المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر كلام المانعين: - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر:

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة:

- ‌ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحدللوقت الواحد

- ‌(وجهة نظر)

- ‌التأمين

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌التأمين التعاوني:

- ‌ التأمين التجاري:

- ‌ تأمين الأضرار والأشخاص

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ (بوليصة التأمين) :

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌ ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة:

- ‌ذكر كلام المانعين:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة

- ‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

- ‌ عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم

- ‌ عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين

- ‌ التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌ أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة:

- ‌ قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق:

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة

- ‌ كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

- ‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

- ‌ التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌ الاستدلال على جوازه بالعرف:

- ‌ الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:

- ‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

- ‌خلاصة الأمر الثاني:

- ‌تمهيد:

- ‌بحث في البيوع

- ‌ بيع العينة والتورق:

- ‌آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب] :

- ‌ النووي في [روضة الطالبين] :

- ‌ ابن قدامة في [المغني] :

- ‌ محمد بن مفلح في [الفروع]

- ‌ شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى]

- ‌ ابن القيم في [إعلام الموقعين]

- ‌مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌ صاحب [المغني]

- ‌ محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار]

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌كيفية الإمساك والإفطار فيرمضان وضبط أوقات الصلاةفي بعض البلدان

- ‌ ذكر النقول مع الأدلة

- ‌ الكمال بن الهمام في [فتح القدير]

- ‌ الزيلعي في شرحه على [الكنز]

- ‌ ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار]

- ‌ الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل]

- ‌ حسنين مخلوف في [الفتاوى] :

الفصل: ‌ذكر كلام المانعين:

الثاني:‌

‌ ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة:

اختلف الباحثون من الفقهاء في حكم عقد التأمين التجاري:

فمنهم: من منعه مطلقا، ومنهم: من أجازه مطلقا، ومنهم: من فصل في ذلك، وفيما يلي ذكر ما قيل في ذلك من الأدلة والمناقشة:

‌ذكر كلام المانعين:

ا- قال الباجي: ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته. روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك، ولا أفسخه إن وقع، وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ، وقال ابن القاسم عن مالك: لا يجوز إذا قال: لا ينفق عليه حياته (1) .

2 -

قال ابن عابدين: وسئلت في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبا من مراكب أهل الحرب؛ لحمل بضائعهم وتجاراتهم، ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة، وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة لحفظ البضاعة، بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها، وأنه إن أخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا كذلك ودفع له مبلغا تراضيا عليه، على أنه إن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامنا لجميع ما يأخذونه، فسافر بمركبه، فأخذه منه

(1)[المنتقى](5\41) .

ص: 81

بعض القطاع في البحر من أهل الحرب، فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه وضمانه بالعوض أم لا؟

فأجبت: الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان؛ لأن ذلك المراكبي أجير مشترك، والخلاف في ضمان الأجير المشترك مشهور، والمذهب: أنه لا يضمن ما هلك في يده، وإن شرط عليه الضمان فيما في يده كما في [التنوير] ، ثم إذا هلك ما بيده بلا صنع منه ولا يمكنه دفعه والاحتزاز عنه؛ كالحرق والغرق وخروج قطاع الطريق والمكابرين لا يضمن بالاتفاق، لكنه في مسألتنا لما أخذ أجرة على الحفظ بشرط الضمان صار بمنزلة المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة، فإنها إذا هلكت يضمن، والفرق بينه وبين الأجير المشترك: أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، والحفظ واجب عليه تبعا، أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصود ببدل؛ فلذا ضمن، كما صرح بذلك الإمام فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير، وهنا لما أخذ البدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل فيضمن، لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا أو فيما يمكن الاحتراز عنه، والذي يظهر الثاني؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه، وقد صرحوا بأن إغارة القطاع المكابرين مما لا يمكن الاحتراز عنه، فلا يضمن في صورتها، حيث كان أخذ البضاعة من القطاع المكابرين الذين لا يمكن مدافعتهم، لكن ذكر في [التنوير] قبيل باب كفالة الرجلين، قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك وأخذ ماله لم

ص: 82

يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن، ضمن، وعلله في [الدر المختار] عن [الدرر] بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا. انتهى. أي: بخلاف المسألة الأولى فإنه لا يضمن؛ لأنه لم يصرح بقوله: فأنا ضامن، وهذا إذا كان المال مع صاحبه، وفي صورتنا المال مع الأجير وقد ضمن للمستأجر صفة السلامة نصا فيقتضي ضمانه بالأولى، وإن لم يمكن الاحتراز لكن الظاهر أن مسألة التغرير المذكورة مشروطة بما إذا كان الضامن عالما بخطر الطريق؛ ليتحقق كونه غارا وإلا فلا تغرير.

