الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضوع السادس عشر: عَلاقة الكلمات بعضها ببعض واستعمالها
أتناول في هذا الموضوع ما أسماه القوم بالموصول لفظًا المقطوع معنى.. وما أطلقوا عليه الوجوه والنظائر، والتقديم والتأخير..
وكلمات القرآن وَحْدَةٌ متعانقة كلها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة.. وهي مرتبة أحسن ترتيب من الله العليم الحكيم..
بيد أن ترتيب بعض الكلمات على بعض قد يبدو مشكلًا عند فريق من الناس لقلة فهمهم للقرآن.. ومن ذلك الموصول لفظًا المقطوع معنى؛ كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ..
والأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة وبعدها. ويزول هذا الإشكال إذا علمنا أن هذا من الموصول لفظًا المقطوع معنى. فينتهي الحديث عن آدم وحواء عند قوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} .. وباقي النصر في غيرهما على طريقة الاستخدام في الضمير السابق ذكره، والممثل له نحو قوله:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} إلى قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} .. فإن المتقدمين سألوا عن أشياء لم يسأل عنها الصحابة رضوان الله عليهم..
وفي آخر النص تعريض بقريش في قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .. ولو أراد آدم وحواء لقال: عما يشركان.. ولا يقال: إن المثنى جمع؛ لأن القرينة العقلية والنقلية تبطل إرادة المثنى هنا. والقرينة هي العصمة الثابتة بالعقل والنقل..
وكذلك قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} .. إلى هنا تمت الجملة، ولا ارتباط لها بما بعدها من قوله:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .. لأن هذا متعلق بالآية التي بعده من قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} .. لأن هذه الآية بالإجماع في صلاة الخوف، فارتبط بها ما سبقها من اشتراط الخوف..
ويؤيد ذلك أن قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} والآية بعده نزلت بعد قصر المسافر صلاته بحول كامل..
ولا مانع أن يتوارد الشرط على الشرط كما في توارد: "إن" و"إذا" في هذا الموضع.. أو تكون "إذا" زائدة للتوكيد.. أو "الواو" قبلها هي الزائدة للربط.
وفي القرآن بعض آيات موصولة اللفظ مقطوعة الصلة؛ منها: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} انتهى كلام الملأ.. وابتدأ فرعون قائلًا: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} ..
ومنها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} انتهى كلام بلقيس، وبدأ كلام آخر يمكن أن يكون من تصديق حاشيتها أو من كلام الله؛ وهو قوله:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
ومنها قول أهل الضلال: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} .. ورد أهل الهدى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} .
والسر في الوصل لفظًا والانقطاع في التعلق في هذه المواضع الأربعة أن صلاة المسافر وصلاة الخوف تجمعهما الرخصة في التخفيف والتيسير، وأن كلًّا من فرعون وبلقيس كانا يتشاوران مع المقربين لهما في وقت الشدة، وأن إجابة أهل الهدى أدعى لتيقظ أهل الضلال إلى الحق الذي جحدوه؛ وهو البعث بعد الموت.
أما الوجوه والنظائر، فاعلم أن الوجوه: هي المشترك، يستعمل في بعض معانيه أو كل معانيه.
والنظائر: احتمال اللفظ لأكثر من معنى..
وعلى هذا فاستعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى يسمى بالوجوه.. واحتمال اللفظ الواحد لأكثر من معنى يقال عنه: إنه من النظائر.
ومِن العلماء مَن اعتبر النظائر في الألفاظ المتواطئة، والوجوه في الألفاظ المشتركة..
ومنهم من اعتبر استعمال اللفظ في معانٍ عديدة هو النظائر.. واحتمال اللفظ لأكثر من معنى هو الوجوه..
وأيًّا ما كان، فالمقصود بيانه هنا: اللفظ الواحد يستعمل في معانٍ عديدة، تجمع هذه المعاني علاقة عامة. وفي معنى الأثر: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهًا. وعن علي: القرآن حَمَّال لوجوه..
