المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر:

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة:

- ‌ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحدللوقت الواحد

- ‌(وجهة نظر)

- ‌التأمين

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌التأمين التعاوني:

- ‌ التأمين التجاري:

- ‌ تأمين الأضرار والأشخاص

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ (بوليصة التأمين) :

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌ ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة:

- ‌ذكر كلام المانعين:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة

- ‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

- ‌ عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم

- ‌ عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين

- ‌ التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌ أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة:

- ‌ قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق:

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة

- ‌ كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

- ‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

- ‌ التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌ الاستدلال على جوازه بالعرف:

- ‌ الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:

- ‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

- ‌خلاصة الأمر الثاني:

- ‌تمهيد:

- ‌بحث في البيوع

- ‌ بيع العينة والتورق:

- ‌آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب] :

- ‌ النووي في [روضة الطالبين] :

- ‌ ابن قدامة في [المغني] :

- ‌ محمد بن مفلح في [الفروع]

- ‌ شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى]

- ‌ ابن القيم في [إعلام الموقعين]

- ‌مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌ صاحب [المغني]

- ‌ محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار]

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌كيفية الإمساك والإفطار فيرمضان وضبط أوقات الصلاةفي بعض البلدان

- ‌ ذكر النقول مع الأدلة

- ‌ الكمال بن الهمام في [فتح القدير]

- ‌ الزيلعي في شرحه على [الكنز]

- ‌ ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار]

- ‌ الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل]

- ‌ حسنين مخلوف في [الفتاوى] :

الفصل: ‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

فاسد مشتمل على شروط فاسدة وعلى طريقة يستباح بها أكل أموال الناس بالباطل، ومثل ذلك يقال في حكم التأمين على الأموال (1) .

(1) من بحث له طبع بمجمع البحوث الإسلامية للمؤتمر السابع.

ص: 93

‌أدلة المانعين مطلقا:

أ-‌

‌ التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة

.

وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بهذا الدليل ومناقشتهم نذكر‌

‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

، وأقسامه، وبيان ما يكون من أقسامه سببا في تحريم العقد وما لا يكون:

معنى الغرر: لغة واصطلاحا:

لما ذكر أحمد بن فارس بن زكريا: أن الغرر له أصول ثلاثة صحيحة وذكر منها: النقصان، قال: ومن الباب: بيع الغرر، وهو الخطر الذي لا يدري أيكون أم لا؟ كبيع العبد الآبق والطائر في الهواء فهذا ناقص لا يتم البيع فيه أبدا (1) .

ونقل ابن منظور عن أبي زيد: والغرر الخطر، «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (2) » ، وهو مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء، والتغرير حمل النفس على الغرر، وقد غرر بنفسه تغريرا وتغرة كما يقال: حلل تحليلا وتحلة وعلل تعليلا وتعلة، وقيل: بيع الغرر المنهي عنه ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. يقال: إياك وبيع الغرر، قال: بيع الغرر أن يكون على غير عهدة ولا ثقة، قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع

(1)[معجم مقاييس اللغة](4\380، 381) .

(2)

صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .

ص: 93

المجهولة التي لا يحيط كنهها المتبايعان حتى تكون معلومة، وفي حديث مطرف إن لي نفسا واحدة وإني أكره أن أغرر بها، أي: أحملها على غير ثقة، قال: وبه سمي الشيطان غرورا؛ لأنه يحمل الإنسان على محابه ووراء ذلك ما يسؤه كفانا الله فتنته، وفي حديث الدعاء وتعاطي ما نهيت عنه تغريرا، أي: مخاطرة وغفلة عن عاقبة أمره، وفي الحديث: لأن أغتر بهذه الآية، يريد قوله تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (2) المعنى: أن أخاطر بتركي مقتضى الأمر بالأولى أحب إلي من أن أخاطر بالدخول تحت الآية الأخرى (3) .

وقال ابن الأثير: الغرر ماله ظاهر تؤثره، وباطن تكرهه، فظاهره يغر المشتري، وباطنه مجهول (4) .

