المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خلاصة الأمر الثاني: 2 - الأمر الثاني: ذكر خلاف الباحثين في - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر:

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة:

- ‌ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحدللوقت الواحد

- ‌(وجهة نظر)

- ‌التأمين

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌التأمين التعاوني:

- ‌ التأمين التجاري:

- ‌ تأمين الأضرار والأشخاص

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ (بوليصة التأمين) :

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌ ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة:

- ‌ذكر كلام المانعين:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة

- ‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

- ‌ عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم

- ‌ عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين

- ‌ التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌ أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة:

- ‌ قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق:

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة

- ‌ كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

- ‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

- ‌ التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌ الاستدلال على جوازه بالعرف:

- ‌ الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:

- ‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

- ‌خلاصة الأمر الثاني:

- ‌تمهيد:

- ‌بحث في البيوع

- ‌ بيع العينة والتورق:

- ‌آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب] :

- ‌ النووي في [روضة الطالبين] :

- ‌ ابن قدامة في [المغني] :

- ‌ محمد بن مفلح في [الفروع]

- ‌ شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى]

- ‌ ابن القيم في [إعلام الموقعين]

- ‌مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌ صاحب [المغني]

- ‌ محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار]

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌كيفية الإمساك والإفطار فيرمضان وضبط أوقات الصلاةفي بعض البلدان

- ‌ ذكر النقول مع الأدلة

- ‌ الكمال بن الهمام في [فتح القدير]

- ‌ الزيلعي في شرحه على [الكنز]

- ‌ ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار]

- ‌ الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل]

- ‌ حسنين مخلوف في [الفتاوى] :

الفصل: ‌ ‌خلاصة الأمر الثاني: 2 - الأمر الثاني: ذكر خلاف الباحثين في

‌خلاصة الأمر الثاني:

2 -

الأمر الثاني: ذكر خلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم، مع المناقشة:

‌تمهيد:

يتوقف إبداء الحكم في التأمين على أمرين:

الأول: تصويره؛ ليعرف واقعه، وقد تقدم ذلك في الأمر الأول.

الثاني: معرفة المصادر الشرعية التي يرجع إليها في الحكم عليه، من نصوص عامة، أو مقاصد شرعية، أو قواعد فقهية عامة، أو نظائر جزئية من الفقه الإسلامي يقاس عليها، ومع معرفة الأمرين قد يقع الاختلاف في الحكم عليه بين العلماء، إما لاختلاف نظرهم في شيء يرجع إلى تفصيل الأمر الأول، ككون الغرض الأصلي منه التجارة والربح أو التعاون على الخير، وكونه عقدا احتماليا أو غير احتمالي، وإما لاختلاف نظرهم في تطبيق النصوص العامة، أو في إدراجه تحت قاعدة شرعية عامة، أو في إلحاقه بنظير جزئي بعد تسليم حكم النظير، ولهذا اختلف الباحثون العصريون في حكمه أو في حكم صور منه.

وفيما يلي بيان ذلك مع الأدلة والمناقشة:

الأول: اختلف الباحثون من المعاصرين ومن سبقهم في حكم التأمين التجاري: فمنهم من قال بتحريمه مطلقا، ومنهم من قال بجوازه مطلقا، ومنهم من فصل فحرم بعض صوره، وأباح منه صورا أخرى، مع اتفاق من اطلعنا على كلامه من الكاتبين العصريين على جواز ما يسمى بالتأمين

ص: 280

التعاوني أو التبادلي.

وقد يقال: من أن ما يسمى بالتأمين التبادلي حرام؛ لأنه ربا، بناء على توسع في تطبيق القاعدة المشهورة:(كل سلف جر نفعا فهو حرام) فإن كل مشترك يعتبر مسلفا بالنسبة لمن أصابه الحادث، وهو ينتظر أن يعود إليه نفع من رصيد الاشتراك إن قدر أن ينزل به حادث، فالقصد إلى الانتفاع بالرصيد محقق عند دفعه قصد الاشتراك، ولولا ذلك ما اشترك، وسواء انتفع في المستقبل بالفعل أم لم ينتفع.

الثاني: أدلة هذه الأقوال مع المناقشة:

ص: 281

1 -

أدلة القائلين بمنع التأمين التجاري مطلقا:

أ- استدلوا: بأن عقد التأمين من عقود المعاملات المالية الملزمة، على ما عرف من نظام التأمين وهي مشتملة على الغرر، فكانت ممنوعة شرعا، وبيانه من وجهين:

الأول: أنها عقود يلتزم فيها كل من المتعاقدين بعوض مالي للآخر، فهي عقود معاوضة مالية، ويقصد كل منهما الربح؛ ولذا يقوم المؤمن بالإحصاء، ويحتاط بالشرط ونحوها؛ ليربح من وراء جملة المستأمنين غالبا، وإن خسر بالنسبة لبعض العقود، والمستأمن يقصد إلى الأمان بضمان المؤمن مبلغ التأمين له، فهو إذن عقد تجاري يقصد منه الربح، وإذا كان عقدا تجاريا ملزما لكل من المتعاقدين بما التزم به. من العوض المالي حرم فيه الغرر بخلاف عقود التعاون والتبرعات، فإنها ليس فيها مغالبة ولا قصد إلى ربح مادي، فلا مخاطرة فيها أو لا يضر فيها الغرر والمخاطرة.

الثاني: أنه عقد احتمالي كما اعترف به رجال التأمين، وذكروه في

ص: 281

خصائصه، وذلك لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي وما يأخذ، ولا مدى كسبه أو خسارته، حيث إنه معلق على أمر غير محقق الحصول، أو غير معروف وقت حصوله في المستقبل، فكان من عقود الغرر.

ونوقش أولا: بأن عقود التأمين ليست من عقود المعاوضة التجارية التي يقصد بها الربح حتى يكون ما ادعى فيها من الغرر موجبا للتحريم، وإنما هي عقود تعاونية؛ لما فيها من المساعدة على تكوين رءوس الأموال، وإنماء الثروات، والنهوض بالمشروعات وتحقيق الأمن للأسر، والإنقاذ من الشدائد عند نزول الكوارث، إلى غير هذا مما يعد من مزايا التأمين.