ومن ذلك لفظ "الهدى" يأتي بمعنى الثبات: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .. والدين: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} .. والإيمان: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} .. والرسول: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} .. والمعرفة: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .. والكتاب السماوي: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} .. والتوحيد: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} .. والسنة: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .. والتوبة: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} .. والإرشاد: {يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
فأنت ترى أن هذه المعاني تجمعها الطاعة وما يتعلق بها..
ومن ذلك لفظ "السوء" يأتي بمعنى الشدة: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} .. والعقر: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} بدليل: {فَعَقَرُوهَا} .. والزنا: {مَا جَزَاءُ مَنْ
أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} .. والبرص: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وفيما يقال: إذا اشتد البياض كان برصًا.. والعذاب: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} بدليل: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى} .. والشرك: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} بدليل: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .. والشتم: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} .. والذنب: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} بدليل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} .. وبمعنى بئس: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} بدليل: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .. والضر: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} بدليل: {وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} .. والقتل والهزيمة: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} بدليل: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} .. والجامع المعصية.
ومن ذلك لفظ "الصلاة" تأتي على أوجه: الصلوات الخمس: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} .. وصلاة العصر: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} .. وصلاة الجمعة: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} .. والجِنَازة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} .. والدعاء: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} .. والدين: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} .. والقراءة: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} .. والرحمة والاستغفار: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} .. ومواضع الصلاة: {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} .. والجامع القربى.
ومن ذلك لفظ "الرحمة"، وتأتي بمعنى: الإسلام: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} .. والإيمان: {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} .. والجنة: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .. والمطر: {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} .. والنعمة: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} .. والنبوة: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} .. والقرآن: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} .. والرزق: {خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} .. والنصر والفتح: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} .. والعافية: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} .. والمودة: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} .. والسعة: {تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} .. والمغفرة: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ..
والعصمة: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} .. والجامع إيصال الخير للخَلْق.
ومن ذلك "الفتنة"، وتأتي بمعنى الشرك:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} .. والإضلال: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} .. والقتل: {أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .. والصد: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} .. والضلالة: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} .. والمعذرة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُم} .. والفضاء: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} .. والإثم: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} .. والمرض: {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} .. والعبرة: {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} .. والعقوبة: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} .. والاختبار: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .. والعذاب: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} .. والإحراق: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} .. والجنون: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} .. والجامع الحيرة والتخبط.
ومن ذلك "الروح"، وترد بمعنى الأمر:{وَرُوحٌ مِنْهُ} .. والوحي: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} .. والقرآن: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} .. والرحمة: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} .. والحياة: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} .. وجبريل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} .. وملك عظيم: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} .. وجيش من الملائكة: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} .. وروح البدن: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} .. والجامع السر العظيم.
ومن ذلك لفظ "القضاء"، يأتي بمعنى الفراغ:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} .. والأمر: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} .. والأجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} .. والفصل: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .. والمضي: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} .. والهلاك: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} .. والوجوب: {قُضِيَ الْأَمْرُ} .. والإبرام: {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} .. والإعلام: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} .. والوصية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} .. والموت: {فَقَضَى عَلَيْهِ} .. والنزول: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} .. والخلق: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ}
والبعل: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} يعني: حقًّا لم يفعل.. والعهد: {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} .. والجامع العلم والقدرة.
ومن ذلك لفط "الذكر"، يأتي بمعنى ذكر اللسان:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ} .. وذكر القلب: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} .. والحفظ: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} .. والطاعة والجزاء: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} .. والصلوات الخمس: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} .. والعظة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} .. والبيان: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .. والحديث: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي: حدثه بحالي.. والقرآن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} .. والتوراة: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} .. والخبر: {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} .. والشرف: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ} .. والعيب: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ} .. واللوح المحفوظ: {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} .. والثناء: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} .. والوحي: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} .. والرسول: {ذِكْرًا، رَسُولًا} .. والصلاة: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} .. وصلاة الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .. وصلاة العصر: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} .. والجامع ما يحدث به التذكر والخشية.