وسياق المسألة في [جامع الفصولين] في فصل الضمانات يدل على ما قلنا، فإنه نقل عن فتاوى ظهير الدين، قال له: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك، فأخذه اللصوص لا يضمن، ولو قال لو مخوفا: وأخذ مالك فأنا ضامن، والمسألة بحالها ضمن، فصار الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعارضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو، فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به - يضمن إذ غره في ضمن العقد، وهو يقتضي السلامة. انتهى، وحاصله: أن الغار يضمن إذا صرح بالضمان أو كان التغرير في ضمن عقد المعاوضة، وإن لم يصرح بالضمان، كما في مسألة الطحان، وقد صرح فيها بكون الطحان عالما بالنقب، وما ذاك إلا ليتحقق كونه غارا كما يشير إليه تسميته بذلك؛ لأن من لا علم له بذلك لا يسمى: غارا، فلو لم يكن العلم شرطا في الضمان لكان حقه أن يعبر عنه بالآمر لا بالغار.

ويؤيد ذلك أيضا أنه في [جامع الفصولين] نقل بعد ذلك عن

ص: 83

[المحيط] : أن ما ذكره من الجواب في قوله: فإن أخذ مالك فأنا ضامن مخالف لما ذكره القدوري: إن من قال لغيره: من غصبك من الناس، أو من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك -فهو باطل. انتهى.

فأجاب عنه في [نور العين] بقوله: يقول الحقير لا مخالفة أصلا، والقياس مع الفارق؛ لأن عدم الضمان في مسألة القدوري من جهة عدم التغرير فيها، بخلاف ما نحن فيه فافترقا.

والعجب من غفلة مثل صاحب [المحيط] ، مع ماله من فضل وذكاء البحر المحيط انتهى.

فقد أفاد أنه لا بد من التغرير، وذلك بكونه عالما بخطر الطريق، كما قلناه، ففي مسألتنا: إن كان صاحب المركب غر المستأجر بأن كان عالما بالخطر يكون ضامنا، وإلا فلا، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم.

لكن ينبغي تقييد المسألة بما إذا كان صاحب المال غير عالم بخطر الطريق؛ لأنه إذا كان عالما لا يكون مغرورا، لما في [القاموس] غره غرا وغرورا وغرة بالكسر، فهو: مغرور وغرير: خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو، وفي المغرب: الغرة بالكسر الغفلة، ومنه أتاهم الجيش وهم غارون، أي: غافلون، وفي الحديث (نهى عن بيع الغرور) والخطر الذي لا يدري أيكون أم لا، كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، فقد ظهر أن العالم بما قصد غيره أن يغره به لا يكون مغرورا، أرأيت صاحب البر لو كان عالما بنقب الدلو وأمره الطحان بوضعه فيه هل يكون مغرورا، بل هو مفرط مضيع لماله، لا أثر لقول الطحان معه.

ففي مسألتنا لا بد أن يكون الأجير عالما بخطر الطريق والمستأجر غير

ص: 84

عالم به فيضمن، وإن كان الأجير غير عالم أو المستأجر عالما فلا ضمان على الأجير لعدم تحقق التغرير، والله تعالى أعلم (1) .

(1)[مجموعة رسائل ابن عابدين] رسالة الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة (2\ 175- 177) .

