الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضوع السابع عشر: وسائل الإقناع
يندرج تحت هذا الموضوع: الأمثال، والقسم، والجدل..
ذلك أن الإقناع إما بالتقريب والإبراز للمعقول في صورة المحس، وذلك هو المثل..
وإما بتوكيد الخبر، وطريقه القسم..
وإما بالحجة، وطريقه الجدل..
فالمثل كما قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال، وإغفالهم الممثلات. اهـ.
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} وقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
والغرض من المثل نقل الخفي وإبرازه في صورة الواضح الجلي..
وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله، قال تعالى:{وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} ..
والأمثال في القرآن منها ما صرح فيه بالمثل؛ كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} وكقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ} ..
فهاتان الآيتان صرح في أولهما بلفظ المثل.. ومنها ما كمن المثل فيه ولم يصرح به؛ نحو: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} فإنه يكمن فيه المثل القائل: خير الأمور الوسط..
وكذا قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} .. فإنه يكمن فيه المثل القائل: مَن جهل شيئًا عاداه..
وقوله: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .. يكمن فيه المثل القائل: ليس الخبر كالعِيَان..
وقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} .. يكمن فيه المثل القائل: اتقِ شر مَن أحسنت إليه.
وقوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} .. يكمن فيه قولهم: في الحركات البركات..
وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} .. يكمن فيه قولهم: كما تدين تدان.
وقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} .. يكمن به قولهم: حين تقلي ندري..
وقوله عن يعقوب: {هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} موافق لقولهم: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} موافق لقولهم: مَن أعان ظالمًا سلطه الله عليه..
وقولهم: لا تلد الحية إلا حية.. يوافق قوله: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} .
قولهم: للجدران آذان.. يوافق لقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} ..
وقولهم: الحلال لا يأتيك إلا قوتًا، والحرام لا يأتيك إلا جزافًا..
موافق لقوله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} .
فأنت ترى أن هذه النصوص تحوي أمثالًا اشتهرت عند العرب ولم يصرح فيها بذكر المثل، فكانت هذه النصوص أمثالًا كامنة.
ويمكنك أن تقتبس من القرآن نصوصًا تضربها أمثالًا للانتفاع بها؛ كما تقول عند مؤاخذة المسيء: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} .. وعند الإعجاب: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
فوائد ضرب الأمثال:
1-
إبراز المعقول في صورة المحس، والمتخيل في صورة المتيقن..
2-
تعليم عباده كيف يقيسون الأمور وينتقلون من النظير إلى النظير..
3-
تعليم العباد أن المتماثلين متساويان شرعًا وعقلًا..
4-
لو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طريق الاستدلال ولم تبقَ للعقل قيمة.
5-
كل مثل في القرآن له فائدته الخاصة به.. فمثلًا قوله تعالى عن المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} ..
هذا إخبار عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي، وأنهم بمنزلة من استوقد نارًا لتضيء له وينتفع بها؛ وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به، وانتفعوا به، وخالطوا المسلمين؛ ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب الله
بنورهم، ولم يقل: بنارهم؛ فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب الله بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهذا حال مَن أبصر ثم عَمِيَ، وعرف ثم أنكر..
ومن الأمثال قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم، فهم في ضعف وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها، وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء، فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا؛ كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} .
وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده..
ولم ينفِ سبحانه عنهم العلم بوهن بيت العنكبوت؛ وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلوا علموا ذلك لما فعلوه؛ ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًّا وقدرة، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه..
فأنت ترى أن الفائدة بيان ضعف المشركين، وأنهم كالمستجير من الرمضاء بالنار..
وأما القسم، فالقصد منه تحقيق الخبر وتوكيده..
ولا يقال: المؤمن ليس في حاجة إلى توكيد، والجاحد لا ينتفع بهذا التوكيد؛ لأن الله أنزل القرآن بلسان عربي، والعرب تقسم للتوكيد..
