الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
م -
الاستدلال على جوازه بالعرف:
نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام بعض العلماء السابقين في معنى العرف وأقسامه، ومستند اعتباره، ورجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف وشروط اعتباره وحكمه عند معارضته للشرع وكيفية إعماله، وهل هو دليل مستقل أو لا؟ ثم نذكر وجه استدلال بعض الفقهاء المعاصرين به على جواز التأمين ومناقشته هذا التوجيه.
1 -
قال أحمد بن فارس بن زكريا: (عرف) العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلا بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة.
فالأول العرف: عرف الفرس، وسمي بذلك؛ لتتابع الشعر عليه. ويقال: جاءت القطا عرفا عرفا، أي: بعضها خلف بعض. . . . والأصل الآخر المعرفة والعرفان. تقول: عرف فلان فلانا عرفانا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه؛ لأنه من أنكر شيئا توحش منه ونبا عنه. . . والعرف والمعروف، وسمي بذلك، لأن النفوس تسكن إليه. . . . . . . . . . . (1) .
وقال ابن عابدين: قال في الأشباه وذكر الهندي في شرح [المغني] : العادة عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة وهي أنواع ثلاثة: العرفية العامة؛ كوضع القدم. والعرفية
(1)[معجم مقاييس اللغة] ، (4 \ 281) .
الخاصة، كاصطلاح كل طائفة مخصوصة؛ كالرفع للنحاة والفرق والجمع والنقض للنظار، والعرفية الشرعية؛ كالصلاة والزكاة والحج تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية. انتهى.
وفي [شرح الأشباه] للبيري عن [المستصفى] : العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. اهـ.
وفي [شرح التحرير] : العادة هي الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية. اهـ.
قلت: بيانه أن العادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المقاصد وإن اختلفا من حيث المفهوم (1) .
2 -
وقال ابن عابدين - مبينا أقسام العرف -: ثم العرف عملي وقولي، فالأول: كتعارف قوم أكل البر ولحم الضأن، والثاني: كتعارفهم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره، والثاني مخصص للعام اتفاقا؛ كالدراهم تطلق ويراد بها النقد الغالب في البلدة، والأول مخصص أيضا عند الحنفية دون الشافعية، فإذا قال: اشتر لي طعاما أو لحما، انصرف إلى البر ولحم الضأن عملا بالعرف العملي كما أفاده التحرير (2) .
3 -
وقال ابن عابدين - مستدلا على اعتبار العرف -: واعلم أن بعض
(1)[مجموعة رسائل ابن عابدين](2 \ 114) .
(2)
[مجموعة رسائل ابن عابدين](2 \ 114، 115) .
العلماء استدل على اعتبار العرف بقوله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (1)، وقال في [الأشباه] : القاعدة السادسة: العادة محكمة وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: «ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن (2) » قال العلائي: لم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه، أخرجه الإمام أحمد في [مسنده] .
4 -
وقال ابن عابدين - مبينا رجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف -: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة، حتى جعلوا ذلك أصلا، فقالوا في الأصول في (باب ما تترك به الحقيقة) : تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة، هكذا ذكر فخر الإسلام، انتهى كلام [الأشباه]، وفي [شرح الأشباه] للبيري قال في [المشرع] : الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي [المبسوط] : الثابت بالعرف كالثابت بالنص (3) .
وقال ابن القيم في إعمال العرف في كثير من المسائل:
وقد أجري العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع:
منها: نقد البلد في المعاملات، وتقديم الطعام إلى الضيف، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره، والشرب من خوابي السيل ومصانعه في الطرق، ودخول الحمام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع
(1) سورة الأعراف الآية 199
(2)
مسند أحمد بن حنبل (1/379) .
(3)
[مجموعة رسائل ابن عابدين](2 \ 115) .
الحمامي لفظا، وضرب الدابة المستأجرة إذا حرنت في السير وإيداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة، ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه من امرأة أو خادم أو ولد. وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه، وجواز التخلي في دار من أذن له بالدخول إلى داره، والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثوي عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنه عقد الإجارة لفظا اعتمادا على الإذن العرفي، وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل، ولو وكل غائبا أو حاضرا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك، ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجة إلى التخلي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعا سواه، إما لضيق الطريق أو لتتابع المارين فيها، فكيف بالصلاة فيه والتيمم بترابه؟ ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظا لماليتها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعا، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الإضرار به وترك التصرف هاهنا هو الإضرار.
ومنها: لو استأجر غلاما فوقعت الأكلة في طرفه فتيقن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه.
ومنها: لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك، ولم يضمن نقب الحائط.
ومنها: لو قصد العدو مال جاره فصالحه ببعضه دفعا عن بقيته جاز له
ولم يضمن ما دفعه. ومنها: لو وقعت النار في دار جاره فهدم جانبا منها على النار لئلا تسري إلى بقيتها لم يضمن.
ومنها: لو باعه صبرة عظيمة أو حطبا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها به، وإن لم يأذن له في ذلك لفظا.
ومنها: لو جذ ثماره أو حصد زرعه ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه وإن لم يأذن فيه لفظا.
ومنها: لو وجد هديا مشعرا منحورا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع منه ويأكل منه.
