الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهما يعقل عن الآخر ويرثه.
والوجه الثالث: أن الهدف الأساسي والغاية القصوى من ولاء الموالاة هو النصرة، ومن التأمين الكسب المادي المحض لقاء أخطار قد تقع وقد لا تقع.
ب -
قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:
فيما يلي كلام العلماء السابقين في الوعد، هل يجب الوفاء به أولا؟ ثم ما تيسر من كلام علماء العصر في هذا الدليل مع المناقشة:
قال أحمد بن علي الرازي في كلامه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1){كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) قال أبو بكر: يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة أو أوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به، إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلا ما لا يفعل وقد ذم الله فاعل ذلك وهذا فيما لم يكن معصية. . . . وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح فإن الأولى الوفاء مع الإمكان، فأما قول القائل: إني سأفعل كذا، فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله، وأن يكون في عقد ضميره. الوفاء به ولا جائز له أن يعدو في ضميره أن لا يفي به؛ لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه، وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا، فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف فيه (3) .
(1) سورة الصف الآية 2
(2)
سورة الصف الآية 3
(3)
[أحكام القرآن](3\ 543) وما بعدها.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا فهذا لازم إجماعا من الفقهاء، وإن كان وعدا مجردا، فقيل: يلزم بمطلقه، وتعلقوا بسبب الآية فإنه روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهو حديث لا بأس به، وقد روى مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل، والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر.
قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له أن لا يفعل، فما أرى ذلك يلزمه، وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي إليكم فإن هذا يلزمه، وأما أن يقول: نعم أنا أفعل ثم يبدو له فلا أرى عليه ذلك. قلت: أي: لا يقضي عليه بذلك، فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم، وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره، فقال:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (1) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) وقد تقدم بيانه.
وقال القرطبي أيضا: الرابعة قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان
(1) سورة البقرة الآية 177
(2)
سورة مريم الآية 54
(3)
سورة الصف الآية 2
عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي فيكون كذبا وأما في المستقبل فيكون خلفا وكلاهما مذموم وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى:{لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) أي: لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون، فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول (2) .
وقال القرطبي أيضا: وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزمه منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية؛ لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. انتهى المقصود (3)
وقال القرافي: الفرق الرابع عشر والمئتان بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد وما يجب الوفاء به منه وما لا يجب.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} (4){كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (5) والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزمه أن يكون كذبا محرما، وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا. وقال عليه السلام:«من علامة المنافق ثلاث: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف (6) » ، فذكره في سياق الذم دليل على التحريم، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«وأي المؤمن واجب» أي: وعده واجب الوفاء به. وفي [الموطأ] «قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب
(1) سورة الصف الآية 2
(2)
[تفسير القرطبي](18\ 79، 80) .
(3)
[تفسير القرطبي](11\ 116) .
(4)
سورة الصف الآية 2
(5)
سورة الصف الآية 3
(6)
صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .
لامرأتي؟ فقال عليه السلام: لا خير في الكذب (1) » ، فقال: يا رسول الله، أفأعدها وأقوله لها؟ فقال عليه السلام:«لا جناح عليك (2) » ، فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل، فإن رضى النساء إنما يحصل به، ونفى الجناح على الوعد، وهو يدل على أمرين:
أحدهما: أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا؛ لجعله قسيم الكذب.
وثانيهما: أن إخلاف الوعد لا حرج فيه، ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه، ولما ذكره مقرونا بالكذب، ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه.
وفي أبي داود قال عليه السلام: «إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه (3) » .
فهذه الأدلة تقتضي عدم الوفاء بالوعد وأن ذلك مباح، والكذب ليس بمباح فلا يكون الوعد يدخله الكذب عكس الأدلة الأول.
واعلم أنا إذا فسرنا الكذب بالخبر الذي لا يطابق لزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة مع أن ظاهر الحديث يأباه، وكذلك عدم التأثيم فمن الفقهاء من قال: الكذب يختص بالماضي والحاضر، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل فلا يدخله الكذب، وسيأتي الجواب عن الآية ونحوها إن شاء الله تعالى.
ومنهم من يقول: لم يتعين عدم المطابقة في المستقبل بسبب أن المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم ولم يقع فيه بعد وجود ولا عدم فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة ولا بالمطابقة؛ لأنه لم يقع بعد ما يقتضي أحدهما. وحيث قلنا: الصدق: القول المطابق، والكذب: القول
(1) موطأ مالك الجامع (1859) .
(2)
موطأ مالك الجامع (1859) .
