المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ صاحب [المجموع شرح المهذب] - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر:

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة:

- ‌ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحدللوقت الواحد

- ‌(وجهة نظر)

- ‌التأمين

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌التأمين التعاوني:

- ‌ التأمين التجاري:

- ‌ تأمين الأضرار والأشخاص

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ (بوليصة التأمين) :

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌ ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة:

- ‌ذكر كلام المانعين:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة

- ‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

- ‌ عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم

- ‌ عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين

- ‌ التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌ أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة:

- ‌ قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق:

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة

- ‌ كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

- ‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

- ‌ التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌ الاستدلال على جوازه بالعرف:

- ‌ الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:

- ‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

- ‌خلاصة الأمر الثاني:

- ‌تمهيد:

- ‌بحث في البيوع

- ‌ بيع العينة والتورق:

- ‌آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب] :

- ‌ النووي في [روضة الطالبين] :

- ‌ ابن قدامة في [المغني] :

- ‌ محمد بن مفلح في [الفروع]

- ‌ شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى]

- ‌ ابن القيم في [إعلام الموقعين]

- ‌مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌ صاحب [المغني]

- ‌ محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار]

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌كيفية الإمساك والإفطار فيرمضان وضبط أوقات الصلاةفي بعض البلدان

- ‌ ذكر النقول مع الأدلة

- ‌ الكمال بن الهمام في [فتح القدير]

- ‌ الزيلعي في شرحه على [الكنز]

- ‌ ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار]

- ‌ الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل]

- ‌ حسنين مخلوف في [الفتاوى] :

الفصل: ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

من باب الدين بالدين، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه، وهو القياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، ومما أجازه مالك في هذا الباب خالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما، قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل شيء ما يبتاع في الأسواق، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه، أما القمح وشبهه فلا، فهذا هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم.

ص: 402

ج ـ قال‌

‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

(1)(فرع) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض، وقد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا سواء كان الطعام أو غيره، وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن، قال ابن المنذر، أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه، قال: واختلفوا في غير الطعام على أربعة مذاهب:

أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه، سواء جميع المبيعات، كما في الطعام، قاله الشافعي ومحمد بن الحسن.

والثاني: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه، إلا المكيل والموزون، قاله

(1)[المجموع](9 \295 ـ 303)

ص: 402

عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق.

والثالث: لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف.

والرابع: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب، قاله مالك وأبو ثور، قال ابن المنذر: وهو أصح المذاهب، لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.

واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (1) » رواه البخاري ومسلم، وعنه قال:«لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا، يعني: الطعام، فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (2) » رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عباس قال:(أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) قال ابن عباس ثبت ذلك عنه قال ابن عباس: (وأحسب كل شيء مثله) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (3) » ، قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (4) » رواه مسلم، وفي رواية قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى (5) » ، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (6) » رواه مسلم، قالوا: فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل أن غيره بخلافه، قالوا: وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية. وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه، وعلى بيع الثمر قبل قبضه.

(1) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .

(2)

صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) .

(3)

صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .

(4)

صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .

(5)

صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) .

(6)

صحيح مسلم البيوع (1529) ، مسند أحمد بن حنبل (3/327) .

ص: 403

واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تبع ما لم تقبضه» وهو حديث حسن، كما سبق بيانه في أول هذا الفصل. وبحديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس، وقد قال: عن أبي الزناد، والمدلس إذا قال:"عن" لا يحتج به. لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث، وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده فلعله اعتضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد وبالقياس على الطعام.

والجواب عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين: أحدهما أن هذا استدلال بداخل الخطاب والتنبيه مقدم عليه، فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره أولى.

والثاني: أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد.

وأما قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق، فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية، ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض.

والجواب عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين، فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه، ونظير المبيع إنما هو الثمن والمعين ولا يجوز بيعه قبل القبض، وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع. والله أعلم.

واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص، ولأنه لا يتصور تلف العقار بخلاف غيره. واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك. وأجابوا

(1) سنن أبو داود البيوع (3499) .

ص: 404

عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه.

