المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر:

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة:

- ‌ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحدللوقت الواحد

- ‌(وجهة نظر)

- ‌التأمين

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌التأمين التعاوني:

- ‌ التأمين التجاري:

- ‌ تأمين الأضرار والأشخاص

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ (بوليصة التأمين) :

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌ ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة:

- ‌ذكر كلام المانعين:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة

- ‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

- ‌ عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم

- ‌ عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين

- ‌ التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌ أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة:

- ‌ قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق:

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة

- ‌ كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

- ‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

- ‌ التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌ الاستدلال على جوازه بالعرف:

- ‌ الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:

- ‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

- ‌خلاصة الأمر الثاني:

- ‌تمهيد:

- ‌بحث في البيوع

- ‌ بيع العينة والتورق:

- ‌آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب] :

- ‌ النووي في [روضة الطالبين] :

- ‌ ابن قدامة في [المغني] :

- ‌ محمد بن مفلح في [الفروع]

- ‌ شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى]

- ‌ ابن القيم في [إعلام الموقعين]

- ‌مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌ صاحب [المغني]

- ‌ محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار]

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌كيفية الإمساك والإفطار فيرمضان وضبط أوقات الصلاةفي بعض البلدان

- ‌ ذكر النقول مع الأدلة

- ‌ الكمال بن الهمام في [فتح القدير]

- ‌ الزيلعي في شرحه على [الكنز]

- ‌ ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار]

- ‌ الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل]

- ‌ حسنين مخلوف في [الفتاوى] :

الفصل: ‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

الرأي الثالث:

‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

، فحرم التأمين على الحياة أو بعض أعضاء الجسم؛ كالحنجرة أو الأصابع.

واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المانعون للتأمين التجاري مطلقا من كونه قمارا، ونوعا من بيوع الغرر، ومتضمنا بيع دراهم بدراهم مثلا نسيئة مع التفاضل، وأباح التأمين على السيارات من الحوادث التي تصاب بها وما تصيب به غيرها من الأضرار في النفوس والأموال، واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المجيزون للتأمين التجاري مطلقا من كونه من باب التعاون والوفاء بالعقود، وقد أمر الله بذلك، وكون الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ولم ينهض دليل على منع عقود التأمين، وقاسه على ضمان السوق وضمان المجهود، ومن كونه مصلحة ولشدة حاجة الناس إليه، وناقش كل أدلة مخالفيه بما ناقش كل من الفريقين السابقين مخالفه فلذا اكتفت اللجنة بما تقدم من استدلال الفريقين، ومناقشتها خشية الإطالة بما لا جدوى فيه.

وسلك جماعة في التفصيل طريقا أخرى هي الفرق بين ما كان من عقود التأمين خاليا من الربا فيجوز، وما كان منها مشتملا على الربا إلا إذا دعت الضرورة إليه فيرخص فيه مؤقتا حتى تتاح الفرصة للتخلص مما فيه الربا، وقد تقدم استدلال المانعين وجه اشتمال عقود التأمين على الربا، ومناقشة المجيزين لذلك فلا نطيل بذكره خشية التكرار.

وتردد بعض العلماء المعاصرين في الحكم على التأمين التجاري بحل وبحرمة ورأى أن هذه المسألة عامة ولها أهمية كبرى فينبغي أن لا تترك لفرد

ص: 252

يفتي فيها، بل يجب على علماء العصر أن يوفروا جهودهم ويكدسوها لبحثها، وأن يتعاونوا على حل مشاكلها، لينتهوا من بحثهم إلى رأي واضح يذهب ببلبلة الأفكار ويقضي على اختلاف الآراء أو يحد من كثرتها ويخفف من شدتها. ومن نظر في هذا لم يجد فيه حكما موافقا أو مخالفا لما تقدم وإنما هو نصيحة لعلماء العصر ومشورة عليهم بما يجب أن يعملوه وإرشاد إلى الطريق التي يجب أن يسلكوها لحل المشكل والوصول إلى نتيجة مرضية.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في المعاقد حلالها وحرامها تتعلق بما سبق من الأدلة - رأينا أن نتبعها ما تقدم؛ لما تشتمل عليه من زيادة البيان.

قال رحمه الله تعالى: فصل: القاعدة الثانية: في المعاقد حلالها وحرامها.

والأصل في ذلك: أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق.

وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه هما: الربا، والميسر، فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة، وسور: آل عمران، والروم، والمدثر، وذم اليهود عليه في سورة النساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما

ص: 253

جمعه الله في كتابه، «فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر» ، كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.

والغرر: هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك: أن العبد إذا أبق، أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حصل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك - كله من نوع الغرر.

وأما الربا: فتحريمه في القرآن أشد؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم، وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما أمر مجرب عند الناس، وذلك: أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج، وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة

(1) سورة البقرة الآية 278

(2)

سورة البقرة الآية 279

ص: 254

إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف، وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه، فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج، بخلاف الميسر، فإن المظلوم فيه غير مفتقر، ولا محتاج إلى العقد، وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها، والربا فيه ظلم محقق لمحتاج، وبهذا كان ضد الصدقة، فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء، فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه، فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه، فهذا من أشد أنواع الظلم، ولعظمته: لعن النبي صلى الله عليه وسلم أكله، وهو الأخذ، وموكله وهو المحتاج المعطي للزيادة، وشاهديه وكاتبه، لإعانتهم عليه.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق، كما حرم قليل الخمر؛ لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل: كون الدرهم صحيحا، والدرهمين مكسورين، أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك، ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما، فلم يروا به بأسا، حتى أخبرهم الصحابة الأكابر- كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما - بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل.

وأما الغرر: فإنه ثلاثة أنواع: إما المعدوم؛ كحبل الحبلة، وبيع السنين، وإما المعجوز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق، وإما المجهول المطلق، أو المعين المجهول جنسه أو قدره؛ كقوله: بعتك عبدا أو بعتك

ص: 255

ما في بيتي، أو بعتك عبيدي. فأما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته؛ كقوله: بعتك الثوب الذي في كمي، أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك - ففيه خلاف مشهور، وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة، وعن أحمد فيه ثلاث روايات، إحداهن: لا يصح بيعه بحال، كقول الشافعي في الجديد، والثانية: يصح وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه، كقول أبي حنيفة، وقد روي عن أحمد: لا خيار له. والثالثة: - وهي المشهور - أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدون الصفة، كالمطلق الذي في الذمة، وهو قول مالك.

ومفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن، وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا، وكذلك اللبن عند الأكثرين، وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، فإنه يصح، مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور؛ كمالك والشافعي وأحمد، وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد.

وجوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل. فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره.

ولما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص، فلم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه

ص: 256

الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب، على اختلاف القولين للشافعي وأحمد، وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب.

إذا تبين ذلك: فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال: هو أفقه الناس في البيوع، كما كان يقال: عطاء أفقه الناس في المناسك، وإبراهيم أفقههم في الصلاة، والحسن أجمعهم لذلك كله؛ ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك من أجوبته، والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب. فإنهما يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد؛ لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته، ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق، حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه، وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبالغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله، لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها.

وجماع الحيل نوعان: إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود.

فالأول: مسألة (مد عجوة) وضابطها: أن يبيع ربويا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه، مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر، حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار.

فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة (مد عجوة) بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما، وإنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل من الكوفيين، وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا. وأما إن

ص: 257

كان كلاهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد، والمنع: قول مالك والشافعي، والجواز: قول أبي حنيفة، وهي مسألة اجتهاد.

وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي، كبيع شاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن: فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز.

والنوع الثاني من الحيل: أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود، مثل أن يتواطآ على أن يبيعه الذهب بخرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب، أو يواطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا، ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه، وهي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك، مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين، أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك.

فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال:«لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (1) » قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو من جنس حيل اليهود، فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل، ويسمونه: المشكند، وقد لعنهم الله على ذلك.

وقد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» ، وفي الصحيحين عنه أنه قال:«لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها (2) » ، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من

(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

(2)

صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .

ص: 258

أدخل فرسا بين فرسين - وهو لا يأمن أن يسبق - فليس قمارا، ومن أدخل فرسا بين فرسين - وقد أمن أن يسبق - فهو قمار (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:«البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (2) » .

ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة، ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك، وذكرنا ما يحتج به من يجوزها؛ كيمين أبي أيوب، وحديث تمر خيبر، ومعاريض السلف، وذكرنا جواب ذلك (3) .

