الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموظف من جهد في خدمة الأمة.
وعلى هذا لا يكون المعاش التقاعدي من باب المعاوضات المالية التجارية حيث كان مبناه مسئولية ولي الأمر عن رعيته ومقابلة أرباب المعروف فيه بالمعروف، وإذن فلا شبهة بينه وبين عقود التأمين فإنها معاوضات مالية تجارية استغلالية يقصد بها الربح، فالفرق واضح بين مكافآت من أولياء أمور الأمة المسئولين عن رعيتهم لمن قام بخدمة الأمة أو من يعنيه أمره، جزاء معروفه - وبين عقود معاوضات تجارية تقصد بها شركات التأمين استغلال المستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة.
ز -
قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:
نذكر فيما يلي
كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة
ثم نذكر بعده كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل مع المناقشة.
أما كلام الفقهاء السابقين: فقال السمرقندي: ثم العاقلة من هم؟ فعندنا العاقلة: هم أهل الديوان في حق من له الديوان، وهم المقاتلة، ومن لا ديوان له فعاقلته من كان من عصبته في النسب.
وعند الشافعي: لا يلزم أهل الديوان إلا أن يكونوا من النسب.
والصحيح: قولنا؛ لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانت الدية على القبائل، فلما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على أهل الديوان وذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم من غير خلاف، وتبين أنه إنما كان على أهل القبائل للتناصر، فلما صار التناصر بالديوان اعتبر الديوان لوجود المعنى؛ ولهذا لا تكون المرأة والصبي والعبد والمدبر
والمكاتب من جملة العاقلة؛ لأنهم ليسوا من أهل التناصر ولا من أهل الإعانة بالشرع (1) .
وقال ابن جزي: وإنما تؤدي العاقلة الدية بأربعة شروط، وهي: أن تكون الثلث فأكثر، وقال ابن حنبل: تؤدي القليل والكثير، وأن تكون عن دم؛ احترازا من قيمة العبد، وأن تكون عن خطأ، وأن تثبت بغير اعتراف وإنما يؤديها منهم من كان ذكرا بالغا عاقلا موسرا في الدين والدار، وتوزع عليهم حسب حالهم في المال، فيؤدي كل واحد منهم ما لا يضر به ويبدأ بالأقرب فالأقرب (2) .
وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهذا أكثر من حديث الخاصة، ولم أعلم مخالفا في أن العاقلة العصبة وهم القرابة من قبل الأب، وقضى عمر بن الخطاب على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب وقضى للزبير بميراثهم؛ لأنه ابنها.
قال: وعلم العاقلة أن ينظر إلى القاتل والجاني ما دون القتل مما تحمله العاقلة من الخطأ، فإن كان له إخوة لأبيه حمل عليهم جنايته على ما تحمل العاقلة، فإن احتملوها لم ترفع إلى بني جده وهم عمومته، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بني جده، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بني جد أبيه، ثم هكذا ترفع إذا عجز عنها أقاربه إلى أقرب الناس به ولا ترفع إلى بني أب
(1)[تحفة الفقهاء](3 \ 186) .
(2)
[قوانين الأحكام الفقهية] ، (ص 377) .
ودونهم أقرب منهم حتى يعجز عنها من هو أقرب منهم، كأن رجلا من بني عبد مناف جنى فحملت جنايته بنو عبد مناف فلم تحملها بنو عبد مناف فترفع إلى بني قصي فإن لم تحملها رفعت إلى بني كلاب فإن لم تحملها رفعت إلى بني مرة فإن لم تحملها رفعت إلى بني كعب فإن لم تحملها رفعت إلى بني غالب فإن لم تحملها رفعت إلى بني فهر فإن لم تحملها رفعت إلى بني مالك فإن لم تحملها رفعت إلى بني النضر فإن لم تحملها رفعت إلى بني كنانة كلها ثم هكذا حتى تنفد قرابته أو تحتمل الدية.
قال: ومن في الديوان ومن ليس من العاقلة سواء، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على العاقلة ولا ديوان حتى كان الديوان حين كثر المال في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال أيضا: ولم أعلم مخالفا في أن المرأة والصبي إذا كانا موسرين لا يحملان من العقل شيئا، وكذلك المعتوه - عندي - والله أعلم، ولا يحمل العقل إلا حر بالغ ولا يحملها من البالغين فقير. فإذا قضي بها وهو رجل فقير فلم يحل نجم منها حتى أيسر أخذ بها، وإن قضي بها وهو غني ثم حلت وهو فقير طرحت عنه إنما ينظر إلى حاله يوم حل. . . إلخ (1) .
وقال الفتوحي: وهي من غرم ثلث دية فأكثر بسبب جناية غيره وعاقلة جان ذكور عصبته نسبا وولاء حتى عمودي نسبه ومن بعد (2) .
