الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منزلة التفسير:
إذا كان الكلام يستمد قيمته من قيمة موضوعه، فتفسير القرآن من أجلِّ العلوم وأنفعها. وكلام الله في نفسه مبين، ميسر لكل طالب له إلمام بمتن اللغة فيما يتعلق بالألفاظ التي تبدو غريبة على المستعجمين ممن يعرفون العربية، وقد لا تزيد عن مائة لفظ.
بيد أن تراكيب الجمل فيها، وقابليتها لأكثر من احتمال؛ لما تمتاز به من عموم ومرونة، حتما أن يكون للقرآن تفسير، يعبر فيه المفسِّر عما انقدح في ذهنه، ولا يعني أن ماذهب إليه سُنَّة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أشياء لا أصل لها: التفسير، والمغازي، والملاحم.
ذلك أن أهل السير وأصحاب الأخبار، أدخلوا أشياء في التفسير لا صلة لها به. وكذلك أدخلوا في السير كثيرًا من الأخبار الشاذة التي أثبت الواقع كذبها.
وإذا كان مدلول الخبر مستحيلًا، أو لا يتفق مع العصر الذى نُقل فيه؛ كان باطلًا.
ويعني رحمه الله: أنها لا تعتمد على حجج قاطعة؛ إلا ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قليل بالنسبة لما ينسب إليه، أو إلى ابن عباس وعلي وغيرهما.
ولما غلبت العجمة علينا أصبح التفسير ضرورة في حياتنا.
قال الراغب الأصفهاني: إن أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن وتأويله؛ وذلك لأن الصناعة إنما تشرف بشرف موضوعاتها، أو بشرف أغراضها، وصناعة التفسير قد تحقق لها الشرف في الموضوع؛
لأن موضوعها كلام الله تعالى، الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، وتحقق لها شرف الصورة؛ لأن صورته إظهار المكنون في القرآن من أسرار أودعها الله فيه، وتحقق لها شرف الغرض؛ لأن مقصدها التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى السعادة الحقيقية التى لا فناء لها.
وكل كمال ديني أو دنيوي، عاجل أو آجل، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى.
قال ابن مسعود: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن".
ولا بد من العلم قبل العمل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} .. فقوله: {مُبَارَكٌ} أي: كثير الخير والمنافع؛ كالشجرة الطيبة تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها لمن يستظل بها، وتتشوف نفسه لثمارها. وتدبر الآيات مطلوب شرعي، ولا يكون التدبر بغير فهم ولا فهم إلا بعد تفسير.. وقوله:{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} فيه لمحة إلى موافقة القرآن للفطرة الإنسانية، وما هو مركوز فيها قبل أن تشوهها أخطار البيئة ومخلفات الوراثة، وتركات الأجيال المريضة في منكر أصبح في صورة المعروف.
وفي القرآن نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
وعلى مقدار ما يُعطى المفسر من توفيق الله يكون تأثيره في نفس قرائه وسامعيه.
ويقول ابن كثير في مقدمة تفسيره: فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك وطلبه، وتعلم ذلك وتعليمه؛ كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} 1.
وما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب، وهو لا يفهم ما يتلو! فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ قال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وما أقبح أن يُسأل عن فقه ما يتلوه فلا يدريه، فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا!!
ذلك لأن القرآن كما هو مطلوب تلاوته، كذلك مطلوب تفهمه للعمل به..
قال إياس بن معاوية: "مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلًا، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب".
ومما تسيء المسلم رؤيته أن يرى بعض حملة القرآن وهم يرددونه ينشغلون بإعجاب الناس، فيخرجون عن تلاوته حق التلاوة، أوينزلون بألفاظه عن منازلها. "ولقد انصرف شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سمع قارئًا كان يقرأ في مأتم مَن يُدعى يوسف، سمعه وهو يقول: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} فقال: هذا نياح بالقرآن"..
ومما يندى الجبين له أن نرى لأناس تفاسير ليس بها إلا التعبير عن هوى مأخوذ، ورأي ساقط، لا علم لأصحابها بسُنَّة، ولا دراية لهم بلغة، وكل ما أهلهم لذلك دراسات لا صلة لها بالدين، وجرأة على كلام أحكم الحاكمين.
1 انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 1/ 10، ط ابن كثير.