الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضوع الثامن عشر: اللفظ القرآني دلالته وأقسامه
اعلم أن الدلالة تنقسم إلى قسمين بوجه عام: ظنية، وقطعية.
فالقطعية: ما كان مضمونها حكمًا عقليًّا لا ينازع العقل فيه؛ نحو: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .. فشمول علم الله لكل شيء لا ينازع فيه عقل سليم..
أو كان المضمون قد استعمله القرآن في أكثر من موضع لمعنى واحد؛ مثل: البعث، والحشر، والحساب..
أو كان المضمون قد بيَّن الله أو رسوله المراد منه؛ نحو: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} ونحو: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالعرض..
وإذا كانت الدلالة قطعية امتنع تأويل اللفظ وصرفه لمعنى آخر.
وفي غير هذه المواضع الثلاثة يحتمل أن تكون الدلالة قطعية، ويحتمل أن تكون ظنية.. ويقوى احتمال القطع أو الظن بالأمارات..
هذا كله بالنسبة لدلالة اللفظ على المعنى المراد..
أما ثبوت اللفظ القرآني، فهو قطعي من غير شك؛ أي: ثابت النسبة لله.. واحتمال القطع والظن إنما هو من حيث الدلالة. فالقرآن كله قطعي الثبوت.. وبعضه قطعي الدلالة.. وبعضه يحتمل أن يكون قطعي الدلالة، وأن يكون ظنيًّا..
فعدم التأكد من استعمال اللغة للفظ في هذا المعنى مثلًا يورث ظنًّا في
استعماله فيها. وكذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، واحتمال وجود حذف، وإرادة العموم أو الخصوص أو الإطلاق أو التقييد.
كل هذا يورث ظنًّا يجعل دلالة اللفظ على المعنى ظنية..
ومن فضل الله علينا أن أفسح لنا مجال البحث؛ لنتدبر ولنتذوق ما يمتاز به القرآن من مرونة تسع الزمان والمكان والفكر البشري القويم، الذي يتزود من مائدة الله بما يحتاج له بعد الرجوع إلى قواعد اللغة والدين..
وينقسم اللفظ عدة أقسام، كل قسم باعتبار:
فمن حيث الصيغة ينقسم إلى: خاص، وعام، ومشترك؛ نحو:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} ونحو: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ونحو: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} .. فالقرء يقال على الطهر، أو على الحيض بالاشتراك بينهما.
وينقسم من حيث الظهور والخفاء إلى: ظاهر، ونص، ومفسر.. وإلى خفي، ومشكل، ومجمل..
فالظاهر: اسم لما ظهر المراد منه من حيث الصيغة؛ نحو: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .. فإن هذا يدل على البيع وتحريم الربا.
أما النص: فهو ما سيق الكلام من أجله كما في هذه الآية.. فالمراد بيان الفرق بين البيع فإنه حلال، وبين الربا فإنه حرام، وقد سيق الكلام لأجل هذا.
وأما المفسر: فهو اللفظ الذي جيء به لرفع أي احتمال؛ نحو: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} .. فإن لفظ "كافة" يرفع أي احتمال في قتال بعض المشركين.
وأما الخفي: فإنه ما خفي المراد منه لعارض؛ نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ..
فالسارق: مَن يأخذ المال المحروز المملوك خفية؛ لكن عرض الخفاء في انطباقه على النباش الذي يأخذ أكفان الموتى باعتبار أن كفن الميت لا يملكه أحد..
وأما المشكل: فهو الذي أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعنى الذي وضع له الواضع الاسم، أو أراده المستعير لدقة المعنى في نفسه لا بعارض؛ مثل قوله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فإنها مشكلة من حيث معناها في حق دبر المرأة: أهو مثل قبلها في الحل، أو مثل دبر الرجل في الحرمة؟ فطلبنا معنى كلمة:"أنَّى" فوجدناها مشتركة بين معنى "كيف" ومعنى "أين".