وأما كلام الفقهاء: فقد قال السمرقندي في أثناء الكلام على أنواع البيوع الفاسدة قال: ومنها: أن يكون في المبيع وفي ثمنه غرر، مثل: بيع السمك في الماء وهو لا يقدر على تسلميه بدون الاصطياد والحيلة، وبيع الطير في الهواء، أو بيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه إليه؛ لأنه باع ما ليس بمملوك له للحال، وفي ثبوته غرر وخطر (5) .

(1) سورة الحجرات الآية 9

(2)

سورة النساء الآية 93

(3)

[لسان العرب](6\317) ، ويرجع أيضا إلى [القاموس](2\99) وما بعدها.

(4)

[جامع الأصول](1\527، 528) .

(5)

[تحفة الفقهاء](2\66، 67) .

ص: 94

وأما المذهب المالكي: فإن القرافي رحمه الله ذكر بحثا في الفرق بين الجهالة والغرر من حيث الحقيقة والأثر، نصه ما يلي:

اعلم أن العلماء قد يتوسعون في هاتين العبارتين، فيستعملون إحداهما موضع الأخرى، وأصل الغرر هو الذي لا يدرى هل يحصل أم لا؟ كالطير في الهواء والسمك في الماء، وأما ما علم حصوله وجهلت صفته فهو المجهول كبيعه ما في كمه فهو يحصل قطعا لكن لا يدرى أي شيء هو.

فالغرر والمجهول كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فيوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، أما وجود الغرر بدون الجهالة فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق لا جهالة فيه وهو غرر؛ لأنه لا يدري هل يحصل أم لا، والجهالة بدون الغرر كشراء حجر يراه لا يدري أزجاج هو أم ياقوت مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر، وعدم معرفته تقتضي الجهالة به.

وأما اجتماع الغرر والجهالة فكالعبد الآبق المجهول الصفة قبل الإباق.

ثم الغرر والجهالة يقعان في سبعة أشياء في الوجود كالآبق قبل الإباق، والحصول إن علم الوجود كالطير في الهواء، وفي الجنس كالسلعة لم يسمها، وفي النوع كعبد لم يسمه، وفي المقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة، وفي التعيين كثوب من ثوبين مختلفين، وفي البقاء كالثمار قبل بدو صلاحها فهذه سبعة موارد للغرر والجهالة، ثم الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعا، كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعا، كأساس الدار وقطن الجبة، ومتوسط اختلف فيه، هل يلحق بالأول أو الثاني؛ فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير ألحق

ص: 95

بالقليل، وهذا هو سبب اختلاف العلماء في فروع الغرر والجهالة. اهـ (1) .

وقال محمد بن علي بن حسين: بعد ذكره للأقسام السبعة المتقدمة، وبقي الجهل بالأجل إن كان هناك أجل، والجهل بالصفة فهذه تسعة موارد للغرر من جهة الجهالة (2) .

وقال القرافي: الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر، وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات.

وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه السلام عن بيع الغرر، وعن بيع المجهول، واختلف العلماء بعد ذلك: فمنهم من عممه في التصرفات - وهو الشافعي - فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك. ومنهم من فصل - وهو مالك - بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان، وواسطة، فالطرفان: أحدهما: معاوضة صرفة، فيجتنب فيه ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، كما تقدم إن الجهالات ثلاثة أقسام، فكذلك الغرر والمشقة. وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة والهبة والإبراء، فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال، بل

(1)[الفروق](3\265، 266) .

(2)

[تهذيب الفروق](3\271) .

ص: 96

إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق، بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر؛ لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا، وهذا فقه جميل، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة منصوص صاحب الشرع، بل إنما وردت في البيع ونحوه، وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح. . . إلخ (1) .

وقال محمد بن علي بن حسين مبينا أقسام الجهالة والغرر ما نصه:

وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام، وقسم أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام: كثير وقليل ومتوسط، وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم فقال في بداية المجتهد: الفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر؛ لترددها بين الغرر الكثير والقليل. اهـ (2) .