(3)
سنن الترمذي الإيمان (2633) ، سنن أبو داود الأدب (4995) .
الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل، وذلك مختص بالحال والماضي، وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة وعدمها، ونحن متى حددنا بوصف نحو قولنا في الإنسان: الحيوان الناطق أو نحوه، إما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقول، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا؛ لأنه قابل للحياة والنطق، وهذا التعليل يؤيد القول الأول.
ومنهم من يقول: الكل يدخله الكذب، وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف، فعلى هذا لا فرق بين الكذب والوعد، والأول هو الذي ظهر لي؛ لعدم تعيين المطابقة وعدمها اللذين هما ضابطا الصدق والكذب، وعلى ذلك يقع الفرق بينه وبين الكذب وبين الصدق، فلا يوصف بواحد منهما ويختص بالماضي والحاضر- وبعد إيراده اعتراضا وإجابته عنه قال: واعلم أن الفقهاء اختلفوا في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت: نعم، ثم بدا لك لا يلزمك، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد؛ لأجله لزمك، لإبطالك مغرما بالتأخير.
قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به واخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأن أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق، وقال أصبغ: يقضي عليك به تزوج الموعود أم لا. وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا، لزمك، تسبب في ذلك أم لا. والذي لا يلزم من ذلك أن تعده من غير ذكر سبب فيقول: أسلفني كذا، فتقول:
نعم. بذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وإن وعدت غريمك بتأخير الدين لزمك؛ لأنه إسقاط لازم للحق سواء قلت له: أؤخرك، أو أخرتك، وإذا أسلفته فعليك تأخيره مدة تصلح لذلك، وحينئذ تقول: مرجع الجمع بين الأدلة المتقدمة التي يقتضي بعضها الوفاء به وبعضها عدم الوفاء به أنه إن أدخله في سبب يلزم بوعده لزم، كما قال مالك وابن القاسم وسحنون أو وعده مقرونا بذكر السبب، كما قال أصبغ؛ لتأكد العزم على الدفع حينئذ، ويحمل عدم اللزوم على خلاف ذلك مع أنه قد قيل في الآية: إنها نزلت في قوم كانوا يقولون: جاهدنا وما جاهدوا، وفعلنا أنواعا من الخيرات وما فعلوها، ولا شك أن هذا محرم؛ لأنه كذب، ولأنه تسميع بطاعة الله، وكلاهما محرم ومعصية اتفاقا، وأما ما ذكر من الإخلاف في صفة المنافق فمعناه: أنه سجية له ومقتضى حاله الإخلاف ومثل هذه السجية يحسن الذم بها كما يقال: سجيته تقتضي البخل والمنع فمن كانت صفاته تحث على الخير مدح أو تحث على الشر ذم شرعا وعرفا.
واعلم أنه لا بد في هذا الفرق من مخالفة بعض الظواهر إن جعلنا الوعد يدخله الكذب بطل؛ لقوله عليه السلام للسائل لما قال له: أأكذب لامرأتي؟ قال: لا خير في الكذب، وأباح له الوعد، وهو ظاهر في أنه ليس بكذب ولا يدخله الكذب، ولأن الكذب حرام إجماعا فيلزم معصيته فيجب الوفاء به نفيا للمعصية وليس كذلك، وإن قلنا: إن الكذب لا يدخله ورد علينا ظواهر وعد الله ووعيده فلا بد من الجمع بينهما وما ذكرته أقرب
الطرق في ذلك (1) .
وقال ابن حجر: قوله: (باب من أمر بإنجاز الوعد) وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه، قاله الكرماني، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ.
ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا، فتزوج لذلك وجب الوفاء به. وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك بالقبض أو قبله، وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على [الأذكار] للنووي، ولم يذكر جوابا عن الآية يعني: قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) وحديث آية المنافق، قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد، وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي: يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك (3) .
وقال محمد بن مفلح: ولا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه (وهـ ش) ؛ لأنه يحرم بلا استثناء؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (4){إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (5)
(1)[الفروق](4\ 20- 25) .
(2)
سورة الصف الآية 3
(3)
[فتح الباري](5\ 290) طبع المطبعة السلفية ومكتبتها.