وأما قولهم: لا يتصور تلفه. فينتقض بالجديد الكثير. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال المصنف رحمه الله:

وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليها مستقرا كغرامة المتلف وبدل القرض، جاز بيعه ممن عليه قبل القبض؛ لأن ملكه مستقر عليه. فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض وهل يجوز من غيره؟

فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على تسليمه إليه؛ لأنه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز، والأول أظهر؛ لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود. وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه، لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس، وقال:

خذ برأس المال علفا أو غنما، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر؛ لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالبيع قبل القبض.

وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان، قال في الصرف: يجوز بيعه قبل القبض، لما روى ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس ما لم

ص: 405

تتفرقا وبينكما شيء (1) » ، ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض.

وروى المزني في [جامعه الكبير] ، أنه لا يجوز؛ لأن ملكه غير مستقر عليه؛ لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب، فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان:

أحدهما: أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته.

والثاني: أنه لا يصح ذلك قولا واحدا، وهو المنصوص في المختصر؛ لأنه لا يملكه ملكا مستقرا فلم يصح بيعه كالمسلم فيه.

الشرح: حديث ابن عمر صحيح، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد بن عمر بلفظه هذا، قال الترمذي وغيره: لم يرفعه غير سماك، وذكره البيهقي في معرفة السنن والآثار إن أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر (قلت) : وهذا لا يقدح في رفعه وقد قدمنا مرات أن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلا وبعضهم متصلا وبعضهم موقوفا مرفوعا كان محكوما بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين.

بالبقيع هو بالباء الموحدة وإنما قيدته؛ لأني رأيت من يصحفه.

قوله: السلم في حلل: هو جمع حلة بضم الحاء وهي ثوبان، ولا يكون إلا ثوبان كذا قاله أهل اللغة. والمدق بكسر الدال، والجل بكسر الجيم وهو الغليظ.

وقوله: من غير حاجة إليه يحترز من أساس الدار فإنه يصح بيعه وهو

(1) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .

ص: 406

غرر للحاجة، وهذا الاحتراز يكرره المصنف في كتاب البيوع كثيرا.

أما الأحكام فقد لخصها الرافعي أحسن تلخيص، وهذا مختصر كلامه قال: الدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن وثمن وغيرهما، وفي حقيقة الثمن ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه ما ألصق به الباء كقولك: بعت كذا بكذا والأول مثمن. والثاني ثمن، وهذا قول القفال.

والثاني: أنه النقد مطلقا والمثمن ما يقابله على الوجهين.

أصحهما: أن الثمن النقد والمثمن ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد أو كان العوضان نقدين فالثمن ما ألصقت به الباء. والمثمن ما يقابله، فلو باع أحد النقدين بالآخر فلا مثمن فيه على الوجه الثاني، ولو باع عرضا بعرض فعلى الوجه الثاني لا ثمن فيه، وإنما هو مبادلة، ولو قال: بعتك هذه الدراهم بهذا العبد، فعلى الوجه الأول العبد ثمن والدراهم مثمن، وعلى الوجه الثاني والثالث في صحة هذا العقد وجهان كالسلم في الدراهم والدنانير (الأصح) الصحة في الموضعين. فإن صححناه فالعبد مثمن.

ولو قال: بعتك هذا الثوب بهذا العبد ووصفه صح العقد.

(فإن قلنا) : الثمن ما ألصق به الباء فالعبد ثمن، ولا يجب تسليم الثوب في المجلس وإلا ففي وجوب تسليم الثوب وجهان؛ لأنه ليس فيه لفظ السلم لكن فيه معناه. فإذا عرف عدنا إلى بيان الأضرب الثلاثة.

الضرب الأول: المثمن، وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به؟ بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض، أو إتلاف، أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من له عليه

ص: 407

دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه. فيه ثلاثة أوجه:

أصحهما: لا.

والثاني: نعم.

والثالث: لا يجوز عليه ويجوز به. هكذا حكوا الثالث، وعكسه الغزالي في الوسيط فقال: يجوز عليه لا به ولا أظن نقله ثابتا.

الضرب الثاني: الثمن فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان:

أحدهما: القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن القطان.

وأشهرهما: على قولين:

أصحهما: وهو الجديد جوازه.

والقديم: منعه، ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير، فإن قلنا الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا؛ لأن ما نثبت في الذمة فثمنا لم يجز الاستبدال عنه، وأما الأجرة فكالثمن، وأما الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا إنهما مضمونان ضمان العقد وإلا فهما كبدل الإتلاف.