ويثبت الخبر إما بالإشهاد عليه، أو توكيده باليمين. وفي القرآن:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وفيه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} .. ولما سمعها بعض الأعراب صاح قائلًا: مَن الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين..
ولا يكون القسم إلا بمعظَّم، وقد أقسم الله بنفسه في مواضع من كتابه فقال:{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} ، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .. وكما أقسم بذاته أقسم ببعض مخلوقاته؛ إما للفت الأنظار إليها، وإما لأنها مربوبة له مع ما اشتملت عليه من سر.. ويكون القسم بربها كقوله:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} ..
ومن حقه سبحانه وتعالى أن يُقسم بما شاء، وليس لنا أن نقسم إلا بالله، وقد أقسم الله بنبيه في قوله:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} .. وذلك ليعرف الناس بمكانته صلى الله عليه وسلم.
وأيًّا ما كان، فالقسم إما بالفعل الحقيقي؛ كالقسم بذات الله.
وإما بالفعل؛ كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} بناء على أن "ما" مصدرية..
وإما القسم بالمفعول، وتعظيم المصنوع تعظيم الصانع؛ كقوله:{وَالتِّينِ} ..
والقسم إما ظاهر كالنصوص السابقة.. أو مدلولًا عليه باللام الواقعة في جوابه؛ نحو: {لَتُبْلَوُنَّ} .. أو مفهومًا من السياق؛ نحو: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ..
والمقسم عليه إما خبر؛ نحو: {إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} ..
وإما خبر في معنى الطلب؛ نحو: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فهو في قوة: حكموا محمدًا فيما شجر بينكم، وإلا لا يكون منكم إيمان..
وإذا أقسم الله على الغيب، فقد أراد بذلك توكيد تحققه؛ كأنه يقسم به أيضًا..
وإذا أقسم على ما هو مشاهَد، فقد أراد تعظيمه؛ لأنه دال عليه، وآية من آياته..
وأحرف القسم: الواو: وقد يحذف معها الفعل.. والباء: ولا يحذف معها الفعل؛ نحو: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} .. ومنها التاء: وهي للتعجب كما سبق..
وأما جواب القسم، فقد يُحذف لوجود دليل يدل عليه.. وأكثر ما يكون مذكورًا كما في الآيات السابقة..
ومن خصائص القرآن مراعاة العَلاقة بين المقسم به والمقسم عليه؛ كقوله: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .. فالعلاقة هي تشبيه نور الوحي بالضحى وانقطاعه بظلام الليل..
وكذا قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} .. فالعلاقة تشبيه النبي بالنجم في الاهتداء به..
ومن هنا يتبين أن القسم وسيلة من وسائل الإقناع.. يستخدم في وقت الحاجة إليه..
وأما الجدل، قد قال العلماء: اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة التي تُبنَى من الكليات العقلية والسمعية..
وقد تُوخي في ذلك طريقة جلية؛ حيث إن اللجوء إلى الغوامض والألغاز دليل على العجز عن الإتيان بالواضح الجلي، ولم تعرف العرب دقائق المتكلمين؛ ولذا فإن القرآن لم يتعرض إلا للجلي النافع منها..
وإذا كان الجدل هو احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند فيه، فإن القرآن الكريم قد ضرب بسهم وافر في هذا الميدان.. وهذا مَثَلٌ نسوقه ليتضح ما نؤمن به ونردده؛ قال تعالى:
تأمل معي هذا المنطق الفطري، دعا فيه أولًا إلى اتخاذ الوقاية من غضب الله وسخطه، ولسائل أن يقول: وما قيمة الاتقاء؟ فلعل الدعوة إليه بأهوال ستقع يُنسي الإنسان فيها نفسه، وتنقطع فيها أوثق العلائق الأسرية.. ومعرفة ذلك جاءت عن طريق السمع؛ إذ ليس للعقل في الغيبيات التي لم يرها مجال للنظر والتأمل، وعلى العقل أن يستعمل ملكاته وأن يقيس الشيء على نظيره، وعليه أن يحذر الوقوع في ما لا يعلمه، والجري وراء الذين
يتحدثون بالتخمين، ولا سند لهم في الإنكار سوى أنهم لم يشاهدوا ما جاء به السمع. وإذا أنصف العقل فعليه أن يدرك أن مَن يعلم مقدم على مَن لم يعلم، وأن عدم العلم لا يعد دليلًا؛ فقد لا أعلم شيئًا وهو عند غيري من البدهيات..