وأما المذهب الشافعي: فقد قال النووي: وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع؛ ولهذا قدمه مسلم، ويدخل في مسائل

(1)[الفروق](1\15) .

(2)

[تهذيب الفروق](1\170) .

ص: 97

كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهما، وبيع ثوب من أثواب وشاة من شياه، ونظائر ذلك، وكل هذا بيع باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذا دعت إليه الحاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار؛ ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة ونحو ذلك شهرا مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين وعكس هذا، وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء. قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده ما ذكرناه، وهو: أنه إن دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرا جاز البيع وإلا فلا، وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده، كبيع الغائبة مبني على هذه القاعدة، فبعضهم يرى: أن الغرر حقير، فيجعله كالمعدوم فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع،

ص: 98

والله أعلم (1) .

قال الخطابي على هذا الحديث: قال الشيخ: أصل الغرر: هو ما طوي عنك علمه، وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك: طويت الثوب على غره، أي: على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل: أن يبيعه سمكا في الماء أو طيرا في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبدا آبقا أو جملا شاردا أو ثوبا في جراب، لم يره ولم ينشره أو طعاما في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمر شجرة لم تثمر، ونحوها من الأمور التي لا تعلم، ولا يدرى هل تكون أم لا؟ فإن البيع مفسوخ فيها. وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع؛ تحصينا للأموال أن تضيع، وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها، وأبواب الغرر كثيرة، وجماعها: ما دخل في المقصود منه الجهل (2) .

وأما الغرر عند الحنابلة: فقد قال موسى الحجاوي: الخامس - أي: شروط البيع - أن يكون مقدورا على تسليمه، فلا يصح بيع آبق علم مكانه أو جهل ولو لقادر على تحصيله، وكذا جمل شارد، وفرس غائر، ونحوهما، ولا نحل ولا طير في الهواء، يألف الطير الرجوع أو لا، ولا سمك في لجة ماء (3) .

(1)[شرح النووي على مسلم](10\156، 157) .

(2)

[مختصر شرح وتهذيب أبي داود] (5\47، 489.

(3)

[الإقناع](2\64) .

ص: 99

وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين:

فقال الصديق محمد الأمين الضرير: عقد التأمين من العقود الاحتمالية عند جمهرة رجال القانون؛ لأن المستأمن من لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطا واحدا ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم المؤمن به، وقد لا تقع الكارثة مطلقا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا ماديا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي أو يأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وإن كان يستطيع إلى حد كبير التأمين في مثل هذه الأحوال لدفع مبالغ أكثر مما كانت تتوقع، والعقد الاحتمالي هو عقد الغرر، وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن بيع الغرر، وقاس الفقهاء عقود المعاوضات المالية على البيع. وعقد التأمين من عقود المعاوضات المالية فيؤثر فيه الغرر كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات.

ص: 100

وقد قسم الفقهاء الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية ثلاثة أقسام:

1 -

غرر كثير، وهذا يؤثر في عقود المعاوضات فيفسدها إجماعا، كبيع الطير في الهواء إلا ما دعت الضرورة إليه عادة.

2 -

غرر يسير، وهذا لا تأثير له إجماعا، كقطن الجبة وأساس الدار.

3 -

غرر متوسط، وهذا مختلف فيه، فبعض الفقهاء يلحقه باليسير،

ص: 100

وبعضهم يلحقه بالكثير.

والغرر في التأمين ليس يسيرا قطعا؛ فهو إما من الغرر الكثير أو المتوسط، وأرجح أنه من الغرر الكثير؛ لأن من أركان عقد التأمين التي لا يوجد بدونها (الخطر) ، والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، والتأمين لا يجوز إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، فالغرر عنصر ملازم لعقد التأمين، ومن الخصائص التي يتميز بها. وهذا يجعله من الغرر المنهي عنه.

يقول الباجي في [المنتقى] : نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر يقتضي فساده، ومعنى بيع الغرر والله أعلم: ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر، فهذا الذي لا خلاف في المنع منه.

وهذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، وقد أورد الباجي في أثناء كلامه عن بيع الغرر مسألة توافق صورة من صور التأمين على الحياة تعرف في اصطلاح علماء القانون:(بالتأمين لحال البقاء براتب عمري وهو: أن يتعهد المؤمن بدفع إيراد لمدى الحياة نظير مبلغ متجمد يدفعه له المستأمن) . يقول الباجي: (ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته)، روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك ولا أفسخه إن وقع. وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ.

وقال ابن القاسم: عن مالك: لا يجوز إذا قال: على أن ينفق عليه حياته، قال الصديق محمد الضرير: فهذه الصورة من صور التأمين غير جائزة عند هؤلاء الفقهاء؛ لما فيها من غرر، ويفسخ العقد إن وقع إلا عند

ص: 101

أشهب فإنه لا يفسخ العقد مع منعه له ابتداء (1) .

وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقاء عن كون عقد التأمين فيه غرر بقوله:

إن الغرر في اللغة العربية هو: الخطر، والمراد به في هذا المقام الشرعي أن يكون أصل البيع الذي شرع طريقا لمعاوضة محدودة النتائج والبدلين، قائما على مخاطرة أشبه بالقمار والرهان بحيث تكون نتائجه ليست معاوضة محققة للطرفين، بل ربحا لواحد وخسارة لآخر بحسب المصادفة.

وبالنظر فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيوع تطبيقا لما نهى من الغرر يتضح لنا المقصود من الغرر في الحديث النبوي.

فقد نهى النبي عليه السلام تطبيقا لذلك عن بيع المضامين، وهي: ما سوف ينتج من أصلاب فحول الإبل الأصيلة من أولاد.

ونهى عن بيع الملاقيح، وهي ما ستنتجه إناث الإبل الأصيلة من نتاج. ونهى أيضا عن ضربة القانص، وهي: بيع ما ستخرجه شبكة الصياد البحري من السمك، أو ما يقع في شبك الصياد البري من حيوان أو طير

ونهى أيضا عن بيع ضربة الغائص، وهي: ما سيخرجه الغواص من لؤلؤ في غوصته المقبلة، ونهى أيضا عن بيع الثمار على الأشجار في بداية انعقادها قبل أن يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وقال للسائل عنها:«أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يستحل أحدكم مال أخيه (2) » .

تلك المناهي النبوية تطبيق للنهي عن الغرر، وهي كما يرى من طبيعة

(1)[أسبوع الفقه الإسلامي](ص461) وما بعدها

(2)

صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .

ص: 102

واحدة تدل على نوع المقصود، وقد قرر الفقهاء بناء على هذا النظر: عدم انعقاد بيع الأشياء غير مقدورة التسليم، أي: التي لا يستطيع البائع فيها التنفيذ العيني بتسليم المبيع ذاته، ولو كانت معيبة بذاتها لا جهالة فيها عند العقد، كبيع طير في الهواء أو سمكة في الماء لا يمكن أخذها إلا بصيد؛ لأن صيدها غير موثوق بإمكانه فيكون ذلك غررا، وإذا نظرنا أيضا إلى أن عنصر المغامرة والاحتمال والمخاطرة في حدوده الطبيعية قلما تخلو منه أعمال الإنسان وتصرفاته المشروعة باتفاق المذاهب.

فالتجارة والزراعة والكفالة وسائر الأعمال والتصرفات التي يبتغى من ورائها مكاسب حيوية هي معرضة للأخطار، وفاعلها مقدم على قدر من الغرر، والمغامرة لا تخلو منه طبيعة الأشياء، إذا نظر ذلك وتأملنا في أنواع التصرفات التي خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي تطبيقا للنهي عن الغرر، ومنها ما قد علل النبي عليه السلام نفسه نهيه عنه بالغرر- أدركنا أن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز لحدود الطبيعة، بحيث يجعل العقد كالقمار المحض، اعتمادا على الحظ المجرد في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل، فلا يصلح أن يكون أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية، كما في الأمثلة المتقدمة؛ لأنها ترتكز على أسس موهومة.