(4)
سورة الكهف الآية 23
(5)
سورة الكهف الآية 24
ولأنه في معنى الهبة قبل القبض. وذكر شيخنا وجها: يلزم، واختاره، ويتوجه أنه رواية من تأجيل العارية والصلح عن عوض المتلف بمؤجل. ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال: بخلف المواعيد، وهذا متجه، وقاله من الفقهاء ابن شبرمة، وقال ابن العربي المالكي: أجل من قاله عمر بن عبد العزيز؛ لقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} (1) ولخبر: «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف (2) » . وحملا على وعد واجب. وبإسناد حسن «العدة عطية» ، وبإسناد ضعيف «العدة دين» ، وذكر أبو مسعود الدمشقي والبرقاني أن مسلما روى «ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه (3) » ، ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بإسناد حسن «ثم لا يفي له (4) » ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور. وفيه: والسعيد من وعظ بغيره. وفيه عبيد بن ميمون المدني روى عنه غير واحد، ووثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: مجهول، وعن ابن مسعود مرفوعا:«لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده ثم تخلفه» رواه الترمذي وغيره.
قال ابن الجوزي: فائدة الاستثناء خروجه من الكذب إذا لم يفعل، كقوله: ستجدني - إن شاء الله صابرا، وذكر القاضي في مسألة الفرار من الزكاة لما قيل له: إن أصحاب الجنة عوقبوا على ترك الاستثناء في القسم، قال: لا؛ لأنه مباح، وعلى أن الوعيد عليهما. ومذهب (م) يلزم
(1) سورة الصف الآية 3
(2)
خرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة.
(3)
سنن ابن ماجه المقدمة (46) ، مسند أحمد بن حنبل (1/410) ، سنن الدارمي الرقاق (2715) .
(4)
سنن ابن ماجه المقدمة (46) .
لسبب، كمن قال لغيره: تزوج وأعطيك كذا، واحلف لا تشتمني ولك كذا وإلا لم يلزم، وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي النعمان عن أبي وقاص - ولا يعرفان- عن زيد بن أرقم مرفوعا:«إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه (1) » ، وتقدم آخر كتاب العهد وأنه غير الوعد، ويكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفظ والرعاية والوصية وغير ذلك، وفي سيد الاستغفار:«وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت (2) » .
قال ابن الجوزي: قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به الذي يحسن فعله، والوعد من العهد، وقال في وأوفوا بالعهد: عام فيما بينه وبين ربه وبين الناس، ثم قال الزجاج: كل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو من العهد (3) .
وقال ابن حزم: مسألة، ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بأنه يعينه في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقته أو لم يدخله كمن قال: تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا أو نحو هذا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان، وقال مالك: لا يلزمه شيء من ذلك إلا أن يدخله بموعد ذلك في كلفة فيلزمه ويقضي عليه، وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضي به على الواعد ويجبر.
(1) سنن الترمذي الإيمان (2633) ، سنن أبو داود الأدب (4995) .
(2)
خرجه البخاري والنسائي وأحمد عن شداد بن أوس.
(3)
[الفروع](6\ 415، 416) .
فأما تقسيم مالك فلا وجه له، ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صاحب ولا قياس.
فإن قالوا: قد أضر به إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة. قلنا: فهبكم إنه كما تقولون، من أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا؟ ما علمنا هذا في دين الله تعالى إلا حيث جاء به النص فقط، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
وأما من ذهب إلى قول ابن شبرمة فإنهم احتجوا بقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) والخبر الصحيح من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر (2) » (3) .
والآخر الثابت من طريق أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من علامة النفاق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (4) » (5) .
فهذان أثران في غاية الصحة، وآثار أخر لا تصح، أحدها من طريق الليث عن ابن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر «قالت لي أمي: هاه تعال أعطك، فقال لها رسول
(1) سورة الصف الآية 3
(2)
صحيح البخاري الإيمان (34) ، صحيح مسلم الإيمان (58) ، سنن الترمذي الإيمان (2632) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020) ، سنن أبو داود السنة (4688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) .
(3)
متفق عليه.
(4)
صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .
(5)
متفق عليه.
الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمرا، فقال لها عليه السلام: أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة (1) » هذا لا شيء لأنه عمن لم يسم.
وآخر من طريق ابن وهب أيضا عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وأي المؤمن حق واجب (2) » هشام بن سعد ضعيف، وهو مرسل.
ومن طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة» . وهذا مرسل وإسماعيل بن عياش ضعيف.
ومن طريق ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من قال لصبي: تعال، هاه لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة (3) » ابن شهاب كان- إذ مات أبو هريرة - ابن أقل من تسع سنين لم يسمع منه كلمة، وأبو حنيفة ومالك يرون المرسل كالمسند، ويحتجون بما ذكرنا، فيلزمهم أن يقضوا بإنجاز الوعد على الواعد ولابد، وإلا فهم متناقضون فلو صحت هذه الآثار لقلنا بها.