وأجيب: بأنها مجرد دعوى يردها واقع عقود التأمين وما ذكر في خصائصها مما أشير إليه في الاستدلال فهي عقود معاوضة مالية رائدها الكسب، وباعثها الربح، وحاميها احتياط شركات التأمين؛ لأثرتهم بالاحتياط بالنظم والشروط والخداع والتغرير، وليس للمستأمن عند التعاقد إلا التسليم لما في وثائق التأمين؛ ولذا سميت عقود إذعان، وفسرت عند التقاضي لمصلحة المستأمن، ووقفت الحكومات منها موقف المدافع عن المستأمن، وما ينشأ عنها من التعاون فهو أمر ثانوي بالنسبة إلى الأصل فيها من أنها عقود تجارية القصد الأول منها الكسب عن طريق طابعه التغرير والخداع.

ونوقش ثانيا: بأنها على تقدير كونها عقودا تجارية يقصد منها الربح لا غرر فيها؛ لأن كلا المتعاقدين قد دخل على شروط معلومة له وقت العقد ورضي بها، وكل منهما كاسب، فالمستأمن كاسب على كل حال، تحقق

ص: 282

الخطر أم لم يتحقق، والمؤمن كاسب على كل حال بالنسبة لما يربحه من جملة المستأمنين.

وأجيب: بأن المستأمن قد يدفع الأقساط كلها ولا يعود إليه شيء، وذلك عند السلامة من الخطر، وقد يدفع قسطا واحدا ويعود إليه مبلغ التأمين، ويكون أضعاف القسط الذي دفعه، كما في التأمين على الحياة، وأما المؤمن فهو مخاطر مخاطرة فاحشة بالنسبة لكل عقد بانفراده، فإنه قد يخسر خسارة فادحة بدفعه لجميع مبلغ التأمين عند تحقق خطر الموت مثلا بعد تسديد المستأمن قسطا واحدا، ولا يبيح له اقتحام المخاطرات في العقود الفردية ربحه الغالب من مجموع عقود التأمين، فإن كل عقد من عقود التأمين مستقل عن الآخر بالنسبة للحكم عليه بحل أو حرمة.

ونوقش ثالثا: بأن عقود التأمين على تقدير تحقق الغرر فيها فليس كل غرر في العقود المالية محرما، إنما المحرم منها ما كان فاحشا متجاوزا حدود التسامح، بحيث يعتمد على مجرد الحظ في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل مثلا، فإذا بلغ هذا المبلغ من المخاطرة لم يكن ما دخل فيه من عقود المعاملات مباحا، ولا أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية، يؤيد هذا ما بين به النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن الغرر من بيع المضامين والملاقيح وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة، وما أجمع عليه من تحريم بيع السمك في الماء والطير في الهواء، وما إلى ذلك.

أما إذا كان الغرر يسيرا فلا يدخل في النهي عن بيع الغرر، إذ قلما تخلو منه تصرفات الناس ومعاملاتهم في تجارتهم وإجاراتهم وصناعاتهم؟ ولذا أجازه العلماء وتسامحوا فيه، وإلا لضاقت دائرة الحلول ووقع الناس في

ص: 283

حرج.

وأجيب: بأن العلماء قسموا الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية وعدم تأثيره فيها ثلاثة أقسام: غرر كثير يفسد عقود المعاوضات إجماعا؛ كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وغرر يسير لا يفسدها إجماعا؛ كبيع الجزر والفجل واللوز والجح دون الوقوف على ما في جوفها بكسر وحفر مثلا، وغرر متوسط بينهما؛ كبيع المعين على الوصف دون رؤية، فهذا متردد بينهما لأخذه بشبه من كل منهما، ولذا كان مثار خلاف بين العلماء في الحكم بالتسامح فيه، وفي اعتباره مؤثرا في العقود.

ولا شك أن غرر عقود التأمين من النوع الأول؛ لأن الخطر ركن من أركانها، وعنصر من عناصرها، كما تقدم بيانه في أركان التأمين وعناصره.

ب- واستدلوا: بأن عقد التأمين ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة بما يعطي وما يؤخذ أو برفعهما من جانب أو من الجانبين كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (1) الآيتين.

(1) سورة المائدة الآية 90

ص: 284

ونوقش: بمنع كونه قمارا؛ لأن التأمين جد، وفيه تبادل المنافع من الجانبين مع وثوق كل من المؤمن والمستأمن من الوصول إلى الكسب والانتفاع، بخلاف القمار فإنه لعب ولهو، واقتحام لضروب من المخاطرة وجناية قد تأتي على المال كله.

وقد يجاب: بأن في التأمين أيضا اقتحاما للمخاطر، وعدم وثوق بقدر ما يصل إلى المستأمن أو المؤمن من الكسب والانتفاع أو زمن وصوله فكان التأمين قمارا أو في معناه فيحكم له بحكمه، ثم ليس كل ما فيه كسب أو انتفاع مشروعا حتى ترجح منفعته مضرته ويغلب خيره شره.

ج- واستدلوا: بأن الربا أصيل في عقود التأمين، لا تنفك عنه إلا بالقضاء على عقوده نفسها والتخلص منها إلى بديل يرتفق به دونها، وإلى جانب ما فيها من ربا أصيل معاملات ربوية أخرى طارئة. وبيان ذلك:

الأول: إن المستأمن يدفع ما عليه من العوض المالي الربوي كله أو أقساطا، حسب مقتضى العقد؛ ليأخذ المقابل من المؤمن بعد زمن أو يتحمله عنه إذا وقع الخطر، وهذا هو ربا النساء المحرم بالنص والإجماع، ولا يمكن الانفكاك منه إلا بالتخلص من عقود التأمين نفسها؛ لأنه أساسها الذي لا يكون عقد التأمين إلا به.

الثاني: فيه ربا الفضل صريحا أو حكما للشك في التماثل بين ربويين، وربا الفضل محرم بالنص والإجماع، ومن روي عنه من الصحابة جوازه فقد رجع عنه بعد مناظرة الصحابة واطلاعه على نص التحريم.

الثالث: إن شركات التأمين تستغل رصيدها في معاوضات ربوية، وإن المستأمن يعود إليه مبلغ التأمين مع فائدة ربوية بعد انتهاء مدة التأمين دون

ص: 285

حصول الخطر المؤمن منه.

ونوقش: بأن موضوع البحث نفس عقود التأمين التي أبرمت بين الشركة والمستأمن لا ما تقوم به شركات التأمين في استثمار رصيدها استثمارا ربويا، فالدليل في غير محل النزاع، وأما ما يأخذه المستأمن من الفائدة الربوية في بعض صور التأمين فليس من أركان التأمين، ولا لازما له، بل من الشروط التي يمكن التخلص منها باشتراط عدم الفائدة أو بترك اشتراطها على الأقل.