ولما كان المخبر عنه أمرًا غيبيًّا قرره القرآن بأمور مشاهَدة:
أولها: خلق الإنسان من تراب، وهو الآن إذا نظر إلى نفسه استبعد أن يكون من تراب، ولم يعترف إلا بعد أن يقطع شوطًا من العلم، يدرك بعد التحليل أن في الجسم عناصر التراب.
ثانيها: الأطوار التي يمر بها الإنسان في بطن أمه، من غير أن يكون للوالدين أو لأحدهما أي تدخل لتغيير مسار هذه الأطوار أو لإبقائها..
ثالثها: حال الإنسان وهو مسن، يضعف بعد قوة، وينسى بعد تذكر..
ورابعها: ما يشاهده من أرض يابسة تلقى فيها بذور يابسة، فإذا سقط عليها الماء دبت فيها الحياة..
والنتائج المترتبة على تلك المقدمات ما أفصح عنها قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} .. لأنه أخبر العقل بما لم يعلم من تلقاء نفسه.. وأثبت له بالدليل الحسي أن ما أخبر به ثابت ولا يخبر بالحق إلا الحق {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} .. فقد أحياء الأرض بالماء، وأنه على كل شيء قدير؛ لأنه أوجد من التراب كائنًا يفكر ويخترع.
إذا ثبتت هذه النتائج الثلاث -وهي بالقطع ثابتة- ثبت ما أخبر عنه من غيبيات؛ كالساعة، لأنها وقت.. ومن أنكر وجود الغد فهو مكابر.. وثبت بعث مَن في القبور، كما ثبت خروج النبات الحي من الأرض الجامدة.
وقد استدل سبحانه وتعالى على المعاد الجسماني بضروب:
أحدها: قياس الإعادة على الابتداء؛ كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} .
ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق الأَوْلَى؛ قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} ..
ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات؛ قال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ..
رابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر؛ قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} ..
خامسها: أن الناس دائمًا مختلفون، واختلافهم في الحق لا يغير منه شيء ولا يقلبه باطلًا، فالحق ثابت في نفسه، ولا بد من الكشف عنه في حياة يرتفع فيها الخلاف؛ إجلالًا للحق وإيقافًا للناس عليه، قال تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} .
ومن وسائل القرآن في الإقناع بعد الاستدلال على الغائب بالشاهد استخدام دليل التمانع.
وخلاصته: امتناع الإمكان والوقوع عند التسليم بفرض من الفروض؛ قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} .. فلو فرض أكثر من إله اختلفت إرادة كل منهما؛ لامتنع الإمكان والوقوع، فالذي تنفذ إرادته هو الإله. ولو فرض إلهان متفقان في كل شيء لحكم العقل بداهة أنه لا داعي لأحدهما.
ومن طرق الإقناع ثالثًا: السبر والتقسم؛ ومعناه: الاستقراء التام لكل الجوانب، والفرض لكل الاحتمالات، ثم الكر عليها بالإبطال، فيثبت بذلك نقيض المدعى، مثاله: أن المشركين ادعوا على الله كذبًا أنه حرم بعض الحيوانات، فقال الله لهم:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} .
وكل هذه الاحتمالات باطلة، والنتيجة أنهم كذبة، وهذا ما أفصح عنه قوله بعد:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ..
الرابع: القول بالموجب؛ ومعناه: تعليق شيء على شيء، فيسلم به، ثم نقل المعلق عليه إلى حقيقته؛ كقوله تعالى عن المنافقين:{لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} .
