الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم من مرّ من ميقات إلى ميقات آخر ثم أحرم منه
نص المسألة:
((هل يجوز تجاوز الميقات دون إحرامٍ أو تلبيةٍ، أو تلبسٍ بالنسك، إلى ميقاتٍ آخر، ثم الإحرام منه، والتلبس بالنسك على الوجه الشرعي)).
مثاله: قدم قاصد البيت بحج أو عمرة أو عمل، ثم الحج أو العمرة، وعند الميقات لم يحرم، ولم يتلبَس بالنسك عامداً، ثم تجاوز الميقات لأمر ما، كأن تعطلت سيارته، فتجاوزه لإحضار قطعة غيارٍ لها، أو لإحضار دواءٍ، أو لأي سببٍ كان، ثم جاء ميقاتاً آخر، وأحرم منه وشرع بالنسك، فهل على من فعل هذا شيء؟
قلت: لو أن قاصداً تجاوز الميقات لسبب ما، ثم عاد إلى الميقات نفسه فهل عليه من شيء؟ ! .
لاشك أنه ليس عليه شيء، لكن لمن تدبّر وتأمّل، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وكذلك الأمر سواء لو رجع إلى ميقات آخر فأحرم منه.
روى الإمام الشافعي عن عطاء بسندٍ صحيحٍ أنه قال: ((من أخطأ أن يُهلّ بالحج من ميقاته، أو عمد ذلك، فليرجع إلى ميقاته فليهلّ منه)).
ولم يوجب عليه دماً إلا إذا أحرم بعد التجاوز، قال الإمام الشافعي معقباً:((وبهذا نأخذ)) (1).
قال شيخ الاسلام -نقلاً عن الإمام أحمد-:
((وإذا دخل مكة بغير إحرام: فإن كان عليه وقت وأراد الحج، رجع إلى الميقات، فأهلّ منه، ولا دم عليه، ثم قال: لأنهم قد أتوا بالواجب، وتلك المجاوزة ليست نسكاً فلا وجه لإيجاب الدم)) (2).
(1) الأم 1/ 139.
(2)
شرح العمدة 1/ 359.
وقال ابن قدامة الحنبلي:
((من جاوز الميقات مريداً للنسك غير محرم، يجب عليه أن يرجع إلى الميقات، فيحرم منه فإن رجع إليه فأحرم منه فلاشيء عليه)) (1).
وقال الصنعاني:
((وقال الجمهور -فيمن تجاوز من غير إحرامٍ-: لو رجع إلى الميقات قبل التلبس سقط الدم)) (2).
قلت: إذا عُرف هذا، وفُهم ما قد سلف من المقصود من المواقيت، وأن ليس لها قدسية في ذاتها، وأنها للإحاطة والإعلام، عُرف: أنه لو تجاوز متجاوزٌ فسواء عليه أرجع إلى ميقاته، أو إلى ميقات آخر ثم أحرم منه، فلاشيء عليه.
وذلك لانعدام الدليل على وجوب رجوع المتجاوز إلى الميقات نفسه الذي تجاوز منه (3).
(1) المغني 3/ 221 من الشرح.
(2)
حاشية على العمدة 3/ 358.
(3)
رغم أن الكتاب مؤلف من عشر سنوات لم يأت أحد بدليل على منع ذلك؟ ! ؟
قال شيخ الاسلام:
((وإنما فائدة التوقيت: وجوب الإحرام من هذه المواقيت)) (1).
وعلى هذا: فمن أحرم من هذه أو من تلك، أو تجاوز هذه إلى تلك، كل ذلك سواء، إذ المقصود: أن لا يتجاوز القاصد هذا المحيط في آخر دخول له إلا محرماً من أي نقطةٍ شاء.
وقد ثبت أن ابن عمر أحرم من ((الفُرع)) وأحرمت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما من ((الجحفة)) (2) ولا يمكن لأهل المدينة الإحرام من
(1) شرح العمدة 1/ 339.