ومن ذرائع ذلك: مسألة العينة، وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك، فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين؛ لأنها حيلة، وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم (4) » ، وإن لم يتواطآ فإنهما يبطلان البيع الثاني، سدا للذريعة، ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد، وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا، وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه.

ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل؛ ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى: التورق. ففي كراهته عن أحمد روايتان.

(1) سنن أبو داود الجهاد (2579) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) .

(2)

رواه البخاري ومسلم بنحوه من حديث عبد الله بن عمر.

(3)

في كتاب [إقامة الدليل على إبطال التحليل] .

(4)

سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .

ص: 259

والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن، بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق.

ففي الجملة: أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة.

وأما الغرر: فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي، أما الشافعي: فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من الفقهاء، مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان؛ كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده: أن ذلك لا يجوز، مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر، فخرج ذلك له قولا، واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الإصطخري " وروي عنه أنه ذكر له: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الحب حتى يشتد (1) » فدل على جواز بيعه بعد اشتداده، وإن كان في سنبله فقال: إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا، وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع.

قال ابن المنذر: جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة، وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وقال الشافعي مرة: لا يجوز، ثم بلغه حديث ابن عمر، فرجع عنه وقال به، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به.

وذكر بعض أصحابه له قولين. وأن الجواز هو القديم، حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة، متأولا إن بيع الغائب غرر وإن وصف،

(1) سنن الترمذي البيوع (1228) ، سنن أبو داود البيوع (3371) ، سنن ابن ماجه التجارات (2217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/250) .

ص: 260

حتى اشترط فيما في الذمة - كدين السلم - من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره؛ ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول، وقاس على بيع الغرر جميع العقود، من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير، وفدية الخلع والكتابة، وصلح أهل الهدنة، وجزية أهل الذمة - ما اشترطه في البيع عينا ودينا، ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع، وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها، أو يشترط لها شروط أخر.

وأما أبو حنيفة: فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين، ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته، ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة مهر المثل، ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة، مع الخيار؛ لأنه يرى وقف العقود، لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا، والشافعي يجوز بيع بعض ذلك، ويحرم أيضا في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد.

وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك، ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي، حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق.

وقال الشافعي: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا.

فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص، لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك.

وأما مالك: فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة، أو يقل غرره، بحيث يحتمل في العقود، حتى يجوز بيع المقاتي جملة، وبيع المغيبات في الأرض، كالجزر

ص: 261

والفجل ونحو ذلك.

وأحمد قريب منه في ذلك، فإنه يجوز هذه الأشياء، ويجوز - على المنصوص عنه - أن يكون المهر عبدا مطلقا، أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا تزيد جهالته على مهر المثل، وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق، كأبي الخطاب، ومنهم من يوافق الشافعي، فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع، كأبي بكر عبد العزيز، ويجوز - على المنصوص عنه - في فدية الخلع أكثر من ذلك، حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر، كقول مالك مع اختلاف في مذهبه، ليس هذا موضعه، لكن المنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض، كالجزر ونحوه إلا إذا قلع، وقال: هذا الغرر شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ والمنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة، ولا يباع من المقاتي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن، ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة؛ كقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن ذلك غرر، وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

ثم اختلف أصحابه: فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب؛ كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك، كقول الشافعي وأبي حنيفة.

وقال الشيخ أبو محمد: إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله؛ كالبصل المبيع أخضر، والكراث والفجل، أو كان المقصود فروعه. فالأولى جواز بيعه؛ لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر والحيطان، ويدخل ما لم يظهر في المبيع تبعا، وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض؛ لأن الحكم للأغلب، وإن تساويا لم يجز أيضا؛ لأن الأصل

ص: 262

اعتبار الشرط، وإنما سقط في الأقل التابع.

وكلام أحمد يحتمل وجهين، فإن أبا داود قال: قلت لأحمد: بيع الجزر في الأرض؟ قال: لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه، هذا الغرر، شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ فعلل بعدم الرؤية.

فقد يقال: إن لم ير كله لم يبع. وقد يقال: رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد.

وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها. كما هو العادة غالبا.

فقال قوم من المتأخرين: يجوز ذلك؛ لأن بيع أصول الخضروات كبيع الشجر، وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز. فكذلك هذا. وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.