فهذا مسلم به؛ ولكن الأعز هو المؤمن وليس المنافق؛ ولذا عقبه بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
الخامس: التسليم بفرض المحال، فيسلم به جدلًا وليس اعترافًا؛ وإنما التسليم لإفحام الخصم ووضع يده على الحقيقة؛ قال تعالى:{وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ..
فقوله: "إذًا" يساوي لو سلم بالمدعى لتضاربت الآلهة، واختل نظام الكون، وهذا بدهي البطلان.
السادس: الانتقال من دليل إلى دليل آخر؛ حيث لم يفهم الخصم الدليل الأول، ومثاله ما وقع بين إبراهيم والجبار: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} .
السابع: المناقضة؛ وهو تعليق الأمر على محال؛ لبيان أن الذي علق على المحال فهو محال؛ نحو: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} .
الثامن: مجاراة الخصم؛ ومعناه: التسليم له بما يقوله، وتنبيهه إلى أمر خفي عليه؛ كقول الكفرة لرسلهم:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وكان رد الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وإذا كان الجدل خطاب العقل، فاعلم أن القرآن قد نوَّه بالعقل في العقيدة حيث قال:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . فالعقل يدرك أنه إذا بَطَلَ اثنان من ثلاثة تعين الثالث؛ وهو أننا خلقنا والخالق لنا هو الله، وفي التبعة والتكليف فإن من سلب عقله لا يسأل مسئولية جنائية عن عمله؛ قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} ..20*12
والعقل -في مدلول لفظه العام- مَلَكَةٌ يُناط بها الوازع الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر..
وقد يخاطب القرآن العقل المدرك؛ مثل: خطاب أولي الألباب.. ومن هنا نتبين أن اللب الذي يخاطبه القرآن وظيفته عقلية تحيط بالعقل الوازع والمدرك والحكيم..
أما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والرويَّة
فالقرآن يعبر عنه بكلمات متعددة.. تشترك في المعنى أحيانًا، وينفرد بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى.. فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم..
وتبين من الآيات أن العقل الذي يخاطبه الإسلام، هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد.. وأنه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال.. وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون؛ فإن الجنون يسقط التكليف، وليس كذلك الجمود والعنت والضلال..
ويندب الإسلام مَن يدين به إلى مرتبة أعلى من مرتبة تدفع عنه الملامة أو تمنع عنه المؤاخذة؛ كي يبلغ إلى مرتبة الرشد والحكمة. ولا يبطل في الإسلام عمل العقل، إن الله بكل شيء محيط، فإن خلق الإنسان للعقل لا يسلبه القدرة على التفكير، ولا يسلبه تبعة الضلال والتقصير..
موانع العقل:
وليس شيء أخطر على العقل في شل تفكيره، أو التقليل منه، وطمس معالم الحق من أمور ثلاثة: عبادة السلف المتقدمين، والانخداع بالعرف.
ذلك أن بعض الناس يقدِّسون أسلافهم من غير نظر فيما كانوا يأتون أو يذرون، ويستسلمون للعرف، وما هذا سبيل العقلاء، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} ..
إن حب الأسلاف واحترام العرف أمر مقرر في الإسلام، بشرط ألا يكون في ذلك تأثير على العقل..
وثاني الموانع: التقليد للسلطة الدينية الزائفة التي يدعيها مَن لا علم لهم بالدين.. تلك أخطر المؤثرات على العقل؛ لأنها تسيطر عليه من الداخل. والقرآن الكريم يرشد العقل إلى طلب الحق من ذويه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
والمانع الثالث: الخوف المهين من أصحاب السلطة الدنيوية؛ فإنهم يحجرون على العقل أحيانًا بما يخترعون من أساليب القهر والجبروت.. حقًّا أمر القرآن بطاعة ولي الأمر، وعليه في مقابل ذلك تحمل التبعة:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ..
وبهذا ينتهي هذا الموضوع.