المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر:

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة:

- ‌ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحدللوقت الواحد

- ‌(وجهة نظر)

- ‌التأمين

- ‌ النشأة التاريخية لفكرة التأمين:

- ‌ أقسام التأمين:

- ‌التأمين التعاوني:

- ‌ التأمين التجاري:

- ‌ تأمين الأضرار والأشخاص

- ‌ وظائف التأمين:

- ‌ أسس التأمين الفني:

- ‌‌‌ أركان التأمينوعناصره:

- ‌ أركان التأمين

- ‌ عناصر عقد التأمين

- ‌ خصائص عقد التأمين:

- ‌ حق الحلول:

- ‌ مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:

- ‌ وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ (بوليصة التأمين) :

- ‌ أنواع وثيقة التأمين:

- ‌ المشاركة في التأمين:

- ‌ التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:

- ‌ تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:

- ‌الخلاصة:

- ‌ ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة:

- ‌ذكر كلام المانعين:

- ‌أدلة المانعين مطلقا:

- ‌ التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة

- ‌ معنى الغرر لغة واصطلاحا

- ‌ عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم

- ‌ عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:

- ‌ التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين

- ‌ التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع

- ‌ أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة:

- ‌ قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:

- ‌ قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:

- ‌ قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق:

- ‌قياس عقد التأمين على نظام التقاعد:

- ‌ قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:

- ‌ كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة

- ‌ قياس التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة

- ‌ كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة:

- ‌ قياس التأمين على الإيداع:

- ‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

- ‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

- ‌ التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة:

- ‌ الاستدلال على جوازه بالعرف:

- ‌ الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:

- ‌رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

- ‌خلاصة الأمر الثاني:

- ‌تمهيد:

- ‌بحث في البيوع

- ‌ بيع العينة والتورق:

- ‌آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب] :

- ‌ النووي في [روضة الطالبين] :

- ‌ ابن قدامة في [المغني] :

- ‌ محمد بن مفلح في [الفروع]

- ‌ شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى]

- ‌ ابن القيم في [إعلام الموقعين]

- ‌مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]

- ‌ ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌ صاحب [المغني]

- ‌ محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار]

- ‌ صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع]

- ‌ صاحب [المجموع شرح المهذب]

- ‌كيفية الإمساك والإفطار فيرمضان وضبط أوقات الصلاةفي بعض البلدان

- ‌ ذكر النقول مع الأدلة

- ‌ الكمال بن الهمام في [فتح القدير]

- ‌ الزيلعي في شرحه على [الكنز]

- ‌ ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار]

- ‌ الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل]

- ‌ حسنين مخلوف في [الفتاوى] :

الفصل: ‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه (1) انتهى.

ويمكن أن يقال أيضا: بأن عقد التأمين عقد معاوضة تجارية بخلاف الإيداع فإن القصد به المساعدة بحفظ الوديعة لا الاتجار بها. . .

(1)[مجموعة رسائل ابن عابدين] ، الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة (2 \ 178) .

ص: 213

ي -‌

‌ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة:

وصورتها:

أنه في أواسط القرن الثامن وقعت مسألة بـ (سلا) على عهد قاضيها أبي عثمان سعيد العقباني تسمى: قضية تجار البز مع الحاكة.

هي: أن تجار البز رأوا توظيف مغارم مخزنية ثقيلة عليهم فاتفقوا على أن كل من اشترى منهم سلعة دفع درهما عند رجل يثقون به، وما اجتمع من ذلك استعانوا به على الغرم، وأراد الحاكة منعهم بدعوى أنه يضر بهم، وينقص من ربحهم. قال العقباني: فحكمت بإباحة ذلك، بشرط ألا يجبر واحد من التجار على دفع الدراهم (1) .

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه قياس مع الفارق، فإن قضية تجار البز مع الحاكة من باب التأمين التبادلي، وهو تعاون محض، وعقود التأمين التي هي محل البحث عقود معاوضة تجارية يراد من ورائها الربح فلا يصح قياسها على قضية تجار البز مع الحاكة. .

(1)[الفكر السامي] ، ص (310) .