التفريع: إن منعنا الاستبدال عن الدراهم فذلك إذا استبدل عنها عرضا فلو استبدل نوعا منها بنوع أو استبدل الدراهم عن الدنانير فوجهان لاستوائهما في الجواز، وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس. وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرا إن جوزنا ذلك.

ص: 408

وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان:

ص: 408

أحدهما: يشترط وإلا فهو بيع دين بدين.

وأصحهما: لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة ثم عينا وتقابضا في المجلس، وإن استبدل ما ليس موافقا لها في علة الربا؟ كالطعام والثياب عن الدراهم نظر إن عين البدل في الاستبدال جاز، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان، صحح الغزالي وجماعة الاشتراط وهو ظاهر نصه في المختصر، وصحح الإمام والبغوي عدمه.

قلت: هذا الثاني أصح وصححه الرافعي في المحرر، وإن لم يعين، بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان.

الضرب الثالث: ما ليس ثمنا ولا مثمنا كدين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية، فإنه يجوز بيعه له.

ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض على ما سبق. وذكر صاحب الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف، فإن بقي في يده فلا، ولم يفرق الجمهور بينهما، ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال - ويجوز عكسه - وهذا الذي ذكرنا كله في الاستبدال وهو بيع الدين ممن هو عليه. فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران:

أصحهما: لا يصح، لعدم القدرة على التسليم.

والثاني: يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن هو عليه، وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد. ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع

ص: 409

أحدهما ما له عليه بما لصاحبه له لم يصح سواء اتفق الجنس، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ. هذا آخر كلام الرافعي.

قلت: قد صحح المصنف هنا، وفي التنبيه جواز بيع الدين لغير من هو عليه وصحح الرافعي في الشرح والمحرر أنه لا يجوز.

فرع: قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في آخر باب بيع الطعام قبل أن يستوفى: إذا باع طعاما بثمن مؤجل فحل الأجل فأخذ بالثمن طعاما جاز عندنا، قال الشافعي: وقال مالك: لا يجوز؛ لأنه يصير في معنى بيع طعام بطعام مؤجل، دليلنا: أنه إنما يأخذ منه الطعام بالثمن الذي له عليه لا بالطعام وهذا الذي جزم به أبو حامد تفريعا على الصحيح وهو الاستبدال عن الثمن، وقد صرح بهذا جماعة منهم القاضي أبو الطيب في تعليقه، قال صاحب البيان: قال الصيمري والصيدلاني: فلو أراد أن يأخذ ثمن الدين المؤجل عوضا من نقد وعرض قبل حلوله لم يصح.

أما تقديم الدين نفسه فيجوز؛ لأنه لا يملك المطالبة به قبل الحلول فكأنه أخذ العوض عما لا يستحقه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 410

قال المصنف رحمه الله:

(والقبض فيما ينقل النقل، لما روى زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » ، وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية؛ لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف، والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية) .

الشرح: أما حديث زيد فسبق بيانه قريبا في فرع مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض وفي التجار لغتان - كسر التاء مع تخفيف الجيم، وضمها

(1) سنن أبو داود البيوع (3499) .

ص: 410

مع التشديد - والجذاذ - بفتح الجيم وكسرها -.

أما الأحكام: فقال أصحابنا: الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة

أقسام:

أحدها: العقار والثمر على الشجرة فقبضه بالتخلية.

والثاني: ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان ونحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره. وفيه قول حكاه الخراسانيون: أنه يكفي فيه التخلية وهو مذهب أبي حنيفة.

والثالث: ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف، صرح بذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه والقاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي والمصنف في التنبيه والبغوي وخلائق لا يحصون، وينكر على المصنف كونه أهمله هنا مع شهرته ومع ذكره له في التنبيه. والله تعالى أعلم.

وقد فحص الرافعي رحمه الله كلام الأصحاب وجمع متصرفه مختصرا وأنا أنقل مختصره وأضم إليه ما أهمله إن شاء الله تعالى، قال رحمه الله: القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال.