(2)
الفرع: قرية من نواحي المدينة عن يسار ((السقيا)) بينها وبين المدينة ثمانية بُرُد على طريق ((مكة)) والبريد: أربعة فراسخ، والفرسخ: 5 كم تقريباً (منار السبيل 1/ 134) فيكون البريد 20 كم فتكون الفرع تبعد عن المدينة 160 كم على طريق مكة ولا يمكن لقاصد أن يحرم منها إلا بعد مروره بما يحاذي ((ذا الحليفة)) وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك كان من ابن عمر بعد عودته من الحج ليأتي بعمرة .. ونصره صاحب: ((المسائل المشكلة)) عليه، ولكن هذا الذي ذهبوا إليه مجرد ظن ليس عليه دليل سوى التأويل، ثم لو فرضنا صحة هذا التوجيه. فلماذا أحرم ابن عمر منه تخصيصا. وقدر مر بعد رجوعه من الحج -على زعمهم- بالجحفة أو بما يحاذيها، وإذا كان ابن عمر لا يرى الإحرام للعمرة بعد الحج إلا من الميقات، لكان أحرم من الجحفة أو مما يحاذيها، أو رجع إلى (ذي الحليفة)) مما يدل على عدم صحة هذا التوجيه إلا أن يثبت في الرواية ذلك.
هذين المكانين إلا بعد مجاوزة ((ذي الحليفة)) أو مجاوزة محاذاتها، ويعني هذا: أنهما انتقلا من ميقاتٍ إلى محاذاة ميقات آخر، والمهم أنهما لم يخترقا محيط المواقيت إلا محرمين؛ لأن الانتقال من ميقات إلى ميقات من غير إحرام، ولا عقد للنية -ولو كانت في نفسه- لا يعد تجاوزاً.
وإذا كان هذا جائزاً براً، فمن باب أولى جوازه جواً.
وقال الإمام مالك في رواية: ((ومن مرّ من أهل الشام ومصر ومن وراءهم بذي الحليفة، فأحب أن يُؤخّر إحرامه إلى ((الجحفة)) فذلك له واسع)) (1).
وكذا قال ابن مفلح الحنبلي عن الشامي يتجاوز ((ذا الحليفة)) إلى ((الجحفة)) ونقل ذلك عن عطاء ومالك وأبي ثور، ثم قال: ويتوجّه لنا -أي الحنابلة- مثله)) (2).
وهذا الذي عليه الأحناف (3).
(1) المدونة 1/ 330.
(2)
الفروع 3/ 275.
(3)
فتح القدير لابن الهمام (2/ 425).
قلت: إذا جاز للشامي، جاز لكل مسلمٍ مر من هناك، فإن هذه المواقيت لم تخصص لأهل هذه البلدان تعبداً، إنما ارتبط ذكر هذه الأمصار مع بعض المواقيت على سبيل الغلبة، فإن غالب الناس -من قبلُ- كانوا يلتزمون طرق بلدانهم.
وإذا جاز التجاوز من ذي الحليفة إلى الجحفة رغم أنها أقرب إلى مكة من ذي الحليفة، فمن باب أولى جواز ذلك من قرن إلى يلملم، ومن يلملم إلى جدة، وهي متساوية المسافة، والتفريق بين أهل البلدان غير وارد، كأن يقال: يجوز لشامي ولا يجوز لنجدي، ويجوز بين هذين الميقاتين ولا يجوز بين تلك، إذ العبرة ومناط الحكم: المرور من تلك الجهة، لا أن هذا شامي وهذا مصري، وإلا فمن هو الشامي؟ هل هو الذي ولد بالشام؟ ! أم الذي يقيم بالشام؟ أم الذي يحمل جواز الشام؟ أم ماذا؟ ! (1).
(1) أعتذر للقراء الكرام عن ذكر هذه البديهات، التي لا يليق بطالب علم ذكرها لوضوحها، ولكن عفا الله عمن سبَّب ذلك، فرغم كل هذا الوضوح عقب الدكتور صاحب (المسائل المشكلة) عليه، بما يستحي الإنسان من ذكره
…
إذ أكد أن تخصيص المواقيت بأهل البلدان كان تعبداً .. فهل يعني هذا، أن الشامي إذا مر من نجد عليه أن يعود ليحرم من ذي الحليفة .. ! ؟ ياسبحان خالق الأفهام، نعم هذه = =المواقيت تعبدية من حيث وجوب الإحرام منها لمن مر بها، ولكنها ليست تعبدية من حيث بلدان الناس، وجنسيات الناس .. فاللهم وسع مداركنا.
