الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الأول: موقف أيوب عليه السلام وصبره على الإبتلاء في جسده:
لقد سجل الله عز وجل موقف ايوب عليه السلام في القران الكريم وكيف صبر على مانزل به من الابتلاء حتى اصبح يضرب به المثل في الصبر قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الانبياء: 83] قال القرطبي رحمه الله: "أَي واذكر أَيُّوبَ إِذ نادى ربه، {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أَي نالني في بدني ضر وفي مالي وأَهلي". (1)
عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أيوب نبي الله عليه السلام لبث في بلائه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه كان يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحدٌ من العالمين قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به، فلما راح إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع الى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه (اركض
برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) (سورة ص: 42) فاستبطأته فبلغته، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من بلاء فهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبيَّ الله هذا المبتلى، والله على ذلك ما رأيت أحداً كان أشبه به منك إذْ كان صحيحاً قال: فإني أنا هو، وكان له أندران أندر القمح، وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح وأفرغت فيه الذهب حتى فاضت، وافرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاضت) (2)، فهاهو نبي الله ايوب عليه السلام يبتلى في اهله وماله ونفسه ويصبر على كل ذالك فمن ابتلي فليقتدي بأيوب عليه السلام الذي صبر ورضي واحتسب.
عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فان كان دينه صُلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّةٌ ابتُليَ على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)(3).
وقال الرازي: هذه المحن لا تكون عُقوباتٍ لأَنه تعالى وعد بها الأنبياء وأتباعهم. وهذه المِحنَ إِذا قرنها الصَّبرُ أَفادت درجةً عاليةً في الدِّين، وأن هذه المحن مِنَ اللهِ تعالى، خلافَ قولِ
(1) - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ط 2، ج 11، ص 323.
(2)
ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ التميمي أبو حاتم الدارمي البُستي، (توفي: 354 هـ)، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة للنشر، ط 2، 1414 هـ-1993 م، ج 7، ص 157، كتاب الجنائز وما يتعلق بها، باب ما جاء في الصبروثواب الأمراض والأعراض، ج 7، ص 157، تعليق شعيب الأرنؤوط اسناده على شرط مسلم.
(3)
- الترمذي، سنن الترمذي، أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، ج 4، ص 601، حديث رقم 2398، حكم الألباني حسن صحيح.
الوثنية الذين ينسبون الأَمراضَ وغيرها إِلى شيءٍ آخر، وخلافَ قول المُنجِّمين الذين ينسبونها إِلى سعادة الكواكب ونحوستهَا (1).
فلما طال المطال، واشتد الحال، وانتهى القدر المقدور، وتم الأَجل المقدر تضرع أيوب عليه السلام إِلى رب العالمين وإِله المرسلين وفي هذا قال تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} [سورة ص: 41]، أي بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أَرحم الراحمين، وأَمره أَن يقوم من مقامه وأَن يركض الأَرض برجله ففعل فأنبع الله تعالى عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأَذى وأَمره أَن يشرب منها فأذهبت جميع مَا كَانَ فِي بَاطِنِهِ من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا، ولهذا قال تبارك وتعالى:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)} [سورة ص: 42].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما أَيوب يغتسل عريانا خر عليهِ جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أَيوب أَلم أَكن أَغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك). (2)
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43)} [سورة. ص: 43].
قال الحسن وقتادة أَحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم، وقوله عز وجل:{رَحْمَةً مِنَّا} أَي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته، وذكرى لأُولي الأَلباب أَي لذوي العقول ليعلموا أَن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة، وقال تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [سورة. ص: 44]، أَثنى الله تعالى عليه ومدحه بأَنه نعم العبد إِنه أَوَّاب أَي رجّاع منيب، ولهذا قال جل جلاله: {
…
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطَّلَاقِ: 3]. (3)
إن موقف أيوب عليه السلام وقصته مع البلاء، مدرسة مليئة بالدروس والعبر لذوي الاحتياجات الخاصة، فما على المسلم من أهل البلاء إلا أن يستعين بالله ويصبر، ليجد بعد ذلك اليسر والفرج من الله تعالى.
ولا زال الى عصرنا هذا من يصبر على البلاء، ويقدم العطاء تلو العطاء بالرغم مما أصابه من بلاء، ومن هؤلاء الشيخ أحمد ياسين.
الذي تعرض لحادث أثناء ممارسته للرياضة، نتج عنه شللٌ لأطرافه، كما كان يعاني من أمراض عديدة منها فقدان البصر في العين اليمنى، بعدما أصيب بضربه أثناء التحقيق معه على
(1) - انظر؛ فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، ج 4، ص 132.
(2)
- البخاري، صحيح البخاري، كتاب احاديث الأنبياء، باب قوله تعالى:{وايوب اذ نادى ربه} ج 4، ص 151، حديث رقم 3391.
(3)
- انظر؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 7، ص 74، 75.