(1)[الأم](1 \ 101) وما بعدها.
(2)
[المنتهى] ، (2 \ 448) .
وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين:
فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: وأما نظام العواقل في الإسلام فهو نظام وردت به السنة النبوية الصحيحة الثبوت، وأخذ به أئمة المذاهب. وخلاصته أنه إذا جنى أحد جناية قتل غير عمد بحيث يكون موجبها الأصلي الدية أو القصاص فإن دية النفس توزع على أفراد عاقلته الذين يحصل بينه وبينهم التناصر عادة، وهم الرجال البالغون من أهله وعشيرته وكل من يتناصر هو بهم ويعتبر هو واحدا منهم، فتقسط الدية عليهم في ثلاث سنين بحيث لا يصيب أحدا منهم أكثر من أربعة دراهم في السنة فإذا لم يف عدد أفراد العشيرة بمبلغ الدية في ثلاث سنين يضم إليهم أقرب القبائل والأقارب نسبا على ترتيب ميراث العصبات، فإذا لم يكن للقاتل عشيرة من الأقارب والأنساب وأهل التناصر كما لو كان لقيطا مثلا - كانت الدية في ماله تقسط على ثلاث سنين، فإن لم يكن له مال كاف فعاقلته بيت المال العام، أي: خزانة الدولة فهي التي تتحمل دية القتيل.
وهناك اختلافات يسيرة بين المذاهب في الموضوع. ينظر ابن عابدين جزء \ 5، كتاب المعاقل وغيره من كتب المذاهب.
إن هذا النظام نظام العواقل خاص بتوزيع الموجب المالي في كارثة القتل الخطأ وتهدف الحكمة فيه إلى غايتين:
الأولى: تخفيف أثر المصيبة عن الجاني المخطئ.
والثانية: صيانة دماء ضحايا الخطأ من أن تذهب هدرا؛ لأن الجاني المخطئ قد يكون فقيرا لا يستطيع التأدية فتضيع الدية.
قال ابن عابدين رحمه الله في أول كتاب المعاقل من حاشيته [رد
المختار] نقلا عن المعراج ما نصه: إن العاقلة يتحملون باعتبار تقصيرهم وتركهم حفظه ومراقبته وخصوا بالضم؛ لأنه إنما قصر لقوته بأنصاره، فكانوا هم المقصرين، وكانوا قبل الشرع الإسلامي يتحملون عنه تكرما واصطناعا بالمعروف، فالشرع قرر ذلك - أي: أوجبه وجعله إلزاميا - وتوجد هذه العادة بين الناس، فإن لحقه خسران من سرقة أو حرق يجمعون له مالا لهذا المعنى. انتهى كلام ابن عابدين.
أقول: إن هذا الكلام صريح في أن نظام العواقل في الإسلام أصله عادة حسنة تعاونية كانت قائمة قبل الإسلام في توزيع المصيبة المالية الناشئة من القتل أو من الحرق أو السرقة ونحوها بغية تخفيف ضررها عن كاهل من لحقته؛ جبرا لمصابه، وإحياء لحقوق الضحايا في الجنايات، وقد أقر الشرع الفكرة لما فيها من مصلحة مزدوجة وجعلها إلزامية في جناية القتل؛ لأن فيها مسئولية متعدية بسبب التناصر، وذلك بعد إخراج حالة العمد منها كما يقتضيه التنظيم القانوني، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:«لا تعقل العواقل عمدا (1) » ، لكي لا يكون في معاونة العامة تشجيع على الجريمة، وهذا هو المنطق القانوني نفسه في عدم جواز التأمين من المسئولية قانونا عن فعل الغش وجناية العمد. وتركها اختيارة للمروءات؛ وفقا للتوجيه الشرعي العام في التعاون المندوب إليه شرعا في الكوارث المالية الأخرى.
(1) روى هذا الحديث ابن عباس موقوفا عليه من رواية محمد بن الحسن. وروي مرفوعا وهو غريب. انظر [نصب الراية] للزيلعي (4 \ 399) ، كتاب المعاقل، الحديث الخامس.
فما المانع من أن يفتح باب لتنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث يجعله ملزما بطريق التعاقد والإرادة الحرة كما جعله الشرع إلزاميا دون تعاقد في نظام العواقل؟ وهل المصلحة التي يراها الشرع الإسلامي بالغة من القوة درجة توجب جعلها إلزامية بحكم الشرع تصبح مفسدة إذا حققها الناس على نطاق واسع بطريق التعاقد والمعاوضة التي يدفع فيها القليل؛ لصيانة الكثير وترميم الضرر الكبير من مختلف الكوارث؟ وذلك لكي يصبح هذا الباب قابلا لأن يستفيد منه كل راغب، مع ملاحظة أن هذا التوسع في النطاق داخل في دائرة التعاون المندوب إليه شرعا بصورة غير إلزامية.
