الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب-
سبب النزول وفوائده:
اعلم أن من القرآن ما نزل ابتداء من غير سبب.. ومنه ما نزل ليفصل في وقائع وقعت..والاشتغال بمعرفة ذلك من المهمات التي لها فوائد عديدة:
1-
منها: معرفة وجه الحكمة1 الباعثة على تشريع الحكم.
2-
ومنها: تخصيص الحكم به عند مَن يرى أن العبرة بخصوص السبب..
3-
ومنها: أن اللفظ قد يكون عامًّا ويقوم الدليل على تخصيصه، فلا يتناول التخصيص صورة السبب.
4-
ومنها: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال.. فمثلًا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قد يُفهم منه إباحة بعض المطعومات المحرمة ما دام المتناوِل تقيًّا مؤمنًا عاملًا للصالحات، فإذا عرف سبب النزول فُهم أنها نزلت لما سأل الصحابة عن مصير إخوانهم الذين ماتوا وكانوا يشربون الخمر، وهي رجس ولم تكن قد حرمت؛ فأنزل الله الآية إشارة إلى أن من مات قبل التحريم فلا جناح عليه.
وكذا قوله في الذين صلوا إلى بيت المقدس وماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، قال في قبول أعمالهم:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
5-
ومن فوائد معرفة أسباب النزول: دفع توهم الحصر.. فمثلًا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ظاهر هذا حصر المحرمات في هذه الأمور، فإذا علم السبب؛ وهو أن المشركين لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال
1 الحكمة المراد بها هنا: العلة الباعثة التي تبعث المكلَّف على امتثال أوامر الشارع. انظر في ذلك كتاب "التعليل في القرآن الكريم" للمحقق.
إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلًا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا حلاوة.. والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة؛ فكأنه قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من هذه الأصناف. ولم يقصد حل ما وراءها أو تحريمه؛ بل هو سكوت عنه حتى جاءت آيات تضيف أصنافًا أخرى إلى هذه المحرمات1.
6-
ومن فوائد معرفة أسباب النزول: التعرف على الاسم الذي نزلت فيه وتعيين المبهم فيها2.
واختلف الأصوليون3: هل العبرة بعموم اللفظ؟ بمعنى: أن اللفظ العام إذا نزل لسبب خاص تعدى فيه الحكم من السبب إلى ما ماثله، وهو المختار؛ كآية الظهار4 نزلت في سلمة بن صخر، وتعدى الحكم إلى كل من ظاهر مثله، وآية اللعان5 نزلت في هلال بن أمية، وتعدى الحكم إلى كل ملاعن.
وقال بعضهم: العبرة بخصوص السبب ولا يتعدى الحكم إلا لدليل خارجي، فهؤلاء يرون أنه لولا الدليل الخارجي لوقف حكم الظهار على سلمة، وحكم اللعان على هلال.
وقال ابن تيمية6: مَن يرى أن العبرة بخصوص السبب، يريد بذلك أن مَن نزلت فيه الآية دخل دخولًا أوليًّا ودخل ما يشبهه تبعًا، ولا يُتصور من مسلم إبطال عموم
1 انظر: "مناهل العرفان" 1/ 104، 105، و"الإتقان" 1/ 31.
2 "مناهل العرفان" 1/ 106.
3 محل الخلاف في المسألة إذا لم توجد قرينة على التخصيص ولا على التعميم غير اللفظ نفسه، والقولان: العموم والقصر على السبب منقولان عن: مالك، والشافعي، وكثير من أصحابهما؛ لكن القول بالعموم قول الجمهور، وهو الأرجح نظرًا لأحكام الباجى ص270، وممن ذهب إلى قصره على سببه: أبو ثور، والمزني، والقفال، وآخرون. انظر:"نهاية السول" للإسنوي 2/ 477، و"إرشاد الفحول" للشوكاني ص134، وانظر الأقوال وتفصيلها في:"المعتمد" 302 و"التبصرة" ص144، و"الأحكام" للباجي ص270، و"شرح الكوكب" 3/ 177، وبحث أسباب النزول للمحقق.
4 يعني قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ
…
} الآيات، سورة المجادلة الآيات الأولى منها.
5 يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} حتى بلغ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} سورة النور: 6-9.