وأما تفصيله فنقول: المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه، وإما مع اعتبار فيه فهما نوعان:

الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه وإما مع إمكانه، فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل، كالأرض والدار فقبضه بالتخلية بينه وبين

ص: 411

المشتري، ويمكنه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه، ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش. وحكى الرافعي بعد هذا وجها شاذا ضعيفا عند ذكر بيع الدار المذروعة أنه لا يصح بيع الدار المشحونة بالأقمشة، وادعى إمام الحرمين أنه ظاهر المذهب.

ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار وخلى بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت، كذا قاله الأصحاب، وكذا نقله المتولي عن الأصحاب. وفي اشتراط حضور البائع عند المبيع في حال الإقباض ثلاثة أوجه:

أحدها: يشترط. فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري: دونك هذا ولا مانع، حصل القبض وإلا فلا.

والثاني: يشترط حضور المشتري دون البائع.

وأصحها لا يشترط حضور واحد منهما؛ لأن ذلك يشق، فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي؟ فيه وجهان:

أصحهما: نعم، وبه قطع المتولي وغيره، وفي معنى الأرض الشجر الثابت والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ، والله سبحانه أعلم. وأما إذا كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا تكفي التخلية، بل يشترط النقل والتحويل، وفي قول رواه حرملة تكفي التخلية لنقل الضمان إلى المشتري، ولا تكفي لجواز تصرفه، فعلى المذهب إن كان المبيع عبدا يأمره بالانتقال من موضعه، وإن كان دابة ساقها أو قادها

ص: 412

(قلت) : قال صاحب البيان: لو أمر العبد بعمل لم ينتقل فيه عن موضعه، أو ركب البهيمة ولم تنقل عن موضعها فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يكون قبضا كما لا يكون غصبا، قال: ولو وطئ الجارية فليس قبضا على الصحيح من الوجهين، وبهذا قطع الجمهور، وهذا الذي ذكره في الغصب فيه خلاف نذكره في الغصب إن شاء الله تعالى.

قال الرافعي: إذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد وشارع أو في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كاف في حصول القبض، وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ويكفي لدخوله في ضمانه، وإن نقل بإذنه حصل القبض وكأنه استعار ما نقل إليه.

ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة، فخلى البائع بينهما وبينه حصل القبض في الدار، وفي الأمتعة وجهان:

أصحهما: يشترط نقلهما؛ لأنها منقولة كما لو أفردت.

والثاني: يحصل فيها القبض تبعا، وبه قطع الماوردي وزاد فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة.

قلت: قال الماوردي: ولو استأجر الأرض من البائع فوجهان:

أصحهما: أنه ليس قبضا للأمتعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال الرافعي: ولو لم يتفقا على القبض فجاء البائع بالمبيع فامتنع المشتري من قبضه أجبره الحاكم عليه فإن أصر أمر الحاكم من يقبضه كما

ص: 413

لو كان غائبا، قال: ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه فوضعه بين يديه حصل القبض فإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا أو قال: لا أريده فوجهان:

أحدهما: لا يحصل القبض كما لا يحصل الإيداع.

وأصحهما: يحصل لوجوب التسليم، كما لو وضع المغصوب بين يدي المالك فإنه يبرأ من الضمان، فعلى هذا للمشتري التصرف فيه، ولو تلف فمن ضمانه لكن لو خرج مستحقا ولم يجر إلا وضعه فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان؛ لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب.

قال ابن قدامة رحمه الله في [المغني](1) :

فصل: وقبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو وزنا فقبضه بكيله ووزنه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: التخلية في ذلك قبض. وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار.

ولنا: ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل» رواه البخاري، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان (2) » ، صاع البائع وصاع المشتري، رواه ابن ماجه، وهذا فيما بيع كيلا، وإن بيع جزافا فقبضه نقله؛ لأن ابن عمر قال: «كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى

(1)[المغني](4 \100- 105) .

(2)

سنن ابن ماجه التجارات (2228) .

ص: 414

يحولوه (1) » ، وفي لفظ:«كنا نبتاع الطعام جزافا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (2) » ، وفي لفظ:«كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله (3) » ، رواهن مسلم.

وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا سميت الكيل فكل (4) » رواه الأثرم.

وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد، وإن كان ثيابا فقبضها نقلها، وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه، وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال: إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه، ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. إلى أن قال:

مسألة قال: (ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه) .