ومنها: لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقة الباب عليه، وإن كان تصرف في بابه لم يأذن له فيه لفظا.
ومنها: الاستناد إلى جواره والاستظلال به.
ومنها: الاستمداد من محبرته، وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر، وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا يشترى له به شاة فاشترى شاتين بدينار فباع إحداهما بدينار، وجاء بالدينار والشاة الأخرى (1) ، فباع وقبض بغير إذن لفظي اعتمادا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع، ولا إشكال بحمد الله في هذا الحديث بوجه عام، وإنما الإشكال في استشكاله، فإنه جار على محض القواعد كما عرفته (2) .
(1) خرجه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارقطني.
(2)
[إعلام الموقعين](2 \ 393، 394) .
5 -
لقد اشترط العلماء رحمهم الله شروطا لاعتبار العرف نذكرها فيما يلي:
الشرط الأولى: أن يكون العرف مطردا أو غالبا. قال السيوطي: إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا (1) .
الشرط الثاني: أن يكون العرف عاما في جميع بلاد الإسلام، قال ابن نجيم: هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام أو مطلق العرف ولو كان خاصا؟ المذهب الأول: قال في البزازية معزيا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه: الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص، وقيل: يثبت. وذكر مجموعة أمثلة (2) .
الشرط الثالث: أن لا يكون العرف مخالفا لأدلة الشرع وقد مضى بيانه عن السيوطي في تعارض العرف والشرع.
الشرط الرابع: أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجودا وقت إنشائه بأن يكون حدوث العرف سابقا وقت التصرف ثم يستمر إلى زمانه فيقارنه سواء أكان التصرف قولا أو فعلا.
قال السيوطي: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر.
قال الرافعي: العادة الغالبة تؤثر في المعاملات؛ لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا، ولا يؤثر في التعليق والإقرار، بل يبقى
(1)[الأشباه والنظائر] للسيوطي، ص 83.
(2)
[الأشباه والنظائر] لابن نجيم، ص 102.
اللفظ على عمومه فيها، أما في التعليق فلقلة وقوعه، وأما في الإقرار فلأنه إخبار عن وجوب سابق، وربما تقدم الوجوب على العرف الغالب، فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد قبل، ثم ذكر طائفة من الأمثلة (1) .
الشرط الخامس: وهو أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن، واتفق العاقدان صراحة على الحلول، قال العز بن عبد السلام: كل ما يثبت العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه، بما يوافق مقصود العقد صح (2) .
6 -
وقال السيوطي في حكم العرف عند معارضته للشرع: (فصل) في تعارض العرف مع الشرع. هو نوعان:
أحدهما: أن لا يتعلق بالشرع حكم فيقدم عليه عرف الاستعمال، فلو حلف لا يأكل لحما، لم يحنث بالسمك وإن سماها الله لحما، ثم ذكر جملة أمثلة وقال: فيقدم عرف الاستعمال على الشرع في جميع ذلك؛ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف.
والثاني: أن يتعلق به حكم فيتقدم على عرف الاستعمال فلو حلف: لا يصلي، لا يحنث إلا بذات الركوع والسجود، ثم ذكر جملة أمثلة وقال: ولو كان اللفظ يقتضي العموم والشرع يقتضي التخصيص اعتبر خصوصي الشرع في الأصح، فلو حلف لا يأكل لحما، لم يحنث بالميتة. . . إلى آخر الأمثلة (3) .
(1)[الأشباه والنظائر] للسيوطي، ص 87.
(2)
[القواعد الكبرى](2 \ 178) .
(3)
[الأشباه والنظائر] ، ص (83، 84) .
7 -
وقال السيوطي في كيفية إعمال العرف: قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ومثلوه بالحرز في السرة، وذكر كثيرا من الأمثلة. (1) .
8 -
بقي أن يقال: هل العرف دليل شرعي مستقل أو لا؟
قال عبد الوهاب بن خلاف: وبالنظر الدقيق في العرف وأمثلته وما قال الأصوليون والفقهاء فيه - يتبين أن العرف ليس دليلا مستقلا يشرع الحكم في الواقعة بناء عليه، وإنما هو دليل يتوصل به إلى فهم المراد من عبارات النصوص ومن ألفاظ المتعاملين، وعلى تخصيص العام منها وتقييد المطلق، ويستند إليه في تصديق قول أحد المتداعيين إذا لم توجد لأحدهما بينة، وفي رفض سماع بعض الدعاوى التي يكذبها العرف وفي اعتبار الشرط الذي جرى به العرف، وفي الترخيص بمحظور دعت إليه ضرورة الناس وجرى به عرفهم، وفي أمثال هذا مما يجعل اجتهاد المجتهد أو قضاء القاضي ملائما حال البيئة ومتفقا وإلف الناس ومصالحهم.
قال شهاب الدين القرافي في قواعده: إذا جاءك رجل من غير إقليمك لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات - أيا كانت - إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين. (2) .
وأما كلام الفقهاء المعاصرين فقالوا: كثر التعامل في التأمين وتعارف
(1)[الأشباه والنظائر] ، ص (88 - 90) .
(2)
[مصادر التشريع فيما لا نص فيه] ، ص (126) .