وأجيب: بأنه إن أمكن التخلص من الوجه الثالث من وجوه الاستدلال فلا يمكن التخلص من الاستدلال بالوجه الأول والثاني إلا بترك التأمين التجاري نفسه.

د- واستدلوا: بأن التأمين من قبيل الرهان المحرم؛ لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، ومن هذا «أن النبي صلى الله عليه وسلم راهن على فرس يقال له: سبحة، فسبق الناس، فبش لذلك وأعجبه (1) » ، وأقر الصديق رضي الله عنه على ما كان بينه وبين مشركي العرب من المراهنة بشأن حرب كانت بين الروم والفرس (2) ؛ ولهذا حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان في ثلاثة بقوله:«لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (3) » ، فما كان في معنى الثلاثة مما فيه نصرة الإسلام بالسلاح أو العلم والبرهان جاز، وليس التأمين من

(1) خرجه أحمد في [مسنده] عن أنس رضي الله عنه.

(2)

خرجه الترمذي في [جامعه] ، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

خرجه أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة.

ص: 286

ذلك.

ونوقش ذلك بما تقدم من مناقشة الاستدلال على منع التأمين بأنه قمار.

وأجيب عنه أيضا: بما تقدم من الجواب عن هذه المناقشات هناك، فلا نطيل بالإعادة خشية كثرة التكرار.

هـ- واستدلوا: بعموم النهي عن أكل الأموال بالباطل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) قالوا: إن عقود التأمين تتضمن الغرر والقمار والربا وأخذ مال الغير في المعاوضات التجارية بلا مقابل، فكان من أكل أموال الناس بالباطل، فدخل في عموم النهي في الآية.

ونوقش: بأنه لا يدخل في عموم النهي حتى يقوم دليل تفصيلي على منعه؛ لأن أكل الأموال بالباطل كلمة مجملة.

وأجيب: بما تقدم تفصيلا من الأدلة الدالة على اشتماله على الربا والغرر والقمار وغيرها من نصوص المحظورات، فكان داخلا في عموم النهي في هذه الآية وما في معناها من نصوص الكتاب والسنة.

وواستدلوا: بأن في عقود التأمين الإلزام بما لا يلزم شرعا، وبيانه أن المؤمن لم يحدث الخطر المؤمن منه ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفع المستأمن له، فكان حراما؛ لما فيه من تضمين من لا يضمن، وأيضا فيها أن المؤمن يأخذ مال المستأمن في عقود معاوضات مالية تجارية

(1) سورة النساء الآية 29

ص: 287

دون أن يبذل عملا للمستأمن.

ونوقش: بأن المؤمن التزم بالضمان حين العقد برضاه وعن طيب نفس منه، فألزم بما التزم ولا غضاضة في ذلك؛ لوجود نظير له وهو الكفالة.

وأجيب: بالفرق فإن المؤمن لم يلتزم بالضمان تبرعا منه ورغبة في فعل المعروف، وإنما رغب طمعا في الكسب المادي، وحرصا على تملك ما بذله المستأمن له من العوض، فليس مثل الكفالة التي هي محض معروف وإعانة على سبب بعث الثقة في نفس المضمون له دون مقابل مادي يعطاه.

ص: 288

2 -

أدلة القائلين بجواز التأمين التجاري مطلقا:

أ- استدلوا: بقياس عقود التأمين على عقد ولاء الموالاة، وفسروه: بأن يقول شخص مجهول النسب لآخر: أنت وليي تعقل عني إذا جنيت، وترثني إذا أنا مت، أو أن يتفق شخص من غير العرب قد أسلم مع عربي مسلم على أن يلتزم العربي بالدية إذا جنى مولاه، ويلتزم غير العربي أن يرثه مولاه العربي إذا لم يكن له وارث سواه.

ووجه الشبه بينه وبين التأمين: أن العربي يتحمل جناية غير العربي بعقد الموالاة مقابل إرثه، والمؤمن يتحمل جنايات المستأمن نظير ما يدفعه من أقساط التأمين، فالمؤمن نظير المسلم العربي في تحمل المسئولية، والمستأمن نظير المولى المسلم من غير العرب فيما يبذل من أقساط أو إرث، وقد صحح الحنفية عقد ولاء الموالاة، وأثبتوا به الميراث، وعقود التأمين وثيقة الصلة وقوية الشبه به فتخرج عليه ويحكم لها بحكمه وهو الجواز.

ص: 288

ونوقش بما يأتي:

الأول: بأن عقد ولاء الموالاة، وإن كان معمولا به بالنسبة للنصرة ونحوها، فهو مختلف في نسخه وأحكامه بالنسبة للإرث به والأدلة الصحيحة تشهد لنسخ الإرث به فلا يصح التخريج عليه.

والثاني: بأن من شرط القياس أن يكون المقيس عليه منصوصا أو مجمعا وإلا فللمخالف في الفرع أن يمنع حكم الأصل فلا يكون القياس مفيدا في إلزام المخالف حكم الفرع، ثم هذا يتوقف على قول الحنفية بتحمل المولى جناية مولاه بعقد الموالاة، فهل الحنفية يقولون بذلك حتى يتم الشبه والتخريج على مذهبهم؟ ولم يبين المستدل ذلك.

والثالث: بوجود الفارق، فإن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة، فالقصد الأول فيه إلى التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع، وشتان ما بين عقد يكون المتعاقد به كفرد من الأسرة وبين عقد لا يحس فيه كل من المتعاقدين بشيء من العاطفة الإنسانية والإخاء الإسلامي نحو الآخر ولا يتحسس كل منهما عن أحوال صاحبه إلا تحسسا تجاريا ليس لخالص مودة أو صدق إخاء، وإنما هو من خشية الإفلاس أو الغرامة عند العطب، فطابع هذا العقد التكالب على المال، والحرص الممقوت على جمعه من طرق شعارها المخاطرة ودثارها المقامرة فكيف يقاس بعقد عماره الإحسان وإسداء المعروف؟ ! .

والرابع: بأن هذا الاستدلال على تقدير تسليمه لا يدل إلا على جواز

ص: 289

فرع من فروع التأمين وصورة من صوره، وهي التأمين ضد المسئولية، والمدعي جواز التأمين مطلقا، فلا مطابقة بين الدليل والدعوى.

ب- استدلوا: بقياس عقود التأمين على الوعد الملزم عند المالكية، وبيانه أن يعد إنسان غيره بقرض أو تحمل خسارة أو إعارة كتاب أو دابة ونحو ذلك مما ليس واجبا عليه في الأصل، ونقلوا عن المالكية في حكم المسألة أربعة أقوال:

الأول: لزوم الوفاء مطلقا فيقضي به.