ص: 85

3 -

وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ورد علينا خطاب من بعض العلماء المقيمين بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية، إلى أن قال: (ورد خطابكم تذكرون به أن المسلم يضع ماله تحت ضمانة أهل قومبانية السوكرتاه أصحابها مسلمون وذميون أو مستأمنون ويدفع لهم نظير ذلك مبلغا من الدراهم حتى إذا هلك ماله الذي وضعه تحت ضمانهم يضمنونه له بمبلغ مقرر بينهم من الدراهم، وتستفهمون عما إذا كان له شرعا أن يضمنهم ماله المذكور إذا هلك بحرق ونحوه أم لا يكون له ذلك، وعما إذا كان يحل له ما أخذه من الدراهم إذا ضمنوا له ما هلك من ماله أم لا يحل له ذلك، وعما إذا كان يشترط في حل ما يأخذه من الدراهم بدلا من ماله الهالك أن يكون كل من العقد وأخذ الدراهم المذكورة في غير دار الإسلام، فإذا هلك الموضوع تحت الضمان كان لصاحبه أن يأخذ الدراهم المقررة بدلا من ماله الهالك ويتسلمها في دار الإسلام من وكيلهم الذمي أو المستأمن فيها، وعما إذا كان يحل لأحد الشركاء أن يعقد ذلك بغير دار الإسلام وأن يأخذ بدل ماله الهالك أيضا في غير دار الإسلام ثم يعود بما أخذه إلى دار الإسلام أو يبعث به إلى شريكه أو وكيله بها أم لا يحل له ذلك أيضا.

وقلتم: إن ذلك مما عمت به البلوى في الديار التي أنتم بها الآن، وأنكم راجعتم ما لديكم من كتب المذهب فلم تقفوا على شيء تطمئنون به

ص: 85

في حكم ذلك.

وأجاب: أن المقرر شرعا أن ضمان الأموال إما أن يكون بطريق الكفالة، أو بطريق التعدي والإتلاف.

أما الضمان بطريق عقد الكفالة فليس متحققا هنا قطعا؛ لأن شرطه أن يكون المكفول به دينا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، أو عينا مضمونة بنفسها بأن يجب على المكفول عنه تسليمها بعينها للمكفول له، فإن هلكت ضمن له مثلها في المثليات وقيمتها في القيميات، وذلك لمغصوب والمبيع بيعا فاسدا، ثم أورد أمثلة أخرى، ثم قال: وعلى ذلك لا بد من كفيل يجب عليه الضمان، ومن مكفول له يجب تسليمه للمكفول له، وبدون ذلك لا يتحقق عقد الكفالة، ولا شبهة أنها لا تنطبق على العقد المذكور؛ فإن المال الذي جعله صاحبه تحت ضمان أهل القومبانية لم يخرج عن يده، ولا يجب عليه تسليمه لأحد غيره؛ فلم يكن دينا عليه أداؤه، ولا عينا مضمونة عليه بنفسها يجب عليه تسليم عينها قائمة أو مثلها أو قيمتها هالكة، فأهل القومبانية لو ضمنوا يضمنون مالا للمالك وهو لم يزل تحت يده يتصرف فيه كيف يشاء، فلا يكون شرعا من ضمان الكفالة) .

وقال: في الضمان بالتعدي أو الإتلاف (فهذا الضمان إنما يكون على المتعدي؛ كالغاصب إذا هلك مغصوبه، أو على المتلف؛ كالشريك الموسر إذا أعتق نصيبه في عبد مشترك، وأتلف بالعتق نصيب الشريك الآخر، وأهل القومبانية لم يتعد واحد منهم على ذلك المال، ولم يتلفه ولم يتعرض له بأدنى ضرر، بل إن المال هلك بالقضاء والقدر، ولو فرض وجود متعد أو متلف فالضمان عليه دون غيره؛ فلا وجه حينئذ لضمان أهل

ص: 86

القومبانية من هذا الطريق أيضا) .

إذا علم ما تقدم كان هذا العقد هو عبارة عن أن الإنسان يلتزم بدفع مقدار معين من الدراهم لأهل تلك القومبانية في نظير التزامهم أن يدفعوا له في حياته أو لورثته بعد موته مقدارا معينا من الدراهم إذا هلك ذلك الإنسان نفسه، وهو ما يسمونه:(سوكرتاه الحياة والنفس) ، أو إذا أهلك المال الذي وضعه تحت ضمانهم، وهو ما يسمونه سكرتاه الأموال مع كون المال المذكور باقيا تحت يد مالكه وفي تصرفه، ولم يدخل تحت يد أحد من أهل القومبانية بوجه من الوجوه فيكون هذا العقد عقد التزام لما لا يلزم شرعا. . . إلى أن قال:(والعقد المذكور لا يصح أن يكون سببا شرعيا لوجوب الضمان، ولا يجوز أن يكون عقد المضاربة كما فهمه بعض العصريين؛ لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب المضارب والربح على ما شرطا، والعقد المذكور ليس كذلك؛ لأن أهل القومبانية يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا؛ وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى) .

