الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضوع الرابع عشر: الإعراب وغير المشهور من اللغات
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} ، وقال:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
والإعراب: هو إظهار حركة آخر الكلمة لتفهم المعنى، ولتبيين الغرض الذي سيق من أجله الكلام.
عن يحيى بن عتيق قال: قلت للحسن البصري: يا أبا سعيد، الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حُسْنَ المنطق، ويقيم بها قراءته، قال: حسن يابن أخي، فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها.
وعلى الناظر في كتاب الله تعالى، والكاشف عن أسراره، النظر في الكلمة وصيغتها ومحلها وموقعها في الكلام؛ من: الابتداء أو الجواب أو الطلب أو الإخبار أو انتهاء الكلام أو غير ذلك.
ومن المعلوم أن الإعراب فرع فهم المعنى؛ إذ لا يستقيم إعراب ما لم تفهم المعنى.
ومن الخطأ أن تصير تابعًا للإعراب.. فنحن لا نميز الفاعل عن المفعول إلا إذا علمنا مَن تعلق به الفعل ومَن وقع عليه ذلك الفعل.
ومن هنا كان الواجب الأول أن تفهم المعنى، ثم يكون الإعراب المبني عليها.
فمثلًا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} لا يستقيم الإعراب إلا بعد فهم المراد من الكلالة، أهو الميت فيعرب حالًا، و"يورث" خبر كان.
وصفة لرجل و"كان" تامة، أو هي ناقصة، و"كلالة" خبرها؟
والتقدير: وإن وجد رجل موروث حال كونه كلالة.. إن قُدرت "كان" تامة.
أما إن قدرتها ناقصة.. فيكون التقدير: وإن كان رجل موروث ميتًا.
فإن كان المراد بـ"كلالة" الورثة.. قدرت مضافًا؛ ليكون التقدير: وإن كان رجل يورث ذا كلالة.
وإن أردت بها القرابة كانت مفعولًا لأجله، والتقدير: وإن كان رجل يورث لأجل الكلالة.
وبهذا يتبين ضرورة فهم المعنى والمراد قبل الإعراب.
ولا بد في التفسير من توضيح المعنى أولًا، فهو الهدف الأسمى من التفسير، والانشغال بالإعراب عن توضيح المعنى خروج عن التفسير، والاشتغال بتوضيح المعنى وترك الإسراف في الإعراب هي الطريقة المثلى في التفسير، فلا يعمد إليه إلا عند قيام احتمالات؛ فيقال: يكون الإعراب كذا إن كان المعنى كذا.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} .. إن كان المراد بالمثاني القرآن فـ"من" للتبعيض.
وإن أريد بها سورة الفاتحة فـ"من" بيانية لسبع.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} .. إن كان "تقاة" بمعنى الاتقاء فتعرب مصدرًا.. أي: مفعولًا مطلقًا.
وأن أريد متق.. أي: أمرًا يُتقى.. فمفعولًا به.
وإن كانت جمعًا كرماة.. فهي حال.
فأنت ترى أن كلمة "تقاة" يحتمل أن تكون مفعولًا مطلقًا، وأن
تكون مفعولًا به، وأن تكون حالًا.. ولا يُعرف الموقع الإعرابي إلا بعد تحديد المراد منها وفهم معناها.
وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} .. إن أريد بالأحوى: الأسود من الجفاف واليبس.. فهو صفة لغثاء.
وإن أريد به شدة الخضرة.. فهو حال من المرعَى.
وقد زلَّت أقدام كثير من المعربين راعوا في الإعراب ظاهر اللفظ ولم ينظروا في موجب المعنى؛ من ذلك قوله تعالى عن قوم شعيب قولهم له: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} .
فإنه يتبادر إلى الذهن عطف "أن نفعل" على "أن نترك"، وذلك باطل؛ لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون.
وإنما هو عطف على "ما"، فهو معمول للترك، والمعنى: أن نترك أن نفعل..
وعلى الكاشف عن أسرار الكتاب، والغائص في دقائقه أن يراعي ما تقتضيه الصناعة، فربما راعَى المعرِب وجهًا صحيحًا ولا نظر في صحته في الصناعة فأخطأ.
من ذلك إعراب بعضهم "ثمود" مفعولًا مقدمًا في قوله {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} .. وتقديم المفعول على الفعل سائغ، إلا أنه هنا ممتنع؛ لأن ما بعد "ما" النافية لا يعمل فيما قبلها.
والصواب: أنه معطوف على "عاد"، أو هو مفعول لـ"أهلك"؛ إذ الآيات:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} ..
ومن ذلك أيضًا -فيما راعى المعرب وجهًا صحيحًا، وإغفاله ما تقضيه الصناعة- تعليقه "الباء" بناظرة من قوله تعالى:{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} .
فتعلق حرف الجر بما قبله سائغ، إلا أن الاستفهام له الصدارة، و"ما" استفهامية..
والصواب: أنه متعلق بيرجع.