والثاني: عدم اللزوم مطلقا فلا يقضي به.

الثالث: اللزوم إذا ذكر للعدة سبب، وإن لم يباشر الموعود ما وعد من أجله.

الرابع: إذا ذكر لها سبب وباشر الموعود ما وعد من أجله، ونقلوا عنهم أن الراجح هو الرابع. قالوا: فيمكن قياس عقود التأمين على ذلك. فيقال: إن المؤمن قد التزم لكل مستأمن ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل أضرار الخطر المؤمن منه كما لو التزم إنسان أن يعوض غيره عن خسارته في شيء قد أمره ببيعه فباعه بخسارة، فإنه يجب عليه الوفاء بما التزم عند المالكية؛ لأنه عدة على سبب باشره.

ونوقش بما يأتي:

الأول: أنه قياس على أصل مختلف فيه، وهو ممنوع لما تقدم بيانه.

الثاني: بأنه قياس مع الفارق، فإن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين، فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح

ص: 290

المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة أو الغرر فشتان ما بين حقيقة العقدين، وما يقصد بكل منهما.

الثالث: أنه على القول الراجح مما تقدم إنما وجب الوفاء وقضى به؛ لأن الوعد هو الذي جرأ الموعود على الدخول في السبب، ولولا وعده ما باشره، فإذا لم يف له بوعده كان مغررا به موقعا له في مشاكل ومضار كان في عافية منها، فالإلزام بالوفاء للتغرير بالموعود، لا لعوض بذل.

الرابع: إنه على تقدير أن تكون عقود التأمين وعودا فالفارق بين الوعدين أن ما ذكره المالكية وعد بمعروف محض فكان الوفاء به واجبا، بخلاف الوعود المزعومة في عقود التأمين، فإنها التزامات منكرة لما تقدم، فكان التخلص منها واجبا والمضاء فيها حراما.

ج- واستدلوا: بأن عقود التأمين من عقود المضاربة أو في معناها، وبيانه: أن المتعاقدين في المضاربة يتفقان على أن يدفع أحدهما مالا؛ ليعمل فيه لآخر، على أن ما كان من ربح فهو بينهما، وهذا ينطبق على عقود التأمين فإن المستأمن يدفع الأقساط مثلا، وشركة التأمين تستغل ما اجتمع لديها من الأقساط، والربح بينهما حسب التعاقد، وإذا كانت من عقود المضاربة أو في معناها فهي جائزة.

ونوقش: بمنع أن يكون عقد التأمين من عقود المضاربة أو أن يكون فيه شبه منها؛ وذلك لوجوه:

الأول: أن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسب ما يقضي به نظام التأمين.

ص: 291

الثاني: أن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته.

الثالث: أن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا، بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدود.

د- قياس عقود التأمين على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب. فيصح ضمان المؤمن لما التزم به للمستأمن عند وقوع الخطر، ويجب عليه الوفاء به كما صح ضمان المجهول ووجب الوفاء به، وإن كان الملتزم به مجهولا فيهما.

ونوقش: بأنه قياس مع الفارق لوجوه:

الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين، فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع مادام تابعا غير مقصود إليه؛ ولذا اغتفر في الضمان ما لم يغتفر في المعاوضات المالية كالجهالة.

الثاني: أن الضامن لا يأخذ عوضا عن الضمان، بل اشتراط ذلك يفسده بخلاف التأمين فإن المؤمن يأخذ أقساط التأمين عوضا عن ضمانه.

الثالث: أن عقد التأمين فقد فيه ركن من أركان الضمان وهو المضمون له، فلا يجوز قياسه عليه، اللهم إلا أن يقال: إن المضمون له هو المضمون عنه وهو المستأمن.

ص: 292

الرابع: أن الضمان يكون فيه الضامن فرعا عن المضمون، وعليه فليس لصاحب الحق الرجوع على الضامن إلا بعد العجز عن أخذ حقه من المضمون، وعلى أشد الأحوال يكون صاحب الحق مخيرا بين الرجوع على الضامن أو المضمون، وليس كذلك الحال في التأمين فإن رجوع صاحب الحق على المؤمن دون المستأمن.

الخامس: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وليس كذلك الحال في التأمين بكونه معاوضة لا ضمانا، وإذا ثبت الفرق بينهما في الحقيقة والآثار لم يصح قياس التأمين على الضمان.

هـ- واستدلوا: بقياس عقود التأمين على ضمان خطر الطريق.

وبيان ذلك: أنه إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن، فسلكه فأخذ ماله ضمن القائل، فكذا القول في عقود التأمين، فإن المؤمن ضمن للمستأمن مبلغا يدفعه له أو عنه أو للمستفيد بشروط تراضيا عليها، فإذا أجاز ضمان خطر الطريق مع وجود الجهالة ولزم الوفاء به عند حصول الحادث جازت عقود التأمين ولزم الوفاء بها، حيث لا فرق، ومن فرق بينهما كابن عابدين لو كان في عصرنا، وشاهد تزايد أسباب الأخطار، وعرفوا فكرة التأمين، ولمسوا الضرورة التي نلمسها لما ترددوا في مشروعية نظام التأمين.

ونوقش: بأن بينهما فروقا:

الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به المعروف المحض، والتأمين عقد معاوضة مالية يقصد منها أولا الربح المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع

ص: 293

ما دام تابعا غير مقصود إليه؛ ولذا اغتفر في الضمان ما لا يغتفر في عقود المعاوضات المالية، وأفسده اشتراط العوض عن الضمان.

الثاني: أن تضمين خطر الطريق لا يكون إلا إذا كان الضامن مغررا بالمضمون، بأن كان عالما بخطر الطريق وأمره بسلوكه، وأخبره بأنه آمن، وكان السالك جاهلا بالخطر فالتضمين للتغرير لا لمجرد الضمان، وشركات التأمين تقرر التضمين مطلقا، ثم هي لا ترضى أن يلصق بها ولا يسرها أن يعرف عنها أنها تغرر بالمستأمنين.

الثالث: أنه على تقدير إلزام الضامن بالغرامة مطلقا فإنما يكون ذلك بعد العجز عن تسليم الحق من المعتدي أو المتسبب أو عند اختيار صاحب الحق أخذها منه ابتداء وشركات التأمين تضمن الغرامة للمستأمن على كل حال دون المعتدي أو المتسبب ما دام الخطر قد تحقق مع توفر الشروط المتفق عليها.