وقد صرح في [شرح السير الكبير] : (بأن حكم الحربي المستأمن في دار الإسلام حكم أهل الذمة)، قال: (وعلى هذا لا يحل أخذ ماله بعقد فاسد، كما لا يحل أخذ مال الذمي به، وقد صرحوا في معتبرات المذهب بأن المسلم المستأمن في غير دار الإسلام يحل له أن يأخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار؛ لأن المحرم هو الغدر والخيانة فما أخذه برضاهم وليس فيه غدر ولا خيانة يكون حلالا على أي وجه أخذه، وقد صرحوا أيضا بأن دار الإسلام محل إجراء الأحكام الشرعية دون غير دار الإسلام، وإنه لا يحل

ص: 87

لمسلم في دار الإسلام أن يعقد مع المستأمن الذي فيها، وليس منها إلا ما يحل من العقود مع المسلمين) .

ثم قال: وعلى ذلك إما أن تكون مباشرة العقد في دار الإسلام وأخذ بدل الهالك فيها أيضا ففي هذه الصورة لا يحل لمسلم أخذ ذلك البدل ولا يطيب له، بل إن قبضه ملكه ملكا خبيثا، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام وأخذ بدل الهالك في غيرها أيضا ففي هذه الصورة يحل له ما أخذه من البدل ويطيب له؛ لأنه إنما أخذه برضاهم في دارهم بدون غدر ولا خيانة، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام ولكن أخذ بدل المال، الهالك في دار الإسلام ففي هذه الصورة لا يحل أخذ ذلك البدل؛ لما علمت أنه لا يحل لمسلم أن يأخذ في دار المسلم من مال المستأمن فيها، وليس منها إلا ما يلزم ذلك المستأمن شرعا، وهذا المال لم يلزمه شرعا، وإما أن تكون مباشرة العقد بدار الإسلام، ولكن أخذ بدل المال الهالك كان بغيرها، وفي هذه الصورة يحرم مباشرة العقد والإقدام عليه في دار الإسلام؛ لأن العقود الفاسدة منهي عن مباشرتها شرعا، ولكن مع ذلك يحل أخذ بدل المال الهالك متى كان الأخذ بغير دار الإسلام وبرضاهم.

فالحاصل: أن المدار في حل أخذ بدل المال الهالك منهم على أن يكون ما أخذ من مالهم وفي بلادهم وبرضاهم لا يضر في ذلك كون الأخذ -مبنيا على سبب فاسد شرعا،.

ص: 88

4 -

لقد ورد سؤال إلى الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله عن التأمين هذا نصه: رجل يضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان (السيكورتاه) على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل يجوز له شرعا مطالبة شركات الضمان بهذا المبلغ ويكون حلالا أم لا؟ وهل كل أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟

فأجاب بقوله: كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة في الإسلام فلم يرد بها نص من الشارع، ولم يقرها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر، ومن التزمها في غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم؛ فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه (1) .

5 -

وأجاب أيضا عن التأمين على الحياة فقال: لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده، والمشهور أن هذه العقود التي تشبه الميسر (القمار) في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان لا يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك أن تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء يصرحون بأن

(1)[فتاوى المنار](4\1640، 1641) .

ص: 89

مثل هذا العقد باطل ومحرم؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب حفظه وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليس كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينا، فإنهم قد يشترطون شروطا اجتهادية لا يحكم قاضيهم، ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإن لم يكن في ترك الشروط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرخ بعض الفقهاء بحل جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة، وهذا هو الصواب (1) .

(1)[فتاوى المنار](3\964) .

ص: 90

6 -

وقال إبراهيم الجبالي: وأما شركات التأمين على الأموال والأرواح فقد تغلغل الميل إليها في نفوس الكثير من الناس، خصوصا من المستنيرين إلى حد يصعب معه اقتلاعه من عقولهم، وأقوى حجة لهم في تبريرها أن يقول لك أحدهم: إني أدفع القليل؛ ليطمئن قلبي على الكثير فأنا رابح الطمأنينة حال السلامة والعوض إذا ما طرأ ما أخشاه، والشركة رابحة المال الذي تأخذه مني ومن سواي فكلا الطرفين مستفيد.