وهب أن يمنياً أو نجدياً كان مع شاميّين، وأرادوا مجاوزة ((ذي الحليفة)) إلى ((الجحفة)) فهل يقال للشاميّين: يجوز لكم، ولليمنيّين، أو النجديّين: لا يجوز لكم، وإذا كان نجدي يحمل جواز الشام، فماذا يقال له؟ .
إن تعليق المواقيت بأهل البلدان تعبّداً، غير مقبول ولا معقول، ولا يقوله متأمّل.
قال النووي:
((قال أصحابنا: ومتى جاوز موضعاً يجب الإحرام منه غير محرم أثم، وعليه العود إليه والإحرام منه (1) إن لم يكن له عذر، فإن كان عذر،
(1) يجب -حتى تكون المسألة واضحة- التفريق بين من أراد الحج أو العمرة ثم أتى الميقات وليس لديه نية في الانتقال إلى ميقات آخر، أو تأخير النسك .. فهذا وجب عليه الإحرام، وإذا لم يحرم أثم، وإن أحرم بعده فعليه دم، وهذه مسألة متفق عليها، وهي غير مسألة من قدم الميقات فنوى تأخير الإحرام، ثم تجاوز غير عاقد للنية، ثم رجع إلى الميقات نفسه أو إلى ميقات آخر، فهذه مسألة مختلف عليها عند أهل العلم، والراجح جواز ذلك، وليس عليه شيئ، كما فصلنا في المتن، فهاتان مسألتان منفصلتان فمن لم يتنبه للفرق بينهما وقع في الغلط والخطأ.
كخوف الطريق، أو انقطاع عن رفقته، أو ضيق الوقت، أو مرض شاق، أو أحرم من موضعه ومضى وعليه دم إذا لم يعد فقد أثم بالمجاوزة، ولا يأثم بترك الرجوع، فإن عاد -إلى الميقات- فله حالان:
أحدهما: يعود قبل الإحرام فيحرم منه، فالمذهب الذي قطع به المصنف والجماهير: لا دم عليه، سواء كان دخل مكة أم لا (1).
قلت: إنما أثِمَ لأنه تجاوز وقد وجب عليه الإحرام إذ لا يجوز له الإحرام بعد التجاوز فإن رجع إليه، أو إلى ميقات آخر، فالأمر سواء، وليس عليه شيء.
لأن المقصود -كما سبق- عدم تجاوز حدود الميقات بغير إحرام، ولا فرق بين من أحرم من الشرق وهو من أهل الغرب، ولا بين من أحرم من الغرب وهو من أهل الشرق.
ومن فرّق فقد أبعد النجعة، فليس هناك تعبد في الجهة، وقد فُصّل القول في الأصل.
(1) المجموع 7/ 206.
وقال الهيتمي:
((فإن تجاوزه بغير إحرامٍ، فالأقرب أنه إن أحرم من مثله فلا دم عليه)) (1).
قلت: هذا هو الصواب.
لأن قوله: ((أحرم من مثله)) -أي: من ميقات آخر يساويه في المسافة- إشعار بجواز مجاوزة الميقات إلى ميقات آخر، والإحرام منه. وهو عين مسألتنا.
وقد يشكل على بعضهم أمور:
الأول: ظنهم وجوب الإحرام من نفس ميقات بلده، وقد أجبنا عن هذا، وأنه لا يلزمه ذلك.
الإشكال الثاني: كيف يجوز للقاصد تجاوز الميقات والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
«هُنّ لهنّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن
…
».
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع في هذا الحديث تجاوز الميقات إلى ميقات آخر، وإنما أوجب الإحرام من الميقات، ومنع تجاوز المواقيت
(1) شرح المنهاج 4/ 40.
دون إحرام، فمن تجاوز ميقاتاً إلى ميقات ثم أحرم منه، فقد حقق المقصود من الحديث، ولم يتجاوز المواقيت إلا محرماً.
وللمسألة تفصيل في الأصل فلتراجع.
الإشكال الثالث: كيف يتجاوز وهو ناوٍ للنسك؟ !
قبل الإجابة على هذا: لابد من التفريق بين من يتجاوز ثم يحرم -وهذا مُحرّم- وبين من يتجاوز إلى ميقات آخر ثم يُحرم منه.