الرابع: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وشركات التأمين إنما ترجع على المعتدي أو المتسبب بقيمه التالف أو مثله.

الخامس: أنه لا يوجد في كثير من صور التأمين ما يمكن أن يعتبر مكفولا، فلا يصح قياسه على الكفالة لفقده ركنا من أركانها.

أما ما ذكره المستدل من أن ابن عابدين وأضرابه من العلماء لو كانوا معنا اليوم وشاهدوا تزايد أسباب الأخطار وعرفوا التأمين والضرورة إليه لأباحوه فمناقشته تأتي عند مناقشة استدلالهم بالضرورة.

واستدلوا: بقياس عقود التأمين على نظام التقاعد.

وبيان ذلك: أن نظام التقاعد عقد معاوضة يقوم على اقتطاع جزء ضئيل

ص: 294

من مرتب الموظف شهريا بنسبة محدودة؛ ليعطي هو أو من يستحق من أسرته مرتبا شهريا يتناسب مع مدة خدمته وآخر مرتب كان يتقاضاه، ويصرف ابتداء من نهاية عمل الموظف في وظيفته بشروط محددة، والتأمين عقد معاوضة بين المستأمن والمؤمن يعجل فيه مبلغ إلى المؤمن ليعطي المستأمن عوضا عنه فيما بعد بشروط محددة، فكلاهما عقد عجل فيه أحد العوضين وأجل الآخر مع وحدة الجنس ووجود نوع من الجهالة أو المخاطرة، وقد شهدت جميع الدلائل الشرعية الإسلامية وفقهها بجواز التأمين التقاعدي بوجه عام، ودلت على ذلك دلالة لا تقوم معها شبهة توهم التحريم، وأقره علماء الشريعة الإسلامية، بل رأوا العمل به ضروريا في نظام وظائف الدولة، فإذا جاز تطبيق نظام التقاعد على الموظفين، لما فيه من المصلحة، ولأن الحاجة دعت إليه، واعتبر من باب التعاون فلم يوجب ما فيه من الجهالة والمخاطرة في العوضين أو في زمنهما منعه، فكذلك الحال في التأمين الذي أبرم بين المستأمن والمؤمن باختيارهما ورضاهما.

ونوقش ذلك بما يأتي:

الأول: قول المستدل قد شهدت جميع دلائل الشريعة الإسلامية وفقهها بجواز نظام التقاعد مجرد دعوى مبالغ فيها لا يساندها دليل صحيح فضلا عن أن يكون لها أدلة لا تقوم أمامها شبهة توهم المنع، ومثل هذه الدعوى لا يعجز أحد عنها ولا عن مقابلتها بمثلها.

الثاني: دعوى أن علماء الإسلام أقروا ما عرف بنظام التقاعد دون أية شبهة دعوى يردها الواقع، فإن المسألة نظرية، ويوجد من العلماء

ص: 295

المعاصرين من يخالف في ذلك.

الثالث: على تقدير اتفاقهم على الجواز هل يعتبر اتفاقهم إجماعا شرعيا تثبت به الأحكام وهم يعترفون على أنفسهم بالتقليد؟ .

الرابع: إن كان ما يدعي من التقاعد عوضا عما اقتطع من الموظف شهريا فالكلام في حكمه كالكلام في حكم التأمين، وربما كان التقاعد أشد؛ لأن ما فيه من الغرر والمخاطرة والمقامرة أشد، ولأن توزيعه يجري على غير سنن المواريث شرعا، عطاء مستمرا أو مؤقتا أو حرمانا وإن كان ما يعطى من التقاعد مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته، وراعى في صرفها ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع لها نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر مكافأة من حكومات مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.

ز- واستدلوا: بقياس نظام التأمين وعقوده على نظام العاقلة، فإن العاقلة تتحمل شرعا دية قتل الخطأ عن القاتل، وتخفيفا لأثر المصيبة عن الجاني المخطئ، وصيانة لدماء ضحايا الخطأ أن تذهب هدرا؛ لأن القاتل خطأ قد يعجز عن دفع الدية فتضيع، وشركات التأمين قد وضعت نظاما

ص: 296

للتعاون على ترميم الأخطار، وتخفيف المصاب، وتفريج الكرب وجعلته ملزما عن طريق الإرادة الحرة، كما جعل الشرع نظام المعاقلة إلزاميا دون تعاقد، وكما ندب الشرع إلى التعاون في الشدائد، وحث على إغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب فتوسعت الشركة في الإلزام في التعاون عن طريق التعاقد على ترميم سائر المخاطر، وقد قال ابن القيم: كل ما يجوز بذله وتركه دون اشتراط فهو لازم بالشرط.

ونوقش: بأن قياس عقود التأمين على نظام العاقلة في الإسلام قياس مع الفارق وبيانه من وجوه:

الأول: أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ ما بينها وبين القاتل- خطأ - من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مادية محضة، لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.

الثاني: أن ما يتحمله أفراد العاقلة يختلف باختلاف أحوالهم من غنى وفقر وتوسط بينهما، أما أعضاء شركة التأمين فيتحملون على السواء في خصوص مال الشركة سواء في هذا ذكورهم وإناثهم غنيهم ومتوسطهم، ولا ينظر في التحمل إلى ثروتهم الخاصة في تقدير ما يتحمله كل عضو، وهذا مما يبعدها عن قصد المعروف والإحسان، ويعين قصد أعضائها إلى التجارة واستغلال المستأمنين؛ لإعانتهم على ترميم أختارهم.

الثالث: أن صلة النسب والقرابة تقضي بأن يكون أهل النصرة من القبيلة مسئولين عن أفرادها في كثير من مشاكل الحياة ومطالبها، فعليهم حل

ص: 297

مشاكلهم والأخذ على يد مسيئهم، وحماية ضعيفهم من غوائل الزمن وأحداثه، وهذا المعنى مفقود في شركات التأمين، إذ لا رابطة روحية بينها وبين المستأمنين، ولا أواصر رحم تدعو إلى الإحسان ودفع الظلم والعدوان أو تجعل لها سلطانا على المستأمنين يخول لها الأخذ على أيديهم وتقويم اعوجاجهم. وإذا كان الشبه بين العاقلة والتأمين في بواعث التحمل وآثاره مفقودا لم يصح أن يقاس أحدهما بالآخر.