ص: 213

ك -‌

‌ التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

نذكر فيما يلي الكلام في المراد بالمصلحة وفي الاحتجاج بها عند

ص: 213

العلماء السابقين، ثم نذكر ما تيسر من كلام الفقهاء المعاصرين في بيان الاستدلال بهذا الدليل.

أما كلام العلماء السابقين:

فقال الآمدي في بيان المصلحة المرسلة: هي ما لم يشهد الشرع باعتبارها ولا إلغائها. وقد اتفقت الشافعية والحنفية وأكثر الفقهاء على امتناع التمسك بها إلا ما نقل عن مالك مع إنكار أصحابه لذلك عنه، والحق في ذلك مذهب الجمهور؛ لأن ما لا يكون معتبرا في الشرع لا يكون دليلا شرعيا، وما يقال: إنه ما من وصف مصلحي إلا وقد اعتبر ما هو من جنسه - غير صحيح؛ لأنه إن أريد المشاركة بينه وبين الوصف المعتبر في الجنس القريب منه فهو الملائم ولا نزاع فيه، وإن أريد به الجنس الغائي فكما قد شارك الوصف المعتبر فيه فقد شارك الأوصاف الملغاة فيه وليس إلحاقه بالمعتبر أولى من الملغى (1) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الطريق السابع: (المصالح المرسلة) وهو: أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها:(المصالح المرسلة)، ومنهم من يسميها: الرأي. وبعضهم يقرب إليها الإنسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة لكن بعض الناس يخص المصالح

(1)[منتهى السؤل في علم الأصول](4 \ 56) .

ص: 214

المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.

وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا، كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي، فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال؛ ليحفظ الخمسة فقط فقد قصر.

وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا، بناء على أن الشرع لم يرد بها ففوت واجبات ومستحبات أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.

وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها.

وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا.

والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله - غالبا - وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك، فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو

ص: 215

رؤية الشيء حسنا - كما أن الاستقباح رؤيته قبيحا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول: بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق، والقول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشرع ينفع في الدين والدنيا، ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1)(2) .

وقال الشاطبي رحمه الله: المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص؛ حفظا للنفوس والأطراف وغيرها.

والثاني: ما شهد الشرع برده، فلا سبيل إلى قبوله، إذ المناسبة لا تقتضي

(1) سورة البقرة الآية 219

(2)

[مجموع الفتاوى](11 \ 342) وما بعدها.

ص: 216

الحكم لنفسها، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي، بل إذا ظهر المعاني وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذ نقبله، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى، بل يرده، كان مردودا باتفاق المسلمين.

ومثاله: ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء: أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء، وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم، والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين،. . . . . إلى أن قال:

الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه. فهذا على وجهين:

أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى؛ كتعليل منع القتل للميراث بالمعاملة بنقيض المقصود، بتقدير أن لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله.

والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل

ص: 217

المسمى بالمصالح المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله. وذكر عشرة أمثلة لذلك، ثم قال: فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة، وتبين لك اعتبار أمور:

أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله.

والثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون (1) المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل؛ كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره، والحج ونحو ذلك.

ثم ذكر مجموعة أمثلة توضح ذلك ثم قال:

والثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري، من باب (ما لا يتم الواجب إلا به. . .) فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. اهـ. (2) .

(1) كذا في المطبوع، ولعله (على سنن) .

(2)

انظر [الاعتصام] ، (2 \ 283، 284، 286، 287، 307، 313) .

ص: 218

وأما كلام الفقهاء المعاصرين في بيان وجه الاستدلال بهذا الدليل:

فقال عبد الرحمن عيسى: ومن الإنصاف أن نقرر أن التأمين نشأ وليد الحاجة، ولم تزل عملياته تتعدد وتتنوع تبعا لما يحققه من مصالح اقتصادية

ص: 218

كبيرة فقلما نجد باخرة تعبر البحار إلا مؤمنا عليها، وقلما نجد البضائع تشحن من الخارج بحرا أو جوا إلا مؤمنا عليها وكذلك قلما نجد العمارات الشاهقة والمتاجر الكثيرة إلا مؤمنا عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البنوك ومخازن الشركات للقطن والحبوب وغيرها مؤمن عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البترول والزيوت ومخازن الأخشاب وكذلك المصانع الكثيرة وعمالها مؤمن عليها، وكذلك السيارات والطائرات فقد دفعت قواعد الاقتصاد الناس دفعا إلى التأمين لدى شركات التأمين، ليأمنوا الكوارث المالية الفادحة التي يتعرضون لها نظير ما يدفعون لشركات التأمين من مال لا يذكر بجانب الكوارث والخسارة إذا نزلت بفرد منهم.