ومن ذلك لفظ "الدعاء"، ويرد على أوجه: العبادة: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} .. والاستعانة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} .. والسؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .. والقول: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمْ} .. والنداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} .. والتسمية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} .. والجامع الإقبال.
ومن ذلك لفظ "الإحصان"، ويرد على أوجه: العفة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} .. والتزوج: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} .. والحرية: {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} .. والجامع الفضيلة.
وأما احتمال اللفظ في الموضع الواحد لأكثر من معنى فمثاله: وصف
الكتاب بالحكمة في قوله: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أهو الحاكم أم المحكم أم الناطق بالحكمة أم المشتمل عليها؟
قال ابن فارس في كتاب الإفراد: كل ما في القرآن من ذكر "الأسف" فمعناه: الحزن؛ إلا {فَلَمَّا آسَفُونَا} فمعناه: أغضبونا.
وكل ما فيه ذكر "البروج" فهي الكواكب؛ إلا {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} .. فهي القصور الطوال الحصينة.
وكل ما فيه ذكر "من البحر والبر" فالمراد بالبحر: الماء.. وبالبر: التراب اليابس؛ إلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} .. فالمراد به: البرية والعُمْران.
وكل ما فيه "بخس" فهو النقص؛ إلا {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي: حرام..
وكل ما فيه من "البعل" فهو الزوج؛ إلا {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} فهو الصنم.
وكل ما فيه "البكم" فالخرس عن الكلام بالإيمان؛ إلا {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} في الإسراء، و {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} في النحل.. فالمراد به عدم القدرة على الكلام مطلقًا.
وكل ما فيه "جثيا" فمعناه جميعًا؛ إلا {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} فمعناه: تجثو على ركبها.
وكل ما فيه من "حسبانا" فهو العدد؛ إلا {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} في الكهف.. فهو العذاب..
وكل ما فيه "حسرة" فالندامة؛ إلا {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} فمعناه الحزن..
وكل ما فيه من "الدحض" فالباطل؛ إلا {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} فمعناه: من المقروعين.
وكل ما فيه من "رجز" فالعذاب؛ إلا {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فالمراد به الصنم..
وكل ما فيه من "ريب" فالشك؛ إلا {رَيْبَ الْمَنُونِ} يعني حوادث الدهر.
وكل ما فيه من "الرجم" فهو القتل؛ إلا {لَأَرْجُمَنَّكَ} فمعناه: لأشتمنك، و {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أي: ظنًّا.
وكل ما فيه من "الزور" فالكذب مع الشرك؛ إلا {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} فإنه كذب غير الشرك.
وكل ما فيه من "زكاة" فهو المال؛ إلا {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} أي: طهرة.
وكل ما فيه "الزيغ" فالميل؛ إلا {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} أي: شخصت.
وكل ما فيه "سخر" فالاستهزاء؛ إلا {سِخْرِيًّا} في الزخرف.. فهو من التسخير والاستخدام.
وكل ما فيه "سكينة" فهو طمأنينة؛ إلا التي في قصة طالوت، فهو شيء كرأس الهرة له جناحان.. كذا قيل.
وكل ما فيه "سعير" فهو النار والوقود؛ إلا {فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} فهو العناء.
وكل "شيطان" فيه فإبليس وجنوده؛ إلا {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} فإنهم من الإنس.
وكل "شهيد" فيه -غير القتلى- فهو مَن يشهد في أمور الناس؛ إلا {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} فهو شركاؤكم.
وكل ما فيه من "أصحاب النار" أهلها؛ إلا {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} فالمراد: خزنتها.
وكل "صلاة" فيه عبادة ورحمة؛ إلا {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} فهي الأماكن.
وكل "صمم" فيه ففيه: سماع الإيمان والقرآن خاصة، إلا الذي في الإسراء.
وكل "عذاب" فيه فالتعذيب؛ إلا {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} فهو الضرب.
وكل "قنوت" فيه طاعة؛ إلا {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فمعناه: مقرون.