ح- واستدلوا: بقياس عقود التأمين على عقود الحراسة، وبيانه أن عقود الحراسة وإن كان الحارس فيه مستأجرا على عمل الحراسة، فالغاية المقصودة منه هي الأمان، ونتيجته معنوية هي الاطمئنان على سلامة الشيء المحروس من العدوان، وليس كالمستأجر لنقل متاع أو على خياطة ثوب مثلا مما نتيجته حسية، وعقود التأمين كذلك، فإن المستأمن كالمؤجر، كل منهما دفع جزءا من ماله؛ لكسب الأمان، والسلامة من الخطر، والمؤمن كالحارس كل منهما أكسب صاحبه أمانا عوضا عما بذله من ماله.

ونوقش أولا: بأن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.

وثانيا: أن الحارس بذل عملا يستحق عليه العوض، والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن ليأخذه عليه عوضا، وإنما يبذل مالا عند وقوع الخطر، والربا فيه محقق، وربما لا يبذل شيئا إذا لم يقع الخطر، فيكون أخذه

ص: 298

للأقساط أكلا للمال بلا مقابل في معاوضات تجارية، وهو باطل.

وثالثا: الحارس لا يضمن الشيء المحروس إلا إذا ثبت تفريطه أو اعتداؤه، والمؤمن ضامن عند وقوع الخطر، ولو كان بسبب قهري لا يد لأحد فيه، وعلى هذا لا يصح القياس لوجود فروق في حقيقة كل من العقدين وآثارهما تمنع من الإلحاق.

ط- قياس التأمين على الإيداع:

وبيانه: أنه يجوز الإيداع بأجرة للأمين، وعليه ضمان الوديعة إذا تلفت فكذا يجوز أن يدفع المستأمن مبلغا لشركة التأمين على أن يؤمنه بعد خطر معين.

ونوقش: بأن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شي في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن يعود إلى المستأمن بمنفعة، إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد. وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر.

ونوقش أيضا: بأن التضمين في صورة الإيداع قاصر على ما يمكن الاحتراز عنه من الأخطار، بخلاف التأمين فإن التضمين عام فيما يمكن الاحتراز منه وما لا يمكن.

ي- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

وبيانه: أن تجار البز اتفقوا على أن كل من اشترى منهم سلعة دفع درهما عند رجل يثقون به؛ ليستعينوا بما اجتمع لديهم على ما يصيبهم من غرم،

ص: 299

وحاول الحاكة منعهم بدعوى: أن ذلك ينقص من ربحهم، فحكم الشيخ العقباني بإباحة ذلك بشرط ألا يجبر أحد من التجار على دفع الدرهم، فإذا جاز هذا جاز التأمين؛ لما في كل منهما من التعاون على الغرم وترميم الأخطار.

ونوقش: بأنه قياس مع الفارق؛ إذ الأول من التأمين التبادلي وهو تعاون محض وما فيه البحث تأمين تجاري، وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس.

ك- التأمين جرى به العمل، وتعارفه الناس فيما بينهم، فكان جائزا؛ لأن العرف من الأدلة الشرعية. ونوقش: بأن العرف ليس دليلا تثبت به الأحكام ولا مصدرا من مصادر التشريع، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره، وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها.

ل- اشتدت حاجة الناس إلى التأمين في إقامة المشروعات المتنوعة وفي تحقيق مصالح لا بد لهم منها في حياتهم. وفي مضار وترميم أخطار لا يقوى الفرد على النهوض بها وحده فكان جائزا؛ دفعا للمشقة والحرج عن الناس، وتيسيرا لطرق الحصول على ما تقوم به حياتهم وتنظم به أمورهم وعلى ما تدفع به عنهم أحداث الزمان وغوائله.

ونوقش: بأن الطريق المباحة لتحقيق المصالح وإقامة المشروعات

ص: 300

كثيرة، ولم يضيق الله على عباده فإن ما أباحه لهم من الطيبات وطرق كسبها أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين، وإنما هو إلف الكثير من الناس لما عهدوه وعكفوا عليه زمنا طويلا، وما عليهم إلا أن يحملوا أنفسهم على البعد عنه؛ والفطام منه، وأن يختاروا طرقا أخرى مباحة لتكون بديلة عنه؛ كالجمعيات التعاونية، وشركات إنشاء المشروعات التي تقوم على رءوس أموال الأعضاء، والذي مكن لأعضاء شركات التأمين أن تقوم على قدم وساق بطريقة غير مشروعة يمكن لغيرها من القيام على سنن الشرع، بل نرى كثيرا من الأفراد قد وفق الله كلا منهم لإقامة مشروعات، ولا يحتاج إلا لبذل النصح، والنشاط في الدعاية التي تبعث الطمأنينة إلى الطرق الأخرى المباحة، والعمل على إيجاد وعي إسلامي يحبب إلى النفوس استثمار الأموال في الوجوه المشروعة دون جبن أو شدة خوف من شبح الخسارة تصد عن السعي والنشاط؛ ودون طمع كاذب أو زيادة حرص تدفع إلى أكل الأموال بالباطل.

م- استدلوا: بأن الأصل في عقود المعاملات الجواز ما دامت لا تعارض كتابا ولا سنة ولا مقصدا من مقاصد الشريعة، وأنها لا تنحصر فيما كان من أنواعها موجودا عند نزول الوحي، ولا فيما كان معهودا عند الناس في صدر الإسلام، فيجوز للناس أن يحدثوا من عقود المعاملات ما شاءوا مما لا يتنافى مع نص أو مقصد شرعي، ومن ذلك عقود التأمين، فكانت جائزة.

ونوقش أولا: بعدم تسليم أن يكون الأصل في عقود المعاملات

ص: 301

الجواز، بل الأصل فيها المنع حتى يقوم دليل على الجواز.

وثانيا: بأنه على تقدير أن يكون الأصل فيها الجواز فعقود التأمين قامت الأدلة على مناقضتها للكتاب والسنة، وعلى هذا لا تكون عقود التأمين داخلة في عموم أصل الجواز، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على أدلة التحريم مع المناقشة.