وبعد التأمل وجدناها بمعنى "كيف" في هذا الموقع؛ لأن الله تعالى سماهن حرثًا؛ أي: مزرعًا للأولاد، والدبر موضع الفرث لا الحرث، والله تعالى حرم الوطء في القبل حالة الحيض للأذى العارض. فالأذى اللازم الموجود في الدبر بطريق الأَوْلَى يكون مانعًا.
وأما المجمل: فهو الذي اختفى المراد منه بنفس لفظه حتى بينه الشارع؛ نحو لفظ "الصلاة" معناها في اللغة: الدعاء. وبيَّن الشارع المراد منها حين أمرنا بها في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وأمرنا قائلًا:"صلوا كما رأيتموني أصلي".
ومِن العلماء مَن اصطلح اصطلاحًا آخر فقال: إذا كان اللفظ لا يحتمل إلا معنى واحدًا فهو النص.
وإن كان يحتمل أكثر من معنى.. فإن كان على التساوي فهو المشترك.. وإن كان أحدهما راجحًا والآخر مرجوحًا.. فالراجح هو الظاهر، والمرجوح هو المؤول..
وبطلان الراجح وإرادة المرجوح هو المشكل.. ولا يجوز صرف اللفظ عن الراجح إلا المرجوح إلا بدليل عقلي قطعي.. فمتى وجد وجب صرفه عن الراجح. اهـ.
وسأتناول بالتفصيل: العام، والخاص، والمجمل، والمطلق، والمقيد، والمنطوق، والمفهوم.. فتلك نقاط سبع:
1-
العام:
هو لفظ شامل أكثر من اثنين بناء على أن المثنى لا يدخل فيه، وله صيغ؛ منها:
أ- كل وجميع.
ب- "من" و "ما" شرطًا أو استفهامًا أو موصولًا.
جـ- النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط.
د- الجمع المحلى بأل أو المضاف.
هـ- اسم الجمع أو اسم جنس الجمع.
و المصدر المضاف.
ز- اسم الموصول إن وجدت قرينة؛ نحو: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} .. فإنه شامل لكل مَن يقول ذلك القول بدليل الإشارة إليه بعد بما يشار به إلى الجمع في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} .
وأقسام العام ثلاثة:
أ- ما بقي على عمومه؛ نحو: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
فأنت ترى أنه خص الذين أوتوا الكتاب وقبل الجزية منهم، وأبقى الأمر بالقتال بالنسبة لغيرهم؛ حتى يعلنوا كلمة التوحيد، ثم إنه خصص مَن يقاتلون بالمعتدين في آية أخرى؛ وهي قوله:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} .
ومن هذا يُعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقتال الناس " من العام المخصوص.. فالمراد بالناس: مَن بدءونا بالاعتداء علينا.
جـ- العام المراد به الخصوص؛ نحو: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .. فالمراد بالناس: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص: أن العام المخصوص عمومه مراد تناولًا من حيث اللفظ، غير مراد من حيث الحكم.. والعام المراد به الخصوص عمومه غير مراد لا تناولًا ولا حكمًا.. وأن المراد به الخصوص يعتبر استعمال العام فيه من قبيل المجاز، والمخصوص من قبيل الحقيقة، وأنه في حالة إرادة الخصوص يمكن أن يراد بالعام شخصًا واحدًا، بخلاف العام المخصوص، فلا يصح إرادة أقل من اثنين أو ثلاثة ليصدق على الباقي أنه عام.
المخصصات:
والمخصصات للعام إما متصلة به، أو منفصلة عنه؛ لكنها متصلة به ترفع إرادة العموم منه.
فالمخصص المتصل.. إما الاستثناء نحو: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} .
فأنت ترى أن الخلود في العذاب استثني منه التائب، فكان قوله:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} عام مخصوص لا يشمل التائب.
ومن المخصصات الصفة؛ نحو: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} .
فقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ} شامل لكل ربيبة، سواء كانت مع أمها أو لا.. لكنه وصف الربيبة المحرمة بأن يكون قد دخل الزوج بأمها.. فقوله:{اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} شرط ووصف يشترط وجوده في الأم؛ لتحريم الابنة على زوج الأم. والدليل على ذلك قوله: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .
ومن المخصصات المتصلة التخصيص بالشرط؛ نحو: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} .
فالأمر بالمكاتبة شامل لكل رقيق؛ لكنه خص بمن علمنا فيهم خيرًا.
ومنها المخصص بالغاية؛ نحو: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .. فالنهي عن وطء الحائض موقوت بالطهر.
أما المخصصات المنفصلة التي تخصص العام وهي منفصلة عنه، فمنها العقل؛ نحو:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .. خص العقل الشيء بالممكن.
ومنها الحس؛ نحو: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} .. فلم تدمر كل ما في الأرض بشهادة الحس.. وإنما دمرت كل شيء للعصاة.
ومنها التخصيص بنص من القرآن في موضع آخر؛ نحو قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} .
فإنه خاص ببعض المطلقات، ويخرج منه غير المدخول بها؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} .
وقد يكون المخصص حديثًا صحيحًا؛ كما في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} فإنه مشروط بوَحْدَة الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث مؤمن من كافر، ولا كافر من مؤمن".
وقد يكون المخصص هو الإجماع كمنع الرقيق من الميراث، فإنهم أجمعوا على أن الرقيق لا يرث؛ إذ لو ورثناه لكان الوارث في الحقيقة هو سيده؛ إذ "العبد وما ملكت يداه لسيده".
وقد يكون المخصص القياس الجلي. ومثاله: جلد العبد الأعزب الزاني خمسين جلدة، قياسًا على الأمة التي ورد فيها قوله:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} .
وقد يخصِّص القرآن عموم السنة؛ كما في قوله سبحانه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} .. فإنه مخصص لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار".
2-
الخاص:
هو اللفظ الذي وضع لفرد واحد، ولا يتناول غيره وضعًا؛ نحو:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} .. فإنه لا يشمل سوى سيدنا محمد بن عبد الله، خاتم النبيين والمرسلين.
ودلالة الخاص على معناه قطعية لا تقبل تأويلًا ولا زيادة على مدلوها.
ومِن العلماء مَن جعل الخاص في النوع أيضًا أو في الجنس ويقول: الخاص ما وضع لواحد، سواء كان فردًا أو نوعًا أو جنسًا.
وعلى هذا، فمن الخاص الطواف وإن تعددت مراته، والأمر، والنهي وإن تنوعت استعمالاتهما.
وأيًّاما كان، فالخاص يقابل العام.
أما المثنى، فيطلق على الاثنين، وإلحاقه بالجمع فيه خلاف، وطلب تكراره موقوف على القرائن؛ كقوله:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} .. فإنه مراد به التكرار.
وأما قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فمراد به حقيقة الاثنين بدليل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والمراد: إن طلقها الثالثة بعد أن راجعها في المرة الأولى والثانية.
3-
المجمل:
هو ما لم تتضح دلالته ولم يظهر المراد منه من جهة لفظه.. وأنكر داود الظاهري وجود هذا النوع في القرآن؛ لأنه يؤدي إلى الحيرة والخلو من الفائدة.
والصواب: وجوده للتأمل فيه ثم يكشفه البيان.
والمتفق عليه أنه ما من مجمل في القرآن إلا بُيِّن.. أما بقاؤه على إجماله وهو متعلق بالأحكام فممتنع اتفاقًا.
أسباب الإجمال:
أ- وجود اللفظ المشترك المستعمل في أحد معانيه المتضادة؛ مثل: "عسعس".. فإنه موضوع للإقبال والإدبار، قال تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} .
ب- الحذف، على أن يكون المحذوف أيضًا متقابلًا؛ بحيث لا يمكن الجمع؛ نحو:{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} إن كان المحذوف "في" كانت الرغبة محبة.. وإن كان المحذوف "عن" كانت نفرة وكراهية.