وكم سمعنا من قبل التأمين عن بيوت عظيمة للتجار خربت بغرق بضائعهم وسفنهم، وكم سمعنا عن محال تجارية نشيطة أكلتها النيران وأمسى ذووها يتكففون الناس، وكم وكم من كوارث حلت بذوي الحظ العاثر فبددت الثروات وجلبت الذل والخسران، ولكن التأمين وقد انتشر وظهرت آثاره حقق معناه، فأمن الناس من هذه الكوارث المخربة للديار العامرة وخففت من فداحتها.

فعن رضا تام من طالب التأمين يتعاقد مع شركة التأمين ويدفع أقساط التأمين، وعن رضا تام من الشركة تتعاقد معه وتدفع قيمة الخسارة إذا نزلت به فإنها تجمع منه ومن غيره مبالغ كثيرة، وفي الغالب تكون السلامة بحيث يبقى لها بعد سداد الخسائر أرباح كثيرة (1) .

(1)[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (473، 474) .

ص: 219

وقال الأستاذ عبد الرحمن عيسى أيضا:

وقد قرر العلماء أن المصالح العامة إذا كانت تناسب حكما شرعيا فإن ذلك الحكم الذي تناسبه يثبت للعمل الذي يحقق المصلحة العامة، اعتبارا بهذا الوصف المناسب للحكم، ولهم في ذلك سلف عظيم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فقد جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن في صحف بعد موقعة اليمامة؛ خوفا من ضياعه بقتل القراء ولم يكن ذلك من قبل أبي بكر.

وقد نسخ عثمان بن عفان من هذه الصحف أربعة مصاحف ووزعها على الأقطار، وأمر بحرق كل صحيفة تخالف الصحف؛ منعا لاختلاف الناس في القرآن.

ولعمر بن الخطاب من ذلك الكثير لإثبات الحكم الشرعي للعمل الذي يحقق المصلحة العامة فهو الذي أنشأ الدواوين، وأنشأ البريد، بل قد أسقط عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، مع أنها صنف من الأصناف الثمانية الذين تصرف لهم الزكاة؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه رأى أن هذا الصنف كان يأخذ من الزكاة مراعاة لمصلحة المسلمين إذ كان فيهم ضعف، وكانوا في حاجة إلى تألف هذا الصنف، ولكن لما قويت شوكة المسلمين ولم يصيروا في حاجة إلى تأليف هؤلاء، رأى عمر رضي الله عنه وهو البصير بأمر المسلمين ألا مصلحة في إعطاء هذا الصنف من الزكاة، بل المصلحة في منعهم لئلا يظن بالمسلمين الضعف. كذلك أسقط عمر أيضا حد السرقة عن السارق عام المجاعة؛ لأن المجاعة لما اشتدت ربما تكون هي التي دفعت تحت تأثير العوامل الطبيعية إلى السرقة؛

ص: 220

ليحصل السارق على الطعام الذي لا يكاد يجده، فتكون حالة الضرورة هي الدافع على السرقة فاقتضى عدم إقامة الحد؛ مراعاة لهذه العوامل الطبيعية.

فهذه المواقف وأمثالها من الخلفاء الراشدين على مشهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم إنكارهم - دليل على أنهم يرون أن المصالح العامة من الأمور المناسبة للحكم الشرعي، والتي ينبني عليها ثبوت ذلك الحكم. . . . وقد بينا بوضوح تام أن التأمين يحقق مصالح عامة هامة فيكون حكمه الجواز شرعا؛ اعتبارا لما يحققه من المصالح العامة (1) .

وقال أيضا: قد يبدو ما قررناه ظاهرا وجليا من أن التأمين يحقق الصالح العام بالنسبة للتأمين ضد أخطار الملكية؛ كالتأمين ضد الحريق وضد الغرق وضد السرقة.