ن- واستدلوا: بأن التأمين ضرب من ضروب التعاون المفيد في تنمية الثروة، والصناعات والنهوض في مختلف مجالاته ومشروعاته، وفي تفتيت الأخطار والتخلص من الأزمات، إلى غير هذا مما عرف من مزايا التأمين، وإذا تضمن مصلحة خاصة أو راجحة كان جائزا بل مأمورا به؛ لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ؛ ولأن تحقيق المصالح وجلب المنافع ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة، ومن رجع إلى وظائف التأمين ومزاياه تبين له ما فيه من جلب المنافع ودرء المفاسد والأخطار. ونوقش أولا: بمنع رجحان ما في التأمين من المصلحة على ما فيه من مفسدة، بل مفسدته هي الراجحة، وعليه لا يكون من التعاون على البر والتقوى، بل من التعاون على الإثم والعدوان، فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2)

وثانيا: بأن من المصالح ما شهدت له الشريعة بالاعتبار، وهذه لا شك في أنها حجة، ومنها ما شهدت الشريعة بإلغائه فليس بحجة، ومنها ما لم

(1) سورة المائدة الآية 2

(2)

سورة المائدة الآية 2

ص: 302

تشهد الشريعة له باعتبار ولا إلغاء، بل كان من المصالح المرسلة، فاختلفت في الاحتجاج أنظار المجتهدين، وعقود التأمين فيها جهالة وغرر وقمار فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لطغيان جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة كما ألغت منافع الخمر والميسر؛ لطغيان ما فيها من خطر وإثم على ما فيها من منافع.

ص: 303

3 -

أما القائلون بالتفصيل بين أنواع التأمين:

فمنهم: من فرق بين التأمين على الحياة وما في معناها بقية أنواع التأمين التجاري، فحرم الأول ومنع من الثاني، واستدل لما منعه بأدلة المانعين للتأمين مطلقا، ولما أجازه بأدلة المجيزين له مطلقا، وقد سبقت أدلة الطرفين مع مناقشتها.

ومنهم: من فرق بين ما فيه من ربا وما خلا من الربا، فأباح من عقود التأمين ما خلا من الربا، ومنع ما اشتمل منها على ربا إلا أنه رخص فيما هو قام منها بالفعل مؤقتا للحاجة حتى تتاح الفرصة لوجود البديل، وأوصى بالسعي الحثيث في إيجاد البديل للاستغناء به عن أنواع التأمين التي لا تخلو من الربا.

واستدل لصور المنع والجواز بما تقدم من أدلة المانعين مطلقا والمجيزين مطلقا، وقد سبق ذلك مع المناقشة.

ومن توقف لعدم بحثه أو عدم انكشاف وجه الحق له بعد بحثه فتوقفه لا يعتبر حكما فلا يطالب بدليل، ولا توجه إليه مناقشة، ويشكر على نصيحته ببذل الجهد لحل المشكل بالوصول إلى نتيجة حاسمة.

ص: 303

ونوقش ما قاله الدكتور السنهوري بما يأتي:

الأول: عقود التأمين عقود متعددة، وكل عقد منها مستقل عن الآخر فيما اشتمل عليه من إلزام والتزام، ونظير ذلك من جهة التعدد ما يقع في شركة العنان بين أعضائها مثلا وبين عدد من المشترين منهم أو البائعين عليهم، فكل عقد بين رجال الشركة وكل طرف آخر باع أو اشترى منهم عقد قائم بنفسه مستقل، ولذا لا يلزم من فساد عقد منها فساد الآخر، ولا من صحة عقد صحة الآخر، ولا من الإقالة في عقد الإقالة في الآخر.. . إلخ، وإن كان مال الشركة مختلطا يحمل ربحه خسارته أو تقضي خسارته على ربحه مثلا، ويسدد من مجموعه تبعات من تعامل معهم، فوحدة رأس مال الشركة ووحدة مسئوليتها أمام كل فرد أو جماعة عاملتها لا يقضي بوحدة العقود التي أبرمتها مع كل من تعاقد معها بيعا أو شراء مثلا، وشركة التأمين مع كل مستأمن لا يختلف عن ذلك.

وقد اعترف الدكتور بأن عقود التأمين لو نظر إليها هذه النظرة، أي: من جهة العلاقة ما بين المؤمن ومؤمن له بالذات لم يعد عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة ورهان، ويكون غير مشروع، لا في الفقه الإسلامي ولا في جميع القوانين التي تحرم القمار والرهان، إلا أنه حاول أن يلبس التأمين ثوبا جديدا بالنظر إلى العلاقة ما بين المؤمن ومجموع المؤمن لهم حيث لا يكون إلا وسيطا ينظم لهم تعاونهم جميعا على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل، والواقع أنه ليس وسيطا حقيقة وإنما هو أصيل في كل عقد بانفراده، ملك به ما دفعه المستأمن إليه ملك التاجر لما بذل له من عوض يستثمره لمصلحته، وقد تقدم أن وحدة الشركة ووحدة مسئوليتها أمام

ص: 304

المستأمن لا يستلزم وحدة العقود وصرف النظر عن اعتبار كل منها مستقلا عن الآخر، وعلى هذا يجب أن يراعى في الحكم على عقود التأمين كل عقد بانفراده.

الثاني: ذكر الدكتور أنه لا يصح التفريق بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي

إلخ ويمكن أن يقال: إن هذا دفاع إلزامي لإسكات من يمنع التأمين الفردي أو التجاري لا يثبت بمثله جواز التأمين الفردي وقد يرجع عن التفريق فيسوي بينهما في المنع، وبهذا يسقط الإلزام.

ويمكن أن يقال أيضا: إن بين الاجتماعي والفردي فرقا، فالاجتماعي الأول فيه التعاون لا التجارة، فإن داخله شوائب تبعث الريبة في جوازه أمكن تخليصه منها، أما التأمين الفردي فالقصد الأول منه التجارة على غير السنن الشرعي ولا ينفك عن الربا والغرر والقمار؛ لقيام أركانه عليها، وعلى هذا لا يصح ما ذكر طريقا لإثبات جوازه.

الثالث: ذكر الدكتور أن عقد التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه، وليس من بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي. ويمكن أن يسلم بأن عقد التأمين جديد باعتباره جزئيا له مقوماته وخصائصه لكن ليس بصحيح أن يقال: ليس من النظم التي عرفها الفقه الإسلامي، بل هو مندرج تحت القواعد العامة في الفقه الإسلامي، فيعرف حكمه من تطبيقها عليه ومن مقاصد الشريعة التي بحثها الأصوليون والفقهاء بحثا كليا، ولا يمنع تمايزه عن العقود المسماة عند الفقهاء التي عرفوها في بيئتهم أو عصرهم اندراجه تحت قاعدة فقهية عامة، أو تحقيقه لمقصد من مقاصد الشريعة، أو بقاؤه عليه ليعرف حكمه، كما عرف حكم العقود المسماة

ص: 305

الخاصة التي وقعت في العصور السابقة؛ ولذا لم يكن بين العلماء إلا اختلاف النظر فيما يندرج تحته من كليات الشريعة وفقهها الإسلامي أو يلحق به من عقود أخرى مسماة تتمايز عنه من جهة، وتشبهه من جهة أخرى فيحكم له بما غلب شبهه به. فنرى منهم من يدرجه تحت ما يقتضي تحريمه أو يلحقه بجزئيات يقوى شبهه بها، ومنهم من يدرجه تحت كليات ومقاصد تقضي بجوازه أو يلحقه بجزئيات تقضي بجوازه؛ لقوة شبهه بها ومنهم من تردد فتوقف.