قد ذكرنا الذي يحتاج إلى قبض والخلاف فيه، وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» متفق عليه، ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم، ولم أعلم بين أهل العلم خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه، وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه هذا الحديث، ومثل هذا لا

(1) صحيح البخاري الحدود (6852) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك البيوع (1337) .

(2)

صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) .

(3)

صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .

(4)

سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/75) .

ص: 415

يلتفت إليه، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين، ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شيء قبل قبضه اختارها ابن عقيل، وروي ذلك عن ابن عباس، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه، واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وبما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » ، وروى ابن ماجه (أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض (2) » ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم «لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال: انههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه» ، ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون.

ولنا: ما روى ابن عمر قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء (3) » . وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر أنه «كان على بعير صعب - يعني لعمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:"بعنيه " فقال: هو لك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد الله بن عمر، فاصنع به ما شئت (4) » ، وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جمله، ونقده ثمنه، ثم وهبه إياه قبل قبضه، ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه، كالمنافع في الإجارة، فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع، ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفية، فصح

(1) سنن أبو داود البيوع (3499) .

(2)

سنن ابن ماجه التجارات (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (3/42) .

(3)

سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .

(4)

صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2611) .

ص: 416

بيعه، كالمال في يد مودعه أو مضاربه. فأما أحاديثهم فقد قيل: لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه. وقولهم: لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض، واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع المحال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة.

(فصل) وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه، لعموم الخبر فيه، قال القاضي: لو ابتاع شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له مطالبته ولا أخذ بدله وإن تراضيا؛ لأنه مبيع لم يقبض، فإن كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذ البدل عنه؛ لأنه أيضا لا يجوز بيعه.

فصل: وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا، والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف؛ لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه، وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة؛ لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه.

وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين؛ لأنه يخشى رجوعه بانتقاص سببه

ص: 417

بالردة قبل الدخول، أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها، وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول، وأما ما ملك بإرث أو وصية أو غنيمة، وتعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه؟ لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم.

وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه - جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره؛ لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده، وإن كان غصبا جاز بيعه ممن هو في يده؛ لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده، وأما بيعه لغيره فإن كان عاجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له؛ لأنه معجوز عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد، وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لإمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء؛ لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها، أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه.

قال ابن حجر في [فتح الباري] رحمه الله (1) : باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك، حدثنا علي بن عبد الله

(1)[فتح الباري](4\ 349 - 351) .

ص: 418

حدثنا سفيان قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» ، زاد إسماعيل: فلا يبعه حتى يقبضه.

(قوله: باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك) لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك، وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض، ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى.

وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ: قلت: «يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك (1) » ، وأخرجه الترمذي مختصرا ولفظه:«نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي (2) » ، قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين:

أحدهما: أن يقول أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر، لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها.

ثانيهما: أن يقول هذه الدار بكذا، على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها. اهـ.

وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني. قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة، وقوله:(الذي حفظناه من عمرو) كأن سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه،

(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، مسند أحمد بن حنبل (3/434) .

(2)

سنن الترمذي البيوع (1233) .

ص: 419

كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي، وجوابه وغير ذلك. قوله: عن ابن عباس: (أما الذي نهى عنه إلخ. . .) أي: وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك. قوله: (فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه، قال مسعر: وأظنه قال: أو علفا وهو بفتح المهملة واللام والفاء. (قوله: قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله) ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام، وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك، وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق، وقول طاوس في الباب قبله قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ، معناه: أنه استفهم عن سبب هذا النهي، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم قال طاوس: قلت لابن عباس: لم؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ، أي: فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله، ويؤيده حديث زيد بن ثابت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث

ص: 420

تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » ، أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه، وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه، وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشترى، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل، واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر، وقال:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن (2) » أخرجه الترمذي.

(قلت) : وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة، وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية. قوله عقب حديث ابن عمر: زاد إسماعيل فلا يبعه حتى يقبضه يعني: أن إسماعيل بن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ: حتى يقبضه بدل قوله: حتى يستوفيه، وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك، وقال الإسماعيلي: وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي والشافعي وقتيبة.

