الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضوع الحادي عشر: "إعجاز القرآن
"
الإعجاز مصدر أعجز، ومعناه: إثبات العجز، ويراد به لازمه؛ وهو إظهار عجز الثقلين، ومعنى إعجاز القرآن أي: بلوغه طورًا غير مألوف ولا معتاد..
وحيثما توجه الذهن إلى أية ناحية أو موضوع تناوله القرآن؛ أدرك وجهًا من وجوه الإعجاز، فهو معجز في كل موضوع تناوله، معجز في المنهج، وتشخيص القضية، ووضع الحلول العملية لها.
ويقع الإعجاز من البليغ ضرورة، ومن غير البليغ استدلالًا ونظرًا..
والحق أن القرآن كتاب الإنسانية يجب عليها أن تتدبره على المنهج الاستقرائي، الذى يفتح لنا أبوابًا جديدة من مجالات البحث والتفكير، والإسلام دين المعجزات التي يراها العقل حيثما نظر، وليس بدين المعجزات التي تكفه عن الرؤية، وتضطره بالإفحام القاهر إلى التسليم.
فالفارق الجوهري بين معجزة عقلية، ومعجزة حسية: أن الأولى تفسح مجال التفكير حتى يكون الإيمان بها بعد بحث ورويَّة.
أما المعجزة الحسية فتدهش العقل وتفحمه، فينقاد، وربما فكر فيها بعد الإفاقة، وكانت هذه المعجزة أنسب لدعوات الرسل الوقتية، وكانت المعجزة العقلية أنسب للدعوة الخالدة.
ومن خصائص المعجزة أنه لا يقدر على الإتيان بها إلا الله، وليس
للأنبياء مجهود فيها، تحدث لهم بالفيض الإلهي، تصدق كل معجزة غيرها من المعجزات.
وأصبح من المنكرين للمعجزات بداهة وأسلمهم تقديرًا جاهل يؤمن بالمعجزات، ويؤمن معها بخفايا الخلق، وأسرار الحياة، وسعة التقدير، والاحتمالات لكثير من الطوارق والخوارق والممتنعات في حكم الواقع والعِيَان.. والعقل الإنساني لا يصاب بآفة أضر له من الجمود على صورة واحدة يمتنع عنده كل ما عداها، وما جاز فيما فعله مما كان يعد خارقًا جاز فيما نجهله وهو الكثير {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ..
ولم يبعث الله نبيًّا إلا أيده بالمعجزة التي تساوي قول الله: "صدق عبدي فيما يبلغ عني"، ونحن نؤمن بأن القرآن هو في نفسه المعجزة الكبرى.
وقد أخبرنا عن معجزات؛ كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، وغير ذلك مما هو مصرَّح به أو مشار إليه، خاصًّا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والمرسلين؛ ليقيموا الحجة بها على أممهم حتى يوصلوهم إلى الله.
والمعجزة في الاصطلاح: أمر خارق للعادة، يظهره الله على يد مدعي النبوة وفقًا لمراده، سالمًا من المعارضة، مقرونًا بالتحدي..
والمعجزة إما حسية أو عقلية.. والمعجزة الحسية وقتية ينتفع بها مَن شاهدها. وبعد وقوعها تعد من جملة الأخبار، وهي ثانوية في الإسلام..
وإما عقلية أبدية، وهي الأساسية في الإسلام، تتميز بالخلود،
وتتمثل في القرآن الكريم الذي يحمل دعوى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم والدليل معًا..
والدليل على حجية القرآن، وأنه المعجزة الخالدة قوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} .. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} . اهـ.
والدليل على التحدي بالقرآن مع التدرج في ذلك قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} وقوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} ..
والدليل على أنهم عجزوا الإعلان الصريح من قول الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ..
والدليل على حيرتهم وصفُهم للقرآن بأنه شعر، ثم سحر، ثم أساطير الأولين..
ومن المعلوم أن الكلام عند العرب سيد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف في الأمر الظاهر الجليل وقد اضطرهم عجزهم إلى استعمال السيف، والتضحية بالنفس والنفيس، ولو عارضوا القرآن بكلام لنقل إلينا لتوافر الدواعي على نقله، فما أكثر أعداء الإسلام الذين يتصيدون سفاسف الأمور من الساقطين؛ ليحسبوها على الإسلام ويحاسبوه عليها.
وجوه الإعجاز:
زعم قوم أن المتحدى به هو الكلام الأزلي القديم، وهذا قول سخيف، فما لا يدرك كنهه كيف يتحدى به؟..
ومَن له أدنى تعقل يدرك أن الإعجاز للقرآن، والقرآن كلام الله، يشمل اللفظ والمعنى، وهو بلسان عربي مبين..
وزعم النظام أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن وهو في إمكانهم، وروى أنهم سُلبوا القدرة على المعارضة، كذا قال النظام.
ولو كان كما زعم لم يكن الإعجاز للقرآن؛ بل هو لله.. وقد قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} ولو كان الاجتماع مع سلب قدرة المجتمعين لم تكن للدعوة إليه فائدة.. وهذا باطل..
وزعم قوم أنهم كانوا قادرين على الإتيان بمثل القرآن، والذي عجزوا عنه هو ترتيب ما يأتون به، وهذا في غاية السخف، فمن يقدر على الاختراع لا يعجز عن الترتيب..
وزعم حسالة من الناس أن الأولين وإن عجزوا لا يستلزم ذلك عجز المتأخرين المتعلمين..
ونقول لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ..
وقد عد فريق من الناس من بين وجوه إعجاز القرآن: إخباره عن حوادث وقعت في الماضي، أو ستقع في المستقبل وقد وقعت بالفعل، وإخباره عن بعض ما في الصدور، واعتراف أصحابها بذلك..