وكل "كنز" فيه مال؛ إلا الذي في الكهف فهو صحيفة علم.. كذا قيل.
وكل "مصباح" فيه كوكب؛ إلا الذي في النور فالسراج.
وكل "نكاح" فيه تزوج؛ إلا {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فهو الحلم.
وكل "نبأ" فيه خبر؛ إلا {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} فهو الحجج.
وكل "ورود" فيه دخول؛ إلا {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} يعني: هجم عليه ولم يدخله.
وكل ما فيه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} فالمراد منه: العمل؛ إلا التي في الطلاق فالمراد منه: النفقة.. وفي هذا نظر؛ لأن التي في الطلاق {إِلَّا مَا آتَاهَا} .
وكل "يأس" فيه قنوط؛ إلا التي في الرعد.. فمن العلم.
وكل "صبر" فيه محمود؛ إلا {لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} .
هذا آخر ما ذكره ابن فارس.
قال غيره: كل "صوم" فيه فمن العبادة؛ إلا {نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي: صمتًا.
وكل ما فيه من "الظلمات والنور" فالمراد: الكفر والإيمان؛ إلا التي أول الأنعام فالمراد: ظلمة الليل ونور النهار.
وكل "إنفاق" فيه فهو الصدقة؛ إلا {فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فالمراد به: المهر.
وقال الداني: كل ما فيه من "الحضور" فهو بالضاد من المشاهدة؛ إلا موضعًا واحدًا فإنه بالظاء من الاحتظار وهو المنع؛ وهو قوله تعالى: {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} .
وقال ابن خالويه: ليس في القرآن "بعد" بمعنى "قبل"؛ إلا حرف واحد {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} .
قال مغلطاي في كتاب الميسر: قد وجدنا حرفًا آخر؛ وهو قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} .
قال أبو موسى في كتاب المغيث: معناه هنا "قبل"؛ لأنه تعالى خلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء، فعلى هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. اهـ.
وأما التقديم والتأخير فمراد به تأخير كلمة عن موضعها لحكمة اقتضت ذلك، أو تقديمها؛ نحو:{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
هذا من تقديم الكلام وتأخيره.
والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها.
والسر في التأخير أنه يعذبهم على ما كان منهم من جحود النعم في الدنيا.. وكذا قوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} .
والتقدير: وأجل مسمى لكان لزامًا.
والسر في التأخير الاعتناء بوقت وقوع القضاء.
وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا} والتقدير: الكتاب قيمًا ولم يجعل له عوجًا.
والسر: الاعتناء بحال الكتاب من أنه قيم ومهيمن.
وكذا قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فالرفع قبل الوفاة كما نقل عن مجاهد.
وكذا قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .
والتقدير: يوم الحساب بما نسوا.
والسر: الاعتناء بوقت العذاب.
وقوله: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} .
التقدير: فقالوا جهرة: أرنا الله.
السر: التشنيع عليهم بأنهم طلبوا ذلك من غير استحياء ولا تستر.
ومن هذا الباب: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} المذموم من اتخذ هواه إلهه. أما من جعل مطلبه وميله في طاعة ربه، فليس بمذموم تقول: اتخذت المدرسة ملهى فتذم، واتخذت الملهى مدرسة فتمدح، والملهى في المثال يساوي الهوى في النص.. فتنبه لهذه الدقيقة.
ومن هذا الباب: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا} .. فالبشارة سبب الضحك، ومن هذا الباب قوله:{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .. والأصل أن يقدم العلم؛ لكن لما كان المقام تشريع أحكام أو تبيين عقائد -يطلب الحكمة من ورائها- قدم الحكيم.
وقد يقدم اللفظ في موضع ويؤخره في موضع؛ نحو: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} .. وفي موضع آخر يقول: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} .. ونحو: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} .. وفي سورة الأنعام: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى} .
ومن الأمور المسلمة تقديم ما يُعتنَى به.. ولكل مقام مقال.
وبهذا ينتهي الموضوع السادس عشر.