وقد يبدو محتاجا إلى ظهور وجلاء بالنسبة للتأمين على الحياة وضد سائر الأخطار الشخصية فنجلي عمليات التأمين بالنسبة للأخطار الشخصية بما يأتي:

إن التأمين على الحياة وضد سائر الأخطار؛ كالتأمين على بعض الحواس كالسمع والبصر، وغيرهما أو على بعض أجزاء الجسم كاليدين والساقين وغيرهما، هذا التأمين يحقق الصالح العام في الصناعات والمهن الخطيرة، فيه تخفيف آلام الكوارث التي تنزل برجال الصناعات، وتهون الشدائد التي تقع على المخاطرين من رجال الأعمال؛ لهذا يكون التأمين

(1)[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (474، 475) .

ص: 221

ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة جائزا شرعا (1) .

وقد علق الأستاذ أبو زهرة على كلام الأستاذ عبد الرحمن عيسى في الاستدلال بالمصلحة على جواز التأمين فقال:

لا بد أن أتعرض لبعض أمور جزئية ثارت في أثناء المناقشات أو جاءت في بعض البحوث، ومن ذلك الكلام على أمر يتعلق بالمصلحة فقد جاء في بحث فضيلة الشيخ عبد الرحمن عيسى: أن عمر بن الخطاب ترك بعض النصوص لأجل المصلحة، وذكر مسألتين أبلاهما التكرار، وهما: مسألة المؤلفة قلوبهم، ومسألة قطع اليد وإهماله عام المجاعة.

ونقول: بالنسبة للأولى إن عمر بن الخطاب ما أسقط سهم المؤلفة قلوبهم وما كان في استطاعته أن يسقط نصا قرآنيا، ولكن عمر منع إعطاء أناس كانوا يأخذون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق رضي الله عنه كالزبرقان بن بدر وغيره - فهو ما اعتبر إعطاءهم حقهم مكتسبا، بل اعتبر مثل هذا العطاء موقوفا بحال الشخص وحال المسلمين.

وقد يقول: ولكنه لم يعط غيره، ونقول: إنه رأى أنه لا موضع لتطبيق النص؛ لعدم حاجة المسلمين إليه، ومثل ذلك سهم المدينين فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يجد مدينا يسد عنه، وكذلك سهم الرقاب فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يوجد عبد مسلم يعتق.

ولذلك قرر الفقهاء بالإجماع: أنه إذا وجدت حال يكون فيها إعطاء ناس تأليفا لقلوبهم فيه تقوية للإسلام فإن النص القرآني يجب الأخذ به،

(1)[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (477) .

ص: 222

ولذلك لا يصح لأحد أن يقول: إن عمر رضي الله عنه أسقط سهم المؤلفة قلوبهم، إن ذلك قول الإفرنجة الذين لا يرجون للإسلام وقارا ويريدون توهين نصوصه، وتبعهم بعض كبار العلماء عن غير بينة، وكل امرئ يخطئ ويصيب مهما كانت منزلته العلمية.

وأما مسألة عدم قيام الحد عام الرمادة، وهو السنة التي اشتدت فيها المجاعة على المسلمين؛ فذلك لأن عمر رضي الله عنه وجد شبهة في إقامته، ومن المقررات الفقهية: أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ادرءوا بالشبهات ما استطعتم (1) » ، والشبهة: أنه رأى السارقين في حال جوع شديد واضطرار، ويعلم كل فقير أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن من كان في حال جوع يتعرض فيه للتلف إذا لم يأكل يباح له مال غيره بقدر ما يسد رمقه، وإذا منعه فقاتله فقتل صاحب الطعام لا دية فيه، والقصة تنبئ عن ذلك، فإن غلمان حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها وأكلوها، فهم عمر بأن يقيم الحد عليهم، ولكنه تبين له أن حاطبا يجيع غلمانه، فلم يقم الحد وغرمه، أليس في الخبر ما يدل على أنه درأ الحد بشبهة الاضطرار، وقد اشتكوا إليه وثبتت صحة شكواهم، والعام عام مجاعة؛ ولذلك يقرر فقهاء الحنابلة وكثيرون غيرهم أن من شرط إقامة الحد في السرقة ألا يكون السارق قد سرق طعامه في مجاعة؛ لمكان شبهة الاضطرار في إقامة الحد (2) .

(1) خرجه ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة.

(2)

[أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (525) .

ص: 223