ومنها: نظمه العجيب الذي يخالف الكلام المعهود من شعر ونظم ونثر، وليس له مثال سابق، وسلامته من العيوب، وفصاحة ألفاظه، وصحة معانيه، واستمرار ذلك في كل آياته..
ومما يمتاز به القرآن: الرباط القائم بين اللفظ والمعنى؛ من حيث: اللفظ ومدلوله لغة، وجرس اللفظ، ومعناه..
ففي الإكراه على الشيء يستخدم ألفاظًا تدل على النفرة: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} ..
وهكذا يستعمل في كل معنى ما يناسبه من الألفاظ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ..
وعلى حسب علمنا يظهر الإعجاز في موضع، ويدق إدراكه في آخر..
ومن وجوه إعجازه: تأثيره في القلوب والأسماع، وعدم الملل من تلاوته مهما ترددت تلاوته، وإيجاز لفظه، وكثرة ما تضمه من العلوم والمعاني والمعارف..
وأقل ما يقع به الإعجاز مقدار أصغر سورة منه، وكلام الله في غيره من الكتب السماوية لا يعد معجزًا إلا من حيث ما تضمنه
…
وما حكاه الله عن البشر.. ترجمة لمعنى ما قالوا، وليس بنقل لألفاظهم..
والحق أن وجوه الإعجاز في القرآن تُوصف ولا تحدد، فمن حيث نظر الناظر إليه رأى وجوهًا من الإعجاز واضحة فيما يتوقع النظر إليه وفيه:
كالبدر من حيث التفت رأيته
…
يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها
…
يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا
فالفقيه يرى فيه الفروع مبنية على أصول ثابتة، وآية الدَّيْنِ شاهد على ذلك، ففيها تحديد أجل السداد، والإرشاد إلى كتابته وتسجيله بطريقة لا غبن فيها، والإشهاد على ذلك، وترك اختيار الشهود لأصحاب الحق، وغير ذلك، وهي فروع أُسست على أصل ثابت:{لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون} ..
والأصولي يرى فيه القواعد الكلية التي تُقاس عليها الجزئيات، أو المستنبطة من الجزئيات؛ إقرارًا لأسلوب التفكير في كل من المنطقين: القديم والحديث مع تحاشي عيوبهما، وذلك واضح من قوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
والمتكلم يرى فيه أسس التفكير القويم، ومناهج التعبير المستقيم، ومجالًا لكل فكر مستنير، لا يعدم السني أو المعتزلي أن يجد منه ما يدعم فكره، ولئن تباينت آراء البشر وهم يستدلون بالقرآن، فلا يعني ذلك تناقض القرآن في نفسه.. وإنما يعني مرونة ألفاظه، وسَعَة مدلولها، لتفسح المجال لكل فكر بناء، والحق واحد لا يتعدد، وكل مجتهد في طلبه الوصول مأجور على اجتهاده، وإن أخطأ فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.. ولو قطع القرآن وحسم كل قضية لم يبقَ للتفكير مجال، ولم يفعل ذلك حتى لا يطمس في الإنسان أخص خصائص الآدمية فيه..
والمؤرخ يرى فيه أخبارًا مسجلة عبرت عن حوادث وقعت
وتحققت قبل عصور التدوين، وتهيب به أن يجوب في الأرض ليستنطق آثارها، ويستقرئ أخبارها..
والمحدِّث يرى فيه أصول الخبر المقبول والمردود والمتوقف فيه من نحو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} وقوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ..
وعالم القراءات يرى فيه كيفية الأداء، والوقف والابتداء، ومخارج الحروف، قال تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ..
والنحوي يستنبط منه قواعد الإعراب وتطبيقها..
والبلاغي يرى فيه مطابقة الكلام لمقتضى الحال أفصح الألفاظ، وأبلغ العبارات..
واللغوي يرى فيه الارتباط الوثيق بين اللفظ والمعنى جامعًا بين الجزالة والعذوبة..
والصوفي يلمح منه الإشارة إلى مقامات السالكين ومنازل المتوجهين؛ من نحو قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وقوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقوله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ..
والداعية إلى الحق يرى فيه كيفية عرض الدعوة، مستخدمًا أعظم وسائل الإقناع تأثيرًا، وذلك واضح فيما استخدمه من ضرب الأمثال والقسم وطرق الجدل المؤسسة على المنطق الفطري بلا تكلف أو تلاعب بالألفاظ، مما يضيع الحقيقة تحت الغبار المتناثر من عناد وجمود المتحاورين، والقصص القرآني خير شاهد على ذلك..
وأصحاب العلوم الكونية على اختلاف تخصصاتهم يجدون فيه الإشارات اللماحة إلى بعض الحقائق من غير تعرض للتفصيل؛ حتى لا يقفوا ببحوثهم عند نقطة معينة، فالعلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، ولم يزل في تطور مستمر {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ..
أخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال: "قيل لموسى عليه السلام: يا موسى، إنما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته"..
وأما الأديب فحظه من القرآن أوفر في الوضوح من: جمال العبارة، وتسلسل الفكرة، والتزام الصدق، وتغلغل في المشاعر، والاستمساك بالقيم..
والحق أن القرآن كتاب هداية، يهدي طالب الحق إلى طريقه المستقيم، فمن أراد الدنيا والآخرة فعليه بالقرآن.. واللهَ نسألُ أن يجعله ربيع قلوبنا، وجلاء أبصارنا، وذهاب همنا.
وبهذا ينتهي هذا الموضوع..