وأما الحديثان اللذان صدرنا بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما علينا؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما؛ لأن من وعد بما لا يحل أو عاهد على معصية فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا، بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض، فإن ذلك كذلك فلا يكون
(1) سنن أبو داود الأدب (4991) ، مسند أحمد بن حنبل (3/447) .
(2)
رواه أبو داود في مراسيله، والوأي: الوعد لفظا ومعنى.
(3)
مسند أحمد بن حنبل (2/452) .
فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد بواجب عليه، كإنصاف من دين أو أداء حق فقط، وأيضا فإن من وعد وحلف واستثنى فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضا فإن الله تعالى يقول:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1){إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) فصح تحريم الوعد بغير استثناء، فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد أحدا على معصية، فإن استثنى فقال: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله تعالى أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله تعالى، وقد علمنا أن الله تعالى لو شاء لأنفذه فإن لم ينفذه فلم يشأ الله تعالى كونه.
وقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) على هذا أيضا مما يلزمهم كالذي وصف الله تعالى عنه إذ يقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4){فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (5){فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (6) فصح ما قلنا؛ لأن الصدقة واجبة، والكون من الصالحين واجب، فالوعد والعهد بذلك فرضان فرض إنجازهما، وبالله التوفيق،
(1) سورة الكهف الآية 23
(2)
سورة الكهف الآية 24
(3)
سورة الصف الآية 3
(4)
سورة التوبة الآية 75
(5)
سورة التوبة الآية 76
(6)
سورة التوبة الآية 77
وأيضا هذا نذر من هذا الذي عاهد الله تعالى على ذلك، والنذر فرض (1) .
وأما كلام علماء العصر في هذا الدليل فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء:
وأما قاعدة الالتزامات والوعد الملزم عند المالكية فخلاصتها: أن الشخص إذا ما وعد غيره عدة بقرض أو يتحمل وضيعة عنه- أي: خسارة- أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل، فهل يصبح بالوعد ملزما ويقضي عليه بموجبه إن لم يف له، أو لا يكون ملزما؟
اختلف فقهاء المالكية في ذلك على أربعة آراء: قد فصلها الحطاب في رسالته في الالتزامات، ونقلها عنه الشيخ محمد عليش في فتاواه المسماة [فتح العلي المالك] ج 2، ص 225 في بحث مسائل الالتزام فمنهم من يقول: يقضي بالعدة مطلقا أي أنها ملزمة له، ومنهم من يقول: لا يقضي بها مطلقا أي: أنها غير ملزمة، ومنهم من يقول: إن العدة تلزم الواعد فيقضي بها إذا ذكر لها سبب، وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب، كما لو قال لآخر: إني أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر، أو أن أقضي ديني فأسلفني مبلغ كذا، فوعده بذلك، ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر، أو وفاء دين، أو حراثة أرض. . . إلخ- فإن الواعد ملزم ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا إن امتنع.
ومنهم من يقول: لا يلزم بوعده إلا إذا دخل الموعود في سبب ذكر في الوعد أي: إذا باشر السبب، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن شيء يريد شراءه
(1)[المحلى] لابن حزم (8\ 26- 28) .
فاشتراه فعلا، ومبلغ المهر في الزواج فتزوج ونحو ذلك، وهذا هو الراجح في المذهب من بين هذه الآراء الأربعة.
أما عند الحنفية فإن المواعيد ملزمة إلا في حالات ضيقة إذا صدرت بطريق التعاون، فإذا نظرنا إلى مذهب المالكية الأوسع في هذه القضية فإننا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعا لتخريج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المؤمن للمستأمنين، ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر الذي هو معرض له، أي: أن يعوض عليه الخسائر، فقد نص المالكية أصحاب الرأي الرابع، وهو الرأي الأضيق على أنه لو قال شخص لآخر: بع كرمك الآن وإن لحقتك من هذا البيع وضيعة- أي: خسارة- فأنا أرضيك فباعه بالوضيعة، كان على القائل أن يرضيه بما يشبه ثمن ذلك الشيء المبيع والوضيعة فيه- أي: أن يتحمل عنه مقدار الخسارة- وهو قول ابن وهب، قال أصبغ: وقول ابن وهب هذا هو أحب إلي. قال ابن رشد: لأنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال (فتاوى عليش من المحل الآنف الذكر) .
ولا يخفى أن أقل ما يمكن أن يقال في عقد التأمين: أنه التزام تحمل الخسائر عن الموعود في حادث معين محتمل الوقوع بطريق الوعد الملزم نظير الالتزام بتحمل خسارة المبيع عن البائع مما نص عليه المالكية على سبيل المثال لا على سبيل الحصر (1)
(1)[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (410) .