وكذا قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} .. جعله بعضهم حالًا من معمول "ثقفوا"..
والصواب: أنه منصوب على الذم؛ لأن معمول الشرط لا يتقدم على أداة الشرط؛ إذ الأداة لها الصدارة كالاستفهام.
وبعدما يجب على المعرب: فهم المعنى ومراعاة الصناعة، يجب أن يكون ملمًّا بقدر كافٍ من العربية؛ حتى لا يقع فيما وقع فيه من جعل "الكاف" للقسم في قوله تعالى:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} .
وتوهم حذف أول التاءين من الفعل الماضي في قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} .
ومن المعلوم أن "الكاف" ليست من أحرف القسم، ولا تحذف إحدى التاءين إلا في أول المضارع.
وعلى المعرب أن يتجنب الأمور البعيدة والأوجه الضعيفة واللغات الشاذة، ويخرج على القريب الفصيح القوي.. فإن لم يظهر فيه إلا الوجه البعيد فهو معذور.
ولذلك أخطأ من وقف على "جناح" من قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ} ثم ابتدأ بقوله: {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ} .. وجعل {أَنْ يَطَّوَّفَ} منصوبًا على الإغراء بقوله: {عَلَيْهِ} .
والتقدير عند هذا المخطئ: عليه الطواف، بالنصب على الإغراء، وضعف هذا أن الإغراء بضمير الغائب نادر، أما بضمير الخطاب كثير؛ نحو:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} .
ومن المستحسن أن تستوفي كل الوجوه المحتملة إن دعت إليها الحاجة؛ فتقول: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} .. يجوز في "الأعلى" أن يكون صفة منصوبًا، وأن يكون مجرورًا صفة لربك، والأول صفة لاسم.
وعلى المعرِب أن يراعي في كل تركيب ما يشاكله؛ فمثلًا: يقف على "لا ريب" من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} ويبتدئ بقوله: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .
ويعتبر ذلك مبتدأ وخبرًا، والتركيب الآخر يأباه؛ كما في قوله من سورة السجدة:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ويترجح وجه على وجه إن أيد بقراءة؛ كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} .. قدر بعضهم: ولكن ذا البر، وقدره آخر: ولكن البر بر مَن آمن.
ويؤيد الأول قراءة: "ولكن البار بر من آمن".
ويجوز أن تتعدد الاحتمالات مع تأييد كل احتمال، فيتغير المعرَب أي واحد منها؛ قال تعالى:{فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوَىً، قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} .
يحتمل أن يراد بالموعد المصدر، ويؤيده:{لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} .. ويحتمل أن يراد به اسم المكان، ويؤيده:{مَكَانًا سُوَىً} .. ويحتمل أن يراد به اسم الزمان، ويؤيده:{يَوْمُ الزِّينَةِ} .
ومما يجب على المعرِب مراعاته ملاحظة الرسم حتى لا يصل منفصلًا ولا يفصل متصلًا.
فمن الأول اعتبار "اللام" من قوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} وجعلها لام الابتداء؛ لأنها اتصلت بـ"الذين".
والصواب: أنها "لا" النافية.
ومن الفصل بين المتصل قولهم في {سَلْسَبِيلًا} : "سل سبيلا"؛ إن "سل" فعل أمر، والمعنى: سل طريقًا يوصلك إليه، والحق أنها كلمة واحدة.
ومما يجدر التنبه له أنه في حالة تعارض المعنى مع الإعراب يُقدم مراعاة المعنى؛ ومثاله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} والمعنى: إن الله قادر على رجع الإنسان يوم القيامة ليحاسبه؛ لكن الإعراب يأبَى أن يتعلق "يوم" بالمصدر الذي هو "رجع"؛ لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله.. وقد فصل هنا بـ"الهاء"، وبقوله:"لقادر".
والخلاصة: إن على المعرِب مراعاة ما يأتي:
1-
تحديد المعنى قبل الإعراب.
2-
مراعاة كل ما تقتضيه الصناعة النحوية؛ ليلاحظ الفروق بين المشتبهات كالتوابع، وما له الصدارة، ومتعلقات حروف الجر، وغير ذلك.
3-
تُراعى التراكيب في الآيات الأخرى المشابهة للآية؛ حتى لا يتعارض إعراب مع تركيب آية أخرى؛ فيكون كالتفسير بالرأي يعارض المأثور.
4-
تترجح بعض الوجوه بالقراءة أو بالأمارات القوية، فإن اقتضى توضيح المعنى مخالفة ما تأباه الصناعة ولم يمكن توضيحها إلا على ذلك فلا بأس، ويُلتمس لذلك مخرج في النحو ولو ضعيفًا.
5-
يجب مراعاة الرسم؛ حتى لا تتجزأ الكلمة الواحدة، ولا تدمج
الكلمتان.. تلك الشروط تجب مراعاتها فيما يتعلق بقواعد الإعراب.