ونقول له: أليس أمرك دائرا بين أن تدفع بلا مقابل وذاك إذا قدرت لك بسلامة المال أو تأخذ مالا حق لك فيه وترزأ غيرك ممن دفع وهو لم يجن عليك فيما إذا عطب مالك؟ أو ليس الأمر على كلا التقديرين أن هناك دفعا وغرما من أحد الجانبين بدون مقابل من الجانب الآخر؟ فإنه لا قيمة لما دفعه المؤمن بالنسبة لما يأخذه على فرض عطبه، كما أن طمأنينته عليه التي

ص: 90

زعم أنه استفادها في حالة سلامة ماله لا دخل لشركة التأمين فيما إذا لم تكن حارسة عليه، ولا تستطيع أن تقف في وجه المقادير وتصاريف الزمان.

وأما التأمين على الحياة: فهو أبعد عن العقل السليم، وأوجب للدهشة والاستغراب، فما كانت الشركة لتطيل له عمرا، وما كانت لتبعد عنه قدرا، ولكنها التعللات بالأماني، وما أشبهها بشئون الدجالين والمشعوذين، سيقول لك قائلهم نفس المقالة الأولى أو قريبا منها، سيقول: إني متى دفعت ولو قسطا واحدا فإذا فاجأتني المنية استحق ورئتي ما أمنت به على حياتي، فكان لهم بذلك عزاء وسلوة عن فقدي، وإذا بقيت المدة المضروبة لي استرجعت كل ما دفعت بأرباحه، فأنا مستفيد على كلتا الحالتين، وللشركة فائدتها أيضا، وهي: التصرف في تلك الأموال مما يجتمع لها مني ومن غيري، فيتكون لها رأس مال عظيم تستغله فيما ترى من المشروعات التجارية، ومفاجآت العطب قليلة؛ فغرمها نادر لا يؤثر فيها؛ لأن كل امرئ حريص على حياته وماله، محافظ عليهما جهد استطاعته، وكل واحد يعمل لمصلحتها من حيث يعمل لمصلحه نفسه، فكلا الطرفين مستفيد.

ونقول له: ليكن كل ما تقول، فما خرجت عن أنها معاملة فيها غرم أحد الطرفين حتما بلا مقابل، وما كانت العدالة إلا في المعاوضة، وأن يكون من كل طرف عوض يعادل ما استفاده، وأن يكون بين العوضين مناسبة تحقق المعادلة ولو التقريبية حتى تستقيم روح العدالة، فأما وأحد الطرفين غارم حتما بلا غنم، أو غانم حتما بلا غرم فلا عدالة، بل هي المقامرة والميسر، غير أنه لبس ثوبا لماعا، وجاء من قوم أوليناهم ثقتنا العمياء

ص: 91

وأخذنا منهم كل ما قالوه بالتقليد الأعمى، وما منشأ ذلك إلا أن جماعة منهم بهروا الناس بقوة استخدامهم للمادة واستنباطهم لقوى الطبيعة مما لا نغمطهم حقهم فيه، فكان لمجتمعهم في النفوس عزة الغلبة فأسلم الناس القياد لهم شأن كل غالب مع كل مغلوب، وإلا فمتى وزنت تلك التصرفات بميزان العقل السليم والنقد النزيه وجد ضررها أكبر من نفعها، وهكذا شأن أغلب المضار المنهي عنها لمصلحة المجتمع تجد ضررها أكبر من نفعها، فلا تكاد ترى شيئا تمخض للضرر بدون وجه نفع، وتمخض للنفع بدون وجه ضرر حتى إن الخمر والميسر وهما ما هما في الضرر لم يخلوا عن نفع ما، ولكنه ضئيل إذا قيس بكبير ضررهما، كما قال جل شأنه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) وشأن التشريع الصحيح أن يعتمد على الموازنة بين النفع والضرر، فما غلب نفعه أحله وما غلب ضرره حرمه، والله عليم حكيم (2) .

(1) سورة البقرة الآية 219

(2)

[مجلة الأزهر](1\367) وما بعدها.

ص: 92

7 -

وقال الشيخ عبد الرحمن تاج بعد عرضه لصورة التأمين: إن عقود التأمين على الصورة التي قدمناها ليس لها مسوغ من الوجهة الشرعية الإسلامية حتى في الحالة التي لا يشترط فيها على الشركة - أي: عقد التأمين على الحياة - دفع فوائد ربوية مع أصل مبلغ التأمين المتفق عليه لصاحب العقد على فرض بقائه حيا إلى نهاية المدة المعينة، فإن العقد ذاته

ص: 92