جـ- اختلاف مرجع الضمير؛ نحو: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} يحتمل عود ضمير الفاعل في "يرفعه" إلى ما عاد عليه ضمير إليه وهو "الله".
ويحتمل عوده إلى "العمل".. والمعنى: أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب.
ويحتمل عوده إلى "الكلم"؛ أي: أن الكلم الطيب -وهو التوحيد- يرفع العمل الصالح؛ لأنه لا يصلح العمل إلا مع الإيمان.
فأنت ترى أن الرافع إما "الله" أو "العمل" أو "الكلم".. والمرفوع إما "الكلم" وإما "العمل".
د- احتمال العطف والاستئناف؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} .
فإن جعلت "الواو" للعطف.. فالراسخون يعلمون تأويل المتشابه، وإن جعلتها للاستئناف.. فالراسخون لا يعلمون؛ ولكن يقولون: آمنا به.
هـ- استعمال اللفظ الغريب؛ نحو: العضل في قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} .
و استعمال اللفظ المشهور في غير ما اشتهر فيه بأن يستخدمه كناية أو استعارة؛ نحو: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ} أي: يسمعون.. ونحو: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} كناية عن التكبر.. ونحو: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} كناية عن الندم.
ز- التقديم والتأخير؛ نحو: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} .. والتقدير: يسألونك عنها كأنك حفي.
حـ- قلب المنقول؛ نحو: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي: على إلياس.. {وَطُورِ سِينِينَ} أي: سيناء..
ط- التكريم القاطع لوصل الكلام في الظاهر: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} .. والتقدير: قال الملأ الذين استكبروا للمؤمنين المستضعفين.
والبيان إما متصل نحو قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .. فإن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} بيان لتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وقد يكون منفصلًا في موضع آخر نحو قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بينه قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
وقد تكون السنة هي المبيِّنة كما في الصلاة وغيرها.. وليس لأحد أن يبين المجمل إلا الشرع.. بخلاف المشترك، فإن حمله على أحد معانيه يمكن للمجتهد بالأمارات كما فعل أئمة الفقه رضوان الله عليهم.
4-
المطلق:
وهو ما دل على الماهية من غير قيد؛ نحو: "رقبة" في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فهو لفظ منتشر يصدق على أي فرد.
والصواب: أنه من قبيل الخاص، وينصرف إلى الكامل، ويدل على العموم عن طريق البدل عن طريق الشمول.
فمثلًا لفظ "رقبة" لا يشمل إلا فردًا واحدًا، ومع ذلك لو جئت بأية رقبة كنت ممتثلًا.. وهذا هو معنى العموم البدلي.
فإذا قيد المطلق لم يخرج عن معناه.. فإذا قال الله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} لم يزد إلا وصفها بالإيمان مع بقاء المطلق من قسم الخاص.
أما العام، فمتى خصص خرج عن معنى العموم، فإذا قلنا: اقتلوا المشركين الحربيين؛ أصبح العام بعد التخصيص لا يتناول سوى الحربيين.
5-
المقيد:
وهو ما أخرج عن الانتشار بوجه ما وكان القيد مستقلًّا..
فمثلًا: "مؤمنة" في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} هو قيد.. وقد ضيق في مدلول رقبة، وحصرها في المؤمنين.
ولَا بُدَّ أن يكون القيد مستقلًّا لإخراج المعارف.. فإن العلم -مثلًا- مانع من الانتشار بقيد العالمية؛ لكنه غير مستقل.
حمل المطلق على المقيد:
لا يُحمل المطلق على المقيد، ولا يُحمل المقيد على المطلق إلا بمسوغ.
واعلم أن كلًّا من المطلق والمقيد إما أن يكون حكمهما واحدًا، أو للمقيد حكم وللمطلق حكم.
وإما أن يكون سببهما واحدًا أو متعددًا.. للمقيد سبب وللمطلق سبب.
فمثال اتحاد الحكم: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فمرة مطلقة؛ كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .. ومرة يقول: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .. فالحكم في كل منهما متحد.. وهو التحرير.