ثم يقال: لاشك أنه ناوٍ للنسك، ولكنه لم يعقد النيّة، بل أخّرها، ومن فرّق بين عقد النيّة وتأخيرها، أراح واستراح، ومثل هذا كمثل من نوى أن يصلي، ثم أخّر النيّة أو نوى فعل أمرٍ ثم أخّره، فلا يلزمه شروطه، ولا تجب عليه أحكامه، إلا إذا عقد النية، وباشر العمل، وتلبس بالعبادة.
ويوضح ذلك المثال التالي:
إذا قدم قاصد الميقات، وأراد تأخير النسك، فهل يجوز له ذلك؟ !
بالإجماع يجوز له ذلك، فإذا أخّره فهل يجوز له الأخذ من أظافره وشعره؟ بالإجماع (1) يجوز له ذلك، فإذا أراد أن يتجاوز الميقات لأمرٍ ما، ولمّا يتلبّس بالنسك -أي: لم يُحرم- فهل يجوز له ذلك؟ لاشك أن ذلك جائز له؛ لأن هذه المجاوزة التي قبل التلبس، ليست من النسك في شيء، فإذا تجاوز إلى ميقاتٍ آخر ثم أحرم منه، فما المانع من ذلك؟ مادام أصل التجاوز مباحاً له، فهب أن قاصداً قدم من اليمن فلما بلغ الميقات، أُخبر أن أمه بالمدينة تحتاج إليه، أو لسبب آخر، وانتقل إلى المدينة بلا إحرام ولا تلبس بالنسك، ثم أحرم مع والدته من ذي الحليفة فهل عليه شيء؟ لا شك أنه ليس عليه شيء.
(1) زعم بعض الرادين على هذه الرسالة في ((المسائل المشكلة)): أن ذكري للإجماع هاهنا غير صحيح .. وياليته أتى بعالم واحد في الدنيا كلها، قال: أنه لا يجوز لقاصد تأخير الإحرام = =وتأخير الدخول في النسك. فهل إذا أتى قاصد الميقات، وأخر الإحرام ساعة أو ساعتين، أو رجع إلى مكان آخر ليستريح هناك يومًا أو يومين .. فهل هذا محرَّم يادكتور .. ومن حرَّم هذا؟ ولعله اختلط على الدكتور مسألة تجاوز الميقات، مع مسألة تأخير الإحرام والدخول في النسك، ولو تنبه لهذا لما أرغى وأزبد واتهم.
وقد وقفت على فتوى لسماحة شيخنا عبد العزيز بن باز في كتيب ((فتاوى الحج والعمرة)) تُؤيّد هذا الرأي، وإليك نص السؤال والفتوى:
السؤال: موظف قد عزم على الحج، لكن له أعمال في الطائف، يتردّد من أجلها بين الطائف وجدة بغير إحرام.
الجواب: لا حرج في ذلك؛ لأنه حين تردّده لم يقصد حجاً ولا عمرة، وإنما أراد قضاء حاجته، لكن من علم في الرجعة الأخيرة من الطائف أنه لاعودة إلى الطائف قبل الحج، فعليه أن يحرم من الميقات بالعمرة أو الحج.
أما إذا لم يعلم ثم صادف وقت الحج، وهو في جدة، فإنه يحرم من جدة بالحج ولاشيء عليه)) (1).
(1) فتاوى الحج والعمرة ص (
…
).
من أي مكان من «جدة» يحرم القاصد وقد أصبحت مدينة كبيرة؟ .
يحرم القاصد من «جدة» من المكان الذي ينزل فيه، وتطؤه قدمه، سواء كان ميناء جوياً أو برياً.
وإن تجاوزه قليلاً إلى فندق قريب فلا بأس؛ ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقّت للقاصدين خطاً مستقيماً، ونقطة دقيقة صغيرة، بل وقّت لهم جبلاً ووادياً وقرية، وبدهي أن لهما مساحة وعرضاً، وأنه يجوز للقاصد التحرك في الميقات والإحرام من أي مكان منه شاء، كما أن التسامح في بعض الأكيال وارد، إذ أن عمر رضي الله عنه لما حدّ «ذات عرق» لم يقسها بالأذرعة والأشبار، وإنما كانت المسألة تقريبية.