يقول ابن القيم رحمه الله في صدد ما يجوز من المشارطات العقدية شرعا: كل ما يجوز بذله وتركه دون اشتراط فهو لازم بالشرط. انظر [إعلام الموقعين] ، طبعة المنيرية ج 3 ص 339، 340 (1) ا. هـ.
واعترض عليه: بأن العاقلة أسرة يربطها الدم وتربطها الرحم الموصولة والتي أمر الله تعالى بوصلها، ويربطها التعاون على البر والتقوى، ويربطها التعاون في تحمل الغرم والاشتراك في كسب الغنم فهل يشبهها بأي وجه من وجوه الشبه عقد جعلي ينشأ بالإرادة يكون بين شركة مستغلة، وطرف آخر يقدم إليها مالا كل عام أو كل شهر؟ إننا نستغرب كل الاستغراب هذا القياس بعد بيان الأستاذ الفاضل، بل إننا من بعده أشد استغرابا (2) .
وأجيب عن ذلك: بأن تشبيه عقد التأمين بنظام العواقل في الإسلام من
(1)[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (412) .
(2)
[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (517) .
حيث فكرة التعاون لا يستلزم أن تكون شركة التأمين أسرة أو عشيرة للمؤمن له، كما أن العاقلة هي أسرة الجاني في القتل الخطأ.
إن من المقرر في علم أصول الفقه أن طريق القياس الذي إليه يرجع الفضل الأعظم في تضخم الفقه الإسلامي هذه الضخامة لا يجب فيه الاتحاد المطلق في الصورة بين المقيس والمقيس عليه وإلا لما كان عندئذ حاجة لإجراء القياس إذ يكون المقيس عندئذ فردا من أفراد المقيس عليه يدخل مباشرة تحت النص الشرعي الذي يقرر الحكم في المقيس عليه، بل يكفي في القياس التشابه بين المقيس والمقيس عليه في نقطة ارتكاز الحكم ومناطه وهي العلة، وهذا ما رأيناه في نظام العواقل الإسلامي، ونظام التأمين الحديث في بعض فروعه، ففي نظام العواقل تعاون إلزامي شرعا في تحمل المسئولية المالية عن القتل الخطأ، وفي نظام التأمين تعاون اختياري بطريق التعاقد على توزيع الموجب المالي (المسئولية المدنية) في حال التأمين من المسئولية وهو أحد فروع نظام التأمين، فما أوجبه الشرع إيجابا في بعض الأحوال دون تعاقد؛ لما فيه من مصلحة يمكن أن يسوغ نظيره تسويغا بطريق التعاقد في صور أخرى لمصالح أخرى تشبه تلك في المصلحة من حيث النفع التجاري والاقتصادي بوجه عام، وتخفيف نتائج الكوارث والأخطار عمن يصاب بها، وذلك بطريقة فنية؛ لتوزيعها وتشتيتها (1) .
ويمكن أن يقال: لا يصح قياس عقد التأمين على نظام العواقل في
(1)[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (543، 544) .
الإسلام؛ لأنه قياس مع الفارق وتقرير ذلك من وجوه:
الوجه الأولى: أن الهدف من تحمل العاقلة عن الجاني هو النصرة الشرعية بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى، والهدف من إنشاء عقد التأمين ما هو إلا الاستغلال المحض للشركة المتعاقدة مع المستأمن.
الوجه الثاني: نظام العواقل الخطر الذي يتحمل تراه مشتركا، فكل فرد من أفراد العاقلة عضو يناله حظه من القسط الواجب عليه، وقد يقع منه شيء وقد لا يقع. وإذا وقع منه شيء يوجب تحمل العاقلة عنه فقد يكون أقل مما دفع أو أكثر أو مساويا، وليس بين ما يدفعه في حالة حصول الحادث من غيره وبين ما يدفع عنه في حالة وقوعه في الخطأ أي ارتباط لكن بينهما ارتباط في موجب العقل فكان واضحا في باب التعاون وتحمل المسئولية.
الوجه الثالث: أن القدر الذي يحمله الفرد من أفراد العاقلة يختلف باختلاف أوصاف الأفراد من غني وفقير ودرجة متوسطة بينهما، فالفقير لا يحمل شيئا، وما يقدر عليه الغني والمتوسط يختلف باختلافهما، أما في عقد التأمين فالمقدر على الشركة إذا وقع الخطر يؤخذ حتما، سواء كانت غنية أو فقيرة فإن كانت غنية استلم منها وإن كانت فقيرة بقي في ذمتها، وسواء أجحف بها أو لم يجحف بها، فأين هذا من نظام العواقل؟
الوجه الرابع: ما تتحمله العاقلة مقدر شرعا وهو الدية أما في عقد التأمين فيؤخذ المبلغ الموقع عليه في العقد سواء كان أقل من الدية أو أكثر - هذا في التأمين على الحياة -.