وقال المتقدمون: لا يجوز بحال، وهو معنى كلامه ومنصوصه. وهو إنما نهى عما يعتاده الناس، وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار: أن يباع دون عروقه، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده. فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه: إنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز، وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يجز، وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه، فإن كانت الأرض هي المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا، وإن كان المقصود هو الثمر والزرع، فاشترى الأرض لذلك لم يجز. وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر، فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ: إنما هو الخضروات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر.

ص: 263

وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين:

أحدهما: كما في جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره. ولا شك أنه ظاهر، فإن المنع إنما يكون على قولنا: لا يصح بيع ما لم يره. فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب.

والثاني: أنه يجوز بيعها مطلقا، كمذهب مالك، إلحاقا لها بلب الجوز. وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين:

أحدهما: أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه، والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرفون غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأولى.

الثاني: أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه. فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم. فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه. وإن قلعوه جملة فسد بالقلع، فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر.

وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب، أو البائع إلى أكل التمر، فحاجة البائع هنا أوكد بكثير وسنقرر ذلك إن شاء الله.

وكدلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها، وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها، كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخلة أو شجرة: أن يباع جميع ثمرها. وإن كان فيها ما لم يصلح بعد.

ص: 264

وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا: إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة؛ لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد؛ لأن البسرة تصفر في يومها، وهذا بعينه موجود في المقتاة. وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود، وإنما يكون ذلك للمشتري؛ لأنه موجود في ملكه.

والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر؛ لأنه يجب على البائع سقي الثمرة، ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد، ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ، فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد، لا ما كان من موجبات الملك.

وأيضا: فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها؟ على روايتين:

أشهرهما عنه: أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه، وهي اختيار قدماء أصحابه؛ كأبي بكر وابن شاقلا.

والرواية الثانية: يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع. وهي اختيار أكثر أصحابه؛ كابن حامد والقاضي ومن تبعهما.

ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال: إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ، فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير، كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح، ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير، كأبي الخطاب وجماعات، وهو قول مالك

ص: 265

والشافعي والليث، وزاد مالك فقال: يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة. وحكوا ذلك رواية عن أحمد.

واختلف هؤلاء: هل يكون صلاح النوع - كالبرني من الرطب - صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. أحدهما: المنع، وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد. والثاني: الجواز، وهو قول أبي الخطاب. وزاد الليث على هؤلاء فقال: صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار. ومأخذ من جوز شيئا من ذلك: أن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين، ومن سوى بينهما، فإنه قال: المقصود الأمن من العاهة، وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح. ومأخذ من منع ذلك: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يبدو صلاحها (1) » يقتضي بدو صلاح الجميع.

والغرض من هذا المذهب: أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه، فقياس قوله: جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها. والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة، فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر، إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات، وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق، فإنه أمر لا ينضبط. فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت.

والغرض من هذا: أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل، كما قد روي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أصحابه على أصوله، وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في

(1) صحيح البخاري الزكاة (1486) ، صحيح مسلم البيوع (1534) ، سنن أبو داود البيوع (3367) ، سنن ابن ماجه التجارات (2214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك البيوع (1303) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .

ص: 266

المسألة الواحدة قولان في وقتين، فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين، فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر. وإذا كانت الأفراد مستوية وكان له فيها قولان، فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقوله فيها واحد بلا خلاف، وإن كان مما قد يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب: لا يخرج، وقال الجمهور: - كالقاضي أبي يعلى - يخرج الجواب، إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله، ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين، وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا، وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما، فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا: كان الفرق قولا له، وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك، فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا، وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنتم أعلم بأمر دنياكم، فأما ما كان من أمر دينكم فإلي (1) » .

وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات، فإذا كان في وقت قد قال: إن هذا حرام. وقال في وقت آخر فيه أو في مثله: إنه ليس بحرام، أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام - فقد تناقض قولاه. وهو مصيب في كليهما

(1) خرجه مسلم في صحيحه عن أنس وعائشة رضي الله عنهما.

ص: 267

عند من يقول: كل مجتهد مصيب، وإنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده.

وأما الجمهور الذين يقولون: إن لله حكما في الباطن، علمه العالم في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها، وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاده في طلبه؛ ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا، بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين.

هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله، مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد. وأما أهل الأهواء والخصومات، فهم مذمومون في مناقضاتهم؛ لأنهم يتكلمون بغير علم، ولا حسن قصد لما يجب قصده.

وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان:

أحدهما: لازم قوله الحق. فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره. وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.

والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق. فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه؛ لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.

وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو

ص: 268

ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله. وما لا يرضاه فليس قوله. وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه. فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها.

فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال، وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لكونه ملتزما لرسالته، فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له: ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه. ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه؛ لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين.

وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء - مع وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقا، لكن اعتقادا ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط. فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة - عذر

ص: 269

بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء، فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (1) ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه. فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده، لا باطنا ولا ظاهرا، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين، شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين، شبيها بالضالين.

فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه.

وثم قسم آخر - وهم غالب الناس - وهو أن يكون له هوى، وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة؛ ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» .

فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى: فهو مسيء. وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية.

وأكثر المتأخرين - من المنتسبين إلى فقه أو تصوف - مبتلون بذلك. وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد، وبعض أصول

(1) سورة النجم الآية 23

ص: 270

غيرهما هو أصح الأقوال. وعليه يدل غالب معاملات السلف ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به، وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه الله، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم، فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل، ولا يمكنه ذلك، ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها. فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه، ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها، وإنما هي من جنس اللعب. ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (1) وهذا الذنب ذنب عملي. وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوا من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له، وأدى ما وجب عليه. فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا. فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فالسبب الأول: هو الظلم. والسبب الثاني: هو عدم العلم. والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (2)

(1) سورة النساء الآية 160

(2)

سورة الأحزاب الآية 72

ص: 271

وأصل هذا: أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان؛ كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات؛ كالميسر والربا وما يدخل فيهما بنوع من الغرر وغيره؛ لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (1) فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب. فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلاحق يوقع في النفوس ذلك، وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون الثمار فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام - عاهات يحتجون بها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة، في ذلك:«فإما لا، فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر (2) » - كالمشورة، يشير بها لكثرة خصومتهم -. وذكر خارجة بن زيد بن ثابت: أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر. رواه البخاري تعليقا، وأبو داود إلى قوله: خصومتهم، وروى أحمد في [المسند] عنه قال:«قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة فقال: ما هذا؟ فقيل له: هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون: أصابنا الدمان والقشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها (3) » .

(1) سورة المائدة الآية 91

(2)

سنن أبو داود البيوع (3372) .

(3)

سنن أبو داود البيوع (3372) ، مسند أحمد بن حنبل (5/190) .

ص: 272

فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: ما أفضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر، وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين، من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس، وفي مسلم من حديث أبي هريرة، وفي حديث أنس تعليله، ففي الصحيحين عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر أو تصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ (1) » ، وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر حتى يزهو، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر أو تصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك (2) » .

قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: «أرأيت إن منع الله الثمرة (3) » من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أدرجاه فيه، ويرون أنه غلط.

فهذا التعليل - سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام أنس - فيه بيان أن في ذلك أكل المال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون.

وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته فإنهن من الحق (4) » صار هذا اللهو حقا.

(1) صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، موطأ مالك البيوع (1304) .

(2)

صحيح البخاري البيوع (2208) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .

(3)

صحيح البخاري البيوع (2208) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .

(4)

سنن الترمذي فضائل الجهاد (1637) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2811) .

ص: 273

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، أو أكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، قاله جمهور العلماء، كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى؛ ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث: أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة كانت من ضمان البائع، كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (1) » ، وفي رواية لمسلم عنه:«أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح (2) » ، والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث - وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة فيه اضطراب - أخذ في ذلك بقول الكوفيين: إنها تكون من ضمان المشتري؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض؛ لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض، وهذا على أصل الكوفيين أمشى؛ لأن المشتري لا يملك إبقاءه على الشجر، وإنما موجب العقد عندهم: القبض الناجز بكل حال، وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه، مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك، ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع، ويفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا. ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصحيح يوافقه، وهو ما نبه عليه

(1) صحيح مسلم المساقاة (1554) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4528) ، سنن أبو داود البيوع (3470) ، سنن ابن ماجه التجارات (2219) ، سنن الدارمي البيوع (2556) .