ومثال تعدد السبب؛ كأن يكون في أحدهما سببه الظهار، وفي الآخرة سببه القتل الخطأ.
ومثال اتحاد السبب في كل منهما قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} .. فهذا مطلق، والأول مقيد.
والقاعدة: أنه إذا اتحد السبب والحكم وجب الحمل على المتأخر.. فإن كان المتأخر هو المطلق أُلغي القيد.. وإن كان المتأخر هو المقيد قيد المطلق وحمل المطلق على المقيد..
وإن اختلف السبب بقي كل منهما على حاله، اتحد الحكم فيهما أو اختلف.
وكذا إذا اتحد السبب واختلفا في الحكم.. فلا تحمل كفارة الظهار على كفارة القتل الخطأ؛ لاختلاف السبب.. وكذا لا تحمل كفارة اليمين على كفارة الظهار في تتابع الصوم؛ لاختلاف السبب..
6-
المنطوق:
هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق؛ نحو: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} .
فقد دل هذا النص على صيام عشرة أيام دلالة قاطعة..
فإن لم يُفهم اللفظ إلا بتقدير محذوف سُمي ذلك دلالة اقتضاء؛ نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها.
فإن قصد من اللفظ لازم معناه سُمي ذلك بدلالة الإشارة؛ نحو قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} .
فاعتبار كل المهاجرين فقراء يدل بلازمه على أن الخارج من مكة مهاجرًا إلى الله ورسوله زالت ملكيته عما كان يملكه؛ بحيث لو رجع إلى مكة لا يعود إلى ملكه ما كان يملكه.. ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا لم يملك داره التي كان قد استولى عليها عقيل بن أبي طالب، وقال عليه السلام:"وهل أبقى لنا عقيل شيئًا؟ ".. وما تُرك لأجل الله لا يعود إلى صاحبه.
ويمكن تسمية المنطوق بدلالة العبارة..
7-
المفهوم:
وهو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.. وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.
فالأول ما يوافق حكمه حكم المنطوق.. فإن كان أولى سُمي فحوي الخطاب؛ كدلالة: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على تحريم الضرب؛ لأنه أشد.
وإن كان مساويًا سُمي لحن الخطاب؛ كدلالة: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} على تحريم الإحراق؛ لأنه مساوٍ للأكل في الإتلاف.
والثاني: ما يخالف حكمه حكم المنطوق.. وهو أنواع:
أ- مفهوم الصفة: يستوي فيها أن تكون نعتًا؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} .. فالمفهوم المخالف: إن جاءنا غير فاسق قبلنا خبره ولم نتوقف فيه..
أما كانت حالًا؛ نحو: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .. فمباشرة الزوجات في غير حال الاعتكاف وفي غير المساجد -غير محظورة.
أم كان ظرف زمان؛ نحو: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فلا يجوز الإحرام بالحج في غير أشهره.
أم ظرف مكان؛ نحو: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فإن ذكر الله في غير هذا المكان غير محصل للمطلوب بالذكر عند المشعر الحرام..
ب- ومن مفهوم المخالفة: مفهوم الشرط؛ كقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ..
مفهومه المخالف أن غير الحوامل لا ينفق الأزواج عليهن..
جـ- مفهوم الغاية؛ نحو: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .
مفهوم المخالفة: أن المطلقة ثلاثًا تحل لمطلقها بغير نكاح آخر لها.
د- مفهوم العدد؛ نحو: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .
المفهوم المخالف: أن يزيد العدد، أو ينقص عن ثمانين.
هـ- القصر؛ نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} .
مفهوم المخالف: عبادة غيره.
واختلفوا في الاحتجاج بمفهوم المخالفة.
والصواب: أنه يحتج به ما لم يعارضه دليل.
فمثلًا: قوله من بين المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} .
مفهوم المخالف: أنها تحل إذا لم تكن في حجر زوج أمها؛ لكن هذا معارَض بدليل آخر؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "والدخول بالأمهات يحرم البنات".
وبهذا ينتهي هذا الموضوع.