(قلت) : وقول البخاري: زاد إسماعيل، يريد الزيادة في المعنى؛ لأن في قوله: حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله: حتى يستوفيه؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري، بل يحبسه عنده

(1) سنن أبو داود البيوع (3499) .

(2)

سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

ص: 421

لينقده الثمن مثلا، وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال: ليس في هذه الرواية زيادة، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال: معناه: زاد لفظا آخر، وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه، ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به، كما تقدم نقله عن الشافعي، وهذا هو النكتة في تعقيب المصنف له بالترجمة الآتية:

باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك.

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال:

أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا - يعني: الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم (1) » . . .

(قوله: باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك) .

أي: تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال. أما الأول: فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود، وأما الثاني: فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن

(1) صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4608) ، سنن أبو داود البيوع (3498) ، مسند أحمد بن حنبل (2/40) .

ص: 422

عمر: «كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (1) » ، وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل: فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم بأن الجزاف مرئي فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون.

وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (2) » ، ورواه أبو داود والنسائي بلفظ:«نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (3) » ، والدارقطني من حديث جابر:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع والمشتري (4) » ، ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور، وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا، وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول، والأحاديث المذكورة ترد عليه، وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك. والله أعلم.

وقوله: "جزافا" مثلثة الجيم والكسر أفصح، وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا، سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة

(1) مسند أحمد بن حنبل (2/113) ، موطأ مالك البيوع (1337) .

(2)

مسند أحمد بن حنبل (2/111) .

(3)

سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) .

(4)

سنن ابن ماجه التجارات (2228) .

ص: 423

فلو علم لم يصح، وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها، فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد، ونقلها: قبضها (1) .

(1)[المغني](4 \ 277 - 279) .

ص: 424

يمكن القضاء على بيع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور التالية:

أولا: التوعية الشاملة: يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة، ويحذرون الناس من التعامل بها، لما فيها من غضب الله وسخطه، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين، وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية، من توليد الضغائن والأحقاد، وتقطيع أواصر المحبة والإخاء، وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء، وشغل القضاة وسائر ولاة الأمور بالخصومات.

ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات، فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة، وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل.

ثانيا: ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعون في وسائل الترف وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو

ص: 424

معاملات محرمة؛ ليوسع بها في رأس ماله وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه، شكرا لنعمة الله عليه، عسى أن يزيده سبحانه وتعالى من فضله.

ثالثا: الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات: يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية، لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبؤوا بالتحذير ولم يبالوا بالوعيد وصارم الجزاء.

وهذا مما يقضي على جشعهم أو يقلله إن شاء الله ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم.

رابعا: توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي، ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف.

خامسا: توجيه من يريد بناء مسكن له أو يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن ولينتفع بذلك - إلى بنك التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذ أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها مواعيدها دون أن يتقاضى البنك على ذلك منه ربا.

سادسا: إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن

ص: 425

يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته، ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته.

هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو

عضو

نائب رئيس اللجنة

الرئيس

عبد الله بن قعود

عبد الله بن غديان

عبد الرزاق عفيفي

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 426

قرار رقم (3 \ 11) في 16 \ 10 \ 1397هـ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء على ما جاء في الأمر السامي رقم (30891) في 20 \ 12 \ 1396 هـ من الرغبة في دراسة مجلس هيئة كبار العلماء المعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات لحصولهم على مكاسب مالية بطريق ملتوية لا تتفق ومبدأ المعاملات الشرعية في البيع والاقتراض، والنظر فيما إذا كان بالإمكان إيجاد بديل للحد من جشع هؤلاء واستغلالهم للمحتاجين من الناس، واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة في أنواع من البيوع التي يستغلها بعض الناس استغلالا سيئا يخرج بها عما شرعه الله، وبعد الدراسة وتداول الرأي قرر المجلس ما يلي:

أولا: العينة: ومعناها: أن يبيع إنسان لآخر شيئا بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه منه بائعه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا، وقد اتفق المجلس على تحريمها بهذا المعنى، لما رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع أنها قالت:(دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة رضي الله عنها فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) ، فإن الظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف

ص: 427

سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرى ذلك مجرى روايتها عنه، ولأنه ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع خمسمائة بألف إلى أجل معلوم، ولما رواه الإمام أحمد في [مسنده] من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم ذلا فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم (1) » ، ورواه أبو داود في [سننه]، من طريق عطاء الخراساني أن نافعا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر الحديث. ورواه السري بن سهل من طريق ثالث عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولأن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة، ولأن أنس بن مالك رضي الله عنه لما سئل عن العينة قال:(إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله) ، ولأن العينة بالمعنى المتقدم بيعتان في بيعة فكانت محرمة، لما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (2) » ، ويلتحق بذلك بيع المشتري ما اشتراه لمن باعه إياه حالا أو مؤجلا قبل أن يقبضه منه بأكثر من ثمنه، لما تقدم، ولما فيه من ربح ما لم يضمن، ولما فيه من بيع الدين بالدين إذا كان مؤجلا.

ثانيا: التورق: وله صور: منها أن يطلب إنسان من آخر ألف ريال مثلا إلى أجل فيقول له: المطلوب منه: العشرة باثني عشرة، أو بخمسة عشر ريالا، ويتواطآن على ذلك ثم يجريان بيعا صوريا يحقق بيع النقود بالسعر المتواطأ عليه، وهذا محرم؛ لأن المقصود منه بيع ريالات نقدا بأكثر منها

(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .

(2)

سنن أبو داود البيوع (3461) .

ص: 428

إلى أجل، والعقود تعتبر بمقاصدها، لحديث:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » ، فكان هذا عين الربا مع زيادة المخادعة والاحتيال.

ومنها: أن يحتاج إنسان إلى نقود للاستهلاك أو للتوسع بها في تجارته مثلا، فيشتري من آخر سلعة إلى أجل بأكثر من سعر مثلها حالا، ليبيعها بعد قبضها على غير من اشتراها منه فهذه لا ربا فيها، ولا يصدق فيها أنها بيعتان في بيعة فهي جائزة، لعموم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ولما صح من الأحاديث في جواز البيع لأجل وبيع السلم، لكن إذا انتهز البائع فرصة حاجة المشتري فشق عليه في زيادة الثمن كثيرا كان ذلك مخالفا لسماحة الإسلام ومنافيا لواجب الأخوة والتراحم بين المسلمين ولمكارم الأخلاق، وكان مدعاة إلى التقاطع والتدابر وتوليد الأحقاد، ولهذا خطره وأثره السيئ في فساد المجتمع، وقد ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رحم الله امرءا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى (3) » رواه البخاري وابن ماجه.

ثالثا: يمكن القضاء على جشع من يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور الآتية:

1 -

التوعية الشاملة: يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة ويحذرون الناس من التعامل بها، لما فيها من التعرض لغضب الله

(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

(2)

سورة البقرة الآية 282

(3)

صحيح البخاري البيوع (2076) ، سنن ابن ماجه التجارات (2203) .

ص: 429

وسخطه، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية من توليد الضغائن والأحقاد وتقطيع أواصر المحبة والإخاء وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات، والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء وشغل القضاة وولاة الأمور بالخصومات، ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات، فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة، وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل.

2 -

ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعوا في وسائل الترف، وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو معاملات محرمة ليتوسع بها في رأس ماله، وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه، شكرا لنعمة الله عليه، عسى أن يزيده الله سبحانه وتعالى من فضله.

3 -

الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات: يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة. . ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد، ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبؤوا بالتحذير، ولم يبالوا بالوعيد والجزاء، وهذا مما يقضي على جشعهم أو

ص: 430

يقلله إن شاء الله، ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم.

4 -

توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي، ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف.

5 -

توجيه من يريد بناء مسكن له أو من يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن، ولينتفع بذلك - إلى صندوق التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذه أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها في مواعيدها دون أن يتقاضى الصندوق على ذلك منه ربا.

6 -

إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته.

والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

هيئة كبار العلماء

. .

رئيس الدورة الحادية عشرة

عبد الله خياط

عبد المجيد حسن

عبد الله بن محمد بن حميد

عبد العزيز بن صالح

سليمان بن عبيد

عبد الرزاق عفيفي

إبراهيم بن محمد آل الشيخ

راشد بن خنين

عبد العزيز بن باز

عبد الله بن غديان

عبد الله بن منيع

محمد الحركان

صالح بن لحيدان

عبد الله بن قعود

صالح بن غصون

محمد بن جبير

ص: 431