الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد.
والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الأجل أو في قدره تحالفا، وإن اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الأجل وادعى المسلم إليه بقاءه- فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه، والله أعلم.
د- قال
صاحب [المغني]
رحمه الله (1) :
مسألة- قال: (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد، وكذلك الشركة فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره) أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن؛ ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.
وأما الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا؛ لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل، وبهذا قال أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك جواز الشركة والتولية؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية» .
ولنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض، فلم تجز كما لو كانت
(1)[المغني](4\301- 303) .
بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في المسلم قبل قبضه كالنوع الآخر، والخبر لا نعرفه، وهو حجة لنا، لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع، فيدخلان في النهي، ويحمل قوله:«وأرخص في الشركة والتولية) » على أنه أرخص فيهما في الجملة لا في هذا الموضع.
وأما الإقالة: فإنها فسخ وليست بيعا.
وأما الحوالة به فغير جائزة؛ لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر، ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا؛ لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع.
وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما سواء كان العرض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر- جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه.
وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام.
قال ابن المنذر: وقد ثبت أن ابن عباس قال: (إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين) رواه سعيد في سننه.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1) » رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دونه في الصفات- جاز، لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما.
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .
قال ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن] على حديث «من أسلف في شيء فلا يصرفه في غيره (1) » (2) : اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه وللمسألة صورتان:
إحداهما: أن يعاوض عن المسلم فيه مع بقاء عقد السلم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه.
والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
فأما المسألة الأولى: فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه- أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه لا لمن هو في ذمته ولا لغيره.
وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعا، وليس بإجماع فمذهب مالك جوازه، وقد نص عليه أحمد في غير موضع، وجوز أن يأخذ عوضه عرضا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض ولا يربح فيه.
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .
(2)
(3\111- 118) .
وطائفة من أصحابنا خصت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط، كما قال في المستوعب: ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين، والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب؛ كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه في رواية أبي طالب: إذا أسلفت في كر حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك، ولا يأخذ مكان الشعير حنطة.
وطائفة ثالثة من أصحابنا: جعلت المسألة رواية واحدة، وأن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير أنهما جنس واحدة، وهي طريقة صاحب المغني.
وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره، ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة، وهي طريقة أبي حفص الطبري وغيره.
قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: فإن كان ما أسلم فيما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة- جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء.
ونقل أبو القاسم عن أحمد، قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له، كما لو أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال: آخذ مكانه شلبيا. أو قفيز شعير فكيلته واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ، وذكر حديث ابن عباس الذي رواه طاوس عنه (إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين) .
ونقل أحمد بن أصرم: سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يشتري منه عقارا أو دارا؟ فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن.
وقال حرب: سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر فلما حل الأجل لم يكن عنده بر؟ فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص، قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال: نعم.
إذا عرف هذا فاحتج المانعون بوجوه:
أحدها: الحديث.
والثاني: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه.
والثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن وهذا غير مضمون عليه؛ لأنه في ذمة المسلم إليه.
والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه، فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتولى في المبيع ضمانان.
الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم.
هذا جملة ما احتجوا به.
قال المجوزون بالصواب: جواز هذا العقد والكلام معكم في مقامين: أحدهما: في الاستدلال على جوازه.
والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع.
فأما الأول: فنقول: قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت وإلا فخذ عوضا أنقص منه
ولا تربح مرتين) رواه شعبة.
فهذا قول صحابي، وهو حجة، ما لم يخالف.
قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم واخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء (1) » ، فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه.
فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟
قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عنه.
والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا: لأنه دين، فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، ومالك يجوز بيعه من غير المستلف.
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر والقياس التسوية بينهما.
وأما المقام الثاني: فقالوا: أما الحديث: فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: ضعفه كما تقدم.
والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر أو يبيعه
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
بمعين مؤجل؛ لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين، وهو منهي عنه، وأما بيعه بعوض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه، كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر.
فالذي نهي عنه من ذلك: هو من جنس ما نهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ، والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة. فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عوضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفى دينه؛ لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.
والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لم يملك شيئا، بل سقط الدين من ذمته؛ ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع.
ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا، وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة ولو حلف ليقضينه حقه غدا فأعطاه عنه عوضا بر في أصح الوجهين.
وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير
بائعه، وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان.
وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره، وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم تنقطع علقه عن المبيع، بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه- لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه، وهذه العلة أظهر، وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تتنافى بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين، وأي محذور في هذا كمنافع الإجارة؟ فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، له أن يبيعها على الشجر وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه، ونظائره كثيرة.
وأيضا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة، وأيضا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.
فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان، فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وقال: أحسب كل شيء بمنزلة الطعام، ومع هذا فقد ثبت عنه: أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون
وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع للبائع الذي هو في ذمته، فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته، فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع؛ لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد ولم تنقطع علق بائعه عنه؟
وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه؟ وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟ ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس: خذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين.
فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة:«لا بأس إذا أخذتم بسعر يومها (1) » ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثني الطعام خاصة؛ لأن من أصله: أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، بخلاف غيره.
وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعوض أو حيوان أو نحوه دون
(1) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعوض ونحوه جوزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه كالشعير عن الحنطة نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة كما لا يستوفى الجيد عن الرديء، ففي العوض جوز المعاوضة إذ لا يشترط هناك تقابض، وفي المكيل والموزون منع المعاوضة لأجل التقابض وجوز أخذ قدر حقه أو دونه؛ لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه.
قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين:
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع، بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ يتوالى ضمانان.
الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها، وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.
