في الدعوة وجدد في وسائلها وطورت أساليبها وروعي فيها مستجدات العصر ومتغيراته ووسائله. وهي دعوة قادرة على أن تقف في وجه الدعوات المعادية للإسلام والعقيدة السلفية الصافية بكل إباء وشمم متى أخذت على وجهها بكل صدق وإخلاص طاعة لله وابتغاء لمرضاته وحماية لدينه وتحقق في القائمين عليها الصدق والإخلاص والمتابعة.

ولقد بذلت في هذه الدراسة كل ما أستطيع من جهد ووقت وحاولت بلوغ الغاية في إبراز أصالة هذه الدعوة وريادتها وصدق توجهها وصفاء مشربها وإخلاص رجالها وشرح ما أمكن من أحوالها ومنهاجها التربوي وموقف المعارضة منها وآثارها ونتائجها.

1 عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر ج 1ص 216.

ص: 132