الرابع: ما ذكر من مناقشة كونه قمارا أو تضمنه للربا أو الغرر سبق بحثه ومناقشته من المجيزين والمانعين فلا نعيد الكلام خشية كثرة التكرار.

هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو

عضو

نائب الرئيس

رئيس اللجنة

عبد الله بن سليمان بن منيع

عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان

عبد الرزاق عفيفي

إبراهيم بن محمد آل الشيخ

ص: 306

قرار رقم (5\10) وتاريخ 4 \4 \ 1397

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:

فبناء على ما ورد من جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله بخطابه رقم (22310) وتاريخ 4\11\ 91هـ الموجه إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء بأن ينظر مجلس هيئة كبار العلماء في موضوع التأمين، وبناء على ذلك تقرر إدراجه في جدول أعمال الدورة الرابعة.

وأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يتضمن أمرين:

الأول: تعريفه وبيان أسسه وأنواعه وأركانه وخصائص عقده وأنواع وثائقه وما إلى ذلك مما يتوقف على معرفته الحكم عليه بالإباحة أو المنع.

الثاني: ذكر خلاف الباحثين في حكمه وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة، وفي الدورة السادسة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض ابتداء من 4\ 2\ 95 هـ استمع المجلس إلى ما يأتي:

1 -

صورة قرار صادر من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية ورئيس القضاة رحمه الله برقم (570 \2) في 18\8\1388 هـ بشأن حكم صادر من محكمة جدة في موضوع التأمين بين شركة أمريكان لايف وبين بدوي حسين سالم ومذكرة اعتراضية للشيخ علي الخفيف عضو مجمع البحوث الإسلامية بمصر

ص: 307

على الحكم المشار إليه.

2 -

البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.

3 -

قرار صادر من المستشارين بمجلس الوزراء هما: الدكتور ظافر الرفاعي، وإبراهيم السعيد برقم (449) وتاريخ 26\ 11\ 1390 هـ.

4 -

البحث المختصر الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1392 هـ من إعداد فضيلة الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري عضو مجمع البحوث الإسلامية بمصر، يشتمل هذا البحث على بيان مراحل بحث التأمين بجميع أنواعه، وبيان آراء جماعة كثيرة من فقهاء العالم الإسلامي والخبراء والاقتصاديين والاجتماعيين.

5 -

ما لدى كل من الدكتورين: مصطفى أحمد الزرقاء وعيسى عبده عن هذا الموضوع، وقد استدعاهما المجلس بناء على المادة العاشرة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة المتفرعة عنها الصادرة بالمرسوم الملكي رقم (1\ 137) وتاريخ 8\ 7\1391 هـ (وبعد استماع المجلس إلى ما سبق استمرت المناقشة لأدلة القائلين بالجواز مطلقا، وأدلة القائلين بالمنع مطلقا، ومستند المفصلين الذين يرون جواز بعض أنواع التأمين التجاري ومنع أنواع أخرى، وبعد المناقشة وتبادل الرأي قرر المجلس بالأكثرية: أن التأمين التجاري محرم؛ للأدلة الآتية:

الأولى: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم

ص: 308

تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر.

الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) والآية بعدها.

الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة من العقد فيكون ربا نسأ، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.

الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم؛ لأن كلا منهما فيه جهالة

(1) سورة المائدة الآية 90

ص: 309

وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (1) » ، وليس التأمين من ذلك ولا شبيها به فكان محرما.

الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم؛ لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعا، فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن فكان حراما.

وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقا أو في بعض أنواعه: فالجواب عنه ما يلي:

أ- الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح، فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة،

(1) سنن الترمذي الجهاد (1700) ، سنن أبو داود الجهاد (2574) .

(2)

سورة النساء الآية 29

ص: 310

وهذا محل اجتهاد المجتهدين. والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.

ب- الإباحة الأصلية لا تصلح دليلا هنا؛ لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد فبطل الاستدلال بها.

ج- الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.

د- لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها.

هـ- الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناها غير صحيح فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما

ص: 311

مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم، إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة، وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدود.

وقياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به- غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما: أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.

ز- قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به- لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق: أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر.

ح- قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب - قياس غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا

ص: 312

التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه.

ط- قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق- لا يصح، فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.

ي- قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد - غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضا؛ لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظرا إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقا التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة؛ كفاء لمعروفه وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.

ك- قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة - لا يصح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق: أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين القاتل- خطأ أو شبه العمد- من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث

ص: 313

المعروف بصلة.

ل- قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة - غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق: أن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.

م- قياس التأمين على الإيداع لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضا فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن يعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر.

ن- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة - لا يصح، والفرق بينهما: أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض، والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس.

لكن أجل إصدار القرار بأكثرية الأصوات حتى يبحث البديل عن التأمين التجاري، وفي الدورة العاشرة لمجلس هيئة كبار العلماء اطلع المجلس على ما أعده بعض الخبراء في البديل عن التأمين التجاري، وقرر المتفقون على تحريم التأمين التجاري إصدار القرار، كما قرر المجلس- ما عدا فضيلة

ص: 314

الشيخ عبد الله بن منيع - إصدار قرار خاص يتعلق بجواز التأمين التعاوني بديلا عن التأمين التجاري.

وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

هيئة كبار العلماء

رئيس الدورة العاشرة

عبد الرزاق عفيفي

عبد العزيز بن باز

عبد الله بن محمد بن حميد

عبد الله خياط

محمد الحركان

عبد المجيد حسن

عبد العزيز بن صالح

صالح بن غصون

إبراهيم بن محمد آل الشيخ

سليمان بن عبيد

محمد بن جبير

عبد الله بن غديان

راشد بن خنين

عبد الله بن قعود

صالح بن لحيدان

عبد الله بن منيع

ص: 315