وقد قدمنا ذكر الضرر التي فيها توالي الضمانين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضا فالمبيع إذا أتلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر، فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت في السنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس وعالم المدينة مالك بن أنس؟
فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فصل) وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
وأيضا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن
في المبيع.
وأيضا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز.
واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرف إلى غيره (1) » .
قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه.
قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه، ولو صح لم يتناول محل النزاع؛ لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟
وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه: فالكلام فيه أيضا، وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه ولا إجماع ولا قياس.
ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع ولا إجماع ولا قياس.
فإذا عرف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر لوجهين:
أحدهما: أنه بيع دين بدين.
والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه فإذا جعله سلما في شيء آخر ربح فيه وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا قسمت فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .
العوض في المجلس؛ لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض وإن بيع بغير مكيل أو موزون؛ كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟
فيه وجهان:
أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد.
والثاني: يشترط.
ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين فيمنع منه، ومأخذ الجواز- وهو الصحيح- أن النسائين ما لا يجمعهما علة الربا كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم.
ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النساء بينهما فهل يجوز ذلك؟
فيه قولان:
أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق.
والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر، وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب [المغني] وشيخنا.
والأول: اختيار عامة الأصحاب.
والصحيح: الجواز؛ لما تقدم.
قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين، فقلت له: إني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيقدمون بالحنطة وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأقاصهم؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي، يعني: إذا لم يكن حيلة مقصودة.
فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح؛ لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل.
والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم ويسلمها إليه ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته ثم يقاصه بها، ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في [سبل السلام] :
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» يعني: الدين بالدين، رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف، ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير، لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، قال أحمد: لا تحل الرواية عندي عنه، ولا أعرف هذا الحديث لغيره، وصحفه الحاكم فقال: موسى بن عتبة، فصححه على شرط مسلم، وتعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم، قال أحمد: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين، وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلاء الدين كلوا فهو كالئ إذا تأخر، وكلأته إذا أنسأته، وقد لا يهمز تخفيفا، قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول:
بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا.
3 -
بيعتان في بيعة:
آراء الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة مع التوجيه والمناقشة:
قال النووي رحمه الله في [المجموع شرح المهذب](1) :
قال المصنف رحمه الله:
فإن قال: بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة، فالبيع باطل؛ لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلا، وإن قال: بعتك بألف نقدا أو بألفين نسيئة: فالبيع باطل، لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، فهو كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين.
(الشرح) هاتان المسألتان كما قالهما باتفاق الأصحاب، وهما داخلتان في النهي عن بيع الغرر، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (2) » رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس، وفسر الشافعي وغيره من العلماء البيعتين في بيعة تفسيرين:
أحدهما: أن يقول: بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة.
والثاني: أن يقول: بعتك بمائة مثلا على أن تبيعني دارك بكذا وكذا.
وقد ذكر المصنف التفسيرين في الفصل الذي بعد هذا، وذكرهما أيضا في التنبيه وذكرهما الأصحاب وغيرهم، والأول أشهر وعلى التقديرين البيع
(1)[المجموع](9\372) .
(2)
سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
باطل بالإجماع.
(وأما) الحديث الذي في [سنن أبي داود] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » ، فقال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها، كأن أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فرع) في مذاهب العلماء فيمن باع بألف مثقال ذهب وفضة، مذهبنا أنه بيع باطل، وقال أبو حنيفة: يصح ويكون الثمن نصفين، واحتج أصحابنا بالقياس على ما لو باعه بألف بعضه ذهب وبعضه فضة فإنه لا يصح.
(1) سنن أبو داود البيوع (3461) .
ب- قال عبد الله بن قدامة رحمه الله في [المغني](1) :
مسألة: قال: وإذا قال: بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا، لم ينعقد البيع، وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه، وجملته: أن البيع بهذه الصفة باطل؛ لأنه شرط في العقد أن يصارفه بالثمن الذي وقع العقد به، والمصارفة عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة، قال أحمد هذا معناه، وقد روى أبو هريرة قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (2) » أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن
(1)[المغني](4\233- 235) .
(2)
سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا، أو على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا، فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود: الصفقتان في صفقة ربا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد، إذا كان معلوما حلالا، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير.
ولنا: الخبر، وأن النهي يقتضى الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط؛ لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط فيفسد العقد؛ لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات فات الرضا به، ولأنه شرط عقدا في عقد فلم يصح كنكاح الشغار، وقوله: لا ألتفت إلى اللفظ، لا يصح؛ لأن البيع هو اللفظ، فإذا كان فاسدا فكيف يكون صحيحا، ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط بناء على ما لو شرط ما ينافي مقتضى العقد كما سبق، والله أعلم.
(فصل) وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر: وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدا أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا، هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهو أيضا باطل، وهو قول الجمهور؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال: بعتك هذا أو هذا؛ ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول؛ ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد عبيدي، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب على أحدهما، وهذا محمول على أنه
جرى بينهما بعد ما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال خذه، أو قد رضيت ونحو ذلك، فيكون هذا عقدا كافيا وإن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدل عليه لم يصح؛ لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا؛ لما ذكرنا، وقد روي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم: أنه يصح، فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد ثم يمكن أن يصح؛ لكونه جعالة يحتمل فيه الجهالة بخلاف البيع، ولأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له، فلا يفضي إلى التنازع، وههنا بخلافه.
(فصل) لو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف صح البيع.
ولنا: ما روى عبد الله بن عمرو «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف (1) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ:«لا يحل بيع وسلف (2) » ، ولأنه اشترط عقدا في عقد، ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له، وذلك ربا محرم ففسد، كما لو صرح به، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما.
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2)
سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) .