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1554) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .

ص: 274

النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ (1) » فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها، لا عند العقد، كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا، فتلف الثمرة قبل التمكن من الجذاذ كتلف العين المؤجرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة، وفي الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق. فكذلك في البيع.

وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة، وأن المشتري لم يملك الإبقاء، وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله.

فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها. وفي لفظ لمسلم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة (2) » ، وفي لفظ لمسلم عنه «نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى الباع والمشتري (3) » ، وفي [سنن أبي داود] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض (4) » .

فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما، فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد، وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة. فإن هذا لا سبيل إليه، إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين قسموا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (5) {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (6) ومما ذكره في سورة يونس في قوله:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (7)

(1) صحيح البخاري البيوع (2199) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .

(2)

صحيح مسلم البيوع (1534) .

(3)

صحيح مسلم البيوع (1535) ، سنن الترمذي البيوع (1226) ، سنن النسائي البيوع (4551) ، سنن أبو داود البيوع (3368) .

(4)

سنن أبو داود البيوع (3369) .

(5)

سورة القلم الآية 17

(6)

سورة القلم الآية 18

(7)

سورة يونس الآية 24

ص: 275

وإنما المقصود: ذهاب العاهة التي يتكرر وجودها، وهذه إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب، وقبل ظهور النضج في الثمر، إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله، ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح. وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر.

فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته.

ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين، وضاق عليه عقله ودينه.

وأيضا: ففي [صحيح مسلم] عن أبي رافع: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (1) » .

ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل والموزون من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث، خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك؛ لأن القرض موجبه رد المثل، والحيوان ليس بمثلي، وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضا

(1) صحيح مسلم المساقاة (1600) ، سنن الترمذي البيوع (1318) ، سنن النسائي البيوع (4617) ، سنن أبو داود البيوع (3346) ، سنن ابن ماجه التجارات (2285) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) ، موطأ مالك البيوع (1384) ، سنن الدارمي البيوع (2565) .

ص: 276

عن مال.

وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة، كما هو المشهور من مذاهبهم، خلافا للكوفيين، ووجه في مذهب أحمد: أنه يثبت بالقيمة. وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه: هو التقريب، وإلا فيعز وجود حيوان مثل ذلك الحيوان، لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي، وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة.

وأيضا: فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجذاذ، وفيه روايتان عن أحمد. إحداهما: يجوز؛ كقول مالك، وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه.

وأيضا: فقد دل الكتاب في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1) والسنة في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق. وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث، وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق، وهو أحد قولي الشافعي. وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه، وكما رواه أحمد في [المسند] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، وعن بيع اللمس والنجش وإلقاء الحجر (2) » فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر، فدل

(1) سورة البقرة الآية 236

(2)

مسند أحمد بن حنبل (3/59) .

ص: 277

على الفرق بينهما.

وسببه أن المعقود عليه في النكاح - وهو منافع البضع - غير محدودة، بل المرجع فيها إلى العرف، فكذلك عوضه الآخر؛ لأن المهر ليس هو المقصود، وإنما هو نحلة تابعة. فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه، وكذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم وخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي. قال لهم:«إني قائم فخاطب الناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله، وقام فخطب الناس، فقال: إني قد رددت على هؤلاء سبيهم، فمن شاء طيب ذلك، ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا (1) » فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة، إلى أجل متقارب غير محدود، وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة - وهي السلاح - ويخرجون منها. واشترط عليهم أن لا يكتموا، ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد.

فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم. وعن ابن عباس قال: «صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون، ضامنون لها حتى يردوها عليهم، إن كان باليمن كيد أو غارة (2) » رواه أبو داود.

(1) صحيح البخاري الوكالة (2308) ، سنن أبو داود الجهاد (2693) ، مسند أحمد بن حنبل (4/327) .

(2)

سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3041) .

ص: 278

فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس، غير موصوفة بصفات السلم، وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون وقد لا يكون.

فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال - كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب -: ليس بواجب أن يعلم، كما يعلم الثمن والأجرة، ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر؛ لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع، بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده. اهـ (1) .

(1)[القواعد النورانية] ، صـ (115-137) .

ص: 279