فإذا طبقنا هذا المقياس على نظام التأمين وعقده وجدنا الفرق كبيرا، فعقد التأمين فيه معاوضة محققة النتيجة فور عقده حتى إني لأنتقد على القانونيين عده من العقود الاحتمالية دون تحفظ، فالتأمين فيه عنصر احتمالي بالنسبة إلى المؤمن فقط حيث يؤدي التعويض إلى المستأمن إن وقع الخطر المؤمن عنه، فإن لم يقع لا يؤدي شيئا على أن هذا الاحتمال

ص: 103

أيضا إنما هو بالنسبة إلى كل عقد تأمين على حدة، لا بالنسبة إلى مجموع العقود التي يجريها المؤمن، ولا بالنسبة إلى نظام التأمين في ذاته؛ لأن النظام وكذا مجموع العقود يرتكزان على أساس إحصائي ينفي عنصر الاحتمال حتى بالنسبة للمؤمن عادة.

أما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال فيه معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقية في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه، وهذا الأمان حاصل للمستأمن بمجرد العقد دون توقف على الخطر المؤمن منه بعد ذلك؛ لأنه بهذا الأمان الذي حصل عليه واطمأن إليه لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر وعدمه فإنه إن لم يقع الخطر ظلت أمواله وحقوقه ومصالحه سليمة، وإن وقع الخطر عليها أحياها التعويض، فوقوع الخطر وعدمه بالنسبة إليه سيان بعد عقد التأمين، وهذا ثمرة الأمان والاطمئنان الذي منحه إياها المؤمن نتيجة للعقد في مقابل القسط، وهنا المعاوضة الحقيقية على أن عنصر الاحتمال قد قبله الفقهاء في الكفالة ولو عظم، فقد نصوا على أن الإنسان لو قال لآخر: تعامل مع فلان وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به صحت الكفالة هكذا رغم الاحتمال في وجود الدين في المستقبل وجهالة مقداره.

وصرحوا بصحة تعليقها على الخطر المحض في الشرط الملائم، كما لو قال الشخص لدائن: إن أفلس مدينك فلان أو مات في هذا الشهر مثلا أو إن سافر فأنا كفيله- فإن الكفالة تنعقد صحيحة، ويلتزم بموجبها إن وقع الشرط.

فعلى فرض وجود غرر في عقد التأمين ليس هو من الغرر الممنوع

ص: 104

شرعا، بل من النوع المقبول، فإن قيل: إن الأمان ليس مالا يقابل بعوض، قلنا: إن الأمان أعظم ثمرات الحياة، وهو الذي امتن الله به على قريش بقوله:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (1){الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (2) وإن الإنسان يسعى ويكد ويكدح ويبذل أغلى الأثمان من ماله وراحته في سبيل الحصول على الأمان والاطمئنان لنفسه ولأسرته ولحقوقهم ولمستقبلهم، فأي دليل في الشرع يثبت أنه لا يجوز الحصول عليه لقاء مقابل؛ هذا تحكم في شرع الله.

وإننا نجد في بعض العقود القديمة المتفق بين جميع المذاهب الفقهية على شرعيتها ما يشهد لجواز بذل المال بطريق التعاقد بغية الاطمئنان والأمان على الأموال ذلك هو عقد الاستئجار على الحراسة (3) .

وأجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال: ولقد قرر المانعون لعقد التأمين غير التعاوني أن فيه غررا، فمحل العقد فيه غير ثابت، وغير محقق الوجود، فيكون كبيع ما تخرجه شبكة الصائد، وكبيع ما يكون في بطن الحيوان، ووجه المشابهة: أن المبيع في هذه الصور غير معلوم محله وغير مؤكد الوجود، بل الوجود فيه احتمالي، وكذلك التأمين غير التعاوني محل العقد غير ثابت، فما هو محل العقد؟ أهو المدفوع من المستأمن، أم المدفوع من الشركة المؤمنة، أم هما معا باعتبار أن ذلك العقد من الصرف، ولا يكون مخرجا إلا على ذلك النحو، ولا شك أن ما يدفعه المستأمن غير

(1) سورة قريش الآية 3

(2)

سورة قريش الآية 4

(3)

[أسبوع الفقه الإسلامي](ص 401) وما بعدها

ص: 105