وأما غير المشهور من اللغات.. فاعلم أن قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قاطع بعربية القرآن، والإحاطة باللغة أمر عسير جدًّا؛ ولذا تبدو بعض الكلمات غريبة على بعض الناس، فيحسبونها غير عربية، ومن المقطوع به أن كل العرب يعرفون لغتهم، فما يجهله البعض يعرفه الآخرون.
وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه.
وقد سبق أن بينت معاني المفردات، وهذا بيان ما هو معرَّب، أو لم يزل غير عربي ومع ذلك قد وُجد في القرآن الكريم.
ومن العلماء مَن أنكر وجود كلمات غير عربية في القرآن.. استدلالًا بقول الله: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، ولو وجدت في القرآن كلمات غير عربية لكان عجزهم من الإتيان راجعًا إلى وجود كلمات ليست من لغتهم.
ويُرد على الاستدلال بالآية؛ بأن المعنى: أكلام أعجمي ومخاطب عربي؟ ومن المعلوم أن القرآن كما يطلق على الكل يطلق على البعض، وأن وجود كلمات يسيرة لا تبرر عجزهم، فجل ما فيه عربي.. والذي أميل إليه أن في القرآن من أسماء الأعلام ما هو غير عربي، ولا يقدح في عربية القرآن وجود كلمات اتفقت فيها لغة العرب ولغة غيرهم، فتوافق اللغتين في كلمة واحدة أمر ممكن وواقع، وكل واحد ينسب تلك الكلمة إلى اللغة التي يعرف أن الكلمة منها، وإن كانت أيضًا بنفس المعنى في لغة أخرى.
ورسالة الإسلام عامة، فلا حرج أن تستعمل كلمة هي عربية الأصل
ومع ذلك هي في اللغات الأخرى انتقيت؛ لعذوبتها وسهولتها، ولا يحيط باللغة إلا نبي، كما قال الشافعي رضي الله عنه.
ومن الكلمات التي قيل عنها: إنها عربت، أو لم تزل أعجمية "إبريق"، ولا أظن أن العرب كانت لا تعرفه، وهو من لوازم معيشتهم. وقد نظمها بعض الناظمين في أبيات؛ ليسهل ضبطها، فقال:
السلسبيل وطه كورت بيع
…
روم وطوبى وسجيل وكافور
والزنجبيل ومشكاة سرادق مع
…
إستبرق صلوات سندس طور
كذا قراطيس ربانيهم وغساق
…
ثم دينار القسطاس مشهور
كذاك قسورة واليم ناشئة
…
ويؤت كفلين مذكور ومسطور
له مقاليد فردوس يعد كذا
…
فيما حكى ابن دريد منه تنور
وزدت حرم ومهل والسجل كذا
…
السري والأب ثم الجبت مذكور
وقطنا وإناه ثم متكئا
…
دارست يصهر منه فهو مصهور
وهيت والسكر الأواه مع حصب
…
وأوبي معه والطاغوت مسطور
صرهن إصري وغيض الماء مع وزر
…
ثم الرقيم مناص والسنا النور
وزيد يس والرحمن مع ملكوت
…
ثم سينين شطر البيت مشهور
ثم الصراط ودري يحور ومر
…
جان اليم مع القنطار مذكور
وراعنا طفقنا اهدنا ابلعي ووراء
…
والأرائك والأكواب مأثور
هود وقسط وكفر زمرة سقر
…
هون يصدون والمناة مسطور
شهر مجوس وأقفال يهود حوا
…
ريون كنز وسجين وتتبير
بعير آزر حوب وردة عرم
…
أل ومن تحتها عبدت والصور
ولينة فومها رهوا وأخلد مز
…
جاة وسيدها القيوم موفور
وقمل ثم أسفار عني كتبا
…
وسجدا ثم ربيون تكثير
وحطة وطوى والرس نون كذا
…
عدن ومنفطر الأسباط مذكور
مسك أباريق ياقوت رووا فهنا
…
ما فات عدد الألفاظ محصور
وبعضهم عد الأولى مع بطائنها
…
والآخرة لمعاني الضد مقصور
وبعد.. فإن مواقع هذه الكلمات من القرآن لا تَخْفَى على حافظ له.. وبعض هذه الكلمات مشروح في الشعر.
وأكثر ما في القرآن بلغة أهل الحجاز؛ لأنها مهبط الوحي.. وبلغة قريش؛ لأنها قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته.. وتوجد بعض الكلمات في القرآن الكريم وردت على غير لغة الحجاز وبغير لغة قريش.. وقد نسبها بعض الصحابة إلى أصحابها، فمنها كلمة:{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} ، نسبها ابن عباس إلى اليمن.
وكذا كلمة: {الْأَرَائِكِ} ، وكلمة:{مَعَاذِيرَهُ} ، وقوله:{لا وَزَرَ} ، وقوله:{وَحُورٌ عِينٌ} ، وقوله:{لَهْوًا} ، وقوله:{بَعْلًا} ، وكذا:{وَالْمَرْجَانُ}
…
كل هذه الكلمات يمنية عربية.
وبهذا ينتهي هذا الموضوع.