6 "الإتقان" 1/ 30، و"البرهان" 1/ 32. قلت: القول بالعموم فيما نزل على سبب خاص هو قول المحققين من الأصوليين وغيرهم، فهذه القاعدة -أعني "العبرة بعموم اللفظ"- من المسلمات، فلا يمكن للعالم أن يخصص ألفاظ القرآن العامة بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، كما قال ابن تيمية؛ وعلى ذلك درجت القوانين في الدنيا كلها، فإن القانون يصدر لأسباب خاصة في الغالب الكثير، ثم يكون حكمه عامًّا على جميع الأفراد.
الكتاب، وهذا توجيه حسن، ويكون الفرق بين مَن يقول: العبرة بعموم اللفظ، وبين مَن يقول: العبرة بخصوص السبب -أن الأولين يرون الدخول بعموم اللفظ أصلًا، والآخرين يرون الدخول تبعًا، بعد دخول صورة السبب.
وقد يقوم الدليل على تخصيص الحكم بصورة السبب؛ كتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للظلم بالشرك في قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فلم يرد تناول كل ظلم مع صلاحية اللفظ له.
هذا كله إن كان اللفظ عامًّا نزل لسبب خاص..
أما إن كان اللفظ خاصًّا نزل لسبب خاص، فإنه لا يتعدى السبب اتفاقًا؛ نحو:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} .. فإن الأتقى لمفرد، والمراد به: الصديق1 رضي الله عنه.
ولا يصح أن يراد به العموم؛ لأن الذي يدل على العموم "أل" الموصولة أو الداخلة على الجمع.. أو على مفرد غير معهود، والعهد هنا ظاهر.. ولا يصح أن تكون موصولة؛ لأنها لا تلي أفعل التفضيل2.
ومن المعلوم أن صورة السبب داخلة في العام دخولًا قطعيًّا. فإذا نزلت الآية على سبب خاص، ثم نزلت آيه عامة في الموضوع -دخل مدلول الآية السابقة في العام دخولًا قطعيًّا.
مثاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 3 نزلت في كعب بن الأشرف الذي كان يعلم صفة النبي في التوراة، ومع علمه أقر دين قريش ورجحه على دين المسلمين، فخان بذلك الأمانة، فدخل دخولًا قطعيًّا في قوله بعد:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .
ولا يحل القول في سبب النزول إلا استنادًا إلى رواية صحيحة صريحة تصرح بذكر السبب.
1 المراد بقول "الصديق": سيدنا أبو بكر الصديق -رضى الله عنه- فقد نزلت فيه هذه الآية؛ أعني: قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى
…
} بالإجماع، وبهذه الآية مع قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} استدل الإمام فخر الدين الرازي على أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 "الإتقان في علوم القرآن" 1/ 30.
3 "مناهل العرفان" 1/ 128.
وقول الصحابي: نزلت الآية في كذا.. يحتمل أن يكون ذلك نصًّا منه على السبب، فهو من المسند، وعليه جرى البخاري.. ويحتمل أن يكون ذلك من قياسه وإلحاقه بالسبب، وهو مذهب غير البخاري.. ولا يعتبر السبب سببًا إلا إذا نزلت الآية عقيبه1.
أما إذا كانت الآية خبرًا عن قصة وقعت؛ فلا يصلح أن تكون القصة هي السبب؛ كقصة أصحاب الفيل، وقوم نوح، واتخاذ إبراهيم خليلًا.
وإذا تعارضت الأقوال في سبب النزول رجح الأقوى، أو جمع عند إمكان الجمع والتساوي. فإن لم يمكن والمرويات كلها صحيحة وفي درجة واحدة قيل بتعدد النزول.. وقد تنزل الآية لأكثر من سبب واحد.
وأمثلة كل هذا لا تخفى على مطلع في كتب التفسير والحديث.
كما قد يكون السبب واحدًا وتنزل من أجله آيات في مواضع عديدة. مثاله: أن بعض المنافقين عاتبهم النبي -صلى الله عليهم وسلم- على ما يقولونه فيه، فحلفوا له بالله؛ فأنزل الله:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} ، وأنزل في سورة أخرى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} .
1 "مقدمة في أصول التفسير" لابن تيمية